قناة الكتاب الشهري @absarulislam2 Channel on Telegram

قناة الكتاب الشهري

@absarulislam2


فوائد منتقاة من كتاب محدد شهريا
انتقاء: د. أبصار الإسلام بن وقار الإسلام
أستقبل الملاحظات والاقتراحات على الرابط التالي: @savbm

قناة الكتاب الشهري (Arabic)

هل تبحث عن مصدر موثوق وموجه للكتب المميزة شهريا؟ إذاً، قناة الكتاب الشهري هي المكان المثالي لك! مع انتقاء دقيق ومتقن من قبل الدكتور أبصار الإسلام بن وقار الإسلام، ستحصل على فوائد منتقاة من كتاب محدد كل شهر. سواء كنت تبحث عن كتب تثقيفية، روايات مشوقة، أو كتب تنمية شخصية، فإن قناة الكتاب الشهري توفر لك مجموعة متنوعة تلبي جميع اهتماماتك. بالإضافة إلى ذلك، يمكنك أيضاً المشاركة بملاحظاتك واقتراحاتك من خلال الرابط المتوفر على القناة. لا تفوت فرصة الانضمام إلى قناة الكتاب الشهري اليوم واستمتع بموجة جديدة من المعرفة والتسلية كل شهر!

قناة الكتاب الشهري

01 Jan, 18:43


حكم النبي ﷺ فيما يَحرُم بيعه:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع النبي ﷺ يقول: «إن اللهَ ورسولَه حرَّم بيعَ الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام». فقيل: يا رسول الله، أرأيتَ شحومَ الميتة، فإنه يُطلى بها السُّفُن، ويُدهَن بها الجلود، ويَستصبِح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرامٌ». ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: «قاتَلَ اللهُ اليهودَ! إن الله لمَّا حرَّم عليهم الشحومَ: جَمَلوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنَه».

وفيهما أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بلغ عمرَ أن سَمُرَةَ باعَ خمرًا، فقال: قاتَلَ اللهُ سَمُرَةَ! ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ! حُرِّمت عليهم الشحوم، فجَمَلوها، فباعوها»...

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي ﷺ في المسجد ـ يعني الحرام ـ فرفع بصرَه إلى السماء، فتبسَّم، وقال: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ، لَعَنَ اللهُ اليهودَ، لَعَنَ اللهُ اليهودَ! إن الله حرَّم عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانَها، إن الله إذا حرَّم على قومٍ أكْلَ شيءٍ حرَّم عليهم ثمنَه». وإسناده صحيحٌ...

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوُه، دون قوله: «إن الله إذا حرَّم أكْلَ شيءٍ حرَّم ثمنَه».

فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناسٍ:
① مَشارِبَ تُفسِد العقولَ،
② ومَطاعِمَ تُفسِد الطِّباعَ، وتُغذِّي غِذاءً خبيثًا،
③ وأعيانٍ تُفسِد الأديانَ، وتدعو إلى الفتنة والشرك.

① فصانَ بتحريم النوع الأول العقولَ عمَّا يُزيلُها ويُفسِدُها،
② وبالثاني: القلوبَ عمَّا يُفسِدُها، مِن وصول أثر الغذاء الخبيث إليها، والغاذي شبيهٌ بالمُغتَذي،
③ وبالثالث: الأديانَ عمَّا وُضِعَ لإفسادها.

فتضمَّن هذا التحريمُ صيانةَ العقول والقلوب والأديان.


ولكنَّ الشأنَ في معرفة حدود كلامه ﷺ، وما يدخل فيه، وما لا يدخل فيه، ليستبينَ عمومُ كلماتِه، وجمْعُها، وتناوُلُها لجميع الأنواع التي شَمِلَها عمومُ لفظِه أو معناه، وهذه خاصِّيَّة الفهم عن الله ورسوله الذي تفاوَتَتْ فيه العلماء، ويؤتيه اللهُ مَن يشاء.

زاد المعاد (٦ / ٤١٩ - ٤٢١).

قناة الكتاب الشهري

01 Jan, 04:55


أنواع الزينة التي تجتنبها المرأة في الإحداد:

قال ابن القيم رحمه الله في سياق الكلام عما تجتنبه الحادَّة:

الزينة، وهي ثلاثة أنواعٍ:

أحدها: الزينة في يَدَيْها، فيحرم عليها الخِضاب والنقش والتطريف والحمرة... فإن النبي ﷺ نَصَّ على الخِضاب مُنبِّهًا به على هذه الأنواع، التي هي أكثرُ زينةً منه وأعظمُ فتنةً وأشدُّ مُضادَّةً لمقصود الإحداد.

ومنها: الكحل، والنهي عنه ثابتٌ بالنَّصِّ الصريح الصحيح
...

النوع الثاني: زينة الثياب، فيحرم عليها ما نهاها عنه النبي ﷺ، وما هو أَوْلى بالمنع منه، وما هو مثله، وقد صَحَّ عنه ﷺ أنه قال: «ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا»، وهذا يَعُمُّ: المُعصفَرَ، والمُزعفَرَ، وسائرَ المصبوغِ بالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق الصافي، وكلَّ ما يُصبَغ للتحسين والتزيين، وفي اللفظ الآخر: «ولا تلبس المُعصفَرَ من الثياب ولا المُمَشَّقَ».

وهاهنا نوعان آخَران:
أحدهما: مأذونٌ فيه، وهو ما نُسِجَ من الثياب على وجهه ولم يدخل عليه صبغٌ: مِن خَزٍّ، أو قطنٍ، أو كَتَّانٍ، أو صوفٍ، أو وَبَرٍ، أو شعرٍ، أو صُبِغَ غزلُه ونُسِجَ مع غيره كالبرود.
والثاني: ما لا يُراد بصبغه الزينة، مثل السواد وما صُبِغَ ليقبحَ أو ليَستُرَ الوسخَ، فهذا لا يُمنَع منه.

قال الشافعي رحمه الله: في الثياب زينتان:
إحداهما: جمال الثياب على اللابِسين،
[والثانية]: السُّترة للعورة.
فالثياب زينةٌ لمَن لبسها.
وإنما نُهِيَتْ الحادَّة عن زينة بدنها ولم تُنْهَ عن ستر عورتها.

فلا بأس أن تلبس كلَّ ثوبٍ من البياض؛ لأن البياض ليس بمُزَيِّنٍ، وكذلك الصوفُ والوَبَرُ وكلُّ ما يُنسَج على وجهه ولم يدخل عليه صَبْغٌ من خَزٍّ أو غيره، وكذلك كلُّ صبغٍ لم يُرَدْ به التزيُّن، مثل السواد وما صُبِغَ ليقبحَ أو لنفي الوسخ عنه، فأما ما كان من زينةٍ أو وَشْيٍ في ثوبٍ أو غيرِه، فلا تلبسه الحادُّ.


زاد المعاد (٦ / ٣٥٧ - ٣٦٣).

قناة الكتاب الشهري

31 Dec, 10:40


من أحكام إحداد المرأة على زوجها المتوفى:

قال ابن القيم رحمه الله في سياق بيان أحكام الإحداد بعد أن ذكر الأحاديث السابقة:

- لا يجوز الإحداد على ميتٍ فوق ثلاثة أيامٍ كائنًا مَن كان إلا الزَّوج وحده... وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجُها...

- والإحداد تابعٌ للعِدَّة بالشهور، وأما الحامل فإذا انقضى حملُها سقط وجوب الإحداد عنها اتِّفاقًا؛ فإن لها أن تتزوَّج وتتجمَّل وتتطيَّب لزوجها وتتزيَّن له ما شاءت.
فإن قيل: فإذا زادت مدة الحمل على أربعة أشهرٍ وعشرٍ هل يسقط وجوب الإحداد أم يستمرُّ إلى حين الوضع؟
قيل: بل يستمرُّ الإحداد إلى حين الوضع؛ فإنه من توابع العِدَّة؛ ولهذا قُيِّدَ بمُدَّتِها، وهو حكمٌ من أحكام العِدَّة وواجبٌ من واجباتها، فكان معها وجودًا وعدمًا...

[وأما] الخِصال التي تجتنبها الحادَّة...
[فمنها]: الطِّيب، لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: «ولا تَمَسُّ طيبًا»، ولا خلافَ في تحريمه عند من أوجب الإحداد؛ ولهذا لما خرجت أم حبيبة رضي الله عنها من إحدادها على أبيها أبي سفيان دعتْ بطيبٍ فدهنتْ منه جاريةً، ثم مسَّت بعارِضيها، ثم ذكرت الحديث.

ويدخل في الطِّيب: المسك والعنبر والكافور والنَّدُّ والغالية والزَّباد والذَّريرة والبخور، والأدهان المُطيِّبة كدهن البان والورد والبَنَفْسَج والياسمين، والمياه المُعتَصَرة من الأدهان الطَّيِّبة كماء الورد وماء القَرَنْفُل وماء زهر النَّارِنْج، فهذا كلُّه طيبٌ.
ولا يدخل فيه الزيت ولا الشَّيْرَج ولا السَّمْن، ولا تُمنَع من الادِّهان بشيءٍ من ذلك.


زاد المعاد (٦ / ٣٤٨ - ٣٥٦).

قناة الكتاب الشهري

30 Dec, 16:12


إحداد المتوفى عنها زوجها:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثبت في الصحيحين عن حميد بن نافعٍ عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبَرَتْه هذه الأحاديث الثلاثة:
قالت زينب: دخلتُ على أم حبيبة زوجِ النبي ﷺ حين توفِّي أبوها أبو سفيان، فدَعَتْ أم حبيبة بطيبٍ فيه صفرةٌ خَلوقٌ أو غيره، فدَهنتْ منه جاريةً، ثمَّ مسَّت بعارضَيها، ثمَّ قالت: والله ما لي بالطِّيب من حاجةٍ، غير أنِّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليوم الآخر تُحِدُّ على ميِّتٍ فوقَ ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا».

قالت زينب: ثم دخلتُ على زينب بنت جحشٍ حين توفِّي أخوها، فدعتْ بطيبٍ فمسَّتْ منه، ثمَّ قالت: والله ما لي بالطِّيب من حاجةٍ، غير أنِّي سمعت رسول الله ﷺ يقول على المنبر: «لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر تُحِدُّ على ميِّتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا».

قالت زينب: وسمعتُ أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن بنتي تُوفِّي عنها زوجها، وقد اشتكت عينَها، أفتَكْحَلُها؟ فقال رسول الله ﷺ: «لا» مرَّتين أو ثلاثًا، كلُّ ذلك يقول: «لا»، ثم قال: «إنما هي أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وقد كانت إحداكنَّ في الجاهلية ترمي بالبَعرة على رأس الحَوْل».

فقالت زينب: كانت المرأة [تعني في الجاهلية] إذا توفِّي عنها زوجها دخلتْ حِفْشًا، ولبستْ شرَّ ثيابها، ولم تمسَّ طيبًا ولا شيئًا حتَّى تمرَّ بها سنةٌ، ثم تُؤتى بدابَّةٍ ـ حمارٍ أو شاةٍ أو طيرٍ ـ فتفتضُّ به، فقلَّما تفتضُّ بشيءٍ إلا مات، ثم تخرج فتُعطى بعرةً فترمي بها، ثم تُراجِعُ بعدُ ما شاءتْ من طِيبٍ أو غيره، قال مالك: تفتضُّ به: تَدلُك به جلدَها...

وفي الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: «لا تُحِدُّ امرأة على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوبَ عَصْبٍ، ولا تكتحل، ولا تَمَسُّ طيبًا إلا إذا طهرَتْ نُبذةً من قُسْطٍ أو أظفارٍ».

زاد المعاد (٦ / ٣٤٥ - ٣٤٦).

قناة الكتاب الشهري

30 Dec, 12:35


💎 بشرى سارة:

سيتم نشر فوائد مفردة منتقاة من فقرات برنامج: (حفظ القرآن بطريقة السلف) مكتوبة ومصممة وصوتية في قناة خاصة بذلك.

للانضمام: https://t.me/quraangroup_f

قناة الكتاب الشهري

30 Dec, 03:00


الحكمة من عِدَّة الوفاة والطلاق:

قال ابن القيم رحمه الله:

قال شيخُنا [ابن تيمية]: والصواب أن يُقال: أمَّا عِدَّة الوفاة فهي حرَمٌ لانقضاء النكاح ورعايةٌ لحَقِّ الزوج؛ ولهذا تُحِدُّ المتوفَّى عنها زوجُها في عِدَّة الوفاة رعايةً لحَقِّ الزوج، فجُعِلت العِدَّة حريمًا لحَقِّ هذا العقد الذي له خَطَرٌ وشأنٌ، فيحصل فصلٌ بهذه بين نكاح الأول ونكاح الثاني، ولا يتَّصل الناكِحان، ألا ترى أن رسول الله ﷺ لمَّا عَظُمَ حقُّه حُرِّمَ نساؤه بعدَه، وهذا اخْتُصَّ به الرسول ﷺ؛ لأن أزواجَه في الدنيا هُنَّ أزواجُه في الآخرة، بخلاف غيره.

فإنه لو حَرُمَ على المرأة أن تتزوج بغير زوجها تضرَّرت المتوفَّى عنها، ورُبَّما كان الثاني خيرًا لها من الأول، ولكن لو تأيَّمَتْ على أولاد الأول لكانت محمودةً على ذلك مُستحَبًّا لها، في الحديث: «أنا وامرأةٌ سَفْعاء الخَدَّيْنِ كهاتَيْنِ يومَ القيامة ـ وأوْمَأَ بالوسطى والسَّبَّابة ـ: امرأةٌ آمَتْ من زوجها، ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، وحبستْ نفسَها على يتامى لها، حتى بانوا أو ماتوا».

وإذا كان المُقتضِي لتحريمها قائمًا فلا أقلَّ مِن مدةٍ تتربَّصُها،
وقد كانت في الجاهلية تتربَّص سنةً، فخفَّفها الله سبحانه بأربعة أشهرٍ وعشرًا، وقيل لسعيد بن المسيَّب: ما بال العَشر؟ قال: "فيها يُنفَخ الروحُ"، فيحصل بهذه المدة براءة الرَّحِم حيث يُحتاج إليه، وقضاء حَقِّ الزوج إذا لم يُحتَج إلى ذلك...

وأمَّا عِدَّة الطلاق فهي التي أشكَلَتْ؛ فإنه لا يمكن تعليلُها بذلك؛ لأنها إنما تجب بعد المَسيس، ولأن الطلاق قطعٌ للنكاح؛ ولهذا يَتَنَصَّف فيه المُسمَّى ويسقط فيه مهر المِثْل.

فيقال ـ والله الموفِّق للصواب ـ: عِدَّة الطلاق وجبتْ ليتمكَّن الزوج فيها من الرَّجعة، ففيها حقٌّ للزوج وحقٌّ لله وحقٌّ للولد وحقٌّ للناكح الثاني:

- فحقُّ الزوج ليتمكَّن من الرَّجعة في العِدَّة.
- وحقُّ الله بوجوب ملازمتها المنزلَ كما نَصَّ عليه سبحانه، وهو منصوص أحمد ومذهب أبي حنيفة.
- وحقُّ الولد لئلَّا يضيع نسبُه ولا يُدرَى لأيِّ الواطئين.
- وحقُّ المرأة لِما لها من النفقة زمنَ العِدَّة؛ لكونها زوجةً تَرِثُ وتُورَث.


ويدلُّ على أن العِدَّة حقٌّ للزوج قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩]، فقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ دليلٌ على أن العِدَّة للرجل على المرأة.

وأيضًا فإنه سبحانه قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، فجعل الزوج أحقَّ بِرَدِّها في العِدَّة، وهذا حقٌّ له، فإذا كانت العِدَّة ثلاثةَ قروءٍ أو ثلاثةَ أشهرٍ طالت مدة التَّربُّص؛ لينظرَ في أمره: هل يُمسِكُها أو يُسرِّحُها.

زاد المعاد (٦ / ٣٠٨ - ٣١٠).

قناة الكتاب الشهري

29 Dec, 15:55


من أحكام عِدَّة الوفاة:

قال ابن القيم رحمه الله:

أما عِدَّة الوفاة فتجب بالموت، سواءٌ دخل بها أو لم يدخل، اتِّفاقًا؛ كما دَلَّ عليه عموم القرآن والسنة،
واتَّفَقوا على أنهما يَتوارَثان قبل الدخول،
وعلى أن الصَّداق يستقرُّ إذا كان مسمًّى؛

لأن الموت لما كان انتهاء العقد وانقضاءَه استقرَّت به الأحكام: فتَوارَثا، واستقرَّ المهر، ووجبت العِدَّة.

واختلفوا في مسألتين:

إحداهما: وجوب مهر المثل إذا لم يكن مسمًّى،
فأوجبه أحمد وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه،
ولم يوجبه مالك والشافعي في القول الآخر،
وقضى بوجوبه رسول الله ﷺ كما جاء في السنة الصحيحة الصريحة من حديث بَرْوَع بنت واشِق... ولو لم تَرِدْ به السنة لكان هو محضَ القياس؛ لأن العُرْف أُجريَ مجرى الدخول في تقرير المسمَّى ووجوب العِدَّة.

والمسألة الثانية: هل يثبت تحريم الربيبة بموت الأم كما يثبت بالدخول بها؟
وفيه قولان للصحابة، وهما روايتان عن أحمد.

والمقصود أن العِدَّة فيه [يعني في الوفاة] ليست للعلم ببراءة الرَّحِم؛ فإنها تجب قبل الدخول، بخلاف عِدَّة الطلاق.

وقد اضطرب الناس في حِكمة عِدَّة الوفاة وغيرها:

فقيل: هي لبراءة الرَّحٓم، وأُورِدَ على هذا القول وجوهٌ كثيرةٌ:

منها: وجوبُها قبل الدخول في الوفاة،
ومنها: أنها ثلاثة قروءٍ، وبراءة الرَّحِم يكفي فيها حيضةٌ كما في المُستبرَأة،
ومنها: وجوب ثلاثة أشهرٍ في حقِّ مَن يُقطَع ببراءة رَحِمها لصغرها أو كبرها.

ومِن الناس مَن يقول: هو تَعَبُّدٌ لا يُعقَل معناه، وهذا فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنه ليس في الشريعة حُكمٌ إلا وله حِكمةٌ؛ وإنْ لم يعقلها كثيرٌ من الناس أو أكثرُهم،
الثاني: أن العِدَد ليست من العبادات المَحضة، بل فيها من المصالح رعايةُ حقِّ الزوجين والولد والناكح.

زاد المعاد (٦ / ٣٠٧ - ٣٠٨).

قناة الكتاب الشهري

28 Dec, 20:47


اختلاف أسماء الأشياء باختلاف ما يكون فيها أو معها:

قال ابن القيم رحمه الله:

الكأس: الذي لا يُقال على الإناء إلا بشرط كون الشراب فيه، وإلا فهو زُجاجةٌ أو قَدَحٌ.

والمائدة: التي لا يُقال للخِوان إلا إذا كان عليه طعامٌ، وإلا فهو خِوانٌ.

والكُوز: الذي لا يُقال لمُسَمَّاه إلا إذا كان ذا عُرْوَةٍ، وإلا فهو كوبٌ.

والقلم: الذي يُشترَط في صحة إطلاقِه على القصبة كونها مَبْرِيَّةً، وبدون البَرْي فهو أُنبوبٌ أو قصبةٌ.

والخاتَم شرط إطلاقِه أن يكون ذا فَصٍّ منه أو من غيره، وإلا فهو فَتْخَةٌ.

والفَرْوُ شرط إطلاقِه على مُسمَّاه الصوف، وإلا فهو جلدٌ
...

والخِدْر لا يقال إلا لما اشتمل على المرأة، وإلا فهو سِتْرٌ.

والمِحْجَن لا يقال للعصا إلا إذا كان مَحنِيَّة الرأس، وإلا فهي عصًا.

والرَّكِيَّة لا تُقال على البئر إلا بشرط كون الماء فيها، وإلا فهي بئرٌ.

والوَقود لا يُقال للحَطَب إلا إذا كان فيه النار، وإلا فهو حَطَبٌ.

ولا يقال للتراب ثَرًى إلا بشرط نَداوَتِه، وإلا فهو ترابٌ
...

والسرير لا يُقال له نَعْشٌ إلا إذا كان عليه ميِّتٌ.

والعظم لا يقال له عَرْقٌ إلا إذا اشتمل عليه لحمٌ
...

والقوم لا يُسمَّون رُفْقَةً إلا إذا انضمُّوا في مجلسٍ واحدٍ وسيرٍ واحدٍ، فإذا تفرَّقوا زال هذا الاسم، ولم يَزُلْ عنهم اسم الرفيق...

والمَجلِس لا يقال له النادي إلا إذا كان أهله فيه...

ولا يقال للفرس مُحَجَّلٌ إلا إذا كان البياض في قَوائِمِه كلِّها أو أكثرِها.

وهذا بابٌ طويلٌ لو تَقَصَّيْناه.


زاد المعاد (٦ / ٢٤٩ - ٢٥٣).

قناة الكتاب الشهري

28 Dec, 13:53


حكم النبي ﷺ في العِدَد:

قال ابن القيم رحمه الله:

هذا الباب قد تولَّى الله سبحانه بيانَه في كتابه أتمَّ بيانٍ وأوضحَه وأجمعَه، بحيث لا تَشِذُّ عنه مُعتدَّةٌ، فذكر أربعة أنواعٍ من العِدَد، وهي جملة أنواعها:

النوع الأول: عِدَّة الحامل بوضع الحمل مطلقًا، بائنةً كانت أو رجعيةً، مُفارَقةً في الحياة أو متوفًّى عنها، فقال: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]، وهذا فيه عمومٌ من ثلاث جهاتٍ:
أحدها: عموم المُخبَر عنه، وهو أولات الأحمال؛ فإنه يتناول جميعهنَّ.
الثاني: عموم الأجَل؛ فإنه أضافَه إليهنَّ، وإضافة اسم الجمع إلى المعرفة يَعُمُّ، فجعل وَضْع الحمل جميعَ أجلهنَّ، فلو كان لبعضهنَّ أجلٌ غيره لم يكن جميعَ أجلهنَّ.
الثالث: أن المبتدأ والخبر معرفتين: أما المبتدأ فظاهرٌ، وأما الخبر ـ وهو قوله: ﴿أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ ـ ففي تأويل مصدرٍ مضافٍ، أي: أجلُهنَّ وَضْعُ حملِهنَّ.
والمبتدأ والخبر إذا كانا مَعرفتين اقتضى ذلك حَصْرَ الثاني في الأول...

وبهذا احتجَّ جمهور الصحابة على أنَّ الحامل المتوفَّى عنها عدَّتُها وَضْعُ حملها، ولو وضعتْه والزوجُ على المُغتسَل، كما أفتى به النبي ﷺ لسُبَيْعةَ الأسلميَّة، وكان هذا الحكم والفتوى منه مُشتَقًّا من كتاب الله مُطابِقًا له.

النوع الثاني: عِدَّة المُطلَّقة التي تحيض، وهي ثلاثة قُروءٍ، كما قال تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨].

النوع الثالث: عِدَّة التي لا حَيْضَ لها، وهي نوعان:
صغيرةٌ لم تَحِضْ،
وكبيرةٌ قد يئست من الحيض.

فبَيَّنَ سبحانه عِدَّةَ النوعين بقوله: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤]، أي: فعِدَّتُهنَّ كذلك.

النوع الرابع: المُتوفَّى عنها زوجُها، فبَيَّنَ عِدَّتَها سبحانه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]، فهذا يتناول المدخولََ بها وغيرَها، والصغيرةَ والكبيرةَ.

ولا تدخل فيه الحامل؛ لأنها خرجت بقوله: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾،
فجعل وَضْعَ حملِهنَّ جميعَ أجلِهنَّ، وحَصَرَه فيه، بخلاف قوله في المتوفَّى عنهنَّ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾؛ فإنَّه فعلٌ مُطلَقٌ لا عمومَ له،
وأيضًا فإن قوله: ﴿أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ مُتأخِّرٌ في النزول عن قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾.
وأيضًا فإن قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ في غير الحامل بالاتِّفاق؛ فإنها لو تَمادى حملُها فوقَ ذلك تربَّصَتْه، فعمومها مخصوصٌ اتِّفاقًا، وقوله: ﴿أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ غير مخصوصٍ بالاتِّفاق.
هذا لو لم تأتِ السنة الصحيحة بذلك ووقعت الحوالةُ على القرآن، فكيف والسنة الصحيحة مُوافِقةٌ لذلك مُقرِّرةٌ له؟!


فهذه أصول العِدَد في كتاب الله مُفصَّلةً مُبيَّنةً، ولكن اختُلِفَ في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضعَ من ذلك، وقد دلَّت السنة بحمد الله على مراد الله منها.

زاد المعاد (٦ / ٢١١ - ٢١٣).

قناة الكتاب الشهري

27 Dec, 15:33


(الرَّضاعة تُحرِّم ما تُحرِّم الولادة):

قال ابن القيم رحمه الله:

قوله ﷺ: «الرَّضاعة تُحرِّم ما تُحرِّم الولادة»، وهذا الحكم مُتَّفَقٌ عليه بين الأمة، حتى عند من قال: إنَّ الزِّيادة على النَّصِّ نسخٌ، والقرآن لا يُنسخ بالسُّنَّة، فإنَّه اضطُرَّ إلى قبول هذا الحكم وإن كان زائدًا على ما في القرآن، سواءٌ سمَّاه نسخًا أو لم يُسمِّه، كما اضطُرَّ إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها وبينها وبين خالتها مع أنَّه زيادةٌ على نصِّ القرآن.

وذِكرها هذا مع حديث أبي القُعَيس في تحريم لبن الفحل دلَّ على أنَّ المرضعة والزَّوج صاحب اللَّبن قد صارا أبوين للطِّفل، وصار الطِّفل ولدًا لهما، فانتشرت الحرمة من هذه الجهات الثَّلاث:
- فأولاد الطفل وإن نزلوا أولاد ولدهما،
- وأولاد كلِّ واحدٍ من المرضعة والزَّوج من الآخر أو من غيره إخوتُه وأخواتُه من الجهات الثلاث:
¤ فأولاد أحدهما من الآخر إخوته وأخواته لأبيه وأمِّه،
¤ وأولاد الزَّوج من غيرهما إخوته وأخواته من أبيه،
¤ وأولاد المرضعة من غيره إخوته وأخواته لأمِّه،
- وصار آباؤهما أجداده وجدَّاته،
- وصار إخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته،
- وإخوة صاحب اللَّبن وأخواته أعمامه وعمَّاته،
فحرمة الرَّضاع تنتشر من هذه الجهات الثَّلاث فقط.

ولا يتعدَّى التَّحريم إلى غير المُرتضَع ممَّن هو في درجته من إخوته وأخواته،
فيُباح لأخيه نكاحُ من أرضعَتْ أخاه وبناتها وأمَّهاتها، ويباح لأخته نكاح صاحب اللَّبن وأباه وبنيه.

وكذلك لا ينتشر إلى من فوقه من آبائه وأمَّهاته ومَن في درجتهم من أعمامه وعمَّاته وأخواله وخالاته،
فلأبي المرتضع من النَّسب وأجداده أن ينكحوا أمَّ الطفل من الرَّضاع وأمَّهاتِها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمَّهاتِ صاحب اللَّبن وأخواتِه وبناتِه؛ إذ نظير هذا من النَّسَب حلالٌ...

وهل يَحرُم نظير المصاهرة بالرَّضاع فتَحْرُم عليه أمُّ امرأته من الرَّضاعة وبنتها من الرَّضاعة وامرأة ابنه من الرَّضاعة، أو يحرم الجمع بين الأختين من الرَّضاعة، أو بين المرأة وعمَّتها وبينها وبين خالتها من الرَّضاعة؟
فحرَّمه الأئمة الأربعة وأتباعهم
.

زاد المعاد (٦ / ١٦١ - ١٦٣).

قناة الكتاب الشهري

26 Dec, 18:41


شروط الرضاعة المحرِّمة:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عنه ﷺ أنه قال: «إنَّ الرَّضاعة تُحرِّم ما تُحرِّم الولادة».

وثبت فيهما من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي ﷺ أُريدَ على ابنة حمزة، فقال: «إنَّها لا تَحِلُّ لي؛ إنَّها ابنة أخي من الرَّضاعة، ويَحرُم من الرَّضاعة ما يَحرُم من النَّسَب».

وثبت فيهما أنه قال لعائشة رضي الله عنها: «ائْذَني لأفلحَ أخي أبي القُعَيْس؛ فإنَّه عمُّكِ»، وكانت امرأتُه أرضعت عائشةَ.

وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنه لما سُئِل عن: رجلٍ له جاريتان، أرضعتْ إحداهما جاريةً والأخرى غلامًا، أيَحِلُّ للغلام أن يتزوج الجاريةَ؟ فقال: "لا؛ اللِّقاح واحدٌ".

وثبت في صحيح مسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ: «لا تُحرِّم المَصَّةُ والمَصَّتانِ».
وفي روايةٍ: «لا تُحرِّم الإمْلاجة والإمْلاجَتان».
وفي لفظٍ له: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، هل تُحرِّم الرَّضْعَةُ الواحدةُ؟ قال: «لا».

وثبت في صحيحه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما نزل من القرآن: {عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلوماتٍ يُحَرِّمْنَ}، ثم نُسِخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفي رسول الله ﷺ وهي فيما يُقرأ من القرآن".

وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: «إنَّما الرَّضاعة من المَجاعة».

وثبت في جامع الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنَّ رسول الله ﷺ قال: «لا يُحرِّم من الرَّضاعة إلا ما فَتَقَ الأمعاءَ في الثدي، وكان قبلَ الفِطام»، قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ.

وفي سنن الدارقطني بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباس رضي الله عنه يرفعُه: «لا رَضاعَ إلا ما كان في الحَوْلَيْنِ».

وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه يرفعُه: «لا يُحرِّم من الرَّضاع إلا ما أنبَتَ اللحمَ وأنشَزَ العظْمَ».

زاد المعاد (٦ / ١٥٧ - ١٥٩).

قناة الكتاب الشهري

26 Dec, 14:28


💎 بشرى سارة لطلاب العلم:

📢 ندعوكم للمشاركة في مدارسة القرآن بطريقة السلف - مسار مدارسة (جزء الملك).

(وذلك بمدارسة عشر آيات تقريبًا كل أسبوع تلاوة وفهمًا وعملًا).

مدة البرنامج = ١٠ أشهر.

⬅️ البداية: السبت ٢٧ / ١ / ١٤٤٦ الموافق  ٢٨ / ١٢ / ٢٠٢٤م.

🌹 مميزات البرنامج:
- اختبارات أسبوعية.
- اختبارات دورية.
- متاح للرجال والنساء.
- الدراسة عبر التليجرام.

💢 فقرات البرنامج:
- التفسير.
- معاني الكلمات.
- تصحيح التلاوة.
- الوقف والابتداء.
- الفوائد التفسيرية.
- العمل بالآيات.
- الأسماء الحسنى.
- التجويد.

📌 للانضمام: https://t.me/quraangroup6

قناة الكتاب الشهري

25 Dec, 11:12


النفقة على الأقارب:

قال ابن القيم رحمه الله:

روى أبو داود في سننه عن كليب بن منفعة عن جدِّه أنَّه أتى النبيَّ ﷺ فقال: يا رسول الله، مَن أَبَرُّ؟ قال: «أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حقٌّ واجبٌ ورَحِمٌ موصولةٌ».

وروى النسائي عن طارق المحاربي قال: قدمتُ المدينة فإذا رسول الله ﷺ قائمٌ على المنبر يخطب الناس وهو يقول: «يد المُعطي العليا، وابدأْ بمن تَعولُ: أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، ثم أدناك أدناك».

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، مَن أحَقُّ الناس بحُسْنِ صَحابتي؟ قال: «أمُّك»، قال: ثم مَن؟ قال: «ثم أمُّك»، قال: ثم مَن؟ قال: «ثم أمُّك»، قال: ثم مَن؟ قال: «ثم أبوك».

وفي الترمذي عن معاوية القشيري قال: قلت: يا رسول الله، مَن أَبَرُّ؟ قال: «أمَّك»، قلت: ثم مَن؟ قال: «أمَّك»، قلت: ثم مَن؟ قال: «أمَّك»، قلت: ثم مَن؟ قال: «أباك، ثم الأقربَ فالأقربَ».

وقد قال النبي ﷺ لهند: «خُذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف».

وفي سنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عن النبي ﷺ أنَّه قال: «إنَّ أطْيَبَ ما أكلتم مِن كَسْبِكم، وإنَّ أولادَكم مِن كَسْبِكم، فكلوه هَنيئًا»، ورواه أيضًا من حديث عائشة مرفوعًا.

وروى النسائي من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله ﷺ:
«ابدأْ بنفسك فتصدَّقْ عليها، فإنْ فَضَلَ شيءٌ فلِأهلك، فإنْ فَضَلَ عن أهلك شيءٌ فلِذي قرابتِك، فإنْ فَضَلَ عن ذي قرابتِك فهكذا وهكذا».

وهذا كلُّه تفسيرٌ لقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦]، فجعل سبحانه حقَّ ذي القربى يَلي حقَّ الوالدين كما جعله النبي ﷺ سواءً بسواءٍ، وأخبر سبحانه أنَّ لِذي القربى حقًّا على قرابته، وأمر بإيتائِه إيَّاه، فإنْ لم يكن ذلك حقَّ النَّفَقَة فلا ندري أيُّ حقٍّ هو.

وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى، ومِن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعًا وعُرْيًا وهو قادرٌ على سَدِّ خَلَّتِه وسَتْرِ عورتِه، ولا يُطعِمُه لقمةً ولا يستر له عورةً إلا بأنْ يُقرِضَه ذلك في ذِمَّتِه.


وهذا الحكم من النبي ﷺ مُطابِقٌ لكتاب الله تعالى حيث يقول: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، فأوجب سبحانه على الوارث مثلَ ما أوجب على المولود له.

زاد المعاد (٦ / ١٤٥ - ١٤٧).

قناة الكتاب الشهري

24 Dec, 18:00


حكم النبي ﷺ في النفقة على الزوجات:

قال ابن القيم رحمه الله:

ذِكر حكمِه ﷺ في النفقة على الزوجات، وأنَّه لم يُقدِّرْها، ولا وَرَدَ عنه ما يَدُلُّ على تقديرها، وإنَّما رَدَّ الأزواجَ فيها إلى العُرْف.

ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال في خطبة حجَّة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعةٍ وثمانين يومًا: «واتَّقوا اللهَ في النساء؛ فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، ولهنَّ عليكم رِزْقُهنَّ وكِسْوَتُهنَّ بالمعروف».

وثبت عنه في الصحيحين أن هندًا امرأةَ أبي سفيان قالت له: إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ، ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال: «خُذِي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف».

وفي سنن أبي داود من حديث حكيم بن معاوية عن أبيه قال: أتيتُ رسولَ الله ﷺ فقلت: يا رسول الله، ما تقول في نسائنا؟ قال: «أطعِموهُنَّ ممَّا تأكلون، واكْسوهُنَّ ممَّا تلبسون، ولا تضربوهُنَّ ولا تُقَبِّحوهُنَّ».

وهذا الحُكْم من النبي ﷺ مُطابِقٌ لكتاب الله ﷻ؛ حيث يقول تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...﴾ [البقرة: ٢٣٣].

والنبي ﷺ جعل نفقة المرأة مثل نفقة الخادم، وسوَّى بينهما في عدم التقدير، ورَدَّهُما إلى العُرْف، فقال: «للمملوك طعامُه وكسوتُه بالمعروف»، فجعل نفقتَهما بالمعروف، ولا ريبَ أن نفقة الخادم غير مُقدَّرةٍ، ولم يَقُلْ أحدٌ بتقديرها.

وصَحَّ عنه ﷺ في الرقيق أنه قال: «أطعِموهم ممَّا تأكلون، وأَلبِسوهم ممَّا تلبسون»، رواه مسلم، كما قال في الزوجة سواءٌ.

وصَحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "امرأتُك تقول: إما أن تُطعِمَني وإما أن تُطلِّقَني، ويقول العبد: أَطعِمْني واستعمِلْني، ويقول الابن: أَطعِمْني، إلى مَن تَدَعُني؟"، فجعل نفقة الزوجة والرقيق والولد كلَّها الإطعامَ لا التمليكَ.

زاد المعاد (٦ / ٧٩ - ٨٠).

قناة الكتاب الشهري

23 Dec, 14:25


تتمة في بيان مَن يُقدَّم في رعاية الطفل من الأبوين بعد الطلاق:

قال ابن القيم رحمه الله:

على أنَّا إذا قدَّمْنا أحدَ الأبوين فلا بُدَّ أن نُراعي صيانتَه وحفظَه للطفل؛ ولهذا قال مالك والليث: إذا لم تكن الأمُّ في موضع حرزٍ وتحصينٍ، أو كانت غيرَ مرضيَّةٍ، فللأب أخْذُ البنت منها.

وكذلك الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه؛ فإنَّه يَعتبر قُدرتَه على الحفظ والصيانة: فإنْ كان مُهْمِلًا لذلك، أو عاجزًا عنه، أو غيرَ مرضيٍّ، أو ذا دِياثةٍ، والأمُّ بخِلافِه = فهي أحقُّ بالبنت بلا ريبٍ.

فمَن قدَّمْناه بتخييرٍ أو قرعةٍ أو بنفسه فإنَّما نقدِّمه إذا حصلَتْ به مصلحة الولد، ولو كانت الأمُّ أصْوَنَ من الأب وأغْيَرَ منه قُدِّمَتْ عليه، ولا التفاتَ إلى قرعةٍ ولا اختيار الصبي في هذه الحال؛ فإنَّه ضعيف العقل يُؤثِر البطالة واللعب، فإذا اختار مَن يساعده على ذلك لم يُلتفَت إلى اختياره، وكان عند مَن هو أنفعُ له وخيرٌ، ولا تحتمل الشريعة غير هذا.


