مُهرة

حياة طالب العلم بين التعلم والتعليم والمذاكرة :-


عبد العزيز بن أبي حازم قال: قال أبي:

”كان الناس فيما مضى من الزمان الأول إذا لقي الرجل من هو أعلم منه قال: «اليوم يوم غنمي»، فيتعلم منه.

وإذا لقي من هو مثله قال: «اليوم يوم مذاكرتي»، فيذاكره.

وإذا لقي من هو دونه علمه ولم يزه عليه.

حتى صار هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى لا يرى الناس أن له إليه حاجة! وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره، فهلك الناس عند ذلك“

[ الجامع- للخطيب ]

من هنا يبزغ النور، ويُشق الديجور .

{إِن تَدعوهُم لا يَسمَعوا دُعَآءَكُم وَلَو سَمِعوا مَا ٱستَجَابُوا لَكُم وَيَومَ ٱلقِيَمَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكمۡۚ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِير}

"رَبَّنا هَب لَنا مِن أزواجِنا وَذرياتِنا قُرّة أعينٍ واجْعَلنا للْمُتقينَ إمامًا"

اليومُ يومُ القَرِّ ودُعاؤه مُجابٌ بإذن اللّٰه، فلا تنسوا إخواننا المُسلمين في غزَّة والسُّودان بالأخصِّ واذكروا كذاك وخصِّصوا لأهلنا في كُلِّ مكان، ولا تتعاجزوا عن ذِكر إخوانكم وأصحابكم بالاسم، ولا تخجلوا مِن طلب حاجاتكم القيِّمة والتَّافـ هة، فإنَّما نحن ندعو ربًّا لا تنفد خزائنه، يُحبُّ تذلُّلنا وعبادتنا له، والدُّعاء عبادةٌ وطاعة، وإظهارٌ للعوز والفاقة، وباللّٰه يا قارئي؛ أثمَّة مَن أشدُّ حِرمانًا مِن امرئٍ حُرِم لذَّة الذِّ لَّـ ة لربِّه، والعزَّة به، والتَّضرُّع إليه، والطَّلب مِنه، والتَّوكُّل عليه؟! هُو واللّٰه المحروم الخاسر، الَّذي شبَّه مولانا ابن القيِّم -عليه رحمة اللّٰه- أضرابَه بالسَّكران الغافل، فمَن فاتته عرفة فليُعوِّض اليوم، ومَن تضرَّع في عرفة فليجمع الفضل ويذكر ربَّه بقيَّة يومه، لا توقفوا ألسنتكم عن التَّسبيح والتَّحميد، ولا تغفلوا عن التَّهليل والتَّكبير.

يرزقنا اللّٰه وإيَّاكم المَطلبَ والمُرادَ ويُفرِّج عنَّا وعنكم ما ضاقت به القُلوب فصعد إلىٰ السَّماء، وما خشيت الأنفس عليها الهلاكَ فرجته ودعت به وأمَّلته، وما تلعثمت به الألسن ففاضت به الأعين، وما كان خيرًا لنا ولكم وشرًّا علىٰ أعدائـ نا وأعدائـ كم.

قل عند نعمه شكري فلم يحرمني، وقل عند بليته صبري فلم يخذلني.

كم من نعمة أنعمت بها علينا قلّ لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قلّ لك عندها صبرنا

اللهم يسّر لي جليسًا صالحًا 🤲🏼

في صحيح البخاري: أن عَلْقَمَةَ بن قيس النخعي لمّا ذهب إِلَى الشَّام دَخَلَ الْمَسْجِدَ وصلّى ركعتين و قَالَ: (اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا) فاستجاب الله دعاءه، وساقَ اللهُ إليه الصحابيَ الكريم أَبِا الدَّرْدَاءِ.. فجلس إليه وتعلُّم منه، ونهل من معين علمه وعقله، حتى أصبح علقمة ببركة صحبة أبي الدرداء من خير التابعين ومن كبار فقهاء الأمة.

وروى الترمذي والنسائي عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة فقلت : (اللهم يَسِّر لي جليساً صالحًا) قال: فجلست إلى أبي هريرة.

ونستفيد من هذين الأثرين:

ـ أن من أعظم أنواع الهدايات أن يهديك الله إلى جليس صالح، وعلامة هذا الجليس أن يُذكرُك بالله، وتتعلمُ منه أو تُعلّمه، وتتعاونان على البِر والخير، و تقوم من مجلسه وأنت تنوي خيرًا تفعلُه، ويعينك على معالي الأمور.