والنبي ﷺ قد قال: «مُرُوهم بالصلاة لسبعٍ، واضرِبوهم على تَرْكِها لعشرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع».
والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: ٦]، قال الحسن: "علِّموهم وأدِّبوهم وفقِّهوهم".

فإذا كانت الأمُّ تتركه في المكتب وتُعلِّمه القرآن، والصبي يُؤثِر اللعب ومعاشرةَ أقرانِه، وأبوه يُمكِّنه من ذلك = فأمُّه أحقُّ به، فلا تخييرَ ولا قرعةَ، وكذلك العكس.

ومتى أخلَّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطَّله، والآخَر مُراعٍ له، فهو أحقُّ وأولى به.


وسمعت شيخنا يقول: تنازع أبوان صبيًّا عند بعض الحُكَّام، فخيَّره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمُّه: سَلْهُ لأيِّ شيءٍ يختار أباه؟ فسأله فقال: أمِّي تبعثني كلَّ يومٍ إلى الكُتَّاب، ويضربني الفقيه، وأبي يتركني ألعبُ مع الصبيان، فقضى به للأمِّ وقال: أنتِ أحقُّ به.

قال شيخنا: وإذا تَرَك أحدُ الأبوين تعليمَ الصبيِّ وأَمْرَه الذي أوجبه الله عليه، فهو عاصٍ، ولا ولايةَ له عليه، بل كلُّ مَن لم يَقُمْ بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إمَّا أن تُرفع يدُه عن الولاية ويُقام مَن يفعل الواجب، وإمَّا أن يُضَمَّ إليه مَن يقوم معه بالواجب؛ إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان.

قال شيخنا: وليس هذا الحقُّ من جنس الميراث الذي يحصل بالرَّحِم والنكاح والولاء، سواءٌ كان الوارث فاسقًا أو صالحًا، بل هذا من جنس الولاية التي لا بُدَّ فيها من القدرة على الواجب، والعلمِ به، وفعْلِه بحسب الإمكان.

قال: فلو قُدِّر أنَّ الأب تزوَّج امرأةً لا تُراعي مصلحةَ ابنته ولا تقوم بها، وأمُّها أقومُ بمصلحتها من تلك الضَّرَّة، فالحضانة هنا للأمِّ قطعًا.

قال: ومِمَّا ينبغي أن يُعلَم: أنَّ الشارع ليس عنه نَصٌّ عامٌّ في تقديم أحدِ الأبوين مطلقًا، ولا تخييرِ الولد بين الأبوين مطلقًا، والعلماء مُتَّفِقون على أنَّه لا يتعيَّن أحدهما مطلقًا، بل لا يُقدَّم ذو العدوان والتفريط على البَرِّ العادِل المُحسِن، والله أعلم.

زاد المعاد (٦ / ٥٨ - ٦٠).

قناة الكتاب الشهري

23 Dec, 03:43


مَن الأَوْلى برعاية البنت بعد الطلاق: الأب أم الأمّ؟

قال ابن القيم رحمه الله:

ثم هاهُنا حصل الاجتهاد في تعيين أحد الأبوين لمقامها عنده، وأيُّهما أصْلَحُ لها؟
فمالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه عيَّنوا الأمَّ، وهو الصحيح دليلًا.
وأحمد في المشهور عنه وعامة أصحابِه عيَّنوا الأب.

¤ قال مَن رجَّح الأمَّ:
- قد جرت العادة بأنَّ الأب يتصرَّف في المعاش والخروج ولقاء الناس، والأمُّ في خِدْرها مقصورةٌ في بيتها، فالبنت عندها أصْونُ وأحفظُ بلا شكٍّ، وعينُها عليها دائمًا، بخلاف الأب؛ فإنَّه في غالب الأوقات غائبٌ عن البيت أو في مَظِنَّة ذلك، فجعْلُها عند أمِّها أصْوَنُ لها وأحفظ.


- قالوا: وكلُّ مفسدةٍ يَعرِض وجودُها عند الأمِّ فإنَّها تَعرِض أو أكثر منها عند الأب؛ فإنَّه إن تركها في البيت وحدها لم يَأمن عليها، وإن تركها عند امرأته أو غيرها فالأمُّ أشفقُ عليها وأصْونُ لها من الأجنبيَّة.

- قالوا: وأيضًا فهي محتاجةٌ إلى تعلُّم ما يصلح للنساء من الغَزْل والقيام بمصالح البيت، وهذا إنَّما تقوم به النِّساء لا الرِّجال، فهي أحوجُ إلى أمِّها لتعلِّمها ما يَصلُح للمرأة، وفي دفعها إلى أبيها تعطيلُ هذه المصلحة، أو إسلامُها إلى امرأةٍ أجنبيَّةٍ تُعلِّمها ذلك، أو ترديدُها بين الأمِّ وبينه، وفي ذلك تمرينٌ لها على البروز والخروج، فمصلحة البنت والأمِّ والأب أن تكون عند أمِّها.
وهذا القول هو الذي لا نختار سواه.

¤ قال من رجَّح الأب:
- الرجال أغْيَرُ على البنات من النساء، فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأمِّ أبدًا، وكم مِن أمٍّ تُساعد ابنتَها على ما تهواه، ويَحمِلُها على ذلك ضعفُ عقلِها وسرعةُ انخداعِها وضعفُ داعي الغيرة في طبعها، بخلاف الأب؛
ولهذا المعنى وغيره جعل الشارع تزويجَها إلى أبيها دون أمِّها، ولم يجعل لأمِّها ولايةً على بُضْعِها البتَّةَ، ولا على مالها، فكان مِن محاسن الشريعة أن تكون عند أمِّها ما دامت محتاجةً إلى الحضانة والتربية، فإذا بلغت حدًّا تُشتهى فيه وتَصلُح للرجال فمِن محاسن الشَّريعة أن تكون عند مَن هو أغْيَرُ عليها وأحرصُ على مصلحتها وأصونُ لها من الأمِّ.

- قالوا: ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغيرة ـ ولو مع فسقه وفجوره ـ ما يحمله على قتل ابنته وأخته ومَوْلِيَّتِه إذا رأى منها ما يَريبُه؛ لشدة الغيرة، ونرى في طبيعة النِّساء من الانحلال والانخداع ضدَّ ذلك، قالوا: فهذا هو الغالب على النوعَيْن، ولا عبرةَ بما خرج عن الغالب.

زاد المعاد (٦ / ٥٦ - ٥٨).

قناة الكتاب الشهري

22 Dec, 15:31


من الحِكَم في عدمِ تخييرِ البنت بين أحد أبويها في حال الفراق، وتخيير الصبي:

قال ابن القيم رحمه الله:

لو خُيِّرت البنت: أفضى ذلك إلى أن تكون عند الأب تارةً، وعند الأمِّ أخرى؛ فإنَّها كلَّما شاءت الانتقال أُجيبتْ إليه، وذلك عكس ما شُرِع للإناث من لزوم البيوت، وعدم البروز، ولزوم الخُدُور وراء الأستار، فلا يليق بها أن تُمكَّن من خلاف ذلك، وإذا كان هذا الوصف معتبَرًا قد شهد له الشَّرع بالاعتبار لم يمكن إلغاؤه.

قالوا: وأيضًا فإنَّ ذلك يفضي إلى أن لا يبقى الأب مُوَكَّلًا بحفظها ولا الأمُّ؛ لتنقُّلِها بينهما، وقد عُرِف بالعادة أنَّ ما يتناوب الناسُ على حفظه ويتواكلون فيه فهو إلى ضياعٍ، ومن الأمثال السائرة: (لا تَصلُح القِدْر بين طبَّاخَيْن).

قالوا: وأيضًا فالعادة شاهدةٌ بأنَّ اختيار أحدهما يُضعِف رغبة الآخَر فيه بالإحسان إليه وصيانته، فإذا اختار أحدهما ثمَّ انتقل إلى الآخر لم يَبْقَ أحدُهما تامَّ الرغبة في حفظه والإحسان إليه.

فإن قلتم: فهذا بعينه موجودٌ في الصبي، ولم يَمنع ذلك تخييرَه.

قلنا: صدقتُم، لكنْ عارَضَه كونُ القلوب مجبولةً على حبِّ البنين واختيارِهم على البنات... والواقع شاهدٌ بهذا، والفقه تنزيل المشروع على الواقع.

وسِرُّ الفرق أنَّ البنت تحتاج من الحفظ والصيانة فوقَ ما يحتاج إليه الصبي؛ ولهذا شُرِع في حق الإناث من الستر والخَفر ما لم يُشرَع مثله للذكور: في اللباس وإرخاء الذيل شِبْرًا أو أكثر، وجَمْعِ نفسها في الركوع والسجود دون التجافي، ولا ترفع صوتَها بقراءةٍ، ولا تَرمُل في الطواف، ولا تتجرَّد في الإحرام عن المَخِيط، ولا تَكشِف رأسها، ولا تسافر وحدها.
هذا كلُّه مع كِبَرِها ومعرفتِها، فكيف إذا كانت في سِنِّ الصِّغَر وضعف العقل الذي يَقبل فيه الانخداع؟!

ولا ريبَ أنَّ تردُّدَها بين الأبوين ممَّا يعود على المقصود بالإبطال، أو يُخِلُّ به، أو يَنقُصه؛ لأنَّها لا تستقرُّ في مكانٍ معينٍ، فكان الأصلح لها أن تُجعَل عند أحد الأبوين من غير تخييرٍ، كما قاله الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، فتخييرها ليس منصوصًا عليه، ولا هو في معناه فيُلحَق به.

زاد المعاد (٦ / ٥٥ - ٥٦).

= يتبع

قناة الكتاب الشهري

21 Dec, 15:19


من أحكام الولاية على الطفل:

قال ابن القيم رحمه الله:

الولاية على الطفل نوعان:
① نوعٌ يُقدَّم فيه الأبُ على الأمِّ ومَن في جهتها، وهي ولاية المال والنكاح.
② ونوعٌ تُقدَّم فيه الأمُّ على الأبِ، وهي ولاية الحضانة والرَّضاع.

وقُدِّمَ كلٌّ من الأبوين فيما جُعِلَ له من ذلك؛ لتمام مصلحة الولد، وتوقُّف مصلحته على مَن يَلي ذلك من أبويه وتحصل به كفايتُه.

② ولمَّا كان النساء أعرفَ بالتربية، وأقدرَ عليها، وأصبرَ وأرأفَ وأفرغَ لها = قُدِّمت الأمُّ فيها على الأب.
① ولمَّا كان الرجال أقومَ بتحصيل مصلحة الولد، والاحتياط له في البُضْع = قُدِّم الأب فيها على الأمِّ.

② فتقديم الأمِّ في الحضانة من محاسن الشريعة في الاحتياط للأطفال والنظر لهم.
① وتقديمُ الأب في ولاية المال والتزويج كذلك.

إذا عُرِف هذا:
فهل قُدِّمت الأمُّ لكون جهتها مُقدَّمَةً على جهة الأبُوَّة في الحضانة، فقُدِّمت لأجل الأمومة؟
أو قُدِّمت على الأب لكون النساء أقْوَمَ بمقاصد الحضانة والتربية من الذكور، فيكون تقديمها لأجل الأنوثة؟

ففي هذا للناس قولان، وهما في مذهب أحمد.

يظهر أثرهما: في تقديم نساء العَصَبة على أقارب الأمِّ أو بالعكس، كأمِّ الأمِّ، وأمِّ الأب، والأخت من الأمِّ، والأخت من الأب، والخالة، والعمة، وخالة الأمِّ، وخالة الأب، ومَن يُدلِي من الخالات والعمَّات بأمٍّ، ومَن يُدلِي منهنَّ بأبٍ.
ففيه روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: تقديم أقارب الأمِّ على أقارب الأب.
والثَّانية وهي أصحُّ دليلًا واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: تقديم أقارب الأب، وهذا هو الذي ذكره الخِرَقي في مختصره فقال: والأخت من الأب أحقُّ من الأخت من الأمِّ وأحقُّ من الخالة، وخالة الأب أحقُّ من خالة الأمِّ...

هذا إنْ قلنا: إنَّ لِأقارب الأمِّ من الرجال مَدخَلًا في الحضانة... فإنَّ أصولَ الشرع وقواعدَه شاهدةٌ بتقديم أقارب الأب في الميراث وولايةِ النكاح وولايةِ الموت وغيرِ ذلك، ولم يُعهَد في الشرع تقديمُ قرابة الأمِّ على قرابة الأب في حكمٍ من الأحكام، فمَن قَدَّمَها في الحضانة فقد خرج عن موجب الدليل.

فالصواب المأخذ الثاني، وهو أنَّ الأمَّ إنَّما قُدِّمت لأنَّ النساء أرفقُ بالطفل، وأَخبرُ بتربيتِه، وأصبرُ على ذلك، وعلى هذا: فالجدَّة أمُّ الأب أولى من أمِّ الأمِّ، والأختُ للأب أولى من الأخت للأمِّ، والعمة أولى من الخالة،
كما نَصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين.

زاد المعاد (٦ / ١٢ - ١٤).

قناة الكتاب الشهري

20 Dec, 17:39


حُكْم النبي ﷺ في لحوق النَّسَب بالرجل إذا خالَفَ لونُ ولدِه لونَه:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثبت عنه ﷺ في الصحيحين أن رجلًا قال له: إنَّ امرأتي ولدتْ غلامًا أسودَ ـ كأنَّه يُعرِّض بنفيه ـ،
فقال النبي ﷺ: «هل لك من إبلٍ؟»،
قال: نعم،
قال: «ما لونها؟»،
قال: حُمْرٌ،
قال: «فهل فيها من أَوْرَقَ؟»،
قال: نعم،
قال رسول الله ﷺ: «فأنَّى أتاها ذلك؟»،
قال: لعلَّه يا رسولَ الله أنْ يكونَ نَزَعَها عِرْقٌ،
فقال النبي ﷺ: «وهذا لعلَّه أنْ يكونَ نَزَعَه عِرْقٌ».

وفي هذا الحديث من الفقه: أنَّ الحَدَّ لا يجب بالتعريض إذا كان على وجه السؤال والاستفتاء.

ومَن أَخَذَ منه أنَّه لا يجب بالتعريض ولو كان على وجه المُقابَحَة والمُشاتَمَة فقد أبْعَدَ النُّجْعَةَ.
ورُبَّ تعريضٍ أفهمُ وأوجعُ للقلب وأبلغُ في النِّكاية من التَّصريح...

وفيه: أنَّ مُجرَّد الرِّيبة لا يُسوِّغ اللِّعان ونفيَ الولد.

وفيه: ضرب الأمثال والأشباه والنظائر في الأحكام، ومِن تراجم البخاري في (صحيحه) على هذا الحديث: <باب مَن شَبَّهَ أصلًا معلومًا بأصلٍ مُبيَّنٍ قد بَيَّنَ اللهُ حكمهما ليفهم السائل>، وساقَ معه حديثَ: «أرأيتَ لو كان على أمك دَيْنٌ؟».

زاد المعاد (٥ / ٥٦٢ - ٥٦٣).

قناة الكتاب الشهري

19 Dec, 15:54


(فإنْ طلَّقها فلا تحِلُّ له من بعدُ حتى تَنكِح زوجًا غيرَه):

قال ابن القيم رحمه الله:

حُكْم رسول الله ﷺ في أن المُطلَّقة ثلاثًا لا تَحِلُّ للأول حتى يَطَأَها الزوج الثاني:

ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ امرأة رفاعة القُرَظي جاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إنَّ رفاعة طلَّقَني فبَتَّ طلاقي، وإنِّي نكحتُ بعدَه عبدَ الرحمن بن الزبير القُرَظي، وإنَّما معه مثلُ الهُدْبة، فقال رسول الله ﷺ: «لعلَّكِ تريدين أنْ تَرجِعي إلى رِفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ».
وفي سنن النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «العُسَيْلَة: الجِماع».

وفيها عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله ﷺ عن الرجل يُطلِّق امرأتَه ثلاثًا، فيتزوَّجها الرجل، فيُغلِق البابَ ويُرخِي السِّتْرَ، ثمَّ يُطلِّقها قبل أن يدخلَ بها، قال: «لا تَحِلُّ للأول حتى يُجامِعَها الآخَر».

فتضمَّن هذا الحكم أمورًا:

أحدها: أنَّه لا يُقبَل قول المرأة على الرجل أنَّه لا يَقدِر على جِماعِها.

الثاني: أنَّ إصابة الزوج الثاني شرطٌ في حِلِّها للأوَّل، خلافًا لِمَن اكتفى بمجرَّد العقد؛ فإنَّ قوله مردودٌ بالسنة التي لا مَرَدَّ لها.

الثالث: أنه لا يُشترَط الإنزال، بل يكفي مُجرَّد الجِماع الذي هو ذوق العُسَيْلَة.

الرابع: أنه ﷺ لم يجعل مُجرَّدَ العقدِ المقصودِ الذي هو نكاحُ رغبةٍ كافيًا، ولا اتصالَ الخلوة به، وإغلاقَ الأبواب وإرخاءَ الستور، حتى يصل به الوَطْء.

وهذا يدلُّ على أنَّه لا يكفي مُجرَّد عَقدِ التحليل - الذي لا غَرَضَ للزوج والزوجة فيه سوى صورةِ العقد وإحلالِها للأول - بطريق الأَوْلى؛ فإنَّه إذا كان عقدُ الرغبةِ المقصودُ للدوام غيرَ كافٍ حتى يوجدَ فيه الوَطء، فكيف يكفي عقدُ تَيْسٍ مُستعارٍ ليُحِلَّها، ولا رغبةَ له في إمساكها؟!


زاد المعاد (٥ / ٣٩٩ - ٤٠١).

قناة الكتاب الشهري

18 Dec, 20:48


حُكْم طلاق الحائض والنُّفَساء والموطوءة في طُهر، وإيقاع الطلاق الثلاث جملة:

قال ابن القيم رحمه الله:

في الصحيحين: أنَّ ابن عمر رضي الله عنه طلَّق امرأتَه وهي حائضٌ على عهد رسول الله ﷺ، فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك رسولَ الله ﷺ فقال: «مُرْه فليراجعها، ثمَّ ليمسكها حتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر، ثمَّ إن شاء أَمسَك بعد ذلك، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، فتلك العِدَّة التي أمر الله أن يطلَّق لها النساء».
ولمسلمٍ: «مُرْه فليراجعها، ثمَّ ليطلِّقها إذا طَهُرتْ، أو وهي حاملٌ»...

فتضمَّن هذا الحكم: أنَّ الطلاقَ على أربعه أوجهٍ، وجهان حلالٌ، ووجهان حرامٌ:
فالحلال:
١- أن يطلِّق امرأتَه طاهرًا من غير جماعٍ.
٢- أو يطلِّقها حاملًا مُستبينًا حملُها.
والحرام:
١- أن يطلِّقها وهي حائضٌ.
٢- أو يطلِّقها في طُهرٍ جامعها فيه.
هذا في طلاق المدخول بها.

وأما مَن لم يدخل بها، فيجوز طلاقُها حائضًا وطاهرًا،
كما قال تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: ٢٣٦]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩]، وقد دلَّ على هذا قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]، وهذه لا عدَّة لها، ونبَّه عليه رسول الله ﷺ بقوله: «فتلك العِدَّةُ التي أمر الله أن يُطلَّق لها النِّساء»، ولولا هاتان الآيتان اللَّتان فيهما إباحة الطلاق قبل الدخول لمُنِعَ مِن طلاق مَن لا عِدَّة لها.

وفي سنن النسائي وغيره من حديث محمود بن لبيدٍ قال: أُخبر رسول الله ﷺ عن رجلٍ طلَّق امرأته ثلاث تطليقاتٍ جميعًا، فقام غضبان، فقال: «أيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهُرِكم؟!» حتَّى قام رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه! أفلا أقتله.

وفي الصحيحين عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال:
"أمَّا إنْ طلَّقتَ امرأتَك مرةً أو مرتين فإنَّ رسول الله ﷺ أمرني بهذا، وإن كنتَ طلَّقتها ثلاثًا فقد حَرُمَتْ عليك حتى تَنكح زوجًا غيرَك، وعصيتَ الله فيما أمرك من طلاق امرأتِك".

فتضمَّنت هذه النصوص أنَّ المطلَّقة نوعان:
◇ مدخولٌ بها،
◇ وغير مدخولٍ بها،
وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثًا مجموعةً.
وجواز تطليق غير المدخول بها طاهرًا أو حائضًا.

◇ وأما المدخول بها:
- فإن كانت حائضًا أو نفساءَ حَرُم طلاقها،
- وإن كانت طاهرًا:
¤ فإن كانت مستبينة الحمل جاز طلاقها بعد الوَطْء وقبله،
¤ وإن كانت حائلًا [يعني: غير حامل] لم يَجُزْ طلاقها بعد الوَطْء في طهر الإصابة، ويجوز قبله.


هذا الذي شرعه الله على لسان رسوله ﷺ من الطلاق،
وأجمع المسلمون على وقوع الطلاق الذي أذِن الله فيه وأباحه إذا كان مِن مُكلَّفٍ، مختارٍ، عالمٍ بمدلول اللَّفظ، قاصدٍ له،
واختلفوا في وقوع المُحرَّم من ذلك.


زاد المعاد (٥ / ٣١٣ - ٣١٧).

قناة الكتاب الشهري

18 Dec, 10:33


حكم أقوال وأفعال الهازِل والمُكرَه:

قال ابن القيم رحمه الله:

المُكلَّف إذا هَزَلَ بالطلاق أو النكاح أو الرَّجْعة لَزِمَه ما هَزَلَ به، فدَلَّ ذلك على أنَّ كلام الهازل مُعتبَرٌ وإن لم يُعتبَر كلام النائم والناسي وزائل العقل والمُكْرَه، والفرق بينهما: أنَّ الهازلَ قاصِدٌ للَّفظ غير مريدٍ لحكمه، وذلك ليس إليه؛ فإنَّما إلى المُكلَّف الأسباب، وأمَّا تَرتُّب مُسبَّباتِها وأحكامِها فهو إلى الشارع، قَصَدَه المُكلَّف أو لم يَقصِدْه، والعبرة بقَصْدِه للسبب اختيارًا في حال عقله وتكليفه، فإذا قَصَدَه رتَّبَ الشارعُ عليه حكمَه جَدَّ به أو هَزَلَ، وهذا بخلاف النَّائم... والمجنون والسكران وزائل العقل؛ فإنَّهم ليس لهم قصدٌ صحيحٌ، وليسوا مُكلَّفين، فألفاظهم لغوٌ، بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يَعقِل معناها ولا يقصده.

وسِرُّ المسألة: الفرق بين من قَصَدَ اللَّفظَ وهو عالمٌ به ولم يُرِدْ حكمَه، وبين مَن لم يقصد اللَّفظَ ولم يَعلم معناه.

فالمراتب التي اعتبرها الشارع أربعةٌ:

إحداها: أن يقصد الحكمَ ولم يتلفَّظ به.
الثَّانية: أن لا يقصد اللَّفظَ ولا حكمَه.
الثَّالثة: أن يقصد اللَّفظَ دون حكمِه.
الرَّابعة: أن يقصد اللَّفظَ والحكمَ.

فالأَوْلَيان لغوٌ، والآخرتان معتبرتان، هذا الذي اسْتُفيدَ من مجموع نصوصه وأحكامه.


وعلى هذا فكلام المُكرَه كلُّه لغوٌ لا عبرةَ به، وقد دَلَّ القرآنُ على أنَّ مَن أُكرِهَ على التكلم بكلمة الكفر لا يَكفُر، ومَن أُكرِهَ على الإسلام لا يصير به مسلمًا، ودلَّت السنة على أنَّ الله سبحانه تجاوَزَ عن المُكرَه فلم يؤاخذْه بما أُكرِهَ عليه، وهذا يُراد به كلامه قطعًا.

وأمَّا أفعاله ففيها تفصيلٌ:
- فما أُبيحَ منها بالإكراه فهو مُتجاوَزٌ عنه، كالأكل في نهار رمضان، والعمل في الصلاة، ولبس المَخيط في الإحرام، ونحو ذلك.
- وما لا يُباحُ بالإكراه فهو مؤاخَذٌ به، كقتل المعصوم وإتلاف ماله.
- وما اخْتُلِفَ فيه كشرب الخمر والزنا والسرقة هل يُحَدُّ به أو لا؟ فللاختلاف هل يُباحُ ذلك بالإكراه أو لا؟
فمَن لم يُبِحْه حَدَّه به، ومَن أباحه بالإكراه لم يَحُدَّه، وفيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.

والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه:
أنَّ الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتُها، بل مفسدتُها معها، بخلاف الأقوال؛ فإنَّها يمكن إلغاؤُها وجَعْلُها بمنزلة أقوال النائم والمجنون،
فمفسدة الفعل الذي لا يُباحُ بالإكراه ثابتةٌ،
بخلاف مفسدة القول؛ فإنَّها إنما تَثبُت إذا كان قائلُه عالِمًا به مُختارًا له.


زاد المعاد (٥ / ٢٩٠ - ٢٩٢).

قناة الكتاب الشهري

17 Dec, 10:59


تتمة في حكم خدمة المرأة لزوجها:

قال ابن القيم رحمه الله:

واحتجَّ مَن أوجَبَ الخدمةَ بأنَّ هذا هو المعروف عند مَن خاطَبَهم الله سبحانه بكلامه، وأما ترفيه المرأة وخدمة الزوج وكَنْسُه وطَبْخُه وعَجْنُه وغسيلُه وفَرْشُه وقيامُه بخدمة البيت فمِن المُنكر.

والله تعالى يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وقال: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣٤]، وإذا لم تخدمه المرأة بل يكون هو الخادم لها فهي القوَّامة عليه.

وأيضًا: فإنَّ المهر في مقابلة البُضْع، وكلٌّ من الزوجين يقضي وَطَرَه مِن صاحبه، فإنَّما أوجب الله سبحانه نفقتَها وكسوتَها ومسكنَها في مقابلة انتفاعه في الاستمتاع بها وخدمتِها وما جرَتْ به عادة الأزواج.

وأيضًا: فإنَّ العقودَ المُطلَقةَ إنَّما تُنَزَّل على العُرْف، والعُرْف: خدمةُ المرأة وقيامُها بمصالح البيت الداخلة.

وقولهم: إنَّ خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرُّعًا وإحسانًا: يَرُدُّه أنَّ فاطمة رضي الله عنها كانت تشتكي ما تلقى مِن الخدمة، فلم يقل لعليٍّ لا خدمةَ عليها وإنَّما هي عليك، وهو ﷺ لا يُحابي في الحكم أحدًا.
ولما رأى أسماء والعلَفُ على رأسها والزبيرُ معه، لم يقل له: لا خدمةَ عليها، وأنَّ هذا ظلمٌ لها، بل أَقَرَّه على استخدامِها، وأَقَرَّ سائرَ أصحابِه على استخدام أزواجهم، مع علمِه بأنَّ منهنَّ الكارهةَ والراضيةَ، هذا أمرٌ لا ريبَ فيه.

ولا يَصِحُّ التفريق بين شريفةٍ ودنيئةٍ وفقيرةٍ وغنيةٍ؛ فهذه أشرفُ نساء العالمين كانت تخدم زوجَها، وجاءته ﷺ تشكو إليه الخدمة فلم يُشْكِها.

وقد سمَّى النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح المرأةَ عانِيَةً فقال: «اتَّقوا الله في النساء؛ فإنَّهنَّ عَوانٍ عندكم»، والعاني: الأسير، ومرتبةُ الأسير خدمةُ مَن هو تحت يدِه.

ولا ريبَ أنَّ النكاح نوعٌ من الرِّقِّ، كما قال بعض السلف: "النكاح رِقٌّ، فلْيَنظُرْ أحدُكم عند مَن يُرِقُّ كريمتَه".

ولا يخفى على المُنصِفِ الراجحُ مِن المذهَبَيْن والأقوى مِن الدَّليلَيْن، والله أعلم.

زاد المعاد (٥ / ٢٦٤ - ٢٦٥).

قناة الكتاب الشهري

16 Dec, 17:53


حُكْم النبي ﷺ في خدمة المرأة لزوجها:

قال ابن القيم رحمه الله:

قال ابن حبيب في (الواضحة): حَكَمَ النبي ﷺ بين علي بن أبي طالبٍ وبين زوجته فاطمة حين اشتكيا إليه الخدمة، فحَكَم على فاطمة بالخدمة الباطنة: خدمة البيت، وحَكَم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة: العجين والطبيخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء، وعمل البيت كلِّه.

وفي الصحيحين: أنَّ فاطمة رضي الله عنها أتت النبيَّ ﷺ تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرَّحى وتسأله خادمًا، فلم تجدْه، فذكرَتْ ذلك لعائشة رضي الله عنها، فلمَّا جاء رسولُ الله ﷺ أخبرَتْه.
قال علي: فجاءنا وقد أخذْنا مضاجِعَنا، فذهبْنا نقوم، فقال: "مكانَكما"، فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني، فقال: «ألا أدلُّكما على ما هو خيرٌ لكما مِمَّا سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما فسبِّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ».
قال علي: فما تركتُها بَعْدُ، قيل: ولا ليلةَ صِفِّين؟ قال: ولا ليلةَ صِفِّين.

وصَحَّ عن أسماء رضي الله عنها أنَّها قالت: كنتُ أخدم الزبيرَ خدمةَ البيتِ كلِّه، وكان له فَرَسٌ وكنت أسوسُه، كنت أحشُّ له وأقوم عليه.

وصَحَّ عنها أنَّها كانت تَعلِف فرسَه، وتسقي الماء، وتَخْرِز الدلو، وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرضٍ له على ثُلُثي فرسخٍ.

فاختلف الفقهاء في ذلك:

فأوجب طائفةٌ من السلف والخلف خدمتَها له في مصالح البيت.
وقال أبو ثورٍ: عليها أن تخدم زوجها في كل شيءٍ.

ومنعَتْ طائفةٌ وجوبَ خدمتِه عليها في شيءٍ،
ومٓمَّن ذهب إلى ذلك: الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر؛ قالوا: لأن عقد النكاح إنَّما اقتضى الاستمتاعَ لا الاستخدامَ وبذلَ المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنَّما تَدُلُّ على التطوع ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟!

زاد المعاد (٥ / ٢٦٢ - ٢٦٣).

= يتبع

قناة الكتاب الشهري

16 Dec, 06:59


تتمةٌ في هدي النبي ﷺ في مَهْر النكاح:

قال ابن القيم رحمه الله:

فتضمَّنَ هذا: أنَّ الصَّداق لا يتقدَّر أقلُّه، وأنَّ قبضة السويق وخاتم الحديد والنعلين يصحُّ تسميتها مهرًا وتَحِلُّ بها الزوجة.

وتضمَّن أنَّ المغالاة في المهر مكروهةٌ في النكاح، وأنَّها من قلة بركتِه وعُسْرِه.

وتضمَّن أنَّ المرأة إذا رضيتْ بعِلْم الزوج وحِفْظه للقرآن أو بعضِه من مهرها جاز ذلك، وكان ما يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صَداقها، كما إذا جعل السيِّدُ عِتْقَها صَداقَها، وكان انتفاعُها بحرِّيَّتها وملكِها لرقبتِها هو صَداقَها، وهذا هو الذي اختارتْه أم سُلَيْمٍ من انتفاعها بإسلام أبي طلحة، وبذلِها نفسَها له إنْ أسلم، وهذا أحبُّ إليها من المال الذي يبذله الزوج.

فإنَّ الصَّداق شُرِعَ في الأصل حقًّا للمرأة تنتفع به، فإذا رضيتْ بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن = كان هذا من أفضل المهور وأنفعِها وأجلِّها
...

وليس هذا مُسوِّيًا بين هذه المرأة وبين الموهوبة التي وهبت نفسَها للنبي ﷺ وهي خالصةٌ له من دون المؤمنين؛ فإن تلك وهبت نفسَها هبةً مُجرَّدَةً عن وليٍّ وصَداقٍ، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنه نكاحٌ بوليٍّ وصَداقٍ وإن كان غيرَ ماليٍّ؛ فإن المرأة جعلتْه عِوَضًا عن المال لِمَا يرجع إليها من نفعه، ولم تَهَبْ نفسَها للزوج هِبَةً مُجرَّدَةً كهِبَة شيءٍ من مالها، بخلاف الموهوبة التي خصَّ اللهُ بها رسولَه، هذا مقتضى هذه الأحاديث.

وقد خالف في بعضِه:
مَن قال: لا يكون الصَّداق إلا مالًا، ولا تكون منافع الحُرِّ ولا عِلْمُه ولا تعليمُه صَداقًا، كقول أبي حنيفة وأحمد في روايةٍ عنه.
ومَن قال: لا يكون أقلَّ من ثلاثة دراهم كمالك،
وعشرة دراهم كأبي حنيفة،
وفيه أقوالٌ أُخَرُ شاذةٌ لا دليل عليها من كتابٍ ولا سنةٍ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ ولا قول صاحبٍ.

زاد المعاد (٥ / ٢٤٨ - ٢٤٩).

قناة الكتاب الشهري

15 Dec, 12:18


هدي النبي ﷺ في مَهْر النكاح:

قال ابن القيم رحمه الله:

فصلٌ: في قضائه ﷺ في الصَّداق بما قلَّ وكَثُرَ، وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج من القرآن:

ثبت في صحيح مسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها: كان صَداق النبي ﷺ لأزواجه ثنتي عشرة أوقيَّةً ونشًّا، فذلك خمسمائة درهمٍ.

وقال عمر رضي الله عنه: ما علمتُ رسولَ الله ﷺ نَكَحَ شيئًا من نسائه ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقيَّةً. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ... والأوقيَّة: أربعون درهمًا.

وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لرجلٍ: «تزوَّجْ ولو بخاتمٍ من حديدٍ».

وفي سنن أبي داود من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مَن أعطى في صَداقٍ مِلْءَ كفَّيْه سَويقًا أو تمرًا فقد استحلَّ».

وفي الترمذي: أن امرأةً من بني فَزارة تزوَّجَتْ على نعلين، فقال رسول الله ﷺ: «رضيتِ مِن نفسِكِ ومالِكِ بنعلين؟» قالت: نعم. فأجازه. قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ: «إنَّ أعظمَ النكاح بركةً أيسره مَؤونةً».

وفي الصحيحين: أن امرأةً جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، إنِّي قد وهبتُ نفسي لك، فقامت طويلًا، فقال رجلٌ: يا رسول الله، زوِّجنيها إن لم تكن لك بها حاجةٌ، فقال رسول الله ﷺ: «فهل عندك من شيءٍ تُصْدِقُها إيَّاه؟» قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله ﷺ: «إنَّك إن أعطيتَها إزارَك جلستَ ولا إزارَ لك، فالتمِسْ شيئًا»، قال: لا أجِدُ شيئًا، قال: «فالتَمِسْ ولو خاتمًا من حديدٍ»، فالتمَسَ فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله ﷺ: «هل معك شيءٌ من القرآن؟»، قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسُوَرٍ سمَّاها، فقال رسول الله ﷺ: «قد زوَّجْتُكَها بما معك من القرآن».

وفي النسائي: أن أبا طلحة خطبَ أم سُلَيْمٍ، فقالت: والله ما مثلُك يا أبا طلحة يُرَدُّ، ولكنك رجلٌ كافرٌ وأنا امرأةٌ مسلمةٌ، ولا يَحِلُّ لي أن أتزوَّجك، فإنْ تُسْلِمْ فذاك مهري لا أسالك غيرَه، فأسلمَ، فكان ذلك مهرَها، قال ثابت: فما سمعنا بامرأةٍ قَطُّ كانت أكرمَ مهرًا من أم سُلَيْم رضي الله عنها.

زاد المعاد (٥ / ٢٤٥ - ٢٤٨).

قناة الكتاب الشهري

14 Dec, 10:48


حكم النبي ﷺ في الكفاءة في النكاح:

قال ابن القيم رحمه الله:

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣].

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠].

وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١].

وقال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ١٩٥].

وقال ﷺ: «لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتَّقوى، النَّاسُ من آدم، وآدم من ترابٍ».

وقال ﷺ: «إنَّ آلَ بني فلانٍ ليسوا لي بأولياء، إنَّ أوليائيَ المتقون حيثُ كانوا ومَن كانوا».

وفي الترمذي عنه ﷺ: «إذا جاءكم مَن ترضونَ دينَه وخُلُقَه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ»، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ فقال: «إذا جاءكم مَن ترضونَ دينَه وخُلُقَه فأنكحوه» ثلاث مراتٍ.

وقال لبني بياضة: «أَنكِحوا أبا هندٍ وأنكحوا إليه» وكان حجَّامًا.

وزوَّج النبي ﷺ زينبَ بنت جحشٍ القرشية من زيد بن حارثة مولاه.

وزوَّج فاطمةَ بنت قيسٍ الفِهْرية القرشية مِن أسامةَ ابنِه.

وتزوَّج بلالُ بن رباحٍ بأخت عبد الرحمن بن عوف
.

وقد قال تعالى: ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: ٢٦].

وقال تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣].

فالذي يقتضيه حكمُه ﷺ اعتبارُ الدين في الكفاءة أصلًا وكمالًا، فلا تُزوَّج مسلمةٌ بكافرٍ، ولا عفيفةٌ بفاجرٍ، ولم يعتبر القرآنُ والسُّنَّةُ في الكفاءة أمرًا وراء ذلك؛ فإنَّه حرَّم على المسلمة نكاح الزَّاني الخبيث، ولم يعتبر نَسَبًا ولا صناعةً ولا غنًى ولا حريةً:
فجوَّز للعبد القِنِّ نكاح الحرة النسيبة الغنية، إذا كان عفيفًا مسلمًا، وجوَّز لغير القرشيِّين نكاح القرشيَّات، ولغير الهاشميِّين نكاح الهاشميَّات، وللفقراء نكاح المُوسِرات.


زاد المعاد (٥ / ٢١٩ - ٢٢٢).

قناة الكتاب الشهري

13 Dec, 18:33


هدي النبي ﷺ في القَسْم بين الزوجات:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «مِن السُّنَّة إذا تزوَّج الرَّجلُ البكرَ على الثَّيِّب، أقام عندها سبعًا وقَسَم، وإذا تزوَّج الثَّيِّب، أقام عندها ثلاثًا، ثمَّ قَسَم»، قال أبو قِلابة: ولو شئتُ لقلتُ: إن أنسًا رفعه إلى النبي ﷺ.

وهذا الذي قاله أبو قِلابة، قد جاء مُصرَّحًا به عن أنسٍ، كما رواه البزار في مسنده... عن أنس رضي الله عنه: أن النبي ﷺ جعل للبِكْر سبعًا وللثَّيِّب ثلاثًا.

وروى الثوري... عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إذا تزوَّج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوَّج الثَّيِّب أقام عندها ثلاثًا».

وفي صحيح مسلمٍ: أن أم سلمة رضي الله عنها لمَّا تزوَّجها رسول الله ﷺ فدخل عليها أقام عندها ثلاثًا، ثم قال: «إنه ليس بكِ على أهلكِ هَوانٌ، إنْ شئتِ سبَّعتُ لكِ، وإن سبَّعتُ لكِ سبَّعتُ لِنسائي».
وله في لفظٍ: لما أراد أن يخرج أخذَتْ بثوبه، فقال: «إن شئتِ زدْتُكِ وحاسبتُكِ به، للبِكْر سبعٌ وللثَّيِّب ثلاثٌ».

وفي السُّنَن عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يَقسِم فيَعدِل، ويقول: «اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تَلُمْني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب.

وفي الصحيحين: أنه ﷺ كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتهنَّ خرجَ سهمُها خرج بها معه.

وفي الصحيحين: أن سودة وهبَتْ يومَها لعائشة، وكان النبي ﷺ يقسم لعائشةَ يومَها ويومَ سودة.

وفي السُّنَن عن عائشة رضي الله عنها: كان النبي ﷺ لا يُفضِّل بعضنا على بعضٍ في القَسْم مِن مُكْثه عندنا، وكان قلَّ يومٌ إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كلِّ امرأةٍ من غير مَسيسٍ، حتى يبلغ إلى التي هو في يومها فيبيتُ عندها.

وفي صحيح مسلم: إنَّهنَّ كُنَّ يجتمعْنَ كل ليلةٍ في بيت التي يأتيها.

زاد المعاد (٥ / ٢٠٦ - ٢٠٨).

قناة الكتاب الشهري

12 Dec, 19:40


المحرَّمات في النكاح:

قال ابن القيم رحمه الله:

قضى رسول الله ﷺ بتحريم الجَمْع بين المرأة وعمَّتها والمرأة وخالتها، وهذا التَّحريم مأخوذٌ من تحريم الجمع بين الأختين لكن بطريقٍ خفيٍّ، وما حرَّمه رسولُ الله ﷺ مثل ما حرَّمه الله، ولكن هو مستنبطٌ من دلالة الكتاب.

وكان الصحابة أحرص شيءٍ على استنباط أحاديث رسول الله ﷺ من القرآن.
ومَن ألزمَ نفسَه ذلك، وقرع بابَه، ووجَّه قلبَه إليه، واعتنى به بفطرةٍ صحيحة، وقلبٍ ذكيٍّ = رأى السُّنَّة كلَّها تفصيلًا للقرآن، وتبيينًا لدلالته، وبيانًا لمراد الله منه، وهذا أعلى مراتب العلم، فمن ظَفِر به فليحمد الله، ومن فاته فلا يلومنَّ إلا نفسَه وهمَّتَه وعجزَه.

واستُفِيد من تحريمه الجمعَ بين الأختين وبين المرأة وعمِّتها وبينها وبين خالتها: أنَّ كلَّ امرأتين بينهما قرابةٌ لو كان أحدُهما ذكرًا حَرُمَ على الآخر = فإنه يَحرُم الجمعُ بينهما، ولا يُستثنى من هذا صورةٌ واحدةٌ.

فإن لم يكن بينهما قرابةٌ لم يَحرُم الجمع بينهما.

وهل يُكرَه؟ على قولين، وهذا كالجمع بين امرأة رجلٍ وابنته من غيرها...

واستُفيد من سياق الآية ومدلولها:
أنَّ كلَّ امرأةٍ حُرِّمت حَرُمَت ابنتُها، إلا العمَّةَ، والخالةَ، وحليلةَ الابن، وحليلة الأب، وأمَّ الزوجة.
وأنَّ كلَّ الأقارب حرامٌ إلا الأربعة المذكورات في سورة الأحزاب، وهُنَّ: بنات الأعمام والعمَّات، وبنات الأخوال والخالات.


زاد المعاد (٥ / ١٧٦ - ١٧٨).

قناة الكتاب الشهري

04 Dec, 03:41


استحباب السواك للصائم:

قال ابن القيم رحمه الله:

ويُستحَبُّ [يعني السواك] للمفطر والصائم:
- لعموم الأحاديث فيه،
- ولحاجة الصائم إليه،
- ولأنه مرضاةٌ للرَّبِّ، ومرضاته مطلوبةٌ في الصَّوم أشدَّ من طلبها في الفطر،
- ولأنه طَهورٌ للفم، والطُّهورُ للصائم من أفضل أعماله.


وفي السُّنَن عن عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله ﷺ ما لا أحصي يستاك وهو صائمٌ.

وقال البخاري: قال ابن عمر: يَستاك أوَّلَ النهار وآخرَه.

وأجمع الناس على أن الصائم يتمضمض وجوبًا واستحبابًا، والمضمضة أبلغ من السِّواك، وليس لله ورسوله غَرَضٌ في التَّقرُّب إليه بالرائحة الكريهة، ولا هي من جنس ما شُرِعَ التَّعبُّد به، وإنما ذُكِرَ طيبُ الخُلوف عند الله يوم القيامة حَثًّا منه على الصوم، لا حَثًّا على إبقاء الرائحة؛ بل الصائم أحوَجُ إلى السِّواك من المفطر.

- وأيضًا، فإن رضوان الله أكبر من استطابته لخلوف فم الصائم.
- وأيضًا، فإن محبَّتَه للسِّواك أعظمُ من محبَّتِه لبقاء الخلوف.
- وأيضًا، فإن السِّواك لا يمنع طيب الخلوف الذي يزيله السِّواك عند الله يوم القيامة، بل يأتي الصائم يوم القيامة وخُلوف فمه أطيَبُ من المسك علامةً على صيامه، ولو أزاله بالسِّواك؛ كما أنَّ الجريح يأتي يوم القيامة ولونُ دمِ جرحِه لونُ الدَّم، وريحُه ريحُ المسك، وهو مأمورٌ بإزالته في الدنيا.
- وأيضًا، فإن الخلوف لا يزول بالسِّواك؛ فإن سببَه قائمٌ وهو خلوُّ المعدة عن الطعام. وإنما يزول أثرُه وهو المُنعقِد على الأسنان واللِّثة.

زاد المعاد (٤ / ٤٧٦ - ٤٧٧).

قناة الكتاب الشهري

03 Dec, 15:25


هدي النبي ﷺ في السواك:

قال ابن القيم رحمه الله:

في الصحيحين عنه ﷺ: «لولا أن أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهم بالسِّواك عند كلِّ صلاةٍ».

وفيهما أنه ﷺ كان إذا قام من الليل يَشوصُ فاهُ بالسِّواك.

وفي صحيح البخاري تعليقًا عنه ﷺ: «السِّواك مَطْهَرَةٌ للفَمِ مَرْضاةٌ للرَّبِّ».

وفي صحيح مسلمٍ أنه ﷺ كان إذا دخل بيتَه بدأ بالسِّواك.

والأحاديث فيه كثيرةٌ:
وصحَّ عنه ﷺ أنه استاك عند موته،
وصحَّ عنه ﷺ أنه قال: «أكثرتُ عليكم في السِّواك».

أصلَحُ ما اتُّخِذَ السِّواكُ من خشب الأراك ونحوِه، ولا ينبغي أن يؤخذ من شجرةٍ مجهولةٍ، فربما كانت سُمًّا.

وينبغي القصد في استعماله، فإنْ بالَغَ فيه فربما أذهَبَ طلاوةَ الأسنان وصِقالَها، وهيَّأها لقبول الأبخرة المتصاعدة من المعدة والأوساخ...

وفي السِّواك عِدَّة منافع:
يُطيِّب الفم،
ويَشُدُّ اللِّثة،
ويقطع البلغم،
ويجلو البصر،
ويذهب بالحَفر [يعني: الجِير]،
ويُصِحُّ المعدة،
ويُصفِّي الصوت،
ويُعين على هضم الطعام،
ويُسهِّل مجاري الكلام،
ويُنشِّط للقراءة والذكر والصلاة،
ويَطرد النوم،
ويُرضي الرَّبَّ،
ويُعجِب الملائكة،
ويُكثِّر الحسنات.


ويُستحَبُّ في كل وقتٍ، ويتأكَّد عند:
الصلاة،
والوضوء،
والانتباه من النوم،
وتغيُّر رائحة الفم.

زاد المعاد (٤ / ٤٧٤ - ٤٧٦).

قناة الكتاب الشهري

03 Dec, 03:30


هدي النبي ﷺ في الاكتحال:

قال ابن القيم رحمه الله:

روى أبو داود في سننه عن عبدالرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري عن أبيه عن جدِّه أن رسول الله ﷺ أمَرَ بالإِثمِد المُروَّح عند النوم، وقال: «لِيَتَّقِه الصائم»، قال أبو عبيد: المُروَّح: المُطيَّب بالمِسْك.

وفي سنن ابن ماجه وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت للنبي ﷺ مُكحُلَةٌ يكتحل منها ثلاثًا في كل عينٍ.

وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ إذا اكتحل يكتحل في اليُمنى ثلاثًا يبتدئ بها ويختم بها، وفي اليُسرى ثنتين.
وقد روى أبو داود عنه ﷺ: «مَن اكتحل فلْيوتِرْ».

فهل الوتر بالنسبة إلى العينين كلتيهما، فيكون في هذه ثلاثٌ، وفي هذه اثنتان، واليُمنى أولى بالابتداء والتَّفضيل،
أو هو بالنسبة إلى كلِّ عينٍ، فيكون في هذه ثلاثٌ، وفي هذه ثلاثٌ؟
هما قولان في مذهب أحمد وغيره.

وفي الكحل:
- حفظٌ لصحة العين،
- وتقويةٌ للنور الباصر،
- وجلاءٌ لها،
- وتلطيفٌ للمادَّة الرَّدِيَّة واستخراجٌ لها،
- مع الزينة في بعض أنواعه.

وله عند النوم مزيد فضلٍ؛ لاشتمالها على الكحل، وسكونها عقيبَه عن الحركة المُضِرَّة بها، وخدمة الطبيعة لها.

وللإثمِد من ذلك خاصِّيَّةٌ.

وفي سنن ابن ماجه عن سالمٍ عن أبيه يرفعه: «عليكم بالإثمِد؛ فإنه يجلو البصرَ، ويُنبِت الشَّعرَ».
وفي كتاب أبي نعيم: «فإنه مَنْبَتَةٌ للشَّعر، مَذْهَبَةٌ للقَذى، مَصْفاةٌ للبصر».
وفي سنن ابن ماجه أيضًا: عن ابن عباس رضي الله عنه يرفعُه: «خيرُ أكحالكم الإثمِد، يجلو البصرَ، ويُنبِت الشَّعرَ».

زاد المعاد (٤ / ٤٠٤ - ٤٠٨).

قناة الكتاب الشهري

02 Dec, 13:14


دواء العِشق:

قال ابن القيم رحمه الله:

إن كان لا سبيلَ للعاشق إلى وصال معشوقه قدَرًا أو شرعًا، أو هو مُمتنِعٌ عليه من الجهتين ـ وهو الداء العُضال ـ فمِن علاجِه: إشعارُ نفسِه اليأسَ منه؛ فإن النفس متى يئست من الشيء استراحت منه ولم تلتفت إليه، فإن لم يَزُل مرض العشق مع اليأس فقد انحرف الطَّبْع انحرافًا شديدًا.

فينتقل إلى علاجٍ آخر وهو علاج عقلِه؛ بأن يعلم أن تعلُّق القلب بما لا مطمع في حصوله نوعٌ من الجنون، وصاحبُه بمنزلة مَن يعشق الشمس، وروحُه مُتعلِّقةٌ بالصعود إليها والدوران معها في فلكها، وهذا معدودٌ عند جميع العقلاء في زمرة المجانين.

وإن كان الوصال متعذِّرًا شرعًا لا قدَرًا، فعلاجُه بأن يُنزِّلَه منزلة المُتعذِّر قدَرًا؛ إذْ ما لم يأذن فيه الله فعلاج العبد ونجاته موقوفٌ على اجتنابه، فليُشعِر نفسَه أنه معدومٌ مُمتنِعٌ لا سبيل له إليه، وأنه بمنزلة سائر المُحالات.

فإن لم تجبه النفس الأمارة فليتركه لأحد أمرين:

- إما خشية فوات محبوبٍ هو أحبُّ إليه وأنفعُ له وخيرٌ له منه وأدومُ لذةً وسرورًا؛
فإن العاقل متى وازَنَ بين نيل محبوبٍ سريع الزوال بفوات محبوبٍ أعظمَ منه وأدومَ وأنفعَ وألذَّ أو بالعكس ظهر له التَّفاوتُ، فلا يَبِعْ لذة الأبد التي لا خطَر لها، بلذة ساعةٍ تنقلب آلامًا، وحقيقتها أنها أحلام نائمٍ، أو خيالٌ لا ثبات له، فتذهب اللذة، وتبقى التَّبِعَة، وتزول الشهوة، وتبقى الشقوة،

- الثاني: حصول مكروهٍ أشقّ عليه من فوات هذا المحبوب،
بل يجتمع له الأمران، أعني: فواتَ ما هو أحبُّ إليه من هذا المحبوب، وحصولَ ما هو أكرهُ إليه من فوات هذا المحبوب
...

فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء، ولم تُطاوِعْه لهذه المعالجة، فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجِلَته، وما تمنعه من مصالحها؛ فإنها أجلَبُ شيءٍ لمفاسد الدنيا، وأعظَمُ شيءٍ تعطيلًا لمصالحها؛ فإنها تَحُول بين العبد وبين رُشده الذي هو مِلاكُ أمره وقِوامُ مصالحه.

فإن لم تقبل نفسُه هذا الدَّواء، فليتذكَّر قبائح المحبوب وما يدعوه إلى النُّفرة عنه؛ فإنه إن طلبها وتأمَّلَها وجدها أضعاف محاسنه التي تدعو إلى حبِّه. وليسأل جيرانه عمَّا خفي عليه منها؛ فإنَّ المحاسن كما هي داعية الحب والإرادة، فالمساوي داعية البغض والنُّفرة.
فليوازن بين الدَّاعيين، وليُجِبْ أسبقهما وأقربهما منه بابًا، ولا يكن ممَّن غرَّه ثوبُ جمالٍ على جسمٍ أبرص مجذومٍ، وليُجاوزْ بصرُه حسنَ الصُّورة إلى قُبح الفعل، وليَعبُرْ من حسن المنظر والجسم إلى قُبح المَخبَر والقلب.


فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلُّها لم يَبْقَ له إلا صدقُ اللَّجأ إلى من يُجيب المضطرَّ إذا دعاه، وليطرح نفسَه بين يديه على بابه مستغيثًا به، متضرِّعًا متذلِّلًا مستكينًا، فمتى وُفِّق لذلك فقد قرَع باب التوفيق.

زاد المعاد (٤ / ٣٩٤ - ٣٩٥).

قناة الكتاب الشهري

01 Dec, 03:42


(الأرواح جنودٌ مُجنَّدة):

قال ابن القيم رحمه الله:

قد استقرَّتْ حكمة الله ﷻ في خلقه وأمره على وقوع التناسُب والتآلُف بين الأشباه، وانجذابِ الشَّيء إلى مُوافِقِه ومُجانِسِه بالطَّبع، وهروبِه من مُخالِفِه ونفرتِه عنه بالطَّبْع، فسِرُّ التمازج والاتصال في العالم العلويِّ والسُّفليِّ إنما هو التناسُب والتشاكُل والتوافُق، وسِرُّ التبايُن والانفصال إنما هو بعدم التشاكُل والتناسُب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر، فالمِثْلُ إلى مِثْلِه مائلٌ وإليه صائرٌ، والضِّدُّ عن ضِدِّه هاربٌ وعنه نافرٌ.

وقد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩]، فجعل سبحانه علَّة سكون الرجل إلى امرأته كونَها مِن جنسِه وجوهرِه.

فعلَّة السكون المذكور ـ وهو الحُبُّ ـ كونُها منه، فدَلَّ على أن العلَّة ليست بحُسن الصورة، ولا الموافقة في القصد والإرادة ولا في الخُلُق والهَدْي، وإن كانت هذه أيضًا من أسباب السكون والمحبة.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ، فما تَعارَفَ منها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ منها اخْتَلَفَ»، وفي مسند الإمام أحمد وغيره في سبب هذا الحديث: أن امرأةً بمكة كانت تُضحِك الناسَ، فجاءت إلى المدينة، فنزلت على امرأةٍ تُضحِك الناسَ، فقال النبي ﷺ: «الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ...» الحديث...

وهذا كما أنه ثابتٌ في الدنيا فهو كذلك يوم القيامة، قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ الله فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٢-٢٣]، قال عمر بن الخطاب وبعده الإمام أحمد: "أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم".
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧]، أي: قُرِنَ كل صاحب عملٍ بشكله ونظيره، فقُرن بين المُتحابَّيْن في الله في الجنة، وبين المُتحابَّيْن في طاعة الشيطان في الجحيم.
فالمرء مع مَن أحَبَّ، شاء أم أبى،
وفي صحيح الحاكم وغيره عن النبي ﷺ: «لا يُحِبُّ المرءُ قومًا إلا حُشِرَ معهم».

والمحبَّة أنواعٌ متعدِّدةٌ:

← فأفضلُها وأجلُّها: المحبَّة في الله ولله، وهي تستلزم محبَّة ما أحَبَّ الله، وتستلزم محبَّة اللهِ ورسولِه.

ومنها: محبَّة الاتِّفاق في طريقةٍ أو مذهبٍ أو دينٍ أو نِحلةٍ أو قرابةٍ أو صناعةٍ أو مُرادٍ ما.

ومنها: محبَّةٌ لنيل غَرَضٍ من المحبوب: إما مِن جاهِه، أو من مالِه، أو من تعليمِه وإرشادِه، أو قضاء وَطَرٍ منه، وهذه هي المحبَّة العَرَضيَّة التي تزول بزوال مُوجِبِها؛ فإنه مَن وَدَّكَ لأمرٍ ولَّى عند انقضائه.

← وأما محبَّة المُشاكَلَة والمُناسَبَة التي بين المُحِبِّ والمحبوب، فمحبَّةٌ لازِمةٌ لا تزول إلا لمُعارِضٍ يُزيلُها.


زاد المعاد (٤ / ٣٨٨ - ٣٩١).

قناة الكتاب الشهري

30 Nov, 13:32


الحث على الزواج:

قال ابن القيم رحمه الله:

ومن منافعه [يعني: النكاح]: غضُّ البصر، وكفُّ النفس، والقدرة على العفَّة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسَه في دنياه وأخراه؛ وينفع المرأةَ، ولذلك كان ﷺ يتعاهده ويحبُّه، ويقول: «حُبِّبَ إليَّ من دنياكم: النساء والطِّيب»...

وحَثَّ على التزويج أمَّتَه فقال: «تزوَّجوا؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأُمَمَ».

وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "خيرُ هذه الأمة أكثرُها نساءً".

وقال ﷺ: «إني أتزوَّج النساء، وآكل اللحم، وأنام وأقوم، وأصوم وأفطر، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي».

وقال: «يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج؛ فإنه أغَضُّ للبصر، وأحصَنُ للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاءٌ».

ولمَّا تزوَّج جابرٌ رضي الله عنه ثيِّبًا قال له: «هلَّا بِكْرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُك!»...

وفي صحيح مسلمٍ من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «الدنيا متاعٌ، وخيرُ متاع الدنيا: المرأة الصالحة».

وكان ﷺ يُحرِّض أمَّتَه على نكاح الأبكار الحِسان وذوات الدين.
وفي سنن النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله ﷺ: أيُّ النساء خيرٌ؟ قال: «التي تَسُرُّه إذا نظَر، وتطيعُه إذا أمَر، ولا تُخالِفُه فيما يكره في نفسها وماله».

وفي الصحيحين عنه عن النبي ﷺ قال: «تُنكَح المرأةُ: لمالها، ولحَسَبها، ولجمالها، ولدِينها، فاظفرْ بِذات الدِّين تَرِبَتْ يداك!».

وكان يحثُّ على نكاح الوَلود، ويكره المرأة التي لا تَلِدُ، كما في سنن أبي داود عن معقل بن يسارٍ أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني أصبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ، وإنها لا تَلِدُ، أفأتزوَّجها؟ قال: «لا»، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: «تزوَّجوا الوَدود الوَلود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم».

زاد المعاد (٤ / ٣٥٩ - ٣٦٢).

قناة الكتاب الشهري

29 Nov, 19:39


الفوائد الصحية للعبادات الشرعية:

قال ابن القيم رحمه الله:

لا ريبَ أنَّ الصلاة نفسَها فيها من حفظ صحة البدن وإذابة أخلاطِه وفَضَلاتِه ما هو مِن أنفع شيءٍ له، سِوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان، وسعادة الدنيا والآخرة.

وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومِن أمنَعِ الأمور لكثيرٍ من الأمراض المُزمِنة، ومِن أنشَطِ شيءٍ للبدن والروح والقلب، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «يَعقِد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاثَ عُقَدٍ، يضرب على كل عقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ، فارقُد:
فإن هو استيقظ فذكر اللهَ انحلَّت عقدةٌ،
فإن توضأ انحلَّت عقدةٌ ثانيةٌ،
فإن صلى انحلَّت عُقَدُه كلُّها،
فأصبح نشيطًا طيب النَّفْس.
وإلا: أصبح خبيثَ النَّفْس كسلان».

وفي الصوم الشرعي من أسباب حفظ الصحة ورياضة البدن والنَّفْس ما لا يدفعُه صحيحُ الفطرة.


وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكُلِّيَّة التي هي من أعظم أسباب القوة، وحفظ الصحة، وصلابة القلب والبدن، ودفع فَضَلاتِهما، وزوال الهَمِّ والغَمِّ والحزن = فأمرٌ إنما يعرفُه مَن له منه نصيبٌ.

وكذلك الحجُّ وفعلُ المَناسِك، وكذلك المسابقةُ على الخيل وبالنِّصال، والمشيُ في الحوائج وإلى الإخوان، وقضاء حقوقهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، والمشيُ إلى المساجد للجُمُعات والجماعات، وحركة الوضوء والاغتسال
، وغير ذلك.

وهذا أقلُّ ما فيه من الرياضة المُعينة على حفظ الصحة ودفع الفَضَلات.

وأما ما شُرِعَ له من التَّوصُّل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ودفعِ شرورِهما فأمرٌ وراء ذلك.

زاد المعاد (٤ / ٣٥٦).

قناة الكتاب الشهري

29 Nov, 10:43


أنفع النوم:

قال ابن القيم رحمه الله:

للنوم فائدتان جليلتان:

إحداهما: سكون الجوارح وراحتها مِمَّا يعرض لها من التعَب، فيُريح الحواسَّ من نصَب اليقظة، ويُزيل الإعياء والكَلَال.

والثَّانية: هضم الغذاء ونضج الأخلاط؛ لأن الحرارة الغريزيَّة في وقت النوم تغور إلى باطن البدن فتُعين على ذلك؛ ولهذا يَبرُد ظاهرُه ويحتاج النائمُ إلى فضلِ دِثارٍ.

وأنفَعُ النوم: أن ينام على الشِّقِّ الأيمن؛ ليستقرَّ الطَّعامُ بهذه الهيئة في المعدة استقرارًا حسنًا؛ فإنَّ المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلًا،

ثمَّ يتحوَّل إلى الشِّقِّ الأيسر قليلًا؛ ليُسرع الهضم بذلك؛ لاشتمال المعدة على الكبد،
ثمَّ يستقرُّ نومه على الجانب الأيمن؛ ليكون الغذاء أسرع انحدارًا عن المعدة.
فيكون النوم على الجانب الأيمن بداءةَ نومِه ونهايتَه.

وكثرة النوم على الجانب الأيسر مُضِرٌّ بالقلب؛ بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصبُّ إليه الموادُّ.

وأردأ النوم: النوم على الظَّهْر، ولا يضرُّ الاستلقاء عليه للراحة من غير نومٍ.

وأردأ منه: أن ينام مُنبطِحًا على وجهه،
وفي المسند وسنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: مَرَّ النبيُّ ﷺ على رجلٍ نائمٍ في المسجد منبطحٍ على وجهه، فضربه برجله وقال: «قم، أو: اقعد؛ فإنها نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ»...

ونوم النهار رديٌّ يورِث الأمراض الرطوبيَّة والنوازل، ويفسد اللون ويورِث الطِّحال، ويُرخي العصَب، ويُكْسِل ويُضعِف الشهوة، إلا في الصيف وقت الهاجرة،
وأردؤه نوم أول النهار،
وأردأ منه النومُ آخرَه بعد العصر.


ورأى عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنه ابنًا له نائمًا نومة الصُّبحة، فقال له: "قم، أتنام في الساعة التي تُقسَّم فيها الأرزاقُ؟!"...

ونوم الصُّبحة يمنع الرزق؛ لأن ذلك وقتٌ تَطلُب فيه الخليقة أرزاقَها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومُه حرمانٌ، إلا لعارِضٍ أو ضرورةٍ،
وهو مضرٌّ جدًّا بالبدن؛ لإرخائه البدنَ، وإفسادِه الفضلات التي ينبغي تحليلُها بالرياضة.

زاد المعاد (٤ / ٣٤٥ - ٣٤٨).

قناة الكتاب الشهري

28 Nov, 10:52


الشُّرب ثلاثا:

قال ابن القيم رحمه الله:

في صحيح مسلمٍ من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يتنفَّس في الشراب ثلاثًا، ويقول: «إنَّه أروى، وأمرأ، وأبرأ».

الشراب في لسان الشارع وحَمَلَة الشرع هو: الماء، ومعنى تنفُّسه في الشراب: إبانتُه القدحَ عن فِيه، وتنفُّسُه خارجَه، ثمَّ يعود إلى الشَّراب، كما جاء مُصرَّحًا به في الحديث الآخر: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفَّس في القَدَح، ولكن لِيُبِنِ الإناءَ عن فِيه».

وفي هذا الشرب حِكَمٌ جَمَّةٌ، وفوائد مهمَّةٌ، وقد نبَّه ﷺ على مَجامِعِها بقوله: «إنَّه أروى، وأمرأ، وأبرأ»:

فأروى: أشدُّ رِيًّا وأبلغُه وأنفعُه.

وأبرأ: أفعَلُ من البُرْء وهو الشفاء، أي: يبرئ من شدة العطش ودائه؛ لتردُّده على المعدة الملتهبة دفعاتٍ، فتُسَكِّن الدفعةُ الثانيةُ ما عجزت الأولى عن تسكينه، والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه.

وأيضًا فإنَّه أسلمُ لحرارة المعدة وأبقى عليها من أن يهجم عليها الباردُ وهلةً واحدةً ونهلةً واحدةً.

وأيضًا فإنَّه لا يُرْوِي؛ لمصادفته لحرارة العطش لحظةً ثم يُقلع عنها ولمَّا يكسِر سورتَها وحِدَّتَها، وإن انكسرت لم تبطل بالكُلِّيَّة، بخلاف كسرها على التَّمهُّل والتَّدريج.

وأيضًا فإنَّه أسلمُ عاقبةً وآمَنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُرْوِي دفعةً واحدةً؛
فإنَّه يُخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزيَّة بشدَّة برده وكثرة كمِّيَّته أو يُضْعِفها، فيؤدِّي ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد وإلى أمراضٍ رَدِيَّةٍ، خصوصًا في سُكَّان البلاد الحارة كالحجاز واليمن ونحوهما، أو في الأزمنة الحارة كشدَّة الصيف؛ فإنَّ الشرب وهلةً واحدةً مَخوفٌ عليهم جدًّا؛ فإنَّ الحارَّ الغريزيَّ ضعيفٌ في بواطن أهلها وفي تلك الأزمنة الحارة.

وقوله: «وأمرأ» هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ في بدنه، إذا دخله وخالطه بسهولةٍ ولذَّةٍ ونفعٍ، ومنه: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤]: هنيئًا في عاقبته، مريئًا في مذاقه.
وقيل: معناه: أنَّه أسرع انحدارًا عن المريء؛ لسهولته وخِفَّتِه عليه، بخلاف الكثير فإنَّه لا يسهل على المريء انحداره...

وقد عُلِم بالتجربة أنَّ ورود الماء جملةً واحدةً على الكبد يؤلمها ويُضعِف حرارتها.
وسبب ذلك: المضادَّة التي بين حرارتها وبين ما ورد عليها من كيفيَّة المُبَرِّد وكمِّيَّته، ولو ورد بالتَّدريج شيئًا فشيئًا لم يضادَّ حرارتها ولم يُضْعِفها.
وهذا مثاله: صبُّ الماء البارد على القِدْر وهي تفور، لا يضرُّها صبُّه قليلًا قليلًا.


زاد المعاد (٤ / ٣٣٠ - ٣٣٢).

قناة الكتاب الشهري

27 Nov, 17:52


النهي عن الشرب قائما:

قال ابن القيم رحمه الله:

وكان من هديه ﷺ الشرب قاعدًا، هذا كان هديه المعتاد،
وصحَّ عنه أنَّه نهى عن الشُّرب قائمًا،
وصحَّ عنه أنَّه أمَر الذي شرب قائمًا أن يستقيء،
وصحَّ عنه أنَّه شرِب قائمًا.


فقالت طائفةٌ: هذا ناسخٌ للنهي،
وقالت طائفةٌ: بل مُبيِّنٌ أن النهي ليس للتحريم، بل للإرشاد وترك الأولى،
وقالت طائفةٌ: لا تَعارُضَ بينهما أصلًا؛ فإنَّه إنَّما شرب قائمًا للحاجة، فإنَّه جاء إلى زمزم وهم يَستَقُونَ منها، فاستسقى، فناولوه الدلوَ، فشرِب وهو قائمٌ، وهذا كان موضع حاجةٍ.

وللشرب قائمًا آفاتٌ عديدةٌ، منها: أنَّه لا يحصل به الرِّيُّ التَّامُّ، ولا يَستقِرُّ في المعدة حتى تقسمه الكبد على الأعضاء، وينزل بسرعةٍ وحِدَّةٍ إلى المعدة، فيخشى منه أن يُبرِّدَ حرارتَها ويشوِّشَها، ويُسرِعَ النُّفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريجٍ = وكلُّ هذا يضرُّ بالشَّارب.


فأما إذا فعله نادرًا أو لحاجةٍ لم يضرَّه، ولا يُعترَض بالعوائد على هذا؛ فإنَّ العوائد طبائع ثوانٍ، ولها أحكامٌ أخرى، وهي بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء.

زاد المعاد (٤ / ٣٢٩ - ٣٣٠).

قناة الكتاب الشهري

26 Nov, 22:21


https://t.me/absarulislam1

قناة الكتاب الشهري

26 Nov, 21:47


كيفية حِفظ الصحة:

قال ابن القيم رحمه الله:

وهذا [يعني: حفظ الصحة] مُستفادٌ من قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: ٣١]، فأرشَدَ عبادَه إلى إدخال ما يُقيم البدن من الطعام والشراب عِوَضَ ما تحلَّل منه، وأن يكون بقدر ما يَنتفع به البدن في الكمِّيَّة والكيفيَّة، فمتى جاوز ذلك كان إسرافًا، وكلاهما مانعٌ من الصحة، جالبٌ للمرض، أعني: عدمَ الأكلِ والشربِ، أو الإسرافَ فيه، فحفظ الصحة كلُّه في هاتين الكلمتين الإلهيَّتين.

ولا ريب أن البدن دائمًا في التَّحلُّل والاستخلاف، وكلَّما كثر التَّحلُّل ضعُفت الحرارة لفناء مادَّتِها؛ فإن كثرة التَّحلُّل تفني الرطوبة، وهي مادَّة الحرارة، وإذا ضعفت الحرارة ضعف الهضم، ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة وتنطفئ الحرارة جملةً، فيستكمل العبدُ الأجلَ الذي كتب الله له أن يصل إليه.

فغاية علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة، لا أنه يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللَّتين بقاءُ الشباب والصحة والقوة بهما؛ فإن هذا مِمَّا لم يحصل لبشرٍ في هذه الدار، وإنما غاية الطبيب أن يحميَ الرطوبةَ عن مُفسِداتِها من العفونة وغيرها، ويحميَ الحرارةَ عن مُضعِفاتِها، ويَعدِلَ بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الإنسان، كما أنَّ به قامت السماوات والأرض، وسائرُ المخلوقات إنما قوامها بالعدل.

ومَن تأمَّل هدي النبي ﷺ وَجَدَه أفضلَ هديٍ يمكن حفظُ الصحة به؛ فإنَّ حفظَها موقوفٌ على حسن تدبير المَطعَم والمَشرَب والمَلبَس والمَسكَن والهواء، والنوم واليَقَظَة، والحركة والسكون، والمَنكَح والاستفراغ والاحتباس،
فإذا حصلت هذه على الوجه المُعتدِل المُوافِق المُلائِم للبدن والبلد والسِّنِّ والعادة كان أقربَ إلى دوام الصحة أو غَلَبَتِها إلى انقضاء الأجل.


ولما كانت الصحة والعافية من أجلِّ نِعَمِ الله على عبده، وأجزلِ عطاياه وأوفرِ مِنَحِه، بل العافية المطلقة أجلُّ النِّعَم على الإطلاق، فحقيقٌ لمَن رُزِق حَظًّا من التوفيق مُراعاتُها وحفظُها وحمايتُها عمَّا يُضادُّها.

وقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ».

وفي الترمذي وغيره من حديث عبدالله بن مِحْصَن الأنصاري قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن أصبَحَ مُعافًى في جسده، آمِنًا في سِرْبِه، عندَه قوتُ يومِه = فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا».

وفي الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «أولُ ما يُسألُ عنه العبدُ يومَ القيامة مِن النعيم أن يُقالَ له: ألمْ نُصِحَّ لك جسمَك ونُرْوِكَ مِن الماء البارد؟!».

زاد المعاد (٤ / ٣٠٥ - ٣٠٧).

قناة الكتاب الشهري

26 Nov, 12:12


تتمة في كيفية علاج المصائب:

قال ابن القيم رحمه الله:

ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يَقلبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا هي بعينها مرارة الآخرة.
ولَأَنْ يَنتقِل من مرارةٍ منقطعةٍ إلى حلاوةٍ دائمةٍ خيرٌ له من عكس ذلك.
فإنْ خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق ﷺ: «حُفَّت الجنةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّت النارُ بالشَّهَواتِ».

وفي هذا المقام تَفاوَتَتْ عقول الخلائق وظهرت حقائق الرجال، فأكثرُهم آثَرَ الحلاوةَ المنقطعةَ على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعةٍ لِحلاوة الأبَد، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعِزِّ الأبَد، ولا محنة ساعةٍ لِعافية الأبَد؛ فإن الحاضرَ عنده شهادةٌ، والمُنتظَر غيبٌ، والإيمانَ ضعيفٌ، وسلطانَ الشهوةِ حاكمٌ، فتَوَلَّدَ من ذلك إيثارُ العاجلة ورفْضُ الآخرة.
وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها.
وأما النظر الثاقب الذي يخرق حُجُب العاجلة ويُجاوِزُه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخر.

فادْعُ نفسَك إلى ما أعَدَّ اللهُ لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم والسعادة الأبديَّة والفوز الأكبر، وما أعَدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعذاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخترْ أيَّ القسمين ألْيَقُ بك.
وكلٌّ يعمل على شاكِلَتِه، وكل أحدٍ يصبو إلى ما يُناسِبُه وما هو الأَوْلى به.

ولا تَستطِلْ هذا العلاجَ، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دَعَتْ إلى بَسْطِه،
وبالله التَّوفيق.

زاد المعاد (٤ / ٢٧٩ - ٢٨١).

قناة الكتاب الشهري

25 Nov, 19:32


تتمة في كيفية علاج المصائب:

قال ابن القيم رحمه الله:

ومن علاجها: أن يَعلم أنه وإن بلغ في الجَزَع غايتَه فآخر أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غير محمودٍ ولا مُثابٍ.

قال بعض الحكماء: "العاقل يفعل في أول يومٍ من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيامٍ، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سُلُوَّ البهائم".

وفي الصحيح مرفوعًا: «الصبر عند الصدمة الأولى».

وقال الأشعث بن قيس: "إنك إن صبرت إيمانًا واحتسابًا وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائم".

ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحَبَّه ورضيَه له، وأن خاصِّيَّةَ المحبة وسرَّها موافقة المحبوب، فمَن ادَّعى محبة محبوبٍ، ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يُسخطُه: فقد شهد على نفسه بكذبه، وتمقَّتَ إلى محبوبه.
قال أبو الدرداء: "إن الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به"...

ومن علاجها: أن يعلم أن الذي ابتلاه بها: أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليُهلِكَه به ولا ليعذِّبه ولا ليجتاحَه؛ وإنما افتقده به ليمتحن صبرَه ورضاه عنه وإيمانَه، وليسمعَ تضرُّعَه وابتهالَه، وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابه مكسورَ القلب بين يديه رافعًا قصصَ الشكوى إليه...

ومن علاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها لأصابَ العبدَ من أدواء الكِبْر والعُجْب والفرعنة وقسوة القلب، ما هو سببُ هلاكِه عاجلًا وآجلًا.
فمِن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقَّدَه في الأحيان بأنواعٍ من أدوية المصائب تكون حِمْيَةً له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديَّتِه، واستفراغًا للموادِّ الفاسدة الرَّدِيَّة المُهلِكة منه.
فسبحان مَن يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه، كما قيل:

قد يُنعِم اللهُ بالبلوى وإن عَظُمَتْ
ويبتلي اللهُ بعضَ الـقومِ بـالـنِّعَمِ


فلولا أنه سبحانه يُداوي عبادَه بأدوية المِحَن والابتلاء لطَغَوْا وبَغَوْا وعَتَوْا، والله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به منه الأدواءَ المُهلِكةَ، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه: أهَّلَه لأشرفِ مراتبِ الدنيا وهي عبوديَّتُه، وأرفعِ ثوابِ الآخرةِ وهو رؤيتُه وقربُه.

زاد المعاد (٤ / ٢٧٧ - ٢٧٩).

قناة الكتاب الشهري

24 Nov, 15:26


تتمةٌ في كيفية علاج المصائب:

قال ابن القيم رحمه الله:

ومن علاجها: أن يعلم أن ما يُعقِبُه الصبر والاحتساب من اللَّذَّة والمَسَرَّة أضعافُ ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه.
ويكفيه من ذلك (بيت الحمد) الذي يُبنى له في الجنة على حمْده لربه واسترجاعه.
فلينظر: أيُّ المصيبتين أعظمُ: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحَمْد في جنة الخُلْد؟

وفي الترمذي مرفوعًا: «يَوَدُّ ناسٌ يوم القيامة أنَّ جلودَهم كانت تُقْرَض بالمقاريض في الدنيا؛ لِمَا يَرَوْنَ من ثواب أهل البلاء».
وقال بعض السلف: "لولا مصائبُ الدنيا لوَرَدْنا القيامةَ مَفاليسَ".

ومن علاجها: أن يُروِّح قلبَه بروح رجاء الخُلْف من الله؛ فإنه من كل شيءٍ عِوَضٌ إلا اللهُ فما منه عِوَضٌ، كما قيل:
من كل شيءٍ إذا ضيَّعتَه عِوَضٌ
وما مـن الله إن ضيَّعـتَـه عِوَضُ


ومن علاجها: أن يَعلم أن حظَّه من المصيبة ما تُحْدِثُه له؛ فمَن رَضِيَ فله الرضى، ومَن سَخِطَ فله السَّخَط، فحظُّك منها ما أحدثَتْه لك، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها:
- فإن أحدثَتْ له سَخَطًا وكفرًا كُتِبَ في ديوان الهالكين،
- وإن أحدثَتْ له جَزَعًا وتفريطًا في ترك واجبٍ أو فعل محرمٍ كُتِبَ في ديوان المُفرِّطين،
- وإن أحدثَتْ له شكايةً وعدم صبرٍ كُتِبَ في ديوان المغبونين،
- وإن أحدثَتْ له اعتراضًا على الله وقَدْحًا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو وَلَجَه،
- وإن أحدثَتْ له صبراً وثباتًا لله كُتِبَ في ديوان الصابرين،
- وإن أحدثَتْ له الرضى عن الله كُتِبَ في ديوان الراضين،
- وإن أحدثَتْ له الحمدَ والشكرَ كُتِبَ في ديوان الشاكرين وكان تحت لواء الحمد مع الحمَّادِين،
- وإن أحدثَتْ له محبةً واشتياقًا إلى لقاء ربه كُتِبَ في ديوان المُحبِّين المُخلصين.


وفي مسند الإمام أحمد والترمذي من حديث محمود بن لبيدٍ يرفعه: «إن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم: فمَن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومَن سَخِط فله السَّخَط». زاد أحمد: «ومَن جَزِع فله الجَزَع».

زاد المعاد (٤ / ٢٧٥ - ٢٧٧).

قناة الكتاب الشهري

23 Nov, 21:26


كيفية علاج المصائب:

قال ابن القيم رحمه الله:

ومن علاجها: أن ينظر إلى ما أصيب به، فيجدُ ربَّه قد أبقى عليه مثلَه أو أفضلَ منه، وادَّخر له ـ إن صبَر ورضِيَ ـ ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعافٍ مضاعفةٍ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مِمَّا هي.

ومن علاجها: أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسِّي بأهل المصائب، ولْيعلمْ أنه (في كلِّ وادٍ بنو سعدٍ)، ولْينظرْ يَمْنةً، فهل يرى إلا مِحنةً؟! ثم لْيعطِفْ يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً؟! وأنه لو فتَّش العالَم لم يَرَ فيهم إلا مُبتلًى؛ إما بفوات محبوبٍ أو حصول مكروهٍ.
وإن سرور الدنيا (أحلام نومٍ أو كظِلٍّ زائلٍ): إنْ أضحكَتْ قليلًا أبْكَتْ كثيرًا! وإنْ سرَّتْ يومًا ساءت دهرًا! وإن متَّعَتْ قليلًا منعَتْ طويلًا! وما مَلَأَتْ دارًا حَبْرَةٌ إلا مَلَأَتْها عَبْرَةً! ولا سرَّتْه بيومِ سرورٍ إلا خَبَّأَتْ له يومَ شرورٍ!
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لكل فرحةٍ تَرحةٌ، وما مُلِئَ بيتٌ فرحًا إلا مُلِئَ تَرَحًا".
وقال ابن سيرين: "ما كان ضحكٌ قَطُّ إلا كان مٓن بعدِه بكاءٌ"...

ومن علاجها: أن يعلم أن الجَزَع لا يَرُدُّها، بل يُضاعِفُها، وهو في الحقيقة مِن تزايد المرض.

ومن علاجها: أن يعلم أن فوتَ ثواب الصبر والتسليم ـ وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضَمِنَها الله على الصبر والاسترجاع ـ أعظمُ من المصيبة في الحقيقة.

ومن علاجها: أن يعلم أن الجَزَع يُشْمِتُ عدوَّه، ويسوء صديقَه، ويُغضِب ربَّه، ويَسُرُّ شيطانَه، ويُحبِط أجرَه، ويُضعِف نفسَه،
وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانَه وردَّه خاسئًا، وأرضى ربَّه، وسَرَّ صديقَه، وساء عدوَّه، وحمل عن إخوانه وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدود وشقُّ الجيوب والدعاء بالويل والثبور والسخط على المقدور.

زاد المعاد (٤/ ٢٧١ - ٢٧٤).

قناة الكتاب الشهري

23 Nov, 10:11


العلاج بالرقية، وبيان أثر النَّفْث:

قال ابن القيم رحمه الله:

في تأثير الرُّقى بالفاتحة وغيرِها في علاج ذوات السُّموم سرٌّ بديعٌ؛ فإن ذوات السُّموم أثَّرت بكيفيَّات نفوسِها الخبيثة كما تقدَّم، وسلاحُها حُماتُها التي تلدغ بها، وهي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غضبت ثار فيها السُّمُّ، فتقذفه بآلتها.

وقد جعل الله سبحانه لكل داءٍ دواءً، ولكل شيءٍ ضِدًّا، ونفسُ الرَّاقي تفعل في نفس المرقيِّ، فيقع بين نفسَيْهِما فعلٌ وانفعالٌ، كما يقع بين الداء والدواء، فتَقوَى نفسُ المَرْقيِّ وقوتُه بالرقية على ذلك الداء، فتدفعه بإذن الله.

ومَدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيَّيْن: يقع بين الداء والدواء الرُّوحانِيَّيْن، والرُّوحانيِّ والطبيعيِّ.

وفي النَّفْث والتَّفْل استعانةٌ بتلك الرطوبة والهواء والنفَس المباشر للرقية والذكر والدعاء؛ فإن الرقية تخرج من قلبِ الرَّاقي وفمِه، فإذا صاحَبَها شيءٌ من أجزاء باطنِه من الرِّيق والهواء والنفَس كانت أتَمَّ تأثيرًا وأقوى فعلًا ونفوذًا، ويحصل بالازدواج بينهما كيفيةٌ مُؤثِّرةٌ شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.


وبالجملة: فنفسُ الرَّاقي يُقابِل تلك النفوس الخبيثة، ويزيد بكيفية نفسِه، ويستعين بالرقية وبالنَّفْث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الرَّاقي أقوى كانت الرقية أتَمَّ، واستعانتُه بنفْثِه كاستعانة تلك النفوس الرَّدِيَّة بلَسْعِها.

وفي النَّفْث سِرٌّ آخر؛ فإنه مِمَّا تستعين به الأرواح الطَّيِّبة والخبيثة؛ ولهذا تفعله السَّحَرَة كما يفعله أهل الإيمان، قال تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾
[الفلق: ٤]؛ وذلك لأن النفس تتكيَّف بكيفية الغضب والمُحارَبَة، وتُرسِل أنفاسَها سهامًا لها، وتُمِدُّها بالنَّفْث والتَّفْل الذي معه شيءٌ من ريقٍ مُصاحِبٍ لكيفيةٍ مُؤثِّرةٍ.

والسَّواحِر تستعين بالنَّفْث استعانةً بيِّنةً وإن لم تتَّصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسُّط الأرواح السُّفليَّة الخبيثة. فتُقابِلُها الروح الزَّكيَّة الطَّيِّبة بكيفية الدَّفع والتكلم بالرقية، وتستعين بالنَّفْث. فأيُّهُما قَوِيَ كان الحُكم له.

ومقابلةُ الأرواح بعضِها لبعضٍ وتَحارُبُها وآلتُها من جنس مقابلة الأجسام ومحاربتِها وآلتِها سواءً، بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن مَن غلب عليه الحِسُّ لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالِها وانفعالاتِها؛ لاستيلاء سلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِه من عالم الأرواح وأحكامِها وأفعالِها.

زاد المعاد (٤ / ٢٥٤ - ٢٥٦).

قناة الكتاب الشهري

22 Nov, 10:42


من طُرُق الوقاية من العين وعلاجها:

قال ابن القيم رحمه الله:

إذا كان العائن يَخشى ضرر عينه وإصابتها للمَعِين، فليَدفع شرَّها بقوله: اللَّهمَّ بارك عليه، كما قال النبي ﷺ لعامر بن ربيعة لمَّا عان سهلَ بن حنيفٍ: «ألَّا برَّكْتَ»، أي: قلتَ: اللهم بارك عليه.

ومِمَّا يَدفع به إصابة العين قولُ: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئًا يُعجبه، أو دخل حائطًا من حيطانه، قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

ومنها: رُقْيَة جبريل للنبي ﷺ، التي رواها مسلم في صحيحه: «باسم الله أَرقيك، من كلِّ شيءٍ يؤذيك، من شرِّ كلِّ نفسٍ أو عينِ حاسدٍ، الله يشفيك، باسم الله أَرقيك».

ورأى جماعةٌ من السلف أن تُكتَب له الآيات من القرآن، ثمَّ يشربها، فقال مجاهد: لا بأس أن يَكتبَ القرآن ويَغسِلَه ويسقيَه المريضَ، ومثله عن أبي قِلابة...

ومنها [من علاج العين]: أن يُؤمَر العائن بغسل مَغابِنِه وأطرافِه وداخِلَةِ إزارِه، وفيه قولان، أحدهما: أنه فرجه، والثاني: أنه طرف إزاره الداخل الذي يَلي جسده من الجانب الأيمن، ثم يُصَبُّ على رأس المَعِين من خلفه بغتةً.

وهذا مِمَّا لا ينالُه علاج الأطباء، ولا يَنتفع به مَن أنكره، أو سَخِر منه، أو شَكَّ فيه، أو فَعَلَه مُجرِّبًا لا يعتقد أنَّ ذلك ينفعه.

وإذا كان في الطبيعة خواصُّ لا تعرف الأطباء عللها البتَّة، بل هي عندهم خارجةٌ عن قياس الطبيعة، تَفعل بالخاصِّيَّة، فما الذي تنكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواصِّ الشرعية؟!

هذا مع أن في المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة وتُقِرُّ بمناسبته، فاعلم أنَّ تِرْياقَ سمِّ الحيَّة في لحمها، وأن علاج تأثير النَّفس الغضبيَّة في تسكين غضبها وإطفاء ناره بوضع يدك عليه، والمسح عليه، وتسكين غضبه،
وذلك بمنزلة رجلٍ معه شعلةٌ من نارٍ، وقد أراد أن يَقذفك بها، فصببْتَ عليها الماء، وهي في يده حتى طَفِئَتْ.

ولذلك أُمر العائن أن يقول: «اللهم بارك عليه»، ليدفع تلك الكيفيَّة الخبيثة بالدُّعاء الذي هو إحسانٌ إلى المَعِين؛ فإنَّ دواءَ الشَّيء بضدِّه.

زاد المعاد (٤ / ٢٤٣ - ٢٤٦).

قناة الكتاب الشهري

21 Nov, 14:32


تتمةٌ في حقيقة الإصابة بِالعَين:

قال ابن القيم رحمه الله:

والأرواح مختلفةٌ في طبائعها وقواها وكيفيَّاتها وخواصِّها، فروحُ الحاسد مؤذيةٌ للمحسود أذًى بيِّنًا؛ ولهذا أمر الله سبحانه رسولَه ﷺ أن يستعيذ به من شرِّه، وتأثيرُ الحاسد في أذى المحسود أمرٌ لا ينكره إلا من هو خارجٌ عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين؛ فإنَّ النَّفس الخبيثة الحاسدة تتكيَّف بكيفيَّةٍ خبيثةٍ مقابلَ المحسود، فتؤثِّر فيه بتلك الخاصِّيَّة.

وأشبَهُ الأشياء بهذا: الأفعى؛ فإنَّ السّمَّ كامنٌ فيها بالقوة، فإذا قابلَتْ عدوَّها انبعثَتْ منها قوَّةٌ غضبيَّةٌ، وتكيَّفَتْ نفسُها بكيفيَّةٍ خبيثةٍ مؤذيةٍ.
فمنها: ما تشتدُّ كيفيَّتها وتَقوَى حتَّى تؤثِّر في إسقاط الجنين،
ومنها: ما يؤثِّر في طمس البصر، كما قال النبي ﷺ في الأبتر وذي الطُّفْيتين من الحيَّات: «إنَّهما يلتمسان البصر، ويُسْقِطان الحَبَل».
ومنها: ما يؤثِّر في الإنسان كيفيَّتُها بمجرَّد الرُّؤية، من غير اتِّصالٍ به، لشدَّة خبث تلك النَّفس وكيفيَّتها الخبيثة المؤثِّرة
...

ونفس العائن لا يتوقَّف تأثيرها على الرُّؤية، بل قد يكون أعمى فيوصَف له الشَّيءُ فتؤثِّر نفسه فيه وإن لم يره، وكثيرٌ من العائنين يؤثِّر في المَعِين بالوصف من غير رؤيةٍ.

وقد قال تعالى لنبيِّه: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾ [القلم: ٥١].

وقال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: ١ - ٥].

فكلُّ عائنٍ حاسدٌ، وليس كلُّ حاسدٍ عائنًا، فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذةً من العائن.

وهي سهامٌ تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين تصيبه تارةً، وتخطئه تارةً:
- فإن صادفتْه مكشوفًا لا وقاية عليه أثَّرت فيه ولا بدَّ،
- وإن صادفتْه حذِرًا شاكيَ السِّلاح لا مَنفَذ فيه للسِّهام لم تؤثِّر فيه، وربَّما ردَّت السِّهام على صاحبها.

وهذا بمثابة الرَّمي الحسِّيِّ سواءً.
فهذا من النُّفوس والأرواح، وهذا من الأجسام والأشباح.

وأصله من إعجاب العائن بالشَّيء. ثمَّ تتبعه كيفيَّة نفسه الخبيثة، ثمَّ يستعين على تنفيذ سَمِّيَّتها بنظره إلى المَعِين.
وقد يَعين الرَّجل نفسه، وقد يَعين بغير إرادته بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النَّوع الإنسانيِّ، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن مَن عُرِف بذلك حبَسه الإمامُ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت. وهذا هو الصَّواب قطعًا.

زاد المعاد (٤ / ٢٣٧ - ٢٣٩).

قناة الكتاب الشهري

20 Nov, 15:28


حقيقة الإصابة بِالعَيْن:

قال ابن القيم رحمه الله:

عن جابرٍ رضي الله عنه يرفعه: «إنَّ العينَ لَتُدخِلُ الرجلَ القبرَ، والجملَ القِدْرَ».

وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه: كان النبي ﷺ يتعوَّذ من الجانِّ، ومن عين الإنسان.

فأبطلتْ طائفةٌ مِمَّن قَلَّ نصيبُهم من السمع والعقل أمْرَ العين، وقالوا: إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقةَ لها، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسمع والعقل، ومِن أغلظِهم حجابًا، وأكثفِهم طباعًا، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها.

وعقلاءُ الأمم على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلِهم لا تدفع أمْر العين ولا تُنكره، وإن اختلفوا في سببه وجِهة تأثير العين.

- فقالت طائفةٌ: إن العائن إذا تكيَّفتْ نفسه بالكيفيَّة الرَّديَّة انبعث من عينه قوَّةٌ سُمِّيَّةٌ تتَّصل بالمَعِين، فيتضرَّر. قالوا: ولا يُستنكَر هذا كما لا يُستنكَر انبعاث قوَّةٍ سُمِّيَّةٍ من الأفعى تتَّصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمرٌ قد اشتهر عن نوعٍ من الأفاعي: أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلَك، فكذلك العائن.

- وقالت فرقةٌ أخرى: لا يُستبعَد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهرُ لطيفةٌ غيرُ مرئيَّةٍ، فتتَّصل بالمعين، وتتخلَّل مسامَّ جسمه، فيحصل له الضَّرَر.

- وقالت فرقةٌ أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضَّرَر عند مقابلة عين العائن لمَن يَعينُه، من غير أن يكون منه سببٌ ولا قوَّةٌ ولا تأثيرٌ أصلًا. وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتَّأثيرات في العالم، وهؤلاء قد سَدُّوا على أنفسهم باب العِلَل والتَّأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.

ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوًى وطبائع مختلفةً، وجعل في كثيرٍ منها خواصَّ وكيفيَّاتٍ مؤثِّرةً. ولا يمكن العاقلَ إنكارُ تأثير الأرواح في الأجسام؛ فإنَّه أمرٌ مُشاهَدٌ محسوسٌ.

وأنت ترى الوجه كيف يحمرُّ حمرةً شديدةً إذا نظر إليه مَن يحتشمه فاستحيا منه! ويصفرُّ صفرةً شديدةً عند نظر مَن يخافه إليه! وقد شاهد النَّاس من يسقَم من النظر وتضعف قُوَاه.

وهذا كلُّه بواسطة تأثير الأرواح، ولِشدَّة ارتباطها بالعين يُنسَب الفعلُ إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح.


زاد المعاد (٤ / ٢٣٥ - ٢٣٦).

يتبع...

قناة الكتاب الشهري

20 Nov, 03:25


هيئات الصلاة عبوديات لا تصلح إلا لله عز وجل:

قال ابن القيم رحمه الله:

أشرفُ العبودية عبودية الصلاة، وقد تَقاسَمَها الشيوخ والمُتشبِّهون بالعلماء والجبابرة:

① فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها، وهو السجود.

② وأخذ المُتشبِّهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضًا ركع له كما يركع المصلي لربِّه سواءً.

③ وأخذ الجبابرة منها القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم وهم جلوسٌ.

وقد نهى رسول الله ﷺ عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطِيها مخالفةٌ صريحةٌ له:


فنهى عن السجود لغير الله، وقال: «لا ينبغي لأحدٍ أن يسجد لأحدٍ»، وأنكر على معاذٍ لمَّا سجد له، وقال: «مَه!».
وتحريم هذا معلومٌ مِن دينه بالضرورة، وتجويزُ مَن جَوَّزَه لغير الله مراغَمةٌ لله ورسوله، وهو مِن أبلغِ أنواع العبودية، فإذا جَوَّزَ هذا المشركُ هذا النوعَ للبشر فقد جَوَّزَ عبودية غيرِ الله.

وقد صَحَّ عنه ﷺ أنه قيل له: الرجلُ يلقى أخاه، أينحني له؟ قال: «لا». قيل: أيلتزمُه ويقبِّلُه؟ قال: «لا». قيل: أيُصافحُه؟ قال: «نعم».
وأيضًا فالانحناء عند التَّحِيَّة سجودٌ، ومنه قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ [النساء: ١٥٤] أي: مُنحَنِينَ، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه.

③ وصَحَّ عنه ﷺ النهي عن القيام وهو جالسٌ، كما تُعظِّم الأعاجم بعضها بعضًا، حتى منَع من ذلك في الصلاة، وأمَرَهم إذا صلى جالسًا أن يُصلُّوا جلوسًا، وهم أصحَّاءُ لا عذرَ لهم؛ لئلَّا يقوموا على رأسه وهو جالسٌ، مع أنَّ قيامهم لله، فكيف إذا كان القيام تعظيمًا وعبوديةً لغيره سبحانه؟!

زاد المعاد (٤ / ٢٢٨ - ٢٣٠).

قناة الكتاب الشهري

19 Nov, 16:00


هدي النبي ﷺ في علاج القَمْل وإزالته، وبيان أحوال حلْق الرأس:

قال ابن القيم رحمه الله:

في الصحيحين عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال: كان بي أذًى من رأسي، فحُمِلْتُ إلى رسول الله ﷺ، والقملُ يتناثر على وجهي، فقال: «ما كنتُ أرى الجَهْدَ قد بلغ بك ما أرى»، وفي روايةٍ: فأمرَه أن يحلق رأسه، وأن يُطْعِمَ فَرَقًا بين ستَّةٍ، أو يهدي شاةً، أو يصوم ثلاثة أيَّامٍ. [لأنه كان مُحْرِمًا].

القَمْل يتولَّد في الرأس والبدن من شيئين: خارجٍ عن البدن، وداخلٍ فيه.
فالخارج: الوَسَخ والدَّنَس المُتراكِب في سطح الجسد.
والثاني: مِن خِلْطٍ رديٍّ عَفِنٍ تدفعه الطبيعة بين الجلد واللحم، فتتعفَّن الرطوبة الدموية في البشرة بعد خروجها من المَسامِّ، فيكون منه القَمْل.


وأكثر ما يكون ذلك بعد العِلَل والأسقام وبسبب الأوساخ، وإنما كان في رؤوس الصبيان أكثرَ لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الأسبابَ التي تُولِّد القَمْل؛ ولذلك حلَق النبيُّ ﷺ رؤوسَ بني جعفرٍ.

ومن أكبر علاجه: حلْقُ الرأس لتنفتح مسامُّ الأبخرة، فتتصاعد الأبخرة الرَّديَّة، فتضعف مادَّة الخِلْط. وينبغي أن يُطلَى الرأسُ بعد ذلك بالأدوية التي تقتل القَمْلَ وتمنع تولُّدَه.

وحلْق الرأس ثلاثة أنواعٍ:

أحدها: نُسُكٌ وقُربةٌ.
والثَّاني: بدعةٌ وشركٌ.
والثَّالث: حاجةٌ ودواءٌ.

فالأول: الحلْق في أحد النُّسُكَيْن: الحجِّ أو العمرةِ.

والثَّاني: حلْق الرؤوس لغير الله سبحانه،
كما يحلقها المريدون لشيوخهم، ويقول أحدهم: أنا حلقتُ رأسي لفلانٍ، وأنتَ حلقتَه لفلانٍ، وهذا بمنزلة أن يقول: سجدتُ لفلانٍ؛ فإن حلق الرأس خضوعٌ وعبوديةٌ وذُلٌّ؛ ولهذا كان من تمام الحجِّ، حتى إنه عند الشافعي ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به؛ فإنه وضْع النَّواصي بين يدي ربِّها خضوعًا لعظمته وتذلُّلًا لعِزَّتِه، وهو مِن أبلغ أنواع العبودية.

زاد المعاد (٤ / ٢٢٦ - ٢٢٧).

قناة الكتاب الشهري

18 Nov, 18:24


هدي النبي ﷺ في المنع من التداوي بالمُحرَّمات:

قال ابن القيم رحمه الله:

روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الله أنزل الدَّاء والدَّواء، وجعل لكلِّ داءٍ دواءً، فتداوَوْا، ولا تداوَوْا بالمحرَّم».

وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إنَّ الله لم يجعل شفاءَكم فيما حرَّم عليكم».

وفي السُّنَن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن الدواء الخبيث.

وفي صحيح مسلمٍ عن طارق بن سويدٍ الجعفي رضي الله عنه أنه سأل النبيَّ ﷺ عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: «إنه ليس بدواءٍ، ولكنه داءٌ»...

المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلًا وشرعًا:
أما الشرع فما ذكرنا من الأحاديث وغيرها،

وأما العقل فهو:
- أن الله سبحانه إنما حرَّمه لخبثه؛ فإنه لم يُحرِّم على هذه الأُمَّة طيبًا عقوبةً لها، كما حرَّمه على بني إسرائيل بقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾
[النساء: ١٦٠]، وإنما حرَّم على هذه الأُمَّة ما حرَّمه لخبثه، وتحريمُه له حِمْيَةٌ لهم وصيانةٌ عن تناوله، فلا يُناسِب أن يُطلَب به الشفاءُ من الأسقام والعِلَل؛ فإنه وإن أثَّر في إزالتها، لكنَّه يُعقِبُ سَقَمًا أعظمَ منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه؛ فيكون المُداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.

- وأيضًا فإن تحريمه يقتضي تجنُّبه والبعد عنه بكل طريقٍ، وفي اتِّخاذه دواءً حَضٌّ على الترغيب فيه وملابستِه. وهذا ضدُّ مقصودِ الشارِعِ.

- وأيضًا فإنه داءٌ كما نَصَّ عليه صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يُتَّخَذ دواءً.

- وأيضًا فإنه يُكسِب الطبيعةَ والروحَ صفةَ الخبث؛ لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالًا بيِّنًا، فإذا كانت كيفيته خبيثةً اكتسبت الطبيعة منه خبثًا، فكيف إذا كان خبيثًا في ذاته!
ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة؛ لِمَا تُكسِب النفسَ من هيئة الخبث وصفته.

- وأيضًا فإن في إباحة التداوي به ـ ولا سِيَّما إذا كانت النفوس تميل إليه ـ ذريعةً إلى تناوله للشَّهوة واللَّذَّة، ولا سِيَّما إذا عرفت النفوس أنه نافعٌ لها، مزيلٌ لأسقامها، جالبٌ لشفائها؛ فهذا أحبُّ شيءٍ إليها،
والشَّارع سَدَّ الذريعة إلى تناوُلِه بكل ممكنٍ، ولا ريب أن بين سَدِّ الذريعة إلى تناوُلِه وفتحِ الذريعة إلى تناوُلِه تناقُضًا وتعارُضًا.

- وأيضًا فإن في هذا الدواء المُحرَّم من الأدواء ما يزيد على ما يُظَنُّ فيه من الشِّفاء، ولنفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاءً قطُّ؛ فإنها شديدة المَضَرَّة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطِبَّاء وكثيرٍ من الفقهاء والمُتكلِّمين.

زاد المعاد (٤ / ٢٢٠ - ٢٢٣).

قناة الكتاب الشهري

17 Nov, 12:11


أقسامُ الأطباءِ وأحكام جناياتِهم، وفقهُ حديثِ: «مَن تطبَّبَ ولم يُعلَم منه طبٌّ قبل ذلك فهو ضامنٌ»:

قال ابن القيم رحمه الله:

[أقسام الأطباء]:

أحدها: طبيبٌ حاذِقٌ أعطى الصَّنْعَةَ حقَّها ولم تَجْنِ يدُه، فتَوَلَّدَ مِن فعلِه المأذونِ مِن جهة الشارع ومِن جهةِ مَن يَطُبُّه تَلَفُ العضو أو النَّفْس أو ذهابُ صفةٍ = فهذا لا ضمانَ عليه اتِّفاقًا؛ فإنها سِرايةُ مأذونٍ فيه.
وهذا كما إذا ختَن الصبيَّ في وقتٍ وسنٍّ قابلٍ للختان، وأعطى الصَّنْعَة حقَّها، فتلف العضو أو الصبي = لم يَضمَن...
وهكذا سرايةُ كل مأذونٍ فيه لم يتعدَّ الفاعل في سببها، كسِراية الحدِّ بالاتِّفاق، وسراية القِصاص عند الجمهور خِلافًا لأبي حنيفة في إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضرْب الرجلِ امرأتَه، والمعلمِ الصبيَّ...

القسم الثاني: مُتطبِّبٌ جاهلٌ باشرت يدُه من يطبُّه، فتلِفَ به:
فهذا إن عَلِم المجنيُّ عليه أنه جاهلٌ لا علم له، وأذِن له في طبِّه = لم يضمَن، ولا تخالف هذه الصورةُ ظاهرَ الحديث؛ فإن السياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غَرَّ العليلَ وأوهمه أنه طبيبٌ وليس كذلك.
وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيبٌ، وأذِن له في طبِّه لأجل معرفته = ضمِن الطبيبُ ما جَنَتْ يدُه.
وكذلك إن وصَف له دواءً يستعمله، والعليلُ يظنُّ أنه وصَفه لمعرفته وحذقه، فتلِف به = ضَمِنَه.

والحديث ظاهرٌ فيه أو صريحٌ.

القسم الثالث: طبيبٌ حاذقٌ أُذِنَ له، وأعطى الصَّنْعَةَ حقَّها، لكنه أخطأت يده، وتعدَّت إلى عضوٍ صحيحٍ فأتلَفَه، مثل إن سبقت يد الخاتن إلى الكَمَرة = فهذا يضمَن؛ لأنها جناية خطأٍ...

القسم الرابع: الطبيب الحاذق الماهر بصناعته، اجتهد فوصَف للمريض دواءً، فأخطأ في اجتهاده، فقتَله = فهذا يُخرَّج على روايتين، إحداهما: أن دية المريض في بيت المال، والثانية: أنها على عاقِلة الطبيب، وقد نَصَّ عليهما الإمام أحمد في خطأ الإمام والحاكم.

القسم الخامس: طبيبٌ حاذقٌ أعطى الصَّنْعَة حقَّها، فقطَع سِلْعَةً من رجلٍ أو صبيٍّ أو مجنونٍ بغير إذنه أو إذن وليِّه، أو ختَن صبيًّا بغير إذن وليِّه فتلِف = فقال أصحابُنا: يَضمَن؛ لأنه تولَّدَ من فعلٍ غير مأذونٍ فيه، وإن أذن له البالغُ أو وليُّ الصبيِّ والمجنونُ لم يَضمَن.
ويحتمل أن لا يَضمن مطلقًا؛ لأنه مُحسِنٌ، وما على المُحسِنين من سبيلٍ،
وأيضًا فإنه إن كان مُتعدِّيًا فلا أثرَ لإذن الوليِّ في إسقاط الضمان، وإن لم يكن مُتعدِّيًا فلا وجهَ لضمانه
...

والطبيب في هذا الحديث يتناول مَن يَطُبُّ:
بوصفه وقوله وهو الذي يُخَصُّ باسم (الطَّبائعيِّ)،
وبمِرْوَدِه وهو (الكحَّال)،
وبمِبْضَعِه ومَراهِمِه وهو (الجرائحيُّ)،
وبموساه وهو (الخاتِن)،
وبريشتِه وهو (الفاصد)،
وبمَحاجِمِه ومِشْرَطِه وهو (الحجَّام)،
وبخلعِه ووصلِه ورباطِه وهو (المُجبِّر)،
وبمكواتِه ونارِه وهو (الكوَّاء)،
وبقِرْبَتِه وهو (الحاقِن)،

وسواءٌ كان طبُّه لحيوانٍ بهيمٍ أو إنسانٍ؛
فاسمُ الطبيب لغةً يُطلَق على هؤلاء كلِّهم كما تقدَّم،
وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادِثٌ، كتخصيص لفظ الدَّابَّة بما يَخُصُّها به كلُّ قومٍ.

زاد المعاد (٤ / ٢٠٠ - ٢٠٣).

قناة الكتاب الشهري

17 Nov, 01:37


هدي النبي ﷺ في علاج البدن بما اعتاده الإنسان من الغذاء والدواء:

قال ابن القيم رحمه الله:

فصلٌ: في هديه ﷺ في علاج الأبدان بما اعتادَتْهُ من الأدوية والأغذية دون ما لم تَعْتَدْهُ:

هذا أصلٌ عظيمٌ من أصول العلاج وأنفعُ شيءٍ فيه، وإذا أخطأه الطبيبُ ضَرَّ المريضَ من حيث يظنُّ أنه ينفعه، ولا يَعدِل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الأطباء إلا طبيبٌ جاهلٌ؛ فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها... والتجرُبة شاهِدةٌ بذلك.

ومن تأمَّلَ ما ذكرناه من العلاج النبوي رآه كلَّه مُوافِقًا لعادة العليل وأرضِه وما نشأ عليه، فهذا أصلٌ عظيمٌ من أصول العلاج يجب الاعتناء به، وقد صرَّح به أفاضِل أهل الطب، حتى قال طبيب العرب بل أطَبُّهم الحارث بن كَلَدَة - وكان فيهم كأبقراط في قومه -: «الحِمْيَة رأس الدواء، والمَعِدة بيت الداء، وعَوِّدوا كلَّ بدنٍ ما اعتاد».

وفي لفظٍ عنه: «الأَزْم دواءٌ»، والأَزْم: الإمساك عن الأكل، يعني به الجوع، وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائيَّة كلِّها؛
بحيث إنه أفضلُ في علاجها من المُستَفرِغات إذا لم يَخَفْ من كثرة الامتلاء وهَيَجان الأخلاط وحِدَّتِها وغَلَيانِها.

وقوله: «المَعِدة بيت الداء»... هي بيت الداء، وكانت مَحَلًّا للهضم الأول، وفيها ينطبخ الغذاء وينحدر منها بعد ذلك إلى الكَبِد والأمعاء، ويتخلَّف منه فيها فضلاتٌ قد عجزت القوة الهاضِمة عن تمام هضمِها؛
إما لكثرة الغذاء،
أو لرَداءتِه،
أو لسوء ترتيبٍ في استعماله،
أو لمجموع ذلك.
وهذه الأشياء بعضُها مِمَّا لا يتخلَّص الإنسان منها غالبًا، فتكون المَعِدة بيت الداء لذلك.
وكأنه يُشيرُ بذلك إلى الحَثِّ على تقليل الغذاء، ومنع النَّفْس من اتِّباع الشَّهَوات، والتَّحرُّز عن الفضلات.


وأما العادة، فلأنها كالطبيعة للإنسان؛ ولذلك يقال: العادة طبعٌ ثانٍ، وهي قوةٌ عظيمةٌ في البدن حتى إن أمرًا واحدًا إذا قيسَ إلى أبدانٍ مختلفة العادات كان مختلفَ النسبة إليها وإن كانت تلك الأبدان مُتَّفِقَةً في الوجوه الأُخَر.

مثال ذلك: أبدانٌ ثلاثةٌ حارة المِزاج في سِنِّ الشباب:
أحدها: عُوِّدَ تناوُل الأشياء الحارة،
والثاني: عُوِّدَ تناوُل الأشياء الباردة،
والثالث: عُوِّدَ تناوُل الأشياء المُتوسِّطَة؛
فإنَّ الأول متى تناوَل عسلًا لم يَضُرَّ به،
والثاني متى تناوَله أضَرَّ به،
والثَّالث يُضِرُّ به قليلًا.

فالعادة ركنٌ عظيمٌ في حفظ الصحة ومعالجة الأمراض؛ ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدنٍ على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغيرِ ذلك.

زاد المعاد (٤ / ١٦٨ - ١٧١).

قناة الكتاب الشهري

16 Nov, 10:58


هدي النبي ﷺ في الحِمْية:

قال ابن القيم رحمه الله:

الحِمْية حِمْيتان:
- حِمْيةٌ عمَّا يجلب المرض،
- وحِمْيةٌ عمَّا يزيده؛ فيقف على حاله.
فالأولى: حِمْية الأصِحَّاء،
والثانية: حِمْية المرضى؛
فإن المريض إذا احتمى وقف مرضُه عن التزايُد، وأخذت القوى في دفعه.

والأصل في الحِمْية: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [النساء: ٤٣]؛ فحمى المريضَ من استعمال الماء؛ لأنه يضرُّه.

وفي سنن ابن ماجه وغيره عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية قالت: دخل عليَّ رسول الله ﷺ، ومعه عليٌّ، وعليٌّ ناقِهٌ من مرضٍ، ولنا دوالٍ مُعلَّقَةٌ، فقام النبي ﷺ يأكل منها، وقام عليٌّ يأكل منها، فطفق رسول الله ﷺ يقول لعليٍّ: «إنك ناقِهٌ» حتى كَفَّ، قالت: وصنعتُ شعيرًا وسِلْقًا، فجئتُ به، فقال النبي ﷺ لعلي: «مِن هذا أصِبْ؛ فإنه أنفَعُ لك»، وفي لفظٍ: فقال: «مِن هذا فأصِبْ؛ فإنه أوفَقُ لك».

وفي سنن ابن ماجه أيضًا عن صهيب قال: قدمت على النبي ﷺ وبين يديه خبزٌ وتمرٌ، فقال: «ادْنُ فكُلْ»، فأخذتُ تمرًا فأكلت، فقال: «أتأكل تمرًا وبك رَمَدٌ؟» فقلت: يا رسول الله، أمضُغُ من الناحية الأخرى، فتبسَّمَ رسول الله ﷺ.

وفي حديثٍ محفوظٍ عنه ﷺ: «إن الله إذا أحَبَّ عبدًا حَماهُ الدنيا كما يحمي أحدُكم مريضَه عن الطعام والشراب»، وفي لفظٍ: «إن الله يحمي عبدَه المؤمنَ الدنيا».

وأما الحديث الدائر على ألسنة كثيرٍ من الناس: «الحِمْية رأس الدواء، والمَعِدة بيت الداء، وعَوِّدوا كلَّ جسدٍ ما اعتاد»، فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كَلَدَة طبيب العرب، ولا يصحُّ رفعُه إلى النبي ﷺ، قاله غير واحدٍ من أئمة الحديث.

زاد المعاد (٤ / ١٤٣ - ١٤٦).

قناة الكتاب الشهري

15 Nov, 19:09


من شروط الانتفاع بالدواء: قبوله واعتقاد النفع به:

قال ابن القيم رحمه الله:

مِن شرط انتفاع العليل بالدواء: قبوله واعتقاد النفع به، فتقبله الطبيعة، فتستعين به على دفع العِلَّة؛ حتى إن كثيرًا من المُعالَجات تنفع بالاعتقاد وحسن القبول وكمال التَّلقِّي، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب؛ وهذا لأن الطبيعة يشتدُّ قبولُها له، وتفرح النفس به، فتنتعش القوة، ويقوى سلطان الطبيعة، وينبعث الحارُّ الغريزيُّ، فيتساعد على دفع المؤذي.

وبالعكس: يكون كثيرٌ من الأدوية نافعًا لتلك العلة، فيقطع عملَه سوءُ اعتقاد العليل فيه وعدمُ أخذ الطبيعة له بالقبول، فلا يُجدِي عليها شيئًا.

واعتبِرْ هذا بأعظم الأدوية والأشفية، وأنفعِها للقلوب والأبدان والمعاش والمعاد والدنيا والآخرة، وهو القرآن
الذي هو شفاءٌ من كل داءٍ: كيف لا ينفع القلوبَ التي لا تعتقد فيه الشفاءَ والنفعَ، بل لا يزيدُها إلا مَرَضًا إلى مَرَضِها!

وليس لشفاء القلوب قطُّ دواءٌ أنفعُ من القرآن؛ فإنه شفاؤها التَّامُّ الكامل الذي لا يُغادِر فيها سَقَمًا إلا أبرأه، ويحفظ عليها صحتها المطلقة، ويحميها الحِمْيَة التَّامَّة من كل مؤذٍ ومُضِرٍّ.

ومع هذا فإعراضُ أكثر القلوب عنه، وعدمُ اعتقادها الجازم الذي لا ريبَ فيه أنه كذلك، وعدمُ استعماله، والعدولُ إلى الأدوية التي رَكَّبَها بنو جنسِها = حالَ بينها وبين الشفاء به، وغلبت العوائد، واشتدَّ الإعراض، وتمكَّنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب، وتربَّى المرضى والأطباء على علاج بني جنسهم، وما وضعه لهم شيوخهم ومَن يُعظِّمونه ويُحسِنون به ظنونَهم، فعَظُمَ المُصاب، واستحكَمَ الداء، وتركَّبت أمراضٌ وعللٌ أعيا عليهم علاجها، وكلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقَمَ أمرُها وقويَتْ، ولسان الحال ينادي عليهم:

ومِن العجائبِ والعجائبُ جَمَّةٌ
قُربُ الشفاءِ وما إليه وصولُ

كالعِيسِ في البَيْداء يقتُلُها الظَّما
والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ


زاد المعاد (٤ / ١٤٠ - ١٤١).

قناة الكتاب الشهري

14 Nov, 20:40


خاصية العدد سبعة:

قال ابن القيم رحمه الله:

وأما خاصِّيَّة السَّبْع فإنها قد وقعت قدَرًا وشرعًا:

- فخلَق الله ﷻ السماوات سبعًا، والأرض سبعًا، والأيام سبعًا.
- والإنسان كَمُلَ خلقُه في سبعة أطوارٍ.
- وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعًا، والسعي بين الصفا والمروة سبعًا، ورمي الجمار سبعًا سبعًا،
- وتكبيرات العيدين سبعٌ في الأولى.
- وقال ﷺ: «مُروهم بالصلاة لسبعٍ».
- وإذا صار للغلام سبع سنين خُيِّرَ بين أبويه في روايةٍ،
وفي أخرى: أبوه أحقُّ به من أمِّه، وفي ثالثةٍ: أمُّه أحقُّ به.
- وأمَرَ النبي ﷺ في مرضه أن يُصَبَّ عليه من سبع قِرَبٍ.
- وسخَّر الله الريح على قوم عادٍ سبع ليالٍ.
- ودعا النبي ﷺ أن يعينه الله على قومه بسبعٍ كسبع يوسف.
- ومَثَّلَ الله سبحانه ما يُضاعِف به صدقةَ المتصدِّقِ بحبةٍ أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ.
- والسنابل التي رآها صاحبُ يوسف سبعًا،
- والسنين التي زرعوها دأبًا سبعًا.
- وتُضاعَف الصدقةُ إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ.
- ويدخل الجنة من هذه الأمة بغير حسابٍ سبعون ألفًا.


فلا ريب أن لهذا العدد خاصِّيَّةً ليست لغيره.

والسبعة جمعت معاني العدد كلِّه وخواصَّه؛ فإن العدد شفعٌ ووترٌ، والشَّفع أوَّلٌ وثانٍ، والوتر كذلك، فهذه أربع مراتب: شفعٌ أوَّلٌ وثانٍ، ووترٌ أوَّلٌ وثانٍ.
ولا تجتمع هذه المراتب في أقلَّ من سبعةٍ.

وهي عددٌ كاملٌ جامعٌ لمراتب العدد الأربعة، أعني: الشَّفع والوتر، والأوائل والثَّواني.
ونعني بالوتر الأول: الثلاثة، وبالثاني: الخمسة، وبالشَّفع الأول: الاثنين، وبالثاني: الأربعة.

وللأطباء اعتناءٌ عظيمٌ بالسبعة، ولا سِيَّما في البَحَارين، وقد قال أبقراط: كل شيءٍ من هذا العالم فهو مُقدَّرٌ على سبعة أجزاءٍ: والنجوم سبعةٌ، والأيام سبعةٌ، وأسنان الناس سبعةٌ: أوَّلُها طفلٌ إلى سبعٍ، ثم صبيٌّ إلى أربع عشرة، ثم شابٌّ، ثم كهلٌ، ثم شيخٌ، ثم هَرِمٌ إلى منتهى العمر.

والله تعالى أعلمُ بحكمتِه وشرعِه وقَدَرِه في تخصيص هذا العدد: هل هو لهذا المعنى أو لغيره؟


زاد المعاد (٤ / ١٣٧ - ١٣٨).

قناة الكتاب الشهري

14 Nov, 13:27


تتمة في هدي النبي ﷺ في عدم إعطاء المرضى ما يكرهونه من الطعام والشراب:

قال ابن القيم رحمه الله:

وفي قوله ﷺ: «فإن الله يُطعِمُهم ويَسقيهم» معنًى لطيفٌ زائدٌ على ما ذكره الأطباء، لا يعرفه إلا مَن له عنايةٌ بأحكام القلوب والأرواح، وتأثيرِها في طبيعة البدن، وانفعالِ الطبيعة عنها كما تنفعل هي كثيرًا عن الطبيعة، ونحن نُشير إليه إشارةً، فنقول:

النَّفْسُ إذا حصل لها ما يشغلها مِن محبوبٍ أو مكروهٍ أو مَخُوفٍ: اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب، فلا تُحِسُّ بجوعٍ ولا عطشٍ، بل ولا حرٍّ ولا بردٍ، بل تشتغل به عن الإحساس بالمؤلمِ الشديدِ الألمِ فلا تُحِسُّ به، وما مِن أحدٍ إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئًا منه، وإذا اشتغلت النفس بما دَهَمَها ووَرَدَ عليها لم تُحِسَّ بألم الجوع.

فإن كان الوارد مُفَرِّحًا قَوِيَّ التفريح قام لها مقامَ الغذاء، فشبعَتْ به، وانتعشَتْ قُواها وتضاعفَتْ، وجرت الدَّمويَّة في الجسد حتى تَظهَرَ في سطحه، فيُشرِق وجهه، وتظهر دمويَّتُه؛ فإن الفرح يوجِبُ انبساطَ دم القلب، فينبعث في العروق فتمتلئ به، فلا تطلب الأعضاءُ معلومَها من الغذاء المعتاد؛ لاشتغالها بما هو أحبُّ إليها وإلى الطبيعة منه، والطبيعة إذا ظفرَتْ بما تحب آثَرَتْه على ما هو دونه.

وإن كان الوارد مُؤلِمًا أو مُحزِنًا أو مَخُوفًا اشتغلَتْ بمحاربته ومقاومته ومدافعته عن طلب الغذاء، فهي في حال حربها في شُغُلٍ عن طلب الطعام والشراب،
فإنْ ظفرَتْ في هذا الحرب انتعشَتْ قُواها وأخلفَتْ عليها نظيرَ ما فاتها من قوة الطعام والشراب، وإن كانت مغلوبةً مقهورةً انحطَّ من قُواها بحسب ما حصل لها من ذلك، وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدوِّ سِجالًا فالقوة تظهر تارةً وتختفي أخرى.

وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوَّين المتقاتلين، والنصر للغالب، والمغلوب إما قتيلٌ وإما جريحٌ وإما أسيرٌ.

فالمريض له مَدَدٌ من الله يُغَذِّيه به، زائدٌ على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدَّم، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربِّه ﷻ، فيحصل له من ذلك ما يوجِبُ له قُرْبًا من ربِّه؛ فإن العبد أقرب ما يكون من ربِّه إذا انكسر قلبُه، ورحمةُ ربِّه قريبٌ منه...

ومن غَلُظَ طبعُه وكَثُفَتْ نفسُه عن فهْم هذا والتصديق به، فلْينظرْ حال كثيرٍ من عُشَّاق الصُّوَر الذين قد امتلأتْ قلوبُهم بحبِّ ما يعشقونه من صورةٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو علمٍ، وقد شاهَدَ الناسُ من هذا عجائبَ في أنفسهم وفي غيرهم.

زاد المعاد (٤ / ١٢٨ - ١٣٠).

قناة الكتاب الشهري

13 Nov, 18:48


هدي النبي ﷺ في عدم إعطاء المرضى ما يكرهونه من الطعام والشراب:

قال ابن القيم رحمه الله:

روى الترمذي في جامعه وابن ماجه عن عقبة بن عامرٍ الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تُكرِهوا مرضاكم على الطعام والشراب؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يُطعِمُهم ويَسقيهم».

قال بعض فُضَلاء الأطباء: ما أغْزَرَ فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حِكَمٍ إلهيةٍ، لا سِيَّما للأطباء ولمَن يعالج المرضى؛ وذلك أن المريض إذا عافَ الطعامَ أو الشرابَ، فذلك لاشتغال الطبيعة بمُجاهدة المرض، أو لسقوط شهوته أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزيَّة أو خمودها، وكيفما كان فلا يجوز حينئذٍ إعطاء الغذاء في هذه الحال.

واعلم أن الجوع إنما هو طلب الأعضاء للغذاء لِتُخْلِفَ الطبيعةُ به عليها عِوضَ ما تحلَّلَ منها، فتَجذِبُ الأعضاءُ القصوى من الأعضاءِ الدنيا، حتى ينتهي الجذبُ إلى المَعِدة، فيُحِسُّ الإنسان بالجوع، فيطلب الغذاء.

فإذا وُجِدَ المرضُ اشتغلت الطبيعة بمادتِه وإنضاجِها وإخراجِها عن طلب الغذاء أو الشراب.

فإذا أُكرِهَ المريض على استعمال شيءٍ من ذلك: تعطَّلت به الطبيعة عن فعلها، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاجِ مادة المرض ودفعِه، فيكون ذلك سببًا لضرر المريض...

ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يحفظ عليه قُوَّتَه ويُقَوِّيها، من غير إشغالٍ مُزعِجٍ للطبيعة البتَّة، وذلك يكون بما لَطُفَ قِوامُه من الأشربة والأغذية واعتدل مزاجُه.


ومعنى الحديث أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياما لا يعيش الصحيح في مثلها.

زاد المعاد (٤ / ١٢٥ - ١٢٦).

يتبع...

قناة الكتاب الشهري

12 Nov, 20:18


تتمة في علاج الصرَع:

قال ابن القيم رحمه الله:

وأكثر تسلُّط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتَّعاويذ والتَّحصُّنات النبوية والإيمانية، فتَلْقى الروحُ الخبيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاحَ معه، وربما كان عريانًا، فتُؤَثِّرُ فيه.

هذا، ولو كُشِفَ الغطاء لرأيتَ أكثرَ النفوس البشرية صَرْعى مع هذه الأرواح الخبيثة،
وهي في أسْرِها وقبضتِها تَسوقُها حيث شاءت ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتُها،
وبها الصَّرَع الأعظم الذي لا يُفيقُ صاحبُه إلا عند المُفارَقَة والمُعايَنَة، فهناك يتحقَّق أنه كان هو المصروع حقيقةً، وبالله المُستعان.

وعلاج هذا الصَّرَع: باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرُّسُل، وأن تكون الجنة والنار نُصْبَ عينيه وقِبْلَةَ قلبِه، ويستحضرَ أهلَ الدنيا وحلولَ المَثُلات والآفات بهم، ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع القَطْر، وهم صرعى لا يُفيقون.
وما أشَدَّ إعداءَ هذا الصَّرَع!
ولكن لمَّا عَمَّتْ البَلِيَّة به بحيث لا يَرى إلا مصروعًا لم يَصِرْ مُستغرَبًا ولا مُستنكَرًا، بل صار لكثرة المصروعين: المُستنكَر المُستغرَب خلافُه.

فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا أفاق من هذه الصَّرْعة، ونَظَرَ إلى أبناء الدنيا مُطَرَّحين حولَه يمينًا وشِمالًا، على اختلاف طبقاتهم:
- فمنهم مَن قد أطْبَقَ به الجنونُ،
- ومنهم مَن يُفيقُ أحيانًا قليلةً ويعود إلى جنونِه،
- ومنهم مَن يُجَنُّ مرةً ويُفيقُ أخرى، فإذا أفاق عَمِلَ عَمَلَ أهل الإفاقة والعقل، ثم يُعاوِدُه الصَّرَع فيقع التخبيط.


زاد المعاد (٤ / ٩٤ - ٩٥).

قناة الكتاب الشهري

12 Nov, 12:30


علاج الصرَع:

قال ابن القيم رحمه الله:

الصَّرَع صَرَعان:
صَرَعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضيَّة،
وصَرَعٌ من الأخلاط الرَّدِيَّة.
والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء وفي سببه وعلاجه.

وأما صرَع الأرواح، فأئمَّتُهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه...
وأما جهلة الأطباء وسَقَطهم وسَفِلتهم ومَن يعتدُّ بالزندقة فضيلةً، فأولئك ينكرون صرَع الأرواح، ولا يقرُّون بأنها تؤثِّر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطِّبِّيَّة ما يدفع ذلك، والحِسُّ والوجود شاهدٌ به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادقٌ في بعض أقسامه لا في كلِّها...

وعلاج هذا النوع يكون بأمرين:
أمْرٍ من جهة المصروع،
وأمْرٍ من جهة المُعالِج.

فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفْسِه، وصدق توجُّهِه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتَّعوُّذِ الصحيحِ الذي قد تَواطَأَ عليه القلب واللسان.
فإنَّ هذا نوعُ مُحارَبَةٍ، والمُحارِب لا يتمُّ له الانتصاف من عدوِّه بالسلاح إلا بأمرين:
- أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا،
- وأن يكون الساعِد قويًّا.
فمتى تخلَّف أحدهما لم يُغْنِ السلاحُ كبيرَ طائلٍ، فكيف إذا عُدِم الأمران جميعًا: يكون القلب خرابًا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجُّه، ولا سلاحَ له؟

والثاني: من جهة المُعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا،
حتى إن مِن المُعالِجين مَن يكتفي بقوله: اخرج منه، أو يقول: بسم الله، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
والنَّبيُّ ﷺ كان يقول: «اخرج عدوَّ اللهِ، أنا رسولُ اللهِ».
وشاهدتُ شيخَنا [يعني ابن تيمية] يُرسِل إلى المصروع مَن يخاطب الروحَ التي فيه ويقول: قال لكِ الشيخُ: اخرجي؛ فإن هذا لا يَحِلُّ، فيُفيق المصروع. وربما خاطَبَه بنفسه.
وربما كانت الرُّوح مارِدةً فيُخرِجُها بالضرب، فيُفيق المصروع ولا يُحِسُّ بألمٍ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مِرارًا.
وكان كثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥]...
وكان يُعالِج بآية الكرسي، ويأمر بكثرة قراءة المصروع ومَن يُعالِجُه لها، وبقراءة المُعوِّذتَيْن.

زاد المعاد (٤ / ٩٠ - ٩٣).

قناة الكتاب الشهري

11 Nov, 17:30


الحجامة والفصْد:

قال ابن القيم رحمه الله:

أما منافع الحجامة: فإنها تُنقِّي سطحَ البدن أكثرَ من الفَصْد، والفَصْدُ لأعماق البدن أفضلُ، والحِجامة تستخرج الدَّمَ من نواحي الجلد.

قلت: والتحقيق في أمرها وأمر الفَصْد: أنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والأسنان والأمْزِجَة، فالبلاد الحارَّة والأزمنة الحارَّة والأمْزِجَة الحارَّة التي دمُ أصحابِها في غاية النُّضْج: الحجامةُ فيها أنفعُ من الفَصْد بكثيرٍ؛ فإن الدم ينضج ويَرِقُّ ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتُخرِجُه الحجامةُ ما لا يُخرِجُه الفصد؛ ولذلك كانت أنفعَ للصِّبْيان من الفصْد ولمَن لا يَقوَى على الفصد، وقد نَصَّ الأطباء على أن البلاد الحارَّة: الحجامةُ فيها أنفعُ وأفضلُ من الفصْد.


وتُستحَبُّ في وسَط الشهر وبعد وسطه، وبالجملة في الرُّبع الثالث من أرباع الشهر؛ لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعدُ قد هاجَ وتَبَيَّغَ، وفي آخره يكون قد سكن، وأما في وسطه وبُعَيْدَه، فيكون في نهاية التَّزَيُّد.

قال صاحب القانون: ويُؤمَر باستعمال الحِجامة، لا في أول الشهر؛ لأن الأخلاط لا تكون قد تحرَّكت وهاجت، ولا في آخره؛ لأنها تكون قد نقصت، بل في وسط الشهر؛ حين تكون الأخلاط هائجةً بائغةً في تزيُّدها لِتزيُّد النور في جِرْم القمر...

وقوله ﷺ: «خيرُ ما تداويتم به الحِجامة» إشارةٌ إلى أهل الحجاز والبلاد الحارَّة؛ لأن دماءَهم رقيقةٌ، وهي أمْيَلُ إلى ظاهر أبدانهم؛ لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد واجتماعها في نواحي الجلد؛ ولأن مَسامَّ أبدانِهم واسعةٌ وقُواهُم مُتخلخِلةٌ؛ ففي الفصْد لهم خطرٌ.

زاد المعاد (٤ / ٧٠ - ٧٢).

قناة الكتاب الشهري

11 Nov, 04:37


هدي النبي ﷺ في العلاج بشرب العسل والحِجامة والكيِّ:

قال ابن القيم رحمه الله:

في صحيح البخاري عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «الشفاء في ثلاثٍ: شَرْبةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ. وأنا أنهى أُمَّتي عن الكيِّ».

قال أبو عبد الله المازري: الأمراض الامتلائيَّة: إما أن تكون دمويَّةً أو صفراويَّةً أو بلغميَّةً أو سوداويَّةً.

فإن كانت دمويَّةً فشفاؤها إخراج الدم.

وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال الذي يَليقُ بكل خِلْطٍ منها.

وكأنه ﷺ نَبَّهَ بالعسل على المُسْهلات،
وبالحِجامة على الفَصْد، وقد قال بعض الناس: إن الفَصْد يدخل في قوله ﷺ: «شَرْطة مِحْجَمٍ».


فإذا أعيا الدواء فآخِرُ الطِّبِّ الكيُّ؛ فذَكره ﷺ في الأدوية؛ لأنه يُستعمَل عند غلبة الطِّباع لقُوى الأدوية، وحيث لا ينفع الدواء المشروب.

وقوله ﷺ: «وأنا أنهى أُمَّتي عن الكيِّ» وفي الحديث الآخر: «وما أحبُّ أن أكتوي» إشارةٌ إلى أن يُؤخَّر العلاج به حتى تَدفَع الضرورة إليه،
ولا يُعجَّل التداوي به؛ لِمَا فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألمٍ قد يكون أضعفَ من ألم الكيِّ. انتهى كلامه.

زاد المعاد (٤ / ٦٦).

قناة الكتاب الشهري

10 Nov, 04:00


المنع من الدخول إلى الأرض التي وقع بها الطاعون:

قال ابن القيم رحمه الله:

في المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها [الطاعون] عِدَّة حِكَمٍ:

أحدها: تجنُّب الأسباب المؤذية والبعد منها.

الثاني: الأخذ بالعافية التي هي مادَّة مصالح المعاش والمعاد.

الثالث: أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عَفِنَ وفَسَدَ، فيَمرَضُون.

الرابع: أن لا يُجاوِروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم...

الخامس: حِمْيَة النفوس عن الطِّيَرَة والعدوى؛ فإنها تتأثَّر بهما...

وبالجملة: ففي النهي عن الدخول في أرضه: الأمرُ بالحذر والحِمْيَة، والنهيُ عن التَّعرُّض لأسباب التَّلَف.
وفي النهي عن الفرار منه: الأمرُ بالتَّوكُّل والتَّسليم والتَّفويض.
فالأوَّل: تأديبٌ وتعليمٌ.
والثَّاني: تفويضٌ وتسليمٌ.


وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسَرْغَ لقيه أبو عبيدة بن الجرَّاح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال لابن عباسٍ: ادْعُ لي المهاجرين الأوَّلين، قال: فدعَوتُهم، فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا: فقال له بعضهم: خرجتَ لأمرٍ، فلا نرى أن ترجع عنه. وقال آخرون: معك بقيَّة الناس وأصحاب رسول الله ﷺ، فلا نرى أن تُقْدِمَهم على هذا الوباء.
فقال عمر: ارتفِعوا عنِّي.
ثم قال: ادْعُ لي الأنصار، فدعوتُهم له، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفِعوا عنِّي.
ثم قال: ادْعُ لي مَن هاهنا من مَشْيَخَة قريشٍ من مُهاجِرة الفتح، فدعوتُهم له، فلم يختلف عليه منهم رجلان: قالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء.
فأذَّن عمر في الناس: إنِّي مُصْبِحٌ على ظهرٍ، فأصبِحُوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجرَّاح: يا أمير المؤمنين، أَفِرارًا مِن قدَر الله؟! قال: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نَفِرُّ مِن قدَر الله إلى قدَر الله، أرأيتَ لو كان لك إبلٌ فهبطت واديًا له عُدْوَتان: إحداهما خصبةٌ، والأخرى جدبةٌ؛ ألستَ إن رعيتَها الخصبةَ رعيتَها بقدر الله، وإن رعيتَها الجَدْبةَ رعيتَها بقدر الله؟
قال: فجاء عبد الرَّحمن بن عوفٍ - وكان مُتغيِّبًا في بعض حاجته - فقال: إنَّ عندي في هذا علمًا: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «إذا كان بأرضٍ وأنتم بها فلا تَخرُجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تَقدُموا عليه».

زاد المعاد (٤ / ٥٧ - ٥٩).

قناة الكتاب الشهري

09 Nov, 09:28


من منافع العسل:

قال ابن القيم رحمه الله:

في الصحيحين من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبيَّ ﷺ فقال: إن أخي يشتكي بطنَه، وفي روايةٍ: استطلَقَ بطنُه، فقال: «اسقِه عسلًا»، فذهب، ثم رجع فقال: قد سقيتُه فلم يُغْنِ عنه شيئًا - وفي لفظٍ: فلم يَزِدْه إلا استطلاقًا ـ، مرَّتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول له: «اسقِه عسلًا»، فقال له في الثالثة أو الرابعة: «صَدَقَ اللهُ وكَذَبَ بطنُ أخيك!».

وفي صحيح مسلمٍ في لفظٍ له: إن أخي عَرِبَ بطنُه، أي: فسد هضمُه واعتلَّت معدتُه، والاسم: العَرَب بفتح الراء، والذَّرَب أيضًا.

والعسل فيه منافعُ عظيمةٌ:

- فإنه جِلاءٌ للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها،
- مُحلِّلٌ للرطوبات أكْلًا وطِلاءً،
- نافعٌ للمشايخ وأصحاب البلغم ومَن كان مزاجه باردًا رطبًا،
- وهو مُغَذٍّ مُلَيِّنٌ للطبيعة،
- حافظٌ لقوى المعاجين ولما اسْتُودِعَ فيه،
- مُذهِبٌ لكيفيَّات الأدوية الكريهة،
- مُنَقٍّ للكبد والصدر،
- مُدِرٌّ للبول،
- موافقٌ للسُّعال الكائن عن البلغم...
- وإذا جُعِل فيه اللَّحم الطَّريُّ حفِظ طراوتَه ثلاثة أشهرٍ، وكذلك إن جُعِل فيه القثَّاء والخيار والقَرْع والباذنجان،
- ويحفظ كثيرًا من الفاكهة ستَّة أشهرٍ،

- ويحفظ جُثَث الموتى، ويُسمَّى <الحافظ الأمين>،
- وإذا لُطِّخ به البدنُ المُقمَلُ والشَّعْرُ قتلَ قملَه وصِئْبانَه، وطوَّل الشَّعر وحسَّنه ونعَّمه،
- وإن اكتُحِلَ به جلا ظلمةَ البصر،
- وإن استُنَّ به بيَّضَ الأسنانَ وصقَلَها وحفِظَ صحتها وصحة اللَّثة،
- ويفتح أفواه العروق،
- ويُدِرُّ الطَّمْثَ،
- ولعقُه على الرِّيق يُذيبُ البلغم، ويغسل خَمْلَ المعدة ويدفع الفضلات عنها ويسخِّنها تسخينًا مُعتدِلًا ويفتح سُدَدَها، ويفعل ذلك بالكبد والكُلى والمثانة، وهو أقلُّ ضررًا لسُدَد الكبد والطحال من كل حلوٍ.

وهو مع هذا كلِّه مأمون الغائلة، قليل المضارِّ...
وهو غذاءٌ مع الأغذية، ودواءٌ مع الأدوية، وشرابٌ مع الأشربة، وحلوى مع الحلوى، وطِلاءٌ مع الأطلية، ومُفرِّحٌ مع المُفرِّحات.

فما خُلِقَ لنا شيءٌ في معناه أفضلَ منه، ولا مثلَه، ولا قريبًا، ولم يكن مُعوَّل القدماء إلا عليه،
وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسُّكَّر البتَّة ولا يعرفونه؛ فإنه حديث العهد حَدَثَ قريبًا.

زاد المعاد (٤ / ٤١ - ٤٣).

قناة الكتاب الشهري

08 Nov, 19:22


(بحَسْبِ ابنِ آدمَ لُقَيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه):

قال ابن القيم رحمه الله:

في المسند وغيره عنه ﷺ أنه قال: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحَسْبِ ابنِ آدمَ لُقَيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإنْ كان لا بُدَّ فاعلًا: فثُلثٌ لطعامه، وثُلثٌ لشرابه، وثُلثٌ لنفسه».

والأمراض نوعان:
أمراضٌ ماديةٌ تكون عن زيادة مادةٍ أَفرطَتْ في البدن حتى أضرَّتْ بأفعاله الطبيعية، وهي الأمراض الأكثرية،
وسببها:
- إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول،
- والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن،
- وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم،
- والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة.

فإذا ملأ الآدميُّ بطنَه من هذه الأغذية واعتاد ذلك: أوْرَثَتْه أمراضًا مُتنوِّعةً، منها بطيءُ الزوالِ وسريعُه،
فإذا توسَّطَ في الغذاء، وتناوَلَ منه قدرَ الحاجة، وكان مُعتَدِلًا في كمِّيَّتِه وكيفيَّتِه = كان انتفاع البدن به أكثرَ مِن انتفاعه بالغذاء الكثير.


ومراتب الغذاء ثلاثةٌ:
أحدها: مرتبة الحاجة.
والثانية: مرتبة الكفاية.
والثالثة: مرتبة الفضْلَة.

فأخبر النبي ﷺ أنه يكفيه لُقَيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فلا تَسقطُ قوتُه ولا تَضعُفُ معها، فإنْ تجاوَزَها فليأكل في ثلث بطنه، ويَدَع الثلث الآخَر للماء، والثالث للنَّفَس، وهذا مِن أنفع ما للبدن والقلب.

فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفَس وعرض له الكرب والتعب بحمله، بمنزلة حامل الحِمْل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحرُّكِها في الشهوات التي يستلزمها الشبع، فامتلاء البطن من الطعام مُضِرٌّ للقلب والبدن.

هذا إذا كان دائمًا أو أكثرِيًّا، وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة رضي الله عنه بحضرة النبي ﷺ من اللبن حتى قال: "والذي بعثك بالحق لا أجِدُ له مَسْلَكًا"، وأكل الصحابة بحضرته مِرارًا حتى شبعوا.

والشبع المُفرِط يُضعِفُ القُوى والبدنَ وإنْ أخْصَبَه، وإنَّما يَقوى البدنُ بحسب ما يَقبَلُ من الغذاء، لا بحسب كثرتِه.

زاد المعاد (٤ / ٢١ - ٢٢).

قناة الكتاب الشهري

08 Nov, 10:25


(لِكل داءٍ دواءٌ):

قال ابن القيم رحمه الله:

روى مسلمٌ في صحيحه من حديث... جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: «لكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أُصيبَ دواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذن الله عزَّ وجلَّ».

وفي الصحيحين... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له شفاءً».

وفي مسند الإمام أحمد... عن أسامة بن شَرِيك قال: كنت عند النبي ﷺ وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنَتَدَاوَى؟ فقال: «نعم يا عباد الله تَداوَوْا؛ فإنَّ الله لم يَضَعْ داءً إلا وَضَعَ له شفاءً، غير داءٍ واحدٍ». قالوا: ما هو؟ قال: «الهَرَم».

وفي لفظٍ: «إن الله لم يُنزِل داءً إلا أنزل له شفاءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه»...

وفي المسند والسنن عن أبي خِزامة قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ رُقًى نسترقيها، ودواءً نتداوى به، وتُقاةً نتَّقيها، هل تَرُدُّ من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي مِن قدر الله».

فقد تضمَّنت هذه الأحاديث إثباتَ الأسباب والمسبَّبات، وإبطال قول مَن أنكرها.

ويجوز أن يكون قوله: «لكلِّ داءٍ دواءٌ» على عمومه حتى يتناول الأدواءَ القاتلة، والأدواءَ الَّتي لا يمكن طبيبًا أن يُبرِئَها، ويكون الله ﷻ قد جعل لها أدويةً تُبرِئُها، ولكن طوى علمَها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علَّمهم الله؛ ولهذا علَّق النبي ﷺ الشفاءَ على مُصادفة الدواء للداء؛ فإنه لا شيءَ من المخلوقات إلا له ضِدٌّ، فكلُّ داءٍ له ضِدٌّ من الدواء يُعالَج بضِدِّه؛ فعلَّق النبي ﷺ البُرءَ بموافقة الداء للدواء، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرَّد وجودِه؛
فإن الدواء
- متى جاوز درجةَ الداء في الكيفيَّة، أو زاد في الكمِّيَّة على ما ينبغي: نَقَله إلى داءٍ آخر.
- ومتى قَصَرَ عنها: لم يَفِ بمقاومته وكان العلاج قاصرًا.
- ومتى لم يقع المُداوي على الدواء: لم يحصل الشِّفاء،
- ومتى لم يكن الزمان صالحًا لذلك الدواء: لم ينفع،
- ومتى كان البدنُ غيرَ قابلٍ له، أو القوةُ عاجزةً عن حمله، أو ثَمَّ مانعٌ يمنع من تأثيره: لم يحصل البُرْء؛ لعدم المصادفة،
- ومتى تمَّت المصادفة: حصل البُرْء ولا بُدَّ.

وهذا أحسن المَحْمَلَيْن في الحديث.

والثاني: أن يكون من العامِّ المرادِ به الخاصُّ، لا سِيَّما والداخلُ في اللفظ أضعافُ أضعافِ الخارجِ منه، وهذا يُستعمَل في كل لسانٍ، ويكون المراد أن الله لم يضع داءً يقبل الدواءَ إلا وضع له دواءً، فلا يدخل في هذا: الأدواءُ التي لا تقبل الدواء.
وهذا كقوله تعالى في الرِّيح التي سلَّطها على قوم عادٍ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾
[الأحقاف: ٢٥]، أي: كلَّ شيءٍ يقبل التدميرَ ومِن شأن الرِّيح أن تدمِّره. ونظائره كثيرةٌ.

زاد المعاد (٤ / ١٤ - ١٦).

قناة الكتاب الشهري

07 Nov, 14:35


الدواء الأقوى على الإطلاق:

قال ابن القيم رحمه الله:

نحن نقول: إنَّ هاهنا أمرًا آخرَ، نسبةُ طب الأطِبَّاء إليه كنسبة طب الطُّرُقِيَّة والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به حُذَّاقُهم وأئمَّتُهم؛ فإنَّ ما عندهم من العلم بالطب:
¤ منهم من يقول: هو قياسٌ،
¤ ومنهم من يقول: هو تجربةٌ،
¤ ومنهم من يقول: هو إلهامٌ ومناماتٌ وحدسٌ صائبٌ،
¤ ومنهم من يقول: أُخِذَ كثيرٌ منه من الحيوانات البهيميَّة،
- كما يُشاهَد السَّنانيرُ إذا أكلت ذواتِ السُّموم تعمد إلى السِّراج، فتَلِغُ في الزَّيت تتداوى به؛
- وكما رُئيت الحيَّاتُ إذا خرجت من بطون الأرض، وقد عَشِيت أبصارها، تأتي إلى ورق الرَّازِيانَج، فتُمِرُّ عيونها عليه؛
- وكما عُهِد من الطَّير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه.
وأمثال ذلك مِمَّا ذُكِرَ في مبادئ الطب.

وأين يقع هذا وأمثالُه من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله ﷺ بما ينفعُه ويضرُّه! فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء.

بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يَهْتَدِ إليها عقولُ أكابر الأطِبَّاء، ولم تَصِل إليها علومُهم وتجارُبُهم وأقْيِسَتُهم، من الأدوية القلبيَّة والرُّوحانيَّة، وقوَّة القلب واعتماده على الله ﷻ، والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتَّذلُّل له، والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتَّفريج عن المكروب؛ فإنَّ هذه الأدوية قد جرَّبَتْها الأمم على اختلاف أديانها ومَلِلها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علمُ أعلمِ الأطِبَّاء ولا تجربَتُه ولا قياسُه.

وقد جرَّبْنا نحن وغيرنُا من هذا أمورًا كثيرةً، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحِسِّيَّة؛ بل تصير الأدوية الحِسِّيَّة عندها بمنزلة أدوية الطُّرُقِيَّة عند الأطِبَّاء.

وهذا جارٍ على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجًا عنها، ولكنَّ الأسبابَ مُتنوِّعةٌ؛ فإنَّ القلب متى اتَّصل بربِّ العالمين، وخالقِ الدَّاء والدَّواء، ومُدبِّرِ الطبيعة ومُصرِّفها على ما يشاء = كانت له أدويةٌ أخرى غيرُ الأدوية التي يُعانيها القلبُ البعيدُ منه المُعرِضُ عنه.

وقد عُلِمَ أنَّ الأرواح متى قَوِيَتْ وقَوِيَت النفس والطبيعة تَعاوَنا على دفعِ الدَّاء وقهرِه، فكيف يُنكَر لمَن قَوِيَتْ طبيعتُه ونفسُه، وفرحت بقربها من بارئها، وأُنسِها به، وحبِّها له، وتنعُّمِها بذكره، وانصرافِ قُواها كلِّها إليه، وجمعِها عليه، واستعانتِها به، وتوكُّلِها عليه = أن يكونَ ذلك لها مِن أكبر الأدوية، وتوجِبَ لها هذه القوةُ دفعَ الألم بالكُلِّيَّة؟!

ولا يُنكِر هذا إلا أجهلُ الناس، وأغلظُهم حجابًا، وأكثفُهم نفسًا، وأبعدُهم عن الله وعن حقيقة الإنسانيَّة.

وسنذكر - إن شاء الله - السببَ الذي به أزالت قراءةُ الفاتحة داءَ اللَّدْغَة عن اللَّديغ الذي رُقِيَ بها فقام حتى كأنَّ ما به قَلَبَةٌ.

زاد المعاد (٤ / ١٢ - ١٤).

قناة الكتاب الشهري

07 Nov, 12:25


💎 إعلان:

موضوعنا لشهر جمادى الأولى: #طلب_العلم

رابط قناة الموضوع الشهري في التليجرام:
https://t.me/absarulislam

رابط قناة الموضوع الشهري في الواتساب:
https://whatsapp.com/channel/0029Va95H5XCnA7qw4crZe3F

أسأل الله أن ينفع به.

قناة الكتاب الشهري

06 Nov, 21:15


أيهما أنفع: الأدوية المُفرَدة أم المركَّبة؟

قال ابن القيم رحمه الله:

كان من هديه ﷺ: فعلُ التداوي في نفسه، والأمرُ به لمَن أصابه مرضٌ مِن أهله وأصحابه، ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى "أقراباذين"، بل كان غالب أدويتهم بالمُفرَدات، وربما أضافوا إلى المُفرَد ما يُعاوِنُه أو يكسر سَوْرَتَه، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها، من العرب والترك وأهل البوادي قاطبةً، وإنما عُنِيَ بالمُركَّبات الرومُ واليونانيون، وأكثر طب الهند بالمُفرَدات.

وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمْكَنَ التداوي بالغذاء لا يُعدَل إلى الدواء، ومتى أمْكَنَ بالبسيط لا يُعدَل إلى المُركَّب.

قالوا: وكلُّ داءٍ قُدِرَ على دفعه بالأغذية والحِمْيَة لم يُحاوَل دفعُه بالأدوية.

قالوا: ولا ينبغي للطبيب أن يولَعَ بسقي الأدوية؛ فإنَّ الدواءَ إذا لم يَجِدْ في البدن داءً يُحلِّلُه، أو وجد داءً لا يُوافِقُه، أو وجد ما يُوافِقُه فزادت كمِّيَّتُه عليه أو كيفيَّتُه = تَشَبَّثَ بالصحة وعَبَثَ بها.

وأربابُ التجاربِ من الأطباء طبُّهم بالمُفرَدات غالبًا، وهم أحدُ فِرَقِ الطبِّ الثلاثِ.

والتحقيق في ذلك: أن الأدوية مِن جنس الأغذية؛

فالأمة والطائفة التي غالِبُ أغذيتها المُفرَدات فأمراضُها قليلةٌ جدًّا وطبُّها بالمُفرَدات.

وأهل المُدُن الذين غلبت عليهم الأغذية المُرَكَّبَة يحتاجون إلى الأدوية المُرَكَّبَة، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مُرَكَّبَةٌ؛ فالأدوية المُرَكَّبَة أنفعُ لها.

وأمراض أهل البوادي والصحاري مُفرَدَةٌ؛ فيكفي في مُداواتِها الأدويةُ المُفرَدَة.


زاد المعاد (٤ / ١١ - ١٢).

قناة الكتاب الشهري

06 Nov, 10:47


قواعد طب الأبدان، وبيان اشتمال القرآن عليها:

قال ابن القيم رحمه الله:

ذَكَر مرض البدن في الحجِّ والصَّوم والوضوء؛ لسِرٍّ بديعٍ يُبَيِّنُ لك عظمةَ القرآن والاستغناءَ به لمَن فَهِمَه وعَقَلَه عن سواه.

وذلك أن قواعد طِبِّ الأبدان ثلاثةٌ:
① حفظ الصحة،
② والحِمْيَة عن المُؤْذي،
③ واستفراغ الموادِّ الفاسدة،

فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة:

① فقال في آية الصوم: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤]، فأباح الفطرَ للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلبًا لحفظ صحتِه وقوتِه لئلَّا يُذْهِبَها الصوم في السفر، لاجتماع شِدَّةِ الحركة وما توجِبُه من التحليل، وعدمِ الغذاء الذي يَخلُف ما تَحَلَّلَ، فتَخورُ القوة وتَضعُف؛ فأباح للمسافر الفطرَ حفظًا لصحتِه وقوتِه عمَّا يُضعِفُها.

③ وقال في آية الحج: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦]، فأباح للمريض ومَن به أذًى في رأسه من قَمْلٍ أو حِكَّةٍ أو غيرها أن يحلق رأسَه في الإحرام؛ استفراغًا لمادَّة الأبخِرة الرَّدِيَّة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشَّعر، فإذا حَلَقَ رأسَه تفتَّحت المَسامُّ، فخرجت تلك الأبخِرة منها.
فهذا الاستفراغ يُقاس عليه كلُّ استفراغٍ يؤْذِي انحباسُه.
والأشياء الَّتي يؤذي انحباسُها ومدافعتُها عشرةٌ: الدَّمُ إذا هاج، والمَنِيُّ إذا تبيَّغ، والبول، والغائط، والرِّيح، والقيء، والعُطاس، والنوم، والجوع، والعطش.
وكلُّ واحدٍ من هذه العشرة يُوجِبُ حبسُه داءً من الأدواء بحسبه.
وقد نَبَّهَ سبحانه باستفراغ أدناها ـ وهو البخار المُحتَقِن في الرأس ـ على استفراغ ما هو أصعبُ منه،
كما هي طريقة القرآن: التنبيه بالأدنى على الأعلى.

② وأما الحِمْيَة، فقال تعالى في آية الوضوء: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [النساء: ٤٣]، فأباح للمريضِ العُدولَ عن الماء إلى التراب؛ حِمْيَةً له أن يُصيبَ جسدَه ما يؤذيه.
وهذا تنبيهٌ على الحِمْيَة عن كلِّ مؤذٍ له مِن داخلٍ أو خارجٍ.


فقد أرشد سبحانَه عبادَه إلى أصول الطِّبِّ ومَجامِع قواعدِه، ونحن نذكر هدي رسول الله ﷺ في ذلك، ونُبَيِّنُ أنَّ هديَه فيه أكملُ هديٍ.

زاد المعاد (٤ / ٦ - ٧).

قناة الكتاب الشهري

05 Nov, 22:36


أنواع الأمراض:

قال ابن القيم رحمه الله:

ونحن نُتبِع ذلك بذكر فصولٍ نافعةٍ في هديه ﷺ في الطِّبِّ الذي تَطَبَّبَ به ووَصَفَه لغيره، ونُبَيِّنُ ما فيه من الحكمة التي تَعجَز عقولُ أكثرِ الأطِبَّاءِ عن الوصول إليها، وأنَّ نِسبةَ طِبِّهم إليها كنسبةِ طِبِّ العجائزِ إلى طِبِّهم؛ فنقول وبالله نستعين ومنه نَستَمِدُّ الحَوْلَ والقُوَّةَ:

المرض نوعان:
① مرض القلوب،
② ومرض الأبدان،

وهما مذكوران في القرآن.

ومرض القلوب نوعان:
① مرض شُبهةٍ وشَكٍّ،
② ومرض شَهوةٍ وغَيٍّ،

وكلاهما في القرآن.

قال تعالى في مرض الشُّبهة: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا﴾ [البقرة: ١٠]،
وقال تعالى: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مَثَلًا﴾ [المدثر: ٣١]،
وقال تعالى في حقِّ مَن دُعِيَ إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور: ٤٨ - ٥٠]. فهذا مرض الشُّبُهات والشُّكوك.

وأما مرض الشَّهَوات فقال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: ٣٢]. فهذا مرض شهوة الزِّنا.

وأما مرض الأبدان فقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١].

زاد المعاد (٤ / ٥ - ٦).

قناة الكتاب الشهري

05 Nov, 03:28


تتمة في بيان أن تأييد الله لنبيه محمد ﷺ ونصره على أعدائه من أظهر الأدلة على صدقه ﷺ:

قال ابن القيم رحمه الله:

فيلزمُكم ـ معاشرَ مَن كذَّبه ـ أحدُ أمرين لا بُدَّ لكم منهما:

إما أن تقولوا: لا صانعَ للعالَم ولا مُدَبِّرَ، ولو كان للعالم صانعٌ مُدبِّرٌ قديرٌ حكيمٌ لَأَخذ على يديه وقابَلَه أعظمَ مُقابَلَةٍ وجعله نكالًا للصالحين؛ إذ لا يَليقُ بالملوك غيرُ هذا، فكيف بمَلِك الأرض والسماوات وأحكم الحاكمين؟!


الثاني: نسبة الرب إلى ما لا يَليقُ به من الجَوْر والسَّفَه والظُّلم، وإضلالِ الخلقِ دائمًا أبد الآباد، ونُصرةِ الكاذبِ، والتمكينِ له في الأرض، وإجابةِ دعواتِه، وقيامِ أمرِه مِن بعدِه، وإعلاءِ كلماتِه دائمًا، وإظهارِ دعوتِه، والشهادةِ له بالنبوَّة قرنًا بعد قرنٍ على رؤوس الأشهاد في كل مَجْمَعٍ ونادٍ؛ فأين هذا مِن فعل أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين؟!

فلقد قدحتم في رب العالمين أعظمَ قدحٍ، وطعنتم فيه أشدَّ طعنٍ، أو أنكرتموه بالكُلِّيَّة.

ونحن لا نُنكِرُ أن كثيرًا من الكذَّابين قام في الوجود وظهرت له شوكةٌ، ولكن لم يَتِمَّ له أمرُه ولم تَطُلْ مُدَّتُه، بل سَلَّطَ عليه رُسُلَه وأتباعَهم فمَحقوا أثره وقَطعوا دابره واستأصلوا شأفته.

هذه سُنَّتُه في عبادِه منذ قامت الدنيا وإلى أن يَرِثَ الأرضَ ومَن عليها.


فلما سمع مني هذا الكلام قال: مَعاذَ اللهِ أن نقولَ إنه ظالمٌ أو كاذبٌ، بل كل مُنصِفٍ مِن أهل الكتاب يُقِرُّ بأنَّ مَن سلك طريقَه واقتفى أثرَه فهو من أهل النجاة والسعادة في الأخرى.

قلت له: فكيف يكون سالك طريق الكذَّاب ومقتفي أثرِه - بزعمِكم - من أهل النجاة والسعادة؟

فلم يَجِدْ بُدًّا من الاعتراف برسالته، ولكن لم يُرسَل إليهم.

قلت: فقد لزمك تصديقُه ولا بُدَّ، وهو قد تَواتَرَ عنه الأخبار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس كافَّةً كِتابِيِّهم وأُمِّيِّهم، ودعا أهلَ الكتاب إلى دينه، وقاتَلَ مَن لم يدخل في دينِه منهم حتى أَقَرَّ بالصَّغار والجِزْيَة؛ فبُهِتَ الكافرُ ونَهَضَ مِن فورِه.

والمقصود: أن رسول الله ﷺ لم يَزَلْ في جدال الكفار على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلِهم إلى أن تُوُفِّيَ، وكذلك أصحابُه مِن بعدِه، وقد أمر اللهُ سبحانَه بجدالِهم بالتي هي أحسنُ في السور المكية والمدنية، وأمره أن يَدْعُوَهم بعد ظهور الحجة إلى المُباهَلة، وبهذا قام الدين، وإنما جُعِلَ السيفُ ناصرًا للحُجَّة، وأعدلُ السيوف سيفٌ ينصر حُجَجَ اللهِ وبيِّناته.

زاد المعاد (٣/ ٨٠٩ - ٨١١).

قناة الكتاب الشهري

04 Nov, 18:25


تأييد الله لنبيه محمد ﷺ ونصره على أعدائه من أظهر الأدلة على صدقه ﷺ:

قال ابن القيم رحمه الله:

جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته مِن إسلامِ مَن يُرجى إسلامُه أو إقامةِ الحجةِ عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجزٌ عن إقامة الحجة، فليُوَلِّ ذلك أهلَه، وليُخَلِّ بين المَطِيِّ وحاديها والقوسِ وباريها، ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحُجَج التي تُلزِم أهلَ الكِتابَيْن الإقرارَ بأنه رسول الله، بما في كتبهم، وبما يعتقدونه، وبما لا يمكنهم دفعه = ما يزيد على مائة طريقٍ، ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمُصَنَّفٍ مُستَقِلٍّ.

ودارَ بيني وبين بعض علمائهم مناظرةٌ في ذلك، فقلت له في أثناء الكلام: لا يتم لكم القدح في نبوة نبينا ﷺ إلا بالطعن في الرب ﷻ والقدحِ فيه ونسبتِه إلى أعظم الظلم والسَّفَه والفساد ـ تعالى الله عن ذلك ـ، فقال: كيف يلزمنا ذلك؟ قلت: بل أبلغُ من ذلك، لا يَتِمُّ لكم ذلك إلا بجحودِه وإنكارِ وجودِه تعالى.

وبيان ذلك: أنه إذا كان محمدٌ عندَكم ليس بنبيٍّ صادقٍ، وهو بزعمكم ملكٌ ظالمٌ، فقد تهيَّأ له أن يفتريَ على الله ويتقوَّلَ عليه ما لم يَقُلْهُ، ثم يَتِمُّ له ذلك ويستمرُّ حتى يُحرِّم ويحلِّل ويفرض الفرائض ويُشرِّع الشرائع وينسخ المِلَل ويضرب الرقاب، ويقتل أتباعَ الرُّسُل وهم أهل الحق ويسبي نساءهم وأولادهم، ويغنم أموالَهم وديارَهم، ويَتِمُّ له ذلك حتى يفتح الأرضَ، وينسب ذلك كلَّه إلى أمْر الله له به ومحبتِه له، والربُّ تعالى يُشاهِدُه وما يفعلُ بأهل الحق وأتباع الرُّسُل، وهو مُستَمِرٌّ في الافتراء عليه ثلاثًا وعشرين سنةً، وهو مع ذلك كلِّه يؤيِّدُه وينصرُه ويُعلي أمرَه ويُمكِّنُ له مِن أسبابِ النصرِ الخارجةِ عن عادة البشر!!

وأبلغُ من ذلك أنه يُجيب دعواتِه ويُهلِك أعداءَه مِن غير فعلٍ منه نَفْسِه ولا سببٍ،
بل تارةً بدعائه، وتارةً يستأصلُهم سبحانه من غير دعاءٍ منه ﷺ، ومع ذلك يقضي له كلَّ حاجةٍ سأله إياها، ويَعِدُه كلَّ وعدٍ جميلٍ، ثم يُنجِزُ له وعدَه على أتَمِّ الوجوه وأهنئِها وأكملِها.

هذا وهو عندكم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أكذب ممن كذب على الله واستمرَّ على ذلك، ولا أظلم ممن أبطل شرائع أنبيائه ورُسُلِه، وسعى في رفعها من الأرض وتبديلها بما يريد هو، وقَتَلَ أولياءه وحِزبَه وأتباعَ رُسُلِه، واستمرَّتْ نصرتُه عليهم دائمًا، والله تعالى في ذلك كلِّه يُقِرُّه ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع منه الوتين، وهو يخبر عن ربه أنه أوحى إليه أنه لا أظلمَ ﴿مِمَّن افترى على اللهِ كذبًا أو قال أوحِيَ إليَّ ولم يوحَ إليه شيءٌ ومَن قال سأنزِلُ مِثْلَ ما أنزلَ اللهُ﴾ [الأنعام: ٩٣].

زاد المعاد (٣/ ٨٠٨ - ٨٠٩).

= يتبع

قناة الكتاب الشهري

03 Nov, 18:28


الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة لا يفيد إلا بالتزام طاعته ومتابعته:

قال ابن القيم رحمه الله:

إقرار الكافر الكِتابِيِّ للرسول ﷺ بأنه نبيٌّ لا يُدخِلُه في الإسلام ما لم يلتزم طاعتَه ومتابعتَه، فإذا تمسَّك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون رِدَّةً منه.

ونظير هذا قول الحَبْرَيْنِ له وقد سألاه عن ثلاث مسائل، فلما أجابهم قالا: نشهد أنك نبيٌّ، قال: «فما يمنعُكما مِن اتِّباعي؟» قالا: إنَّا نخاف أن تقتلنا يهود، ولم يُلزِمْهُما بذلك الإسلامِ.

ونظير ذلك شهادة عمِّه أبي طالبٍ له بأنه صادقٌ وأن دينَه مِن خير أديان البَرِيَّة، ولم تُدخِلْه هذه الشهادة في الإسلام.


ومَن تأمَّلَ ما في السيرة والأخبار الثابتة من شهادة كثيرٍ من أهل الكتاب والمشركين له بالرسالة وأنه صادقٌ، فلم تُدخِلْهم هذه الشهادة في الإسلام = عَلِم أن الإسلام أمرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعتِه ودينِه ظاهِرًا وباطِنًا.

وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ولم يَزِدْ، هل يُحكَم بإسلامه بذلك؟
على ثلاثة أقوالٍ، وهي ثلاث رواياتٍ عن الإمام أحمد:
إحداها: يُحكَم بإسلامه بذلك.
والثانية: لا يُحكَم بإسلامه حتى يأتيَ بشهادة أن لا إله إلا الله.
والثالثة: أنه إنْ كان مُقِرًّا بالتوحيد حُكِمَ بإسلامه، وإنْ لم يكن مُقِرًّا لم يُحكَم بإسلامه حتى يأتيَ به.
وليس هذا موضع استيفاء هذه المسألة، وإنما أشرنا إليها إشارةً.

وأهل الكِتابَيْنِ مُجمِعونَ على أن نبيًّا يَخرج في آخر الزمان، وهم ينتظرونه، ولا يَشُكُّ علماؤهم في أنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وإنما يمنعُهم من الدخول في الإسلام رئاستُهم على قومِهم وخضوعُهم لهم وما يَنالونه منهم من المال والجاه.

زاد المعاد (٣ / ٨٠٦ - ٨٠٧).

قناة الكتاب الشهري

02 Nov, 22:22


من فوائد ودروس هجْر الثلاثة الذين خُلِّفوا:

قال ابن القيم رحمه الله:

في نهي النبي ﷺ عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر مَن تخلَّف عنه: دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين،
فأراد هجْر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب،
وأما المنافقون فجُرمهم أعظم من أن يُقابَل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق ولا فائدة فيه.

وهكذا يفعل الرب ﷻ بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدِّب عبدَه المؤمن الذي يُحِبُّه وهو كريمٌ عندَه بأدنى زلةٍ وهفوةٍ، فلا يزال مستيقظًا حذرًا،
وأما مَن سقط مِن عينه وهان عليه فإنه يُخلِّي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له نعمةً، والمغرورُ يظنُّ أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عافية معها،

كما في الحديث المشهور: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عجَّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبدٍ شرًّا أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيَرِدُ القيامةَ بذنوبه».

وفيه دليلٌ أيضًا على هجران الإمام والعالِم والمُطاع لمَن فعل ما يستوجب العَتَب، ويكون هجرانه دواءً له؛ بحيث لا يَضعُف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكيفية والكمية عليه فيهلكه؛ إذ المرادُ تأديبُه لا إتلافُه.

وقوله: "حتى تنكَّرت ليَ الأرضُ فما هي بالتي أعرف"، هذا التنكُّر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض وفي الشجر والنبات، حتى يجده فيمَن لا يعلم حالَه من الناس، ويجده أيضًا المُذنِب العاصي بحسب جُرْمِه، حتى في خُلُق زوجتِه وولدِه وخادمِه ودابَّتِه، ويجده في نفسه أيضًا فتتنكَّر له نفسُه حتى ما كأنه هو ولا كأن أهلَه وأصحابَه ومَن يُشفِق عليه بالذين يعرفهم، وهذا سِرٌّ من الله لا يَخفى إلا على ميت القلب، وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة.. وما لِجُرحٍ بميتٍ إيلامُ

ومن المعلوم أن هذا التنكُّر والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم، ولكن لموت قلوبِهم لم يكونوا يشعرون به،
وهكذا القلب إذا استحكم مرضه واشتدَّ بالذنوب والإجرام لم يَجِدْ هذه الوحشة والتنكُّر ولم يُحِسَّ بها، وهذا علامة الشقاء وأنه قد أَيِسَ من عافية هذا المرض وأعيا على الأطباء شفاؤُه.

والخوفُ والهمُّ مع الرِّيبَةِ،
والأمنُ والسرورُ مع البراءةِ من الرِّيَبِ.
فما في الأرضِ أشجعُ مِن بريءٍ
ولا في الأرضِ أخوفُ مِن مُريبٍ


وهذا القدْر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتُلِيَ به ثم راجَعَ نفعًا عظيمًا من وجوهٍ عديدةٍ تَفوت الحصرَ، ولو لم يكن منها إلا استثمارُه مِن ذلك أعلامَ النبوَّة وذوقُه نفسَ ما أخبر به الرسول ﷺ، فيصير تصديقُه ضروريًّا عنده، ويصير ما ناله مِن الشر بمعاصيه ومِن الخير بطاعاته = مِن أدلة صدق النبوة الذَّوْقِيَّة التي لا يتطرَّق إليها الاحتمالات.

وهذا كمَن أخبرك أن في هذه الطريق مِن المَعاطِب والمَخاوِف كيت وكيت على التفصيل، فخالفتَه وسلكتَها، فرأيتَ عينَ ما أخبرك به، فإنك تشهدُ صدقَه في نفسِ خلافِك له،
وأما إذا سلك طريق الأمن وحدَها ولم يَجِدْ مِن تلك المَخاوِف شيئًا، فإنه وإن شهدَ صدقَ المُخبِر بما ناله من الخير والظَّفَر فيها مُفَصَّلًا، فإنَّ علمَه بتلك يكون مُجْمَلًا.


زاد المعاد (٣ / ٧٢٧ - ٧٢٩).

قناة الكتاب الشهري

01 Nov, 18:47


واقعة قسمة غنائم حُنين:

قال ابن القيم رحمه الله:

لمَّا أعطى رسول الله ﷺ [في غزوة حنينٍ] ما أعطى من تلك العطايا في قريشٍ وفي قبائل العرب ولم يَكُ في الأنصار منها شيءٌ، وَجَدَ هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسِهم حتى كثُرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله ﷺ قومَه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لِما صنعتَ في هذا الفيء الذي أصبتَ؛ قسمتَ في قومك وأعطيتَ عطايا عظامًا في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيءٌ، قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» فقال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة»، قال: فجاء رجالٌ من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم.

فلما اجتمعوا أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار، فأتاهم رسولُ الله ﷺ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: «يا مَعْشَرَ الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم وجِدَةٌ وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتِكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي، وأعداءَ فألَّفَ اللهُ بين قلوبكم؟».
قالوا: اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضلُ.
ثم قال: «ألا تُجيبوني يا معشر الأنصار؟».
قالوا: بماذا نُجيبُك يا رسولَ الله، لِله ولِرسولِه المَنُّ والفضلُ.
قال: «أمَا والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتم ولصُدِّقْتم: أتيتَنا مُكذَّبًا فصدَّقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآوَيْناك، وعائلًا فآسَيْناك، أوَجَدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعةٍ من الدنيا تألَّفتُ بها قومًا ليُسلِموا ووَكَلْتًكم إلى إسلامِكم؟ ألا تَرْضَوْن يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رِحالِكم؟ فوالذي نفسُ محمدٍ بيده لَمَا تنقلبون به خيرٌ مِمَّا ينقلبون به، ولولا الهجرةُ لكنتُ امْرءًا من الأنصار، ولو سلك الناسُ شِعبًا ووادِيًا وسلكَتِ الأنصار لسلكتُ شِعبَ الأنصارِ ووادِيَها، الأنصار شِعارٌ والناس دِثارٌ، اللهم ارحم الأنصارَ وأبناءَ الأنصارِ وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ».

قال: فبكى القوم حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رضينا برسول الله ﷺ قَسْمًا وحَظًّا.

زاد المعاد (٣ / ٥٨٨ - ٥٨٩).

قناة الكتاب الشهري

31 Oct, 19:39


قوة الشخص وضعفه بحسب ما يغلب على قلبه من أسباب القوة والضعف:

قال ابن القيم رحمه الله:

في الحديث الصحيح: «أتدرون ما المُوجِبَتانِ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومَن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار».

يريد أن التوحيد والشرك رأس الموجِباتِ وأصلها، فهُمَا بمنزلة السُّمِّ القاتلِ قطعًا، والتِرْياقِ المُنجِي قطعًا.


وكما أن البدن قد تعرض له أسبابٌ رَدِيَّةٌ لازمةٌ توهِنُ قوتَه وتُضعِفُها، فلا ينتفع معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة، بل تُحيلُها تلك المواد الفاسدة إلى طبعها وقوتها، فلا يزداد بها إلا مرضًا،
وقد تقوم به موادُّ صالحةٌ وأسبابٌ مُوافِقَةٌ توجِبُ قوتَه وتَمَكُّنَه من الصحة وأسبابِها، فلا تكاد تضرُّه الأسباب الفاسدة، بل تُحيلُها تلك المواد الفاضلة إلى طبعها،
= فهكذا موادُّ صحةِ القلبِ وفسادِه.


فتأمَّلْ قوة إيمان حاطبٍ التي حملَتْه على شهود بدرٍ وبذْلِه نفسَه مع رسول الله ﷺ وإيثارِه اللهَ ورسولَه على قومه وعشيرته وأقاربه وهم بين ظهرانَي العدو وفي بلدهم، ولم يَثْنِ ذلك عِنانَ عزمِه ولا فَلَّ مِن حَدِّ إيمانه ومواجهته بالقتال لمَن أهلُه وعشيرتُه وأقاربُه عندهم،
فلما جاء مرض الجَسِّ برزت إليه هذه القوة، وكان البحران صالحًا، فاندفع المرض، وقام المريض كأنْ لم يكن به قَلَبَةٌ،
ولما رأى الطبيبُ قوةَ إيمانِه قد اسْتَعْلَتْ على مرض جَسِّه وقَهَرَتْه قال لمَن أراد فَصْدَه: لا يحتاج هذا العارِض إلى فِصادٍ، «وما يدريك؟! لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم».

وعكْس هذا ذو الخويصرة التميمي وأضرابُه من الخوارج، الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حَدٍّ يَحقِر أحدُ الصحابة عملَه معهم، كيف قال فيهم: «لئِن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتلَ عادٍ»، وقال: «اقتلوهم فإنَّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمَن قَتَلَهم»، وقال: «شَرُّ قتلى تحت أديم السماء»؛
فلم ينتفعوا بتلك الأعمال العظيمة مع تلك المواد الفاسدة المُهلِكة، واستحالت فاسدةً.


وتأمَّلْ حالَ إبليس، لما كانت المادة المُهلِكة كامنةً في نفسه لم ينتفع معها بما سَلَفَ مِن طاعاته ورجع إلى شاكلته وما هو أولى به.

وكذلك الذي آتاه اللهُ آياتِه فانسلخَ منها فأُتْبَعَه الشيطانُ فكان مِن الغاوينَ، وأضرابه وأشكاله.

فالمُعَوَّلُ على السرائر والمقاصد والنِّيَّات والهِمَم؛ فهي الإكسير الذي يَقلِبُ نُحاسَ الأعمالِ ذَهَبًا أو يَرُدُّها خَبَثًا، وبالله التوفيق.

ومَن له لُبٌّ وعقلٌ يعلم قدرَ هذه المسألةِ وشدةَ حاجتِه إليها وانتفاعِه بها، ويطَّلع منها على بابٍ عظيمٍ من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمتِه في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، وأحكامِ الموازنة، وإيصالِ اللَّذَّة والألم إلى الروح والبدن في المَعاش والمَعاد، وتَفاوُتِ المراتبِ في ذلك بأسبابٍ مُقتَضِيَةٍ بالِغَةٍ مِمَّن هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبَتْ.

زاد المعاد (٣ / ٥٢١ - ٥٢٣).

قناة الكتاب الشهري

30 Oct, 17:56


من أحداث فتح مكة:

قال ابن القيم رحمه الله:

قال أبو هريرة رضي الله عنه: أقبَلَ رسول الله ﷺ فدخل مكة، فبعث الزبير على إحدى المَجنبَتَيْن، وبعث خالدًا على المَجْنبَة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادي، ورسولُ الله ﷺ في كتيبته، قال: وقد وَبَّشَتْ قريشٌ أوباشًا لها فقالوا: نُقدِّم هؤلاء، فإنْ كان لقريشٍ شيءٌ كنا معهم، وإنْ أصيبوا أَعْطَيْنا الذي سُئِلْنا، فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا هريرة»، فقلت: لبيك رسولَ الله، فقال: «اهْتِفْ لي بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاريٌّ»، فهتف بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله ﷺ، فقال: «تَرَوْنَ إلى أوباشِ قريشٍ وأتباعِهِم؟» ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: «احصدوهم حصدًا حتى تُوافوني بالصفا»، فانطلقنا، فما يشاء أحدٌ منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحدٌ منهم يُوجِّه إلينا شيئًا.

ورُكِزَتْ راية رسول الله ﷺ بالحَجون عند مسجد الفتح، ثم نهض رسول الله ﷺ والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله حتى دخل المسجد، فأقبَل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وفي يده قوسٌ، وحول البيت وعليه ثلاثمائةٍ وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١]، ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: ٤٩]، والأصنام تتساقط على وجوهها.

وكان طوافه على راحلته، ولم يكن مُحرِمًا يومئذٍ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففُتحَتْ، فدخلها فرأى فيها الصوَر ورأى صورةَ إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فقال: «قاتلهم الله، والله إن استقسما بها قطُّ»، ورأى في الكعبة حمامةً من عيدان فكسرها بيده، وأمر بالصوَر فمُحِيَتْ ....

ثم فتح الباب وقريشٌ قد ملأت المسجدَ صفوفًا ينظرون ماذا يصنع، فأخذ بعِضادَتَي الباب وهم تحته، فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعدَه ونصر عبدَه وهزم الأحزاب وحدَه، ألا كلُّ مأثرةٍ أو مالٍ أو دمٍ فهو تحت قَدَمَيَّ هاتَيْنِ، إلا سِدانةَ البيتِ وسِقايةَ الحاجِّ،
ألا وقتلُ الخطأ شِبْهُ العمدِ السوطُ والعصا ففيه الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً مائةٌ من الإبل أربعون منها في بطونِها أولادُها،
يا معشر قريش، إن الله قد أذهَبَ عنكم نخوة الجاهلية وتَعَظُّمَها بالآباء، الناس مِن آدم وآدم مِن ترابٍ»،
ثم تلا هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣].

ثم قال: «يا معشر قريشٍ، ما ترون أني فاعلٌ بكم؟» قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ، قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْريبَ عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء».

زاد المعاد (٣ / ٤٩٤ - ٤٩٧).

قناة الكتاب الشهري

29 Oct, 15:56


تتمة قصة إسلام أبي سفيان:

قال ابن القيم رحمه الله:

فلما أصبحَ غدوتُ به إلى رسول الله ﷺ، فلما رآه رسول الله ﷺ قال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يَأْنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟» فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمَك وأكرمَك وأوصلَك! لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إلهٌ غيرُه لقد أغنى شيئًا بعدُ.

قال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يَأْنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمَك وأكرمَك وأوصلَك! أمَّا هذه فإنَّ في النفس حتى الآن منها شيئًا، فقال له العباس: ويحك! أسْلِمْ واشهدْ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله قبل أن يَضربَ عنقَك، فأسلَم وشهد شهادةَ الحق، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، قال: «نعم، مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِنٌ، ومَن أغْلَقَ عليه بابَه فهو آمِنٌ، ومَن دخل المسجد فهو آمِنٌ».

وأمر العباسَ أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تَمُرُّ به جنودُ الله فيراها، ففعل، فمَرَّت القبائل على راياتها، كلما مَرَّتْ قبيلةٌ قال: يا عباسُ، مَن هذه؟ فأقول: سُلَيْمٌ، قال: يقول: ما لي ولسُليم، ثم تَمُرُّ به القبيلة فيقول: يا عباسُ، مَن هؤلاء؟ فأقول: مُزَيْنَةٌ، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تَمُرُّ به قبيلةٌ إلا سألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان، حتى مَرَّ به رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرَى منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله! يا عباسُ، مَن هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقةٌ، ثم قال: والله يا أبا الفَضْلِ لقد أصبح مُلْكُ ابنِ أخيك اليومَ عظيمًا، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النُّبُوَّة، قال: فنعم إذًا، قال: قلت: النَّجاء إلى قومِك.

زاد المعاد (٣ / ٤٩٠ - ٤٩١).

قناة الكتاب الشهري

28 Oct, 20:06


قصة إسلام أبي سفيان:

قال ابن القيم رحمه الله:

لمَّا نزل رسولُ الله ﷺ مَرَّ الظهران... ركب العباسُ رضي الله عنه بغلةَ رسول الله ﷺ البيضاءَ، وخرج يلتمس لعلَّه يجد بعض الحَطَّابة أو أحدًا يُخبر قريشًا؛ ليخرجوا يستأمنون رسول الله ﷺ قبل أن يدخلها عنوةً، قال: فوالله إني لأسير عليها إذْ سمعتُ كلام أبي سفيان وبُديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيتُ كالليلة نيرانًا قَطُّ ولا عسكرًا، قال: يقول بديل: هذه واللهِ خُزاعةُ حَمَشَتْها الحربُ، فيقول أبو سفيان: خُزاعةُ أقلُّ وأذلُّ مِن أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفتُ صوتَه، فقلت: أبا حَنظَلَةَ! فعرف صوتي، فقال: أبا الفَضْلِ؟ قلت: نعم، قال: ما لك فِداك أبي وأمي؟ قال: قلت: هذا رسولُ الله ﷺ في الناس واصَباحَ قريشٍ واللهِ! قال: فما الحيلةُ فِداك أبي وأمي؟ قلت: والله لَئِن ظفر بك ليضربنَّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتِيَ بك رسولَ الله ﷺ فأستأمِنَه لك، فركب خلفي ورجع صاحباه.

قال: فجئتُ به، فكلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين قالوا: مَن هذا؟ فإذا رأوا بغلةَ رسول الله ﷺ وأنا عليها قالوا: عَمُّ رسول الله ﷺ على بغلتِه، حتى مررتُ بنار عمر بن الخطاب فقال: مَن هذا؟ وقام إِلَيَّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدوُّ الله؟ الحمد لله الذي أمْكَنَ منك بغير عقدٍ ولا عهدٍ، ثم خرج يشتدُّ نحو رسول الله ﷺ، وركضتُ البغلةَ فسبقتُ، فاقتحمتُ عن البغلة فدخلت على رسول الله ﷺ، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعْني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجَرْتُه، ثم جلستُ إلى رسول الله ﷺ فأخذتُ برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلةَ أحدٌ دوني.

فلما أكْثَرَ عمرُ في شأنه قلتُ: مهلًا يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعبٍ ما قلتَ مثل هذا، قال: مهلًا يا عباس، فواللهِ لَإسلامُك كان أحَبَّ إلَيَّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفتُ أن إسلامك كان أحَبَّ إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب، فقال رسول الله ﷺ: «اذهب به يا عباسُ إلى رَحْلِك، فإذا أصبحتَ فأتِني به»، فذهبت.

زاد المعاد (٣ / ٤٨٨ - ٤٩٠).

= يتبع

قناة الكتاب الشهري

28 Oct, 11:01


تتمة أحداث غزوة مؤتة:

قال ابن القيم رحمه الله:

فمضى الناس حتى إذا كانوا بتُخوم البلقاء لقيتْهم الجموع بقريةٍ يقال لها: "مشارف"، فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبَّى المسلمون ثم اقتتلوا، والراية في يد زيد بن حارثة، فلم يَزَلْ يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخَرَّ صريعًا.

فأخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فَرَسِه فعَقَرَها، ثم قاتل حتى قُتِلَ، فكان جعفر أولَ مَن عقر فرسه في الإسلام عند القتال، فقُطِعَتْ يمينُه فأخذ الراية بيساره، فقُطِعَتْ يسارُه فاحتضن الراية حتى قُتِلَ، وله ثلاثٌ وثلاثون سنةً.

ثم أخذها عبدالله بن رواحة وتقدَّم بها وهو على فَرَسِه، فجعل يستنزل نفسَه ويتردَّدُ بعضَ التردُّد، ثم نزل،
فأتاه ابنُ عمٍّ له بعرقٍ من لحمٍ فقال: شُدَّ بها صُلْبَك؛ فإنك قد لقيتَ أيامك هذه ما لقيتَ، فأخذها من يده فانتهس منها نهسةً، ثم سمع الحَطمة في ناحية الناس فقال: "وأنت في الدنيا؟!" ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفَه وتقدَّم فقاتل حتى قُتِلَ.

ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني عجلان فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجلٍ منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعلٍ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القومَ وحاشى بهم، ثم انحاز وانصرف بالناس.

وقد ذكر ابن سعدٍ أن الهزيمة كانت على المسلمين،
والذي في صحيح البخاري أن الهزيمة كانت على الروم،
والصحيح ما ذكره ابن إسحاقٍ أن كل فئةٍ انحازت عن الأخرى.

وأطْلَعَ اللهُ ﷻ على ذلك رسولَه من يومهم ذلك، فأخْبَرَ به أصحابَه
... قال موسى بن عقبة: قدم يعلى بن مُنْيَة على رسول الله ﷺ بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله ﷺ: «إن شئتَ فأخْبِرْني، وإن شئتَ أخْبَرْتُكَ»، قال: فأخبِرْني يا رسول الله، فأخْبَرَه ﷺ خبرهم كلَّه ووَصَفَهم له، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركتَ من حديثهم حرفًا واحدًا لم تذكرْه، وإن أمرَهم لَكما ذكرتَ، فقال رسول الله ﷺ: «إن الله رفع لي الأرضَ حتى رأيتُ مُعتَرَكَهم».

زاد المعاد (٣ / ٤٦٣ - ٤٦٥).

قناة الكتاب الشهري

27 Oct, 20:56


من أحداث غزوة مؤتة:

قال ابن القيم رحمه الله:

وهي [يعني مؤتة] بأدنى البلقاء من أرض الشام، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمانٍ، وكان سببها أن رسول الله ﷺ بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لِهْبٍ بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بُصرَى، فعرض له شرحبيل بن عمرٍو الغسَّاني فأوثقه رباطًا ثم قدَّمه فضرب عنقه، ولم يُقتَل لرسول الله ﷺ رسولٌ غيره، فاشتدَّ ذلك عليه حين بلغه الخبر، فبعث البعوث، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «إنْ أُصيب فجعفر بن أبي طالبٍ على الناس، فإنْ أُصيب جعفر فعبدُالله بن رَواحةَ».

فتجهَّز الناسُ وهم ثلاثة آلافٍ،
فلما حضر خروجهم ودَّع الناسُ أمراءَ رسول الله ﷺ وسلَّموا عليهم، فبكى عبدالله بن رواحة، فقالوا: ما يُبكيك؟ فقال: "أما والله ما بي حُبُّ الدنيا ولا صبابةٌ بكم، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آيةً من كتاب الله يذكر فيها النار: ﴿وَإِن مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٧١]، فلستُ أدري كيف لي بالصَّدْر بعد الورود؟"، فقال المسلمون: صَحِبَكم الله ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:

لـكـنـنـي أسـألُ الـرحمنَ مغفرةً
وضربةً ذاتَ فَرْغٍ تقذف الزَّبَدا

أو طعنةً بِـيَدَيْ حرَّانَ مُجهِزَةً
بحَرْبَةٍ تَنفُذُ الأحشاء والكَبِدا

حتى يُقالَ إذا مَرُّوا على جَدَثي
يا أرشَدَ اللهُ مِن غازٍ وقد رَشَدا


ثم مَضَوْا حتى نزلوا مَعانَ، فبلغ الناسَ أن هِرَقْلَ بالبلقاء في مائةِ ألفٍ من الروم، وانضم إليهم من لَخْمٍ وجُذام وبَلْقَيْن وبَهْراءَ وبَلِي مائةُ ألفٍ، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ﷺ فنخبره بعَدَد عدونا، فإما أن يُمِدَّنا بالرجال وإما أن يأمرَنا بأمره فنمضيَ له، فشجَّع الناسَ عبدُالله بن رواحة وقال: "يا قومِ، والله إن الذي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نُقاتِلُ الناسَ بعَددٍ ولا قوةٍ ولا كثرةٍ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمَنا الله به، فانطلِقوا؛ فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظَفَرٌ وإما شهادةٌ".

زاد المعاد (٣ / ٤٦٠ - ٤٦٢).

قناة الكتاب الشهري

27 Oct, 03:41


بيان بعض الحِكم والمصالح المترتبة على صلح الحديبية:

قال ابن القيم رحمه الله:

فصلٌ: في الإشارة إلى بعض الحِكَم التي تضمنتها هذه الهدنة [هدنة الحديبية] وهي أكبرُ وأجلُّ من أن يُحيطَ بها إلا الله الذي أحْكَمَ أسبابها، فوقعت الغايةُ على الوجه الذي اقتضتْه حكمته وحمده.

فمنها: أنها كانت مقدمةً بين يدي الفتح الأعظم الذي أعزَّ الله به رسولَه وجندَه ودخل الناسُ به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومُؤْذِنًا بين يديه.
وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العِظام التي يقضيها شرعًا وقدرًا أن يُوَطِّئَ لها بين يديها مقدماتٍ وتوطئاتٍ تُؤْذِنُ بها وتَدُلُّ عليها.


ومنها: أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح؛ فإنَّ الناسَ أَمِنَ بعضُهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادَؤُوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن وناظروهم على الإسلام جهرةً آمِنين، وظهر مَن كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة مَن شاء الله أن يدخل؛ ولهذا سمَّاه الله ﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١]، قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاءً عظيمًا، وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية.

وحقيقة الأمر أن الفتح في اللغة: فتح المُغلَق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مُغلَقًا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتْحِه صدُّ رسولِ الله ﷺ وأصحابِه عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضَيْمًا وهَضْمًا للمسلمين، وفي الباطن عِزًّا ونصرًا وفتحًا، وكان رسول الله ﷺ ينظر إلى ما وراءه مِن الفتح العظيم والعز والنصر مِن وراء سترٍ رقيقٍ، وكان يُعطي المشركين كلَّ ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو ﷺ يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوبٍ ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦].
وربما كان مكروهُ النفوسِ إلى
محبوبِـهـا سببًا مـا مِثْلُـه سببُ


فكان يَدخل على تلك الشروط دخولَ واثقٍ بنصر الله له وتأييده، وأن العاقبة له، وأن تلكَ الشروطِ واحتمالَها هو عين النصرة، وهي من أكبر الجند الذي أقامه المُشترِطون ونصبوه لحربهم وهم لا يشعرون، فذَلُّوا من حيث طلبوا العِزَّ، وقُهِروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغَلَبَة، وعَزَّ رسولُ الله ﷺ وعساكرُ الإسلام من حيث انكسروا لله واحتملوا الضَيْمَ له وفيه، فدارَ الدَّوْرُ وانعكسَ الأمرُ وانقلبَ العِزُّ بالباطلِ ذُلًّا بحقٍّ، وانقلبت الكسرة لله عِزًّا بالله، وظهرت حكمةُ الله وآياتُه وتصديقُ وعدِه ونصرُ رسولِه على أتمِّ الوجوه وأكملِها التي لا اقتراحَ للعقول وراءَها.

ومنها: ما سَبَّبَه الله سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد على ما أحبُّوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله، وتصديقِ موعودِه، وانتظارِ ما وُعِدوا به، وشهودِ مِنَّة الله عليهم ونعمته بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم أحوجَ ما كانوا إليها في تلك الحال التي تَزَعْزَعُ لها الجبال، فأنزل عليهم مِن سكينتِه ما اطْمَأَنَّتْ به قلوبُهم وقَوِيَتْ به نفوسُهم وازدادوا به إيمانًا.

زاد المعاد (٣ / ٣٦٦ - ٣٦٨).

قناة الكتاب الشهري

26 Oct, 12:25


قصة صلح الحديبية:

قال ابن القيم رحمه الله:

جاء سُهَيْل بن عمروٍ، فقال النبي ﷺ: «قد سَهُلَ لكم مِن أمرِكم»، فقال: هاتِ اكتب بيننا وبينك كتابًا، فدعا الكاتبَ فقال: «اكتُب: بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي ﷺ: «اكتب: باسمك اللهم»، ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسول الله»، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسولُ الله ما صَدَدْناك عن البيت ولا قاتَلْناك، ولكن اكتب: محمدُ بن عبدالله، فقال النبي ﷺ: «إني رسولُ الله وإنْ كذَّبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله»، فقال النبي ﷺ: «على أن تُخَلُّوا بيننا وبين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنَّا أُخِذْنا ضَغْطَةً، ولكن ذلك من العام المُقبِل، فكتب.

فقال سهيل: على أن لا يأتِيَك مِنَّا رجلٌ وإنْ كان على دينك إلا رَدَدْتَه إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟!

فبينا هم كذلك إذْ جاء أبو جندل بن سهيلٍ قد خرج من أسفل مكة يَرْسُف في قيوده حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أولُّ ما أُقاضيك عليه أن تَرُدَّه، فقال النبي ﷺ: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فوالله إذًا لا أُصالِحُك على شيءٍ أبدًا، فقال النبي ﷺ: «فأَجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِه لك، قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل... فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلمًا؟! ألا ترون ما لقيتُ؟!
وكان قد عُذِّبَ في الله عذابًا شديدًا.

قال عمر بن الخطاب: والله ما شككتُ منذ أسلمتُ إلا يومئذٍ، فأتيتُ النبيَّ ﷺ فقلت: يا رسول الله، ألستَ نبي الله؟ قال: «بلى»، قلت: ألسنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطل؟ قال: «بلى»، فقلت: عَلامَ نعطي الدَّنِيَّةَ في ديننا ونرجع ولمَّا يحكمِ اللهُ بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: «إني رسول الله، وهو ناصري، ولستُ أَعصيه»، قلت: أولستَ كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونَطَّوَّفَ به؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟»، قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومُطَوِّفٌ به».

قال: فأتيتُ أبا بكرٍ فقلتُ له كما قلتُ لرسول الله ﷺ، ورَدَّ عليه أبو بكرٍ كما رَدَّ عليه رسولُ الله ﷺ سواءً، وزاد: "فاستمسِكْ بغَرْزِه حتى تموتَ؛ فوالله إنه لعلى الحق"، قال عمر: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.


فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ﷺ: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، قال: فوالله ما قام منهم رجلٌ واحدٌ حتى قال ثلاث مراتٍ، فلما لم يَقُمْ منهم أحدٌ قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: "يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخْرُجْ ثم لا تُكَلِّمْ أحدًا كلمةً حتى تنحرَ بُدْنَك وتدعوَ حالقَك فيَحلقَك"، فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه، فلما رأى الناسُ ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضُهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يَقتل بعضًا غَمًّا.

زاد المعاد (٣ / ٣٤٨ - ٣٥٠).

قناة الكتاب الشهري

25 Oct, 10:05


تتمة بعض أحداث غزوة الخندق:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثم إن الله ﷻ وله الحمد صنَع أمْرًا مِن عندِه خذَّل به بين العدو وهزم جموعَهم وفَلَّ حدَّهم، فكان مما هيَّأ من ذلك أن رجلًا من غطفان يقال له: نُعَيْم بن مسعود بن عامرٍ جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمتُ، فمُرْني بما شئتَ، فقال رسول الله ﷺ: «إنما أنت رجلٌ واحدٌ، فخَذِّلْ عنَّا ما استطعتَ؛ فإنَّ الحربَ خَدْعَةٌ».

فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة ـ وكان عشيرًا لهم في الجاهلية ـ، فدخل عليهم ولا يعلمون بإسلامه، فقال: يا بني قريظة، إنكم قد حاربتم محمدًا، وإن قريشًا إنْ أصابوا فرصةً انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم وتركوكم ومحمدًا فانتقَمَ منكم، قالوا: فما العمل يا نُعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يُعطُوكم رهائن، قالوا: لقد أشرتَ بالرأي.

ثم مضى على وجهه إلى قريشٍ فقال لهم: تعلمون وُدِّي ونصحي لكم، قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقْض عهد محمدٍ وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يُمالئونه عليكم، فإنْ سألوكم رهائن فلا تُعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك.

فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى اليهود: إنَّا لسنا بأرض مقامٍ، وقد هلك الكُراع والخفُّ، فانهضُوا بنا حتى نُناجِزَ محمدًا، فأرسل إليهم اليهود: أنَّ اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب مَن قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريشٌ: صدقكم والله نُعيم، فبعثوا إلى يهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدًا، فاخرجوا معنا حتى نُناجِزَ محمدًا، فقالت قريظة: صدقكم والله نُعيم؛ فتَخاذَلَ الفريقان.

وأرسل الله ﷻ على المشركين جندًا من الريح، فجعلت تقوِّض خيامهم ولا تدع لهم قِدْرًا إلا أكفأتْها ولا طُنْبًا إلا قلعتْه ولا تُقِرُّ لهم قرارًا، وجندًا من الملائكة يُزلزِلون بهم ويُلقون في قلوبهم الرعب والخوف.


وأرسل رسولُ الله ﷺ حذيفةَ بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال وقد تهيَّؤوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله ﷺ ليلًا فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله ﷺ وقد رَدَّ الله عدوَّه بغيظِهم لم ينالوا خيرًا، وكَفاهُ الله قتالَهم، فصدق وعدَه وأعزَّ جندَه ونصر عبدَه وهزم الأحزابَ وحدَه.

زاد المعاد (٣ / ٣٢٠ - ٣٢٢).

قناة الكتاب الشهري

24 Oct, 20:31


من أحداث غزوة الخندق:

قال ابن القيم رحمه الله:

كان مَن وافى الخندقَ من الكفار عشرة آلافٍ.

فلما سمع رسول الله ﷺ بمسيرهم إليه استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندقٍ يَحولُ بين العدو وبين المدينة، فأمر به رسولُ الله ﷺ، فبادر إليه المسلمون، وعمل بنفسه فيه، وبادروا هجوم الكفار عليهم، وكان في حَفْرِه من آيات نبوَّته وأعلام رسالته ما قد تَواتَرَ الخبر به
.

وكان حَفْرُ الخندق أمام سَلْعٍ، وجبل سلعٍ جبلٌ خلف ظهور المسلمين، والخندق بينهم وبين الكفار، وخرج رسول الله ﷺ في ثلاثة آلافٍ من المسلمين فتحصَّن بالجبل مِن خلفه وبالخندق أمامه...

وبلغ رسولَ الله ﷺ خبرُ بني قريظة ونقْضِهم العهدَ، فبعث إليهم السَّعْدَيْن وخَوَّات بن جبيرٍ وعبدالله بن رواحة ليُعرِّفوه: هل هم على عهدهم أو قد نقضوه؟ فلمَّا دنَوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسب والعداوة، ونالُوا من رسول الله ﷺ، فانصرفوا عنهم ولحنوا إلى رسول الله ﷺ لحْنًا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا، فعَظُمَ ذلك على المسلمين، فقال رسول الله ﷺ عند ذلك: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين».

واشتدَّ البلاء ونَجَمَ النفاق، واستأذن بعضُ بني حارثة رسولَ الله ﷺ في الذهاب إلى المدينة، وقالوا: بيوتنا عورةٌ، ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ [الأحزاب: ١٣]، وهَمَّ بنو سلمة بالفشَل، ثم ثبَّت الله الطائفتين.

وأقام المشركون مُحاصِرين رسولَ الله ﷺ شهرًا، ولم يكن بينهم قتالٌ؛ لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين.

زاد المعاد (٣ / ٣١٧ - ٣١٩).

قناة الكتاب الشهري

24 Oct, 11:19


الحِكَم العظيمة مِن تأخُّر الوحي في حادثة الإفك:

قال ابن القيم رحمه الله:

اقتضى تمامُ الامتحان والابتلاء أنْ حبس عن رسوله الوحيَ شهرًا في شأنها لا يُوحَى إليه في ذلك شيءٌ؛ لتَتِمَّ حكمتُه التي قدَّرها وقضاها، وتظهرَ على أكمل الوجوه.

- ويزدادَ المؤمنون الصادقون إيمانًا وثباتًا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصدِّيقين من عباده.

- ويزدادَ المنافقون إفكًا ونفاقًا، ويظهرَ لرسول الله وللمؤمنين سرائرُهم.

- ولتَتِمَّ العبوديةُ المُرادةُ من الصدِّيقة وأبوَيْها، وتَتِمَّ نعمةُ الله عليهم،
ولتشتدَّ الفاقةُ والرغبةُ منها ومن أبويها، والافتقار إلى الله والذُّلُّ له وحسنُ الظن به والرجاءُ له.

- ولينقطعَ رجاؤها من المخلوقين وتيأسَ من حصول النصر والفَرَج على يد أحدٍ من الخلق؛
ولهذا وَفَّتْ هذا المقامَ حقَّه لمَّا قال لها أبواها: قومي إليه ـ وقد أنزل الله عليه براءتها ـ فقالت: "والله لا أقومُ إليه، ولا أحمدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي".

- وأيضًا: فكان من حكمة حبس الوحي شهرًا أن القضية نضجَتْ وتمخَّضَتْ واستشرفَتْ قلوب المؤمنين أعظمَ استشرافٍ إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها، وتطلَّعَتْ إلى ذلك غاية التطلُّع، فوافى الوحيُ أحوجَ ما كان إليه رسولُ الله ﷺ وأهلُ بيته والصدِّيقُ وأهلُه وأصحابُه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيث على الأرض أحوجَ ما كانت إليه، فوقع منهم أعظمَ موقعٍ وألطفَه، وسُرُّوا به أَتَمَّ السرور، وحصل لهم به غايةُ الهناء.

ولو أطْلَعَ اللهُ رسولَه على حقيقة الحال من أول وَهْلَةٍ وأنزل الوحيَ على الفور بذلك لفاتَتْ هذه الحِكَمُ وأضعافُها بل أضعافُ أضعافِها.

- وأيضًا: فإن الله سبحانه أحَبَّ أن يُظهِرَ منزلةَ رسولِه وأهلِ بيتِه عندَه وكرامتَهم عليه، وأن يُخرِجَ رسولَه من هذه القضية ويتولَّى هو بنفسه الدفاعَ والمنافحةَ عنه والرَّدَّ على أعدائه وذمَّهم وعيبَهم بأمرٍ لا يكون له فيه عملٌ ولا يُنسَبُ إليه، بل يكون هو وحدَه المُتولِّي لذلك الثائرَ لرسوله وأهل بيته.

- وأيضًا: فإن رسول الله ﷺ كان هو المقصودَ بالأذى، والتي رُمِيَتْ زوجته، فلم يكن يَليقُ به أن يشهدَ ببراءتها مع علمِه أو ظنِّه المُقارِبِ للعلم ببراءتها، ولم يَظُنَّ بها سُوءًا قطُّ ـ وحاشاه وحاشاها ـ؛ ولذلك لما استعذَرَ من أهل الإفك قال: «مَن يَعذُرُني مِن رجلٍ بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»، وكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصدِّيقة أكثرُ مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبرِه وثباتِه ورِفقِه وحسنِ ظنِّه بربه وثقتِه به: وَفَّى مقامَ الصبرِ والثباتِ وحسنِ الظنِّ بالله حقَّه، حتى جاءه الوحيُ بما أقَرَّ عينه وسَرَّ قلبَه وعَظَّمَ قدرَه، وظهر لأمته احتفاءُ ربِّه به واعتناؤُه بشأنه.

زاد المعاد (٣ / ٣٠٤ - ٣٠٦).

قناة الكتاب الشهري

23 Oct, 15:27


ملخص حادثة الإفك:

قال ابن القيم رحمه الله:

نحن نشير إلى قصة الإفك:
وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسولُ الله ﷺ معه في هذه الغزوة [غزوة بني المُصطَلِق] بقرعةٍ أصابتها،
وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجَتْ عائشة لحاجتها ثم رجعَتْ، ففقدَتْ عقدًا لأختها كانت أعارتْها إياه، فرجعَتْ تلتمسه في الموضع الذي فقدَتْه فيه، فجاء النفر الذين كانوا يُرحِّلون هَوْدَجَها فظنُّوها فيه، فحملوا الهودج ولا يُنكِرون خِفَّتَه؛ لأنها كانت فَتِيَّة السِّنِّ لم يَغْشَها اللحمُ الذي يُثقِلُها، وأيضًا فإنَّ النَّفَر لما تساعَدوا على حمل الهَوْدَج لم يُنكِروا خِفَّتَه، ولو كان الذي حمله واحدًا أو اثنين لم يَخْفَ عليهما الحال.

فرجعَتْ عائشة إلى منازلهم وقد أصابت العِقْدَ، فإذا ليس بها داعٍ ولا مجيبٌ، فقعدَتْ في المنزل وظنَّتْ أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالبٌ على أمره يُدَبِّرُ الأمرَ فوقَ عرشِه كما يشاء، فغَلَبَتْها عَيْناها فنامت، فلم تستيقِظْ إلا بقول صفوان بن المُعطَّل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجةُ رسول الله ﷺ! وكان صفوان قد عَرَّسَ في أُخْرَيات الجيش؛ لأنه كان كثيرَ النوم - كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم وفي السنن - فلما رآها عرَفها ـ وكان يراها قبل نزول الحجاب ـ فاسترجَعَ وأناخَ راحِلَتَه فقَرَّبَها إليها فركبَتْ، وما كَلَّمَها كلمةً واحدةً ولم تسمعْ منه إلا استرجاعَه.

ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحْر الظهيرة، فلما رأى ذلك الناسُ تكلم كلٌّ منهم بشاكِلَتِه وما يَليقُ به، ووجد الخبيثُ عدوُّ الله ابنُ أُبيٍّ مُتَنَفَّسًا، فتَنَفَّسَ من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفكَ ويستوشيه، ويُشيعُه ويُذيعُه، ويجمعُه ويُفرِّقُه، وكان أصحابُه يتقرَّبون إليه به.

فلما قدموا المدينة أفاضَ أهلُ الإفك في الحديث، ورسولُ الله ﷺ ساكتٌ لا يتكلم، ثم استشارَ أصحابَه في فِراقِها، فأشار عليه عليٌّ بأن يُفارِقَها ويأخذَ غيرَها تلويحًا لا تصريحًا، وأشار عليه أسامةُ وغيرُه بإمساكِها، وبأن لا يلتفتَ إلى كلام الأعداء.

فعليٌّ لما رأى أن ما قيل مشكوكٌ فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين؛ ليتخلَّصَ رسولُ الله ﷺ من الهمِّ والغمِّ الذي لَحِقه بكلام الناس، فأشار بحسْم الداء.

وأسامةُ لما علم حبَّ رسولِ الله ﷺ لها ولأبيها، وعلم مِن عِفَّتِها وبَراءَتِها وحَصانَتِها ودِيانَتِها ما هي فوقَ ذلك وأعظمُ منه، وعرف مِن كرامةِ رسولِ الله ﷺ على ربِّه ومنزلتِه عندَه ودفاعِه عنه أنه لا يجعلُ رَبَّةَ بيتِه وحبيبتَه مِن النساء وبنتَ صديقه بالمنزلة التي أنزلها بها أرباب الإفك، وأن رسول الله ﷺ أكرمُ على ربِّه وأعزُّ عليه مِن أن يجعلَ تحتَه امرأةً بَغِيًّا، وعلم أن الصِّدِّيقَة حبيبةَ رسولِ الله ﷺ أكرمُ على ربِّها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله.

فمَن قويت معرفةُ اللهِ ومعرفةُ رسولِه ﷺ وقدرُه عند الله في قلبه قال كما قال أبو أيوبٍ وغيرُه من سادات الصحابة لمَّا سمعوا ذلك: «سبحانك هذا بهتان عظيم!».


وتأمَّلْ ما في تسبيحِهم لله وتنزيهِهم له في هذا المقام من المعرفة به، وتنزيهِه عمَّا لا يَليقُ به أن يجعلَ لرسولِه وخليلِه وأكرمِ الخلقِ عليه امرأةً خبيثةً بَغِيًّا؛ فمَن ظنَّ به سبحانه هذا فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْء، وعرف أهلُ المعرفة بالله ورسوله أن المرأةَ الخبيثةَ لا تَليقُ إلا بمثلِها، كما قال تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ [النور: ٢٦]، فقطعوا قطعًا لا يَشُكُّونَ فيه أن هذا بهتانٌ عظيمٌ وفِرْيَةٌ ظاهرةٌ.

زاد المعاد (٣ / ٣٠١ - ٣٠٤).

قناة الكتاب الشهري

22 Oct, 13:11


أكثر الناس يظنُّون بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية، فاحذر أن تكون منهم:

قال ابن القيم رحمه الله:

أكثر الخلق - بل كلُّهم إلا مَن شاء الله - يَظُنُّون بالله غيرَ الحقِّ وظنَّ السَّوْء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحقِّ ناقصُ الحظِّ، وأنه يستحقُّ فوقَ ما أعطاه الله، ولسانُ حالِه يقول: ظلمَني ربي ومنعَني ما أستحِقُّه، ونفسُه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكِرُه ولا يَتَجاسر على التصريح به.

ومَن فتَّشَ نفسَه وتغلغل في معرفة دفائنِها وطواياها: رأى ذلك فيها كامنًا كُمونَ النار في الزِّناد، فاقْدَحْ زِنادَ مَن شئتَ يُنبِئْك شَرارُه عمَّا في زِنادِه.

ولو فَتَّشْتَ مَن فَتَّشْتَ لرأيتَ عنده تعتُّبًا على القَدَر ومَلامَةً له واقتراحًا عليه خلافَ ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالمٌ من ذلك؟

فإنْ تَنجُ منها تَنجُ مِن ذي عظيمةٍ
وإلا فـــإنــي لا إِخَــالُــكَ نــاجِـيــا


فلْيَعْتَنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضع، ولْيَتُبْ إلى الله ويستغفرْه كلَّ وقتٍ مِن ظنِّه بربه ظن السوء.

ولْيَظُنَّ السوءَ بنفسه، التي هي مأوى كل سوءٍ ومنبعُ كل شرٍّ، المُرَكَّبَة على الجهل والظلم؛ فهي أَوْلى بظن السوء مِن أحْكَمِ الحاكمين وأعدلِ العادلين وأرحمِ الراحمين، الغنيِّ الحميدِ الذي له الغنى التامُّ والحمدُ التامُّ والحكمةُ التامَّةُ، المُنَزَّهِ عن كل سوءٍ في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاتُه لها الكمال المطلق من كل وجهٍ، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كلُّها حكمةٌ ومصلحةٌ ورحمةٌ وعدلٌ، وأسماؤه كلها حُسْنى.

فلا تَظْنُنْ بربك ظنَّ سُوءٍ
فإنَّ اللهَ أَوْلى بالجميلِ

ولا تَظْنُنْ بنفسك قطُّ خيرًا
وكيف بظالمٍ جَانٍ جَهُولِ؟!

وقُلْ يا نفسُ مأوى كلِّ سُوءٍ
أيُرْجى الخيرُ مِن مَيْتٍ بخيلِ؟!

وظُنَّ بنفسك السَّوأى تَجِدْها
كذاك وخيرُها كالمستحيلِ

وما يَكُ مِن تُقًى فيها وخيرٍ
فتلك مواهب الربِّ الجليلِ

وليس بها ولا منها ولكنْ
مِن الرحمن فاشْكُرْ للدليلِ


زاد المعاد (٣ / ٢٧٤ - ٢٧٥).

قناة الكتاب الشهري

21 Oct, 12:29


تتمة في بيان بعض صُور سوء الظن بالله:

قال ابن القيم رحمه الله:

- ومَن ظن به أنه إذا أغضَبَه وأسخَطَه وأوْضَعَ في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليًّا ودعا مِن دونه مَلَكًا أو بشرًا حيًّا أو ميتًا، يرجو بذلك أن ينفعَه عند ربِّه ويُخَلِّصَه من عذابه = فقد ظن به ظن السوء، بل ذلك زيادةٌ في بُعدِه من الله وفي عذابه.

- ومَن ظن أنه يُسَلِّطُ على رسوله محمدٍ ﷺ أعداءَه تسليطًا مستقرًّا دائمًا في حياته وفي مماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدُّوا بالأمر دون وَصِيِّه، وظلموا أهلَ بيتِه وسلبوهم حقَّهم وأذلُّوهم، وكانت العزَّة والغلبة والقهْر لأعدائه وأعدائهم دائمًا مِن غير جُرْمٍ ولا ذنبٍ لأوليائه وأهلِ الحق، وهو يرى قهْرَهم لهم وغَصْبَهم إياهم حقَّهم وتبديلَهم دينَ نبيِّه، وهو يقدر على نُصرة أوليائه وحِزبه وجنده ولا ينصرهم ولا يُديلُهم، بل يُديلُ أعداءَهم عليهم أبدًا، أو أنه لا يَقدر على ذلك، بل حصل هذا بغير قدرتِه ولا مشيئتِه، ثم جعل المُبَدِّلين لدينه مُضاجِعيه في حفرتِه تُسلِّم أمتُه عليه وعليهم في كل وقتٍ، كما تظنُّه الرافضة = فقد ظن به أقبحَ الظن وأسوأَه، سواءٌ قالوا: إنه قادرٌ على أن ينصرَهم ويجعلَ لهم الدولة والظَّفَر، أو أنه غير قادرٍ على ذلك، فهم قادحون في قدرته أو في حكمتِه وحمْدِه، وذلك مِن ظن السوء به.

ولا ريبَ أن الرب الذي فعل هذا بغيضٌ إلى مَن ظن به ذلك غيرُ محمودٍ عندهم، وكان الواجب أن يفعل خلافَ ذلك، لكن رَفَوْا هذا الظنَّ الفاسدَ بخَرْقٍ أعظمَ منه، واستجاروا من الرمضاء بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرةٌ على دفْعِه ونصْرِ أوليائه؛ فإنه لا يقدر على أفعال عباده، ولا هي داخلةٌ تحت قدرته، فظنُّوا به ظنَّ إخوانِهم المجوسِ والثَّنَوِيَّةِ بربِّهم.

¤ وكل مُبْطِلٍ وكافرٍ ومبتدعٍ مقهورٍ مُسْتَذِلٍّ فهو يَظُنُّ بربه هذا الظنَّ، وأنه أوْلى بالنصر والظَّفَر والعلوِّ مِن خُصومِه.


زاد المعاد (٣ / ٢٧٢ - ٢٧٣).

قناة الكتاب الشهري

20 Oct, 21:05


تتمة في بيان بعض صُور سوء الظن بالله:

قال ابن القيم رحمه الله:

- ومَن ظن به أنه يُسَوِّي بين المُتضادَّيْن، أو يُفَرِّقُ بين المُتساوِيَيْن من كل وجهٍ، أو يُحْبِطُ طاعات العمر المديد الخالصةَ الصوابَ بكبيرةٍ واحدةٍ تكون بعدها، فيُخَلِّدُ فاعلَ تلك الطاعات في الجحيم أبدَ الآبِدين لتلك الكبيرة، ويُحْبِطُ بها جميعَ طاعاتِه، ويُخَلِّدُه في العذاب كما يُخَلِّدُ مَن لم يؤمن به طرفة عينٍ واستنفد ساعات عمره في مَساخِطِه ومُعاداة رسله ودينه = فقد ظن به ظن السوء...

- ومَن ظن أن له ولدًا أو شريكًا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائطَ يرفعون حوائجَهم إليه، أو أنه نَصَبَ لعِبادِه أولياءَ من دونه يتقرَّبون بهم إليه ويتوسَّلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائطَ بينه وبينهم فيدْعونهم ويخافونهم ويرجونهم = فقد ظن به أقبحَ الظن وأسوأَه.

- ومَن ظن أنه يُنالُ ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يُنالُ بطاعته والتقرُّبِ إليه = فقد ظن به خلافَ حكمتِه وخلافَ موجَبِ أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.

- ومَن ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يُعَوِّضْه خيرًا منه، ومَن فعل لأجله شيئًا لم يُعْطِه أفضلَ منه، فقد ظن به ظن السوء.


- ومَن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويَحرِمُه بغير جُرْمٍ ولا سببٍ من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحضِ الإرادة = فقد ظن به ظن السوء.

- ومَن ظن به أنه إذا صَدَقَه في الرغبة والرهبة، وتَضَرَّعَ إليه وسأله، واستعان به وتَوَكَّلَ عليه؛ أنه يُخَيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله = فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلافَ ما هو أهلُه.

- ومَن ظن به أنه يُثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه = فقد ظن به خلافَ ما تقتضيه حكمتُه وحمدُه، وخلافَ ما هو أهلُه.


زاد المعاد (٣ / ٢٧١ - ٢٧٢).

قناة الكتاب الشهري

20 Oct, 15:32


مِن صُوَر سوء الظن بالله:

قال ابن القيم رحمه الله:

وأكثر الناس يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْء فيما يختصُّ بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يَسلَمُ مِن ذلك إلا مَن عرَف الله وعرَف أسماءَه وصفاتِه، وعرَف موجبَ حمده وحكمته.

- فمَن قَنطَ من رحمته وأَيِسَ من رَوْحِه فقد ظن به ظن السوء.

- ومَن جَوَّزَ عليه أن يعذِّبَ أولياءَه مع إحسانهم وإخلاصهم ويُسَوِّيَ بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء
...

- ومَن ظن أنه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دارٍ يجازي المُحسِنَ فيها بإحسانه والمُسيءَ بإساءته، ويُبَيِّن لخلقه حقيقةَ ما اختلفوا فيه، ويُظهِر للعالَمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رُسُلِه، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين = فقد ظن به ظن السوء.

- ومَن ظن أنه يُضِيعُ عليه عملَه الصالح الذي عَمِلَه خالصًا لوجهه على امتثال أمره، ويُبطِلُه عليه بلا سببٍ من العبد، أو أنه يعاقبه بما لا صُنْعَ له فيه ولا اختيارَ له ولا قدرةَ ولا إرادةَ في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيِّد أعداءَه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيِّد بها أنبياءَه ورسلَه ويُجرِيَها على أيديهم يُضِلُّون بها عبادَه، وأنه يَحسُنُ منه كل شيءٍ حتى تعذيبُ مَن أفنى عمره في طاعته فيُخَلِّده في الجحيم أسفلَ السافلين، ويُنَعِّم مَن استنفد عمرَه في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحُسْن سواءٌ عندَه، ولا يُعرَف امتناعُ أحدِهما ووقوعُ الآخَرِ إلا بخبرٍ صادقٍ، وإلا فالعقل لا يقضي بقُبْح أحدهما وحُسْن الآخَر = فقد ظن به ظن السوء.

- ومَن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهرُه باطلٌ وتشبيهٌ وتمثيلٌ، وتَرَكَ الحقَّ لم يُخبِر به، وإنما رَمَزَ إليه رموزًا بعيدةً، وأشار إليه إشاراتٍ مُلْغَزَةً؛ لم يُصرِّح به وصرَّح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد مِن خلقه أن يُتعِبوا أذهانَهم وقُواهم وأفكارَهم في تحريف كلامِه عن مواضِعِه وتأويلِه على غير تأويلِه، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالاتِ المُستكرَهةِ والتأويلاتِ التي هي بالألغاز والأحاجي أشْبَهُ منها بالكشف والبيان، وأحالَهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامَه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصرِّح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التي توقِعُهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل؛ بل سلك بهم خلافَ طريق الهدى والبيان = فقد ظن به ظن السوء...

فكل هؤلاء مِن الظانِّين بالله ظن السوء، ومِن الظانِّين به غيرَ الحقِّ ظن الجاهلية.


زاد المعاد (٣ / ٢٦٧ - ٢٦٩).

قناة الكتاب الشهري

19 Oct, 20:54


التحذير من سوء الظن بالله:

قال ابن القيم رحمه الله:

قال تعالى:﴿يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾.

وقد فُسِّرَ هذا الظن الذي لا يَليقُ بالله بأنه سبحانه لا يَنصُر رسولَه، وأن أمْرَه سيَضْمَحِلُّ، وأنه يُسْلِمُه للقتل.
وفُسِّرَ بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمةَ له فيه.
ففُسِّرَ بإنكار الحكمة، وإنكار القَدَر، وإنكار أن يُتِمَّ أمرَ رسولِه ويُظهِرَه على الدين كلِّه.


وهذا هو ظن السَّوْء الذي ظَنَّه المنافقون والمشركون به سبحانه في سورة الفتح حيث يقول: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِالله ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: ٦].

وإنما كان هذا ظنَّ السَوْء، وظنَّ الجاهلية المنسوبَ إلى أهل الجهل، وظنَّ غيرِ الحق = لأنه ظَنُّ غيرِ ما يليق بأسمائِه الحسنى وصفاتِه العُليا وذاتِه المُبَرَّأَةِ من كل عيبٍ وسوءٍ، وخلافُ ما يَليقُ بحكمتِه وحمدِه وتفرُّدِه بالربوبية والإلهية، وما يَليقُ بوعده الصادق الذي لا يُخلِفُه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون.

فمَن ظَنَّ به أنه لا ينصر رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يُؤَيِّدُه ويُؤَيِّدُ حِزبَه ويُعليهم ويُظفِرُهم بأعدائه ويُظهِرُهم عليهم، وأنه لا ينصر دينَه وكتابَه، وأنه يُديلُ الشركَ على التوحيدِ والباطلَ على الحقِّ إدالةً مُستقِرَّةً يَضْمَحِلُّ معها التوحيدُ والحقُّ اضمِحلالًا لا يقوم بعدَه أبدًا = فقد ظَنَّ بالله ظَنَّ السَّوْء، ونَسَبَه إلى خلاف ما يَليقُ بكماله وجلاله وصفاته ونُعوته؛ فإنَّ حمدَه وعِزَّتَه وحكمتَه وإلهيتَه تأبى ذلك، وتأبى أن يُذِلَّ حزبَه وجندَه، وأن تكون النُّصرةُ المُستقِرَّةُ والظَّفَرُ الدائمُ لأعدائه المشركين به العادلين به، فمَن ظَنَّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءَه وصفاتِه وكمالَه.

وكذلك مَن أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره = فما عرفه ولا عرف ربوبيته ومُلكه وعظمته.

وكذلك مَن أنكر أن يكون قَدَّرَ ما قَدَّرَه مِن ذلك وغيرِه لحكمةٍ بالغةٍ وغايةٍ محمودةٍ يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئةٍ مُجَرَّدَةٍ عن حكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ هي أحبُّ إليه مِن فَوْتِها، وأن تلك الأسبابَ المكروهةَ المُفْضِيَةَ إليها لا يَخرُجُ تقديرُها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهةً له، فما قَدَّرَها سُدًى ولا شاءَها عبثًا ولا خلقها باطلًا، ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾
[ص: ٢٧].

زاد المعاد (٣ / ٢٦٥ - ٢٦٧).

قناة الكتاب الشهري

19 Oct, 12:09


تتمة في ذكر بعض الحِكم والغايات في غزوة أحد:

قال ابن القيم رحمه الله في سياق ذكر بعض حِكم غزوة أحد:

ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السرَّاء والضرَّاء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظَفَرِهم وظَفَرِ أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهُمْ عَبيدُه حقًّا، وليسوا كمَن يعبد الله على حرفٍ واحدٍ من السرَّاء والنعمة والعافية.

ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائمًا، وأظفَرَهم بعدوِّهم في كل موطنٍ، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدًا= لطَغَتْ نفوسُهم وشَمَخَتْ وارتفعَتْ... فلا يُصلِحُ عبادَه إلا السرَّاءُ والضرَّاء والشدَّة والرخاء والقبض والبسط، فهو المُدبِّر لأمر عبادِه كما يَليقُ بحكمته، إنه بهم خبيرٌ بصيرٌ.

ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَة والكَسْرَة والهزيمة ذَلُّوا وانكسروا وخضعوا، فاسْتَوْجَبوا منه العِزَّ والنصرَ؛ فإنَّ خِلْعَةَ النصرِ إنما تكون مع ولاية الذُّلِّ والانكسار؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: ١٢٣]، وقال: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة: ٢٥]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه ويجبرَه وينصرَه، كَسَرَه أولًا، ويكون جَبْرُه له ونصرُه على مقدار ذُلِّه وانكسارِه.

ومنها: أنه سبحانه هَيَّأَ لعباده المؤمنين منازلَ في دار كرامته لم تَبلُغْها أعمالُهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمِحنة، فقَيَّضَ لهم الأسبابَ التي توصِلُهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفَّقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.

ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة، وذلك مرضٌ يَعوقُها عن جِدِّها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربُّها ومالكُها وراحمُها كرامتَه: قَيَّضَ لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمِحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليلَ الدواءَ الكريهَ ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغَلَبَتْه الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكُه.

زاد المعاد (٣ / ٢٥٥ - ٢٥٦).

قناة الكتاب الشهري

17 Oct, 20:51


من أحداث غزوة بدر:

قال ابن القيم رحمه الله:

لمَّا دنا العدوُّ وتَواجَهَ القومُ: قام رسول الله ﷺ في الناس، فوعظَهم وذكَّرهم بما لهم في الصبر والثبات من النَّصْر والظَّفَر العاجِل وثوابِ الله الآجِل، وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استُشهد في سبيله، فقام عُمَيْر بن الحُمام فقال: يا رسول الله، جنةٌ عرضها السماوات والأرض؟ قال: «نعم»، قال: بخٍ بخٍ يا رسول الله، قال: «ما يحملك على قولِك: بخٍ بخٍ؟» قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءَ أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها»، قال: فأخرَجَ تمراتٍ من قَرنِه فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال: لئن حَيِيتُ حتى آكُلَ تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلةٌ، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتَلَ حتى قُتِلَ، فكان أولَ قتيلٍ.

وأخذ رسول الله ﷺ مِلْءَ كفِّه من الحصباء فرمى بها وجوهَ العدو، فلم تترك رجلًا منهم إلا ملأت عينَيْه، وشُغِلوا بالتراب في أعينهم وشُغِلَ المسلمون بقتلهم، وأنزل الله ﷻ في شأن هذه الرَّمْية على رسوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧].

وقد ظنَّ طائفةٌ أن الآية دلَّت على نفيِ الفعلِ عن العبد، وإثباتِه لله وأنه هو الفاعل حقيقةً، وهذا غلطٌ منهم من وجوهٍ عديدةٍ مذكورةٍ في غير هذا الموضع.

ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداءَ الرمي، ونفى عنه الإيصالَ الذي لم يحصل برَمْيته، فالرمي يُرادُ به الحَذْفُ والإيصالُ، فأثبت لنبيه الحَذْفَ ونفى عنه الإيصالَ.

وكانت الملائكة يومئذٍ تُبادِرُ المسلمين إلى قتل أعدائهم؛
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يشتدُّ في أثر رجلٍ من المشركين أمامَه، إذْ سمع ضربةً بالسَّوْط فوقَه وصوتَ الفارس فوقَه يقول: أََقْدِمْ حَيْزُوم، إذْ نظر إلى المشرك أمامَه مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِمَ أنفُه وشُقَّ وجهُه كضربة السوط، فاخضرَّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدَّث ذلك رسولَ الله ﷺ فقال: «صدقتَ، ذلك مِن مدد السماء الثالثة».

وقال أبو داود المازني: إني لأَتْبَعُ رجلًا من المشركين لِأضربَه، إذْ وقع رأسُه قبل أن يَصِل إليه سيفي، فعرفتُ أنه قد قتله غيري.

وجاء رجلٌ من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: إنَّ هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجلٌ أجلحُ مِن أحسنِ الناس وجهًا على فَرَسٍ أبلقَ ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أَسَرْتُه يا رسول الله، فقال: «اسكُت، فقد أيَّدَكَ اللهُ بملَكٍ كريمٍ».

زاد المعاد (٣ / ٢١٣ - ٢١٤).

قناة الكتاب الشهري

17 Oct, 11:06


المراد بالفتنة في النصوص الشرعية:

قال ابن القيم رحمه الله:

وأكثر السلف فسَّروا الفتنة هاهنا بالشرك [يعني في قوله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}]، كقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣]... وحقيقتها: أنها الشرك الذي يدعو صاحبُه إليه ويُقاتِلُ عليه ويُعاقِبُ مَن لم يفتتن به؛ ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: ١٤]، قال ابن عباس: تكذيبَكم، وحقيقتها: ذوقوا نهاية فتنتِكم وغايتَها ومصيرَ أمرِها، كقوله: ﴿ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [الزمر: ٢٤]، وكما فَتَنوا عبادَه على الشرك فُتِنوا على النار وقيل لهم: {ذُوقُوا فِتنتَكُم}.

ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ [البروج: ١٠]، فُسِّرت الفتنة هاهنا بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار، واللفظ أعَمُّ من ذلك، وحقيقته: عذَّبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم، فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين.

وأما الفتنة التي يُضيفُها سبحانه إلى نفسه، أو يُضيفُها رسولُه إليه، كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣]، وقول موسى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ﴾ [الأعراف: ١٥٥]، فتلك بمعنًى آخر، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب؛ فهذه لونٌ، وفتنة المشركين لونٌ، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لونٌ آخر.

والفتنة التي يُوقِعُها بين أهل الإسلام، كالفتنة التي أَوقعها بين أصحاب عليٍّ ومعاويةَ، وبين أهل الجمل وصِفِّين، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا، لونٌ آخر، وهي التي قال فيها النبي ﷺ: «ستكون فتنةٌ: القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي»، وأحاديث الفتنة التي أَمَرَ النبي ﷺ فيها باعتزال الطائفتين هي هذه الفتنة.

وقد تأتي الفتنة مرادًا بها المعصية،
كقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾، يقوله الجَدُّ بن قيسٍ لما ندبه رسول الله ﷺ إلى تبوك، يقول: ائذن لي في القعود ولا تفتنِّي بتعرُّضي لبنات الأصفر؛ فإني لا أصبر عنهنَّ، قال تعالى: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: ٤٩]، أي: وقعوا في فتنة النفاق وفرُّوا إليها من فتنة بنات الأصفر.

زاد المعاد (٣ / ١٩٨ - ١٩٩).

قناة الكتاب الشهري

16 Oct, 16:26


سبب نزول قول الله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير...}.

قال ابن القيم رحمه الله:

ثم بَعَثَ ﷺ عبدَ الله بن جَحْشٍ الأسدي إلى نخلةَ في رجبٍ على رأسِ سبعةَ عَشَرَ شهرًا من الهجرة، في اثني عَشَرَ رجلًا من المهاجرين، كل اثنين يَعتَقِبانِ على بعيرٍ، فوصلوا إلى بطنِ نخلةَ يَرصُدونَ عيرًا لقريشٍ.

وفي هذه السَّرِيَّة سُمِّيَ عبدُ الله بن جحشٍ أميرَ المؤمنين.

وكان رسول الله ﷺ كتب له كتابًا وأمَره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولما فتح الكتاب وجد فيه: «إذا نظرتَ في كتابي هذا فامْضِ حتى تنزل نخلةَ بين مكة والطائف فتَرصُدَ بها قريشًا وتعلمَ لنا مِن أخبارِهم»، فقال: سمعًا وطاعةً، وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يَستَكرِهُهم، فمَن أحَبَّ الشهادة فلْينهضْ، ومَن كَرِهَ الموتَ فلْيرجعْ، وأما أنا فناهِضٌ، فمَضَوْا كلُّهم.

فلما كان في أثناء الطريق أضَلَّ سعدُ بن أبي وقاصٍ وعتبةُ بن غزوان بعيرًا لهما كانا يَعتَقِبانِه، فتخلَّفا في طلبه، وبَعُدَ عبدُ الله بن جحشٍ حتى نزل بنخلةَ، فمرَّت به عيرٌ لقريشٍ تحمل زبيبًا وأُدمًا وتجارةً، فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبدالله بن المغيرة، والحَكَم بن كَيْسان مولى بني المغيرة.

فتَشاوَرَ المسلمون وقالوا: نحن في آخر يومٍ من رجبٍ الشهر الحرام، فإنْ قاتلْناهم انتهكْنا الشهرَ الحرامَ، وإنْ تركْناهم الليلةَ دخلوا الحَرَم، ثم أجْمَعوا على مُلاقاتِهم، فرمى أحدُهم عمرَو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحَكَم، وأفلَتَ نوفل.

ثم قَدِموا بالعير والأسيرَيْن قد عزلوا مِن ذلك الخُمُسَ، وهو أول خُمُسٍ كان في الإسلام، وأول قتيلٍ في الإسلام، وأول أسيرَيْن في الإسلام، وأنكَرَ رسولُ الله ﷺ عليهم ما فعلوه، واشتدَّ تَعَنُّتُ قريشٍ وإنكارُهم ذلك، وزعموا أنهم وجدوا مقالًا، فقالوا: قد أحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ، واشتدَّ على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ...﴾ [البقرة: ٢١٧].

يقول سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرًا؛ فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصدِّ عن سبيله وعن بيتِه، وإخراجِ المسلمين الذين هم أهلُه منه، والشركِ الذي أنتم عليه، والفتنةِ التي حصلتْ منكم به = أكبرُ عند الله مِن قتالِهم في الشهر الحرام.

زاد المعاد (٣ / ١٩٥ - ١٩٧).

قناة الكتاب الشهري

15 Oct, 20:24


هدي النبي ﷺ في دفْع أعدائه من شياطين الإنس والجن:

قال ابن القيم رحمه الله:

وأُمِرَ في دفْع عدوِّه من شياطين الإنس؛ بأنْ يدفعَ بالتي هي أحسنُ؛ فيُقابِلَ إساءةَ مَن أساءَ إليه بالإحسان، وجهلَه بالحِلْم، وظلمَه بالعَفْو، وقطيعتَه بالصِّلَة، وأُخْبِرَ أنه إنْ فعل ذلك عاد عدوُّه كأنه وَلِيٌّ حميمٌ.
وأُمِرَ في دفع عدوِّه من شياطين الجن بالاستعاذة بالله منهم.


وجَمَعَ له هذين الأمرين في ثلاثة مواضع من القرآن، في سورة الأعراف، والمؤمنين، وسورة حمٓ السجدة:

فقال في سورة الأعراف: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٩٩-٢٠٠]، فأَمَرَه باتِّقاء شرِّ الجاهلين بالإعراض عنهم، وباتِّقاء شرِّ الشيطان بالاستعاذة منه.

وجَمَعَ له في هذه الآية مكارمَ الأخلاق والشِّيَم كلَّها؛ فإنَّ وليَّ الأمر له مع الرَّعِيَّة ثلاثة أحوالٍ:
① فإنه لا بُدَّ له مِن حقٍّ عليهم يُلزِمُهم القيامَ به،
② وأمْرٍ يأمرُهم به،
③ ولا بُدَّ مِن تفريطٍ وعدوانٍ يقع منهم في حقه:

① فأُمِرَ بأن يأخذَ مِن الحق الذي عليهم ما طَوَّعَتْ به أنفسُهم وسَمَحَتْ به وسَهُلَ عليهم ولم يَشُقَّ، وهو العَفْوُ الذي لا يَلحَقُهم ببذله ضررٌ ولا مَشَقَّةٌ.

② وأُمِرَ أن يأمرَهم بالعُرْف، وهو المعروف الذي تعرفُه العقول السليمة والفِطَر المستقيمة وتُقِرُّ بحُسْنِه ونفْعِه،
وإذا أَمَرَ به يأمر به بالعُرْف أيضًا لا بالعُنْف والغِلْظَة.

③ وأُمِرَ أن يُقابِلَ جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه دون أن يُقابِلَه بمثلِه، فبذلك يكتفي شرَّهم.


وقال في سورة المؤمنين: ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَإِنَّا عَلَى أَن نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون: ٩٣-٩٨].

وقال تعالى في سورة حمٓ السجدة: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

زاد المعاد (٣ / ١٨٧ - ١٨٩).

قناة الكتاب الشهري

15 Oct, 03:36


تتمة هدي النبي ﷺ مع الكفار والمنافقين:

قال ابن القيم رحمه الله:

ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان هذه الأقسام كلِّها:

١- فأمَره فيها أن يقاتِل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يُعطُوا الجزيةَ أو يَدخلوا في الإسلام.

٢- وأمَره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغِلْظَة عليهم؛ فجاهَدَ الكفار بالسيف والسِّنان، والمنافقين بالحجة واللسان.

٣- وأمَره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبْذ عهودِهم إليهم، وجَعَلَ أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسامٍ:
١) قسمًا أمَره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحارَبَهم وظهر عليهم.
٢) وقسمًا لهم عهدٌ مُؤَقَّتٌ، لم يَنقضوه ولم يُظاهِروا عليه، فأمَره أن يُتِمَّ لهم عهدهم إلى مُدَّتِهم.
٣) وقسمًا لم يكن لهم عهدٌ ولم يحاربوه، أو كان لهم عهدٌ مُطلَقٌ، فأمَره أن يُؤَجِّلَهم أربعة أشهرٍ، فإذا انسلخَتْ قاتَلَهم، وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢]...
فأسلم هؤلاء كلُّهم ولم يُقيموا على كفرهم إلى مُدَّتِهم، وضرَب على أهل الذِّمَّة الجِزْيَةَ.

فاستقرَّ أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسامٍ: ١- مُحارِبين له، ٢- وأهل عهدٍ، ٣- وأهل ذمةٍ.

ثم آلَتْ حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام؛ فصاروا معه قسمين: ١- مُحارِبين، ٢- وأهل ذمةٍ.

والمُحارِبون له خائفون منه؛ فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسامٍ: ١- مسلمٍ مؤمنٍ به، ٢- ومُسالِمٍ له آمِنٍ، ٣- وخائفٍ مُحارِبٍ.


وأما سيرته في المنافقين فإنه:
- أُمِر أن يقبل منهم علانيتَهم ويَكِلَ سرائرَهم إلى الله،
- وأن يُجاهِدَهم بالعلم والحُجَّة،
- وأُمِرَ أن يُعرِضَ عنهم ويُغلِظَ عليهم،
- وأن يَبْلُغَ بالقول البليغ إلى نفوسهم.
- ونُهِيَ أن يصليَ عليهم،
- وأن يقومَ على قبورِهم،
- وأُخْبِرَ أنه إن استغفرَ لهم أو لم يستغفرْ لهم فلنْ يَغفِرَ الله لهم.

زاد المعاد (٣ / ١٨٦ - ١٨٧).

قناة الكتاب الشهري

14 Oct, 15:33


هدي النبي ﷺ مع الكفار والمنافقين:

قال ابن القيم رحمه الله:

فصلٌ: في ترتيب سياق هديه ﷺ مع الكفار والمنافقين من حين بُعِثَ إلى حين لَقِيَ اللهَ:

أول ما أوحى إليه ربُّه أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يَأْمُرْهُ إذْ ذاك بتبليغٍ،
ثم أنزل عليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ﴾
[المدثر: ١-٢]،
فنبَّأه بقوله: ﴿اقْرَأْ﴾ وأرسله بـ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾.

ثم أمره أن يُنذِرَ عشيرتَه الأقربين،
ثم أنذَرَ قومَه،
ثم أنذَرَ مَن حولَهم مِن العرب،
ثم أنذَرَ العربَ قاطِبَةً،
ثم أنذَرَ العالَمينَ.

فأقام بضع عشرة سنةً بعد نبوته يُنذِرُ بالدعوة بغير قتالٍ ولا جزيةٍ، ويُؤمَرُ بالكفِّ والصبر والصفْح.

ثم أَذِنَ له في الهجرة وأَذِنَ له في القتال،
ثم أمَرَه أن يُقاتِلَ مَن قاتَلَه ويَكُفَّ عمَّن اعتزله ولم يُقاتِلْه،
ثم أمَرَه بقتال المشركين حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله.

ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسامٍ:
① أهل صُلْحٍ وهُدنَةٍ،
② وأهل حربٍ،
③ وأهل ذِمَّةٍ.


فأُمِرَ أن يُقيمَ لأهل العهد والصلح بعهدهم، وأن يُوفِيَ لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانةً نبذ إليهم عهدَهم ولم يقاتلهم حتى يُعلِمَهم بنبذ العهد، وأُمِرَ أن يُقاتِلَ مَن نقض عهده.

زاد المعاد (٣ / ١٨٤ - ١٨٥).

= يتبع

قناة الكتاب الشهري

13 Oct, 21:20


الصلح بين النبي ﷺ وقريش:

قال ابن القيم رحمه الله:

وصالَحَ ﷺ قريشًا على وضْع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، على أن مَن جاءه منهم مسلمًا ردَّه إليهم، ومَن جاءهم مِن عنده لا يردُّونه إليه.

وكان اللفظ عامًّا في الرجال والنساء، فنسخ الله ذلك في حق النساء وأبقاه في حق الرجال، وأمر نبيَّه والمؤمنين أن يَمتحنوا مَن جاءهم مِن النساء، فإنْ عَلِموها مؤمنةً لم يرُدُّوها إلى الكفار، وأمرهم بِرَدِّ مهرها إليهم لِمَا فات على زوجها من منفعة بُضْعِها، وأمر المسلمين أن يردُّوا على مَن ارتدَّت امرأتُه إليهم مهرَها إذا عاقبوا، بأن يجبَ عليهم ردُّ مهْر المُهاجِرة، فيردُّوه إلى مَن ارتدَّت امرأته، ولا يردُّونه إلى زوجها؛ فهذا هو العقاب، وليس مِن العذاب في شيءٍ.

وكان في هذا دليلٌ على:
- أن... أنكحة الكفار لها حكم الصحة لا يُحكَم عليها بالبطلان،
- وأنه لا يجوز ردُّ المسلمة المُهاجِرة إلى الكفار ولو شُرِطَ ذلك،
- وأن المسلمة لا يَحِلُّ لها نكاح الكافر،

- وأن المسلم له أن يتزوج المرأة المُهاجِرة إذا انقضت عِدَّتُها وآتاها مهرَها، وفي هذا أبْيَنُ دلالةٍ على خروجِ بُضْعِها من ملك الزوج وانفساخِ نكاحِها منه بالهجرة والإسلام، وفيه دليلٌ على تحريم نكاح المشركة على المسلم، كما حُرِّمَ نكاحُ المسلمة على الكافر.

وهذه أحكامٌ استُفيدت من هذه الآية، وبعضُها مُجمَعٌ عليه وبعضها مُختَلَفٌ فيه، وليس مع من ادَّعى نسخَها حجةٌ البتَّة
...

ولمَّا صالَحَهم على ردِّ الرجال، كان ﷺ يُمَكِّنُهم أن يأخذوا مَن أتى إليه منهم، ولا يُكرِهُه على العَوْدِ ولا يأمرُه به...

ولم يَقْتَضِ عقدُ الصلح أن ينصرهم على مَن حارَبَهم مِمَّن ليس في قبضة النبي ﷺ وتحت قهْره، فكان في هذا دليلٌ على أن المعاهَدين إذا غزاهم قومٌ ليسوا تحت قهْر الإمام وفي يده، وإن كانوا من المسلمين = أنه لا يجب على الإمام ردُّهم عنهم، ولا منعُهم مِن ذلك، ولا ضمانُ ما أتلفوه عليهم.

وأخْذُ الأحكامِ المتعلقةِ بالحربِ ومصالحِ الإسلامِ وأهلِه وأمورِ السياساتِ الشرعيةِ مِن سِيَرِه ومغازيه أوْلى مِن أخْذِها مِن آراء الرجال؛ فهذا لونٌ، وتلك لونٌ، وبالله تعالى التوفيق.

زاد المعاد (٣ / ١٦٥ - ١٦٨).

قناة الكتاب الشهري

13 Oct, 10:50


هدي النبي ﷺ في الأُسَارَى:

قال ابن القيم رحمه الله:

كان ﷺ يَمُنُّ على بعضِهم، ويَقتُل بعضَهم، ويُفادِي بعضَهم بالمال وبعضَهم بأسرى المسلمين، قد فعل ذلك كلَّه بحسب المصلحة:

← ففادى أُسارى بدرٍ بمالٍ، وقال: «لو كان المُطْعِم بن عديٍّ حيًّا ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتُهم له».

← وهبط عليه في صلح الحديبية سبعون مُتسلِّحين يريدون غِرَّتَه، فأسَرَهم ثم مَنَّ عليهم.

← وأسَرَ ثُمامةَ بن أُثالٍ سيدَ بني حَنيفة، فربطه بسارية المسجد، ثم أطلقه فأسلَم.

واستشار الصحابة في أُسارى بدرٍ:
     > فأشار عليه الصِّدِّيقُ أن يأخذَ منهم فديةً تكون لهم قوةً على عدوِّهم ويُطلقَهم، لعلَّ اللهَ أن يهديَهم للإسلام.
     > وقال عمر: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكن أرى أن تُمكِّنَنا فنضربَ أعناقَهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها.

فهَوِيَ رسولُ الله ﷺ ما قال أبو بكرٍ ولم يَهْوَ ما قال عمر، فلما كان من الغد أقبَلَ عمر فإذا رسولُ الله ﷺ وأبو بكرٍ يبكيان، فقال: أخبرني يا رسول الله، مِن أي شيءٍ تبكي أنت وصاحبك؟ فإنْ وجدتُ بكاءً بكيت، وإنْ لم أجِدْ بكاءً تباكَيْتُ لِبكائكما، فقال رسول الله ﷺ: «أبكي للذي عَرَضَ عليَّ أصحابُك مِن أخْذِهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة»،
وأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...﴾ الآيات [الأنفال: ٦٧-٦٩].

وقد تكلم الناس في أيِّ الرأيَيْن كان أصْوَبَ:
   > فرجَّحتْ طائفةٌ رأيَ عمر؛ لهذا الحديث،
   > ورجَّحتْ طائفةٌ رأيَ أبي بكرٍ:
- لاستقرار الأمر عليه،
- وموافقتِه الكتابَ الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم،
- ولموافقتِه الرحمةَ التي غلبت الغضب،

- ولتشبيهِ النبي ﷺ له في ذلك بإبراهيم وعيسى وتشبيهِه لعمر بنُوحٍ وموسى،
- ولحصولِ الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى،
- ولخروجِ مَن خرَج مِن أصلابِهم من المسلمين،
- ولحصولِ القوة التي حصلت للمسلمين بالفِداء،
- ولموافقةِ رسول الله ﷺ لأبي بكرٍ أولًا،
- ولموافقةِ الله ﷻ له آخِرًا حيث استقرَّ الأمر على رأيه،
فلِكمال نظر الصديق كأنه رأى ما يستقرُّ عليه حُكم الله آخِرًا،
- وغلبةِ جانب الرحمة على جانب العقوبة.

قالوا: وأما بكاء النبي ﷺ فإنما كان رحمةً لنزول العذاب بمَن أراد بذلك عَرَضَ الدنيا، ولم يُرِدْ ذلك رسولُ الله ﷺ ولا أبو بكرٍ وإنْ أراده بعض الصحابة، فالفتنة كانت تَعُمُّ ولا تصيب مَن أراد ذلك خاصَّةً، كما هُزِمَ العسكر يوم حنين بقول أحدهم: لن نُغلَبَ اليومَ مِن قِلَّةٍ، وبإعجاب كثرتهم لِمَن أعْجَبَتْه منهم، فهُزِمَ الجيش بذلك فتنةً ومِحنَةً، ثم استقرَّ الأمرُ على النصْر والظَّفَر، والله أعلم.

زاد المعاد (٣ / ١٣٠ - ١٣٢).

قناة الكتاب الشهري

12 Oct, 15:44


هدي النبي ﷺ في الجهاد:

قال ابن القيم رحمه الله:

كان ﷺ يلبس للحرب عُدَّتَه، وربما ظاهَرَ بين دِرعَيْن، وكان له الألْوِية والرايات.

وكان إذا ظهر على قومٍ أقام بعَرْصَتِهم ثلاثًا ثم قَفَل [يعني رَجَع].

وكان إذا أراد أن يُغِير انتظر، فإنْ سمع في الحيِّ مُؤَذِّنًا لم يُغِرْ، وإلا أغارَ، وكان ربما بَيَّتَ عدوَّه، وربما فاجأهم نهارًا، وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار.

وكان العسكر إذا نزل انضمَّ بعضُهم إلى بعضٍ حتى لو بُسِطَ عليهم كساءٌ لعَمَّهُمْ.

وكان يُرتِّب الصفوفَ ويُعَبِّيهم عند القتال بيده ويقول: «تقدَّمْ يا فلان، تأخَّرْ يا فلان»،
وكان يستحب للرجل منهم أن يُقاتِل تحت راية قومه.

وكان إذا لقِي العدوَّ يقول: «اللهم مُنزِلَ الكتابِ، ومُجْرِيَ السحابِ، وهازِمَ الأحزابِ: اهزمهم وانصرنا عليهم»، وربما قال: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: ٤٥-٤٦]، وكان يقول: «اللهم أنزِلْ نصْرَك»، وكان يقول: «اللهم أنت عَضُدي وأنت نصيري، وبك أُقاتِل»...

وكان ينهى عن قتل النساء والوِلْدانِ، وكان ينظر في المُقاتِلة، فمَن رآه أنبَتَ قَتَلَه، ومَن لم يُنبِتْ اسْتَحْياهُ.

وكان إذا بعث سَرِيَّةً يُوصيهم بتقوى الله ويقول: «سِيرُوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتِلوا مَن كفر بالله، ولا تُمَثِّلوا، ولا تَغْدِروا، ولا تقتلوا وَلِيدًا».

وكان ينهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو.

وكان يأمر أمير سَرِيَّتِه أن يدعو عدوَّه قبلَ القتال:
إما إلى الإسلام والهجرة،
أو للإسلام دون الهجرة ويكونوا كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيبٌ،
أو بذْل الجزية.
فأيُّها أجابوا إليه قُبِلَ منهم، وإلا استعان بالله وقاتَلَهم.


زاد المعاد (٣ / ١١٦ - ١٢٠).

قناة الكتاب الشهري

11 Oct, 20:57


التشويق إلى الجنة:

قال ابن القيم رحمه الله:

سبحان مَن عَظُمَ جودُه وكرمُه عن أن يُحيطَ به عِلمُ الخلائق؛ لقد أعطى السلعةَ وأعطى الثمنَ، ووفَّق لتكميل العقد، وقَبِلَ المبيعَ على عيبه، وأعاضَ عليه أجَلَّ الأثمان، واشترى عبدَه مِن نفسِه بمالِه، وجمَع له بين الثَّمَن والمُثمَن، وأثنى عليه ومدَحه بهذا العَقد، وهو الذي وفَّقه له وشاءه منه.

فــحـيَّ هـلًا إن كــنــتَ ذا هِـمَّـةٍ فــقـد
حدا بك حادي الشوق فـاطْوِ المراحلا

وقُلْ لِـمنادي حبِّهم ورضاهمُ
إذا ما دعا: لبيك ألفًا كَوامِلا

ولا تنظر الأطلالَ مِن دونهم فإنْ
نظرتَ إلى الأطلال عُدْنَ حـوائلا

ولا تنتظر بـالـسير رِفـقـةَ قـاعـدٍ
ودَعْهُ فإنَّ الشوقَ يكفيك حاملا

وخُـذ منـهمُ زادًا إلـيـهـم وسِـرْ على
طريق الهدى والحب تُصبِحُ واصلا
...

وحيَّ على جنات عـدنٍ فإنها
منازلُك الأولى بها كنت نازلا

ولـكنْ سَباكَ الـكاشِحون لأجـل ذا
وقفتَ على الأطلال تبكي المنازلا

وحيَّ على يـوم الـمزيد بـجنة الــ
ـخلود فجُدْ بالنفس إنْ كنتَ باذلا
...

وقُلْ ساعِدي يا نفسُ بالصبر ساعةً
فـعند اللِّـقـا ذا الـكَدُّ يُـصـبِـحُ زائـلا

فـمـا هـي إلا سـاعـةٌ ثم تـنـقـضـي
ويُصبِحُ ذو الأحزان فرحانَ جاذِلا

لقد حَرَّكَ الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوسَ الأَبِيَّةَ والهِمَمَ العاليةَ، وأَسْمَعَ منادي الإيمان مَن كانت له أذنٌ واعيةٌ، أَسْمَعَ ــ واللهِ ــ مَن كان حيًّا، فهَزَّهُ السماعُ إلى منازل الأبرار، وحَدَا به في طريق سيره، فما حَطَّتْ رِحالُه إلا بِدارِ القرارِ.


زاد المعاد (٣ / ٩٠ - ٩١).

قناة الكتاب الشهري

11 Oct, 11:27


حكم الجهاد وفضله:

قال ابن القيم رحمه الله:

التحقيق أن جنس الجهاد فرض عينٍ: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد؛ فعلى كل مسلمٍ أن يجاهد بنوعٍ من هذه الأنواع.

وأما الجهاد بالنفس ففرض كفايةٍ،
وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواءٌ، كما قال تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
[التوبة: ٤١].

وعلَّق النجاةَ من النار به ومغفرةَ الذنب ودخولَ الجنة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الصف: ١٠-١٢].

وأخبر أنهم إنْ فعلوا ذلك أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب فقال: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا﴾ أي: ولكم خصلةٌ أخرى تحبونها في الجهاد، وهي: ﴿نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف: ١٣].

وأخبر سبحانه أنه اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم، وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أوْدَعَه أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكَّد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكَّد ذلك بأنْ أَمَرَهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ١١١].

فليتأمَّل المُعاقِد مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجلَّه:
- فإن الله ﷻ هو المشتري،
- والثمن: جنات النعيم والفوز برضاه والتمتع برؤيته هناك،
- والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة ومن البشر.


وإنَّ سلعةً هذا شأنُها لقد هُيِّئتْ لأمرٍ عظيمٍ وخطبٍ جسیمٍ:
قـد هـيَّـؤوك لأمـرٍ لـو فَطِنتَ لـه
فارْبَأْ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ


زاد المعاد (٣ / ٨٦ - ٨٨).

قناة الكتاب الشهري

10 Oct, 19:49


تتمة قصة هجرة النبي ﷺ إلى المدينة:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثم ركب فأخذوا بخطام راحلته: هَلُمَّ إلى العَدَد والعُدَّة والسلاح والمَنَعَة، فقال: «خَلُّوا سبيلها فإنها مأمورةٌ»، فلم تَزَلْ ناقتُه سائرةً به لا تَمُرُّ بدارٍ من دُور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم، ويقول: «دَعُوها فإنها مأمورةٌ»، فسارتْ حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم بَرَكَتْ، ولم ينزل عنها حتى نهضَتْ وسارَتْ قليلًا ثم التفتَتْ ورجعَتْ فبركَتْ في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار أخوالِه ﷺ، وكان من توفيق الله لها؛ فإنه أحبَّ أن ينزل على أخواله يُكرمُهم بذلك.

فجعل الناس يُكلِّمون رسولَ الله ﷺ في النزول عليهم، وبادَرَ أبو أيوب الأنصاري إلى رَحْلِه فأدخلَه بيتَه، فجعل رسول الله ﷺ يقول: «المرء مع رَحْلِه»، وجاء أسعد بن زُرارة فأخذ بزِِمام راحلته، فكانت عنده.


وأصبح كما قال قيسُ بن صِرمةَ الأنصاريُّ - وكان ابن عباسٍ يختلف إليه يتحفَّظ هذه الأبيات -:

ثَوَى في قريشٍ بضعَ عشرةَ حِجَّةً
يُـذَكِّـرُ لـو يـلـقـى حـبـيـبًا مُـواتِـيا

ويَعْرِضُ في أهل المواسم نفسَهُ
فلم يَرَ مَـن يُـؤْوي ولم يَرَ داعِـيًا

فـلما أتانا واستقرَّتْ بـه الـنَّوَى
وأصبحَ مسرورًا بطَيْبَةَ راضِيًا

وأصبح لا يـخـشى ظُلامةَ ظـالـمٍ
بعيدٍ، ولا يخشى من الناس باغِيا

بذلْنا له الأموالَ مِن جُلِّ مالِنا
وأنفسَنا عند الوغى والتآسِيا

نُعادي الذي عادَى مِن الناس كلِّهمْ
جميعًا وإنْ كانَ الحبيبَ المُصافِيا

ونـعلمُ أنَّ الله لا ربَّ غـيـرُه
وأنَّ كتابَ اللهِ أصبحَ هادِيا


زاد المعاد (٣ / ٧٢ - ٧٣).

قناة الكتاب الشهري

10 Oct, 14:49


قصة هجرة النبي ﷺ إلى المدينة:

قال ابن القيم رحمه الله:

بلغ الأنصارَ مخرجُ رسول الله ﷺ من مكة وقصدُه المدينةَ، فكانوا يخرجون كل يومٍ إلى الحرَّة ينتظرونه أولَ النهار، فإذا اشتدَّ حرُّ الشمس رجعوا إلى منازلهم.

فلمَّا كان يومُ الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاثَ عشرةَ سنةً من نُبُوَّته خرجوا على عادتهم، فلما حَمِي حرُّ الشمس رجعوا، فصعد رجلٌ من اليهود على أُطُمٍ من آطام المدينة لبعض شأنه، فرأى رسولَ الله ﷺ وأصحابَه مُبيِّضين يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قَيْلَةَ! هذا صاحبُكم قد جاء، هذا جدُّكم الذي تنتظرونه، فثارَ الأنصارُ إلى السلاح ليتلقَّوْا رسول الله ﷺ، وسُمِعت الوَجْبَة والتكبير في بني عمرو بن عوفٍ، وكبَّر المسلمون فرَحًا بقدومه وخرجوا لِلِقائه، فتلقَّوْه وحيَّوْه بتحية النبوة، وأحْدقوا به مُطيفين حولَه والسكينةُ تغشاه والوحيُ ينزل عليه، واللهُ مولاه، وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ.

فسار حتى نزل بقباء
... فأقام في بني عمرو بن عوفٍ أربع عشرة ليلةً، وأَسَّسَ مسجد قباء، وهو أول مسجدٍ أُسِّسَ بعد النبوة.

فلمَّا كان يومُ الجمعة ركب بأمر الله له، فأدركتْه الجمعة في بني سالم بن عوفٍ، فجمَّع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي.


زاد المعاد (٣ / ٧١ - ٧٢).

قناة الكتاب الشهري

09 Oct, 20:40


تتمة في تآمر قريش لقتل النبي ﷺ ومنْعه من الهجرة، وحِفظ الله لنبيه:

قال ابن القيم رحمه الله:

وجَدَّتْ قريشٌ في طلبهما، وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، ففي الصحيحين أن أبا بكرٍ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرَنا، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟! لا تحزن؛ إن الله معنا»، وكان النبي ﷺ وأبو بكرٍ يسمعان كلامهم فوق رؤوسهما، ولكن الله سبحانه عمَّى عليهم أمرهما.

وكان عامر بن فُهيرة يرعى عليهما غنمًا لأبي بكرٍ، ويتسمَّع ما يقال بمكة ثم يأتيهما بالخبر، فإذا كان السَّحَر سرح مع الناس...

ومكثا في الغار ثلاث ليالٍ حتى خَمَدت عنهما نارُ الطلب، فجاءهما عبدالله بن أُريقِط بالراحلتين فارتحلا، وأردف أبو بكرٍ عامرَ بن فُهيرة، وسار الدليلُ أمامهما، وعين الله تَكلَؤُهما، وتأييده يَصحَبُهما، وإسعادُه يُرحِلُهما ويُنزِلُهما.

ولمَّا يئس المشركون من الظَّفَر بهما جعلوا لمَن جاء بهما دِيَة كل واحدٍ منهما، فجَدَّ الناسُ في الطلب، والله غالِبٌ على أمره، فلما مَرُّوا بحي بني مدلج مُصعِدين من قُدَيْد بصر بهم رجلٌ من الحي، فوقف على الحي وقال: لقد رأيت آنِفًا بالساحل أسودةً ما أُراها إلا محمدًا وأصحابه، ففطن بالأمر سُراقة بن مالكٍ، فأراد أن يكون الظَّفَر له خاصةً، - وقد سبق له من الظَّفَر ما لم يكن في حسابه -، فقال: بل هما فلانٌ وفلانٌ خرجا في طلب حاجةٍ لهما، ثم مكث قليلًا، ثم قام فدخل خِباءه وقال لخادمه: اخرجي بالفرس من وراء الخباء وموعدُكِ وراء الأكمة، ثم أخذ رمحَه وخَفَضَ عاليَه يَخُطُّ به الأرضَ حتى ركب فرسه، فلما قَرُبَ منهم وسمع قراءةَ رسول الله ﷺ - وأبو بكرٍ يُكثِر الالتفات، ورسولُ الله ﷺ لا يلتفت - قال أبو بكرٍ: يا رسول الله، هذا سُراقة بن مالكٍ قد رَهِقَنا، فدعا عليه رسول الله ﷺ فساختْ يدا فَرَسِه في الأرض، فقال: قد علمتُ أن الذي أصابني بدعائكما، فادعُوَا اللهَ لي، ولكما عليَّ أن أَرُدَّ الناسَ عنكما، فدعا له رسول الله ﷺ، فأُطلِقَ، وسأل رسولَ الله ﷺ أن يكتب له كتابًا، فكتب له أبو بكرٍ بأمره في أديمٍ، وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة، فجاءه بالكتاب فوفَّى له رسولُ الله ﷺ وقال: «يوم وفاءٍ وبِرٍّ».

وعرض عليهما الزاد والحُملان فقالا: لا حاجة لنا به، ولكن عَمِّ عنا الطلبَ، فقال: قد كُفِيتم، ورجع فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأتُ لكم الخبرَ، وقد كُفِيتم ما هاهنا؛ فكان أولَ النهار جاهِدًا عليهما وآخرَه حارِسًا لهما.

زاد المعاد (٣ / ٦٥ - ٦٧).

قناة الكتاب الشهري

09 Oct, 11:36


قريش تتآمر لِقتْل النبي ﷺ ومنْعِه من الهجرة، وحِفْظ الله لنبيه:

قال ابن القيم رحمه الله:

لمَّا رأى المشركون أصحاب رسول الله ﷺ قد تجهَّزوا وخرجوا وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج عرفوا أن الدار دار مَنَعَةٍ، وأن القوم أهل حلقةٍ وبأسٍ وشوكةٍ، فخافوا خروج رسول الله إليهم ولحوقه بهم فيشتدَّ عليهم أمرُه، فاجتمعوا في دار الندوة ولم يتخلَّف أحدٌ من ذوي الرأي والحِجا منهم ليتشاوروا في أمره، وحضرهم وليهم وشيخهم إبليس - لعنه الله - في صورة شيخٍ كبيرٍ من أهل نجد مشتمل الصماء في كسائه، فتذاكروا أمر رسول الله، فأشار كل أحدٍ منهم برأي والشيخ يردُّه ولا يرضاه، إلى أن قال أبو جهل: قد فرق لي فيه رأيٌ ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: ما هو؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلةٍ من قريشٍ غلامًا نَهْدًا جَلْدًا ثم نعطيه سيفًا صارمًا فيضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ، فيتفرَّق دمه في القبائل، فلا تدري بنو عبد منافٍ بعد ذلك ما تصنع، ولا يمكنها معاداة القبائل كلها، ونسوق إليهم دِيَتَه، فقال الشيخ: لله دَرُّ الفتى! هذا والله الرأي، فتفرقوا على ذلك وأجمعوا عليه، وجاء جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة.

وجاء رسول الله ﷺ إلى أبي بكرٍ نصف النهار في ساعةٍ لم يكن يأتيه فيها مُتقنِّعًا، فقال له: «أَخرِجْ مَن عندك»، فقال: إنما هُمْ أهلُك يا رسول الله، فقال: «إن الله قد أذن لي في الخروج»، فقال أبو بكرٍ: الصحابةَ يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: «نعم»، قال أبو بكرٍ: فخُذْ - بأبي وأمي - إحدى راحلتَيَّ هاتَيْن، فقال رسول الله ﷺ: «بالثَّمَن».

وأمر عليًّا أن يَبيتَ في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريشٍ يتطلَّعون مِن صِير الباب ويرصدونه يريدون بَيَاتَه ويَأْتَمِرونَ