وقل مثل ذلك في الشيخ أو العالم، فإذا أراد الله بعبده خيرًا هداه في بداية طلبه للعلم إلى عالم أو شيخ مسدد يأخذ بيده في طريق العلم، ويفتح له ما استغلق منه، ويغرس فيه الأخلاق العالية والآداب الرفيعة، ويتعلّم من هديه وسمته قبل علمه. قال أيوب السختياني:" إن من سعادة الحَدَث والأعجميّ أن يوفقهما الله لعالمٍ مِنْ أهل السنة".

وكم رأينا أشخاصًا نالوا السعادة في علمهم ووفقهم الله بسبب صحبة العلماء العاملين، وآخرين ما زالوا يتخبطون في الضلالات والفتن بسبب ما تلقّوه في النشأة الأولى.

ـ تأمّل في نفسك وحالك، تجد أن كثيرًا من المفاهيم الطيبة والمعاني الحميدة، بل والأعمال الصالحة تسرّبت إليك من جلسة عابرة أو لقاء مع شخص مبارك، فانتفعت به، وأصبحت تتفيأ ظلال تلك الجلسة وذلك اللقاء طيلة عمرك، وعندي من ذلك قصصًا كثيرة لأشخاص تغيرت أحوالهم إلى الأفضل بسبب الجليس الصالح ومجالس العلماء النافعة.

فهل وعينا أثر ذلك وحرصنا عليه؟

ـ من يتحرّ الخيرَ يُعطه، ومن يطلب الجليس الصالح يجدْه، أخذنا ذلك من دعوات أولئك القوم ، فعلقمة وحريث بن قبيصة رحمهما الله لجؤوا إلى الله وسألوه الجليس الصالح فأكرمهم المولى بالجلوس إلى كبار الصحابة ومن يكون كأبي الدرداء وأبي هريرة علمًا وعملًا رضي الله عنهم.

وجميل بنا أن نحذوا حذو هؤلاء الكبار، ونسأل الله أن يوفقنا للجليس الصالح والعالم المسدد الذي يعيننا على طاعة الله ويقربنا إليهي، ويدلنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا ونتعلم من أخلاقه وهديه.

مضوا وخلَّفوني وحدي!

جاء في الأثر عن وفاة خالد بن الوليد -رضي اللّٰه عنه- لمَّا بكته البواكي ونعته النَّواعي: قيل لعُمر -رضي اللّٰه عنه-: ألا تسمع، ألا تنهاهنَّ؟ فقال: وما علىٰ نساء قُريشٍ أنْ يبكين أبا سُليمان، ما لم يكن نقعٌ ولا لقلقةٌ، فلمَّا خرج لجنازته رأىٰ عُمرَ امرأةً مُحتزمةً تبكيه وتقول:

أنتَ خيرٌ مِن ألفِ ألفٍ مِن النَّا
سِ إذا ما كبتْ وُجوهُ الرِّجالِ

أَشُجاعٌ؟ فأنتَ أشجعُ مِن ليـ
ـثٍ عـريـنٍ جهمٍ أبـي أشـبـالِ

أَجَوادٌ؟ فأنتَ أجودُ مِن سيـ
ـلٍ دِياسٍ يسيلُ بين الجـبـالِ

فقال عُمر: مَن هـٰذه؟ فقيل: أُمُّه. فقال: أُمُّه، والإلـٰه -ثلاثًا- هل قامت النِّساء عن مثل خالدٍ! قال: فكان عُمرُ يتمثَّلُ في طَيِّهِ تلك الثَّلاثَ في ليلةٍ وفي قُدومه:

تُبكِّي ما وصلتَ به النَّدامىٰ
ولا تبكي فوارسَ كالجـبـالِ

أولـٰئك إنْ بكيتَ أشدُّ فقدًا
مِن الأذهاب والعَكَرِ الجَلالِ

تمنَّىٰ بعدهـم قـومٌ مَـداهُـم
فلم يدنوا لأسبـاب الكَـمـالِ

ورُوي أنَّه لمَّا نُعي له خالدٌ قال: إنَّا للّٰه وإنَّا إليه راجعون! واللّٰه يا أبا سُليمان، لقَد عشتَ سعيدًا، ومتَّ شهيـ دًا، وما عند اللّٰه خيرٌ. ثُمَّ يجعل يبكي ويقول: مَضوا وخلَّفوني وحدي، مَضوا وخلَّفوني وحدي.

ذهبَ الَّذين يُعاش في أكنافهم
وبقيتُ في خَلَفٍ كجلدِ الأجربِ

مَضوا وخلَّفوني وحدي.. مَضوا وخلَّفوني وحدي!

حقًّا هُو أفجع الفواجع، حقًّا ما نُكب قومٌ كنكبة الصَّحابة بوفاة رسول اللّٰه ﴿ﷺ﴾، حقًّا:

وما فقدَ الماضونَ مثلَ مُحمَّدٍ
ولا مِثله حتَّىٰ القِـيـامـة يُفقدُ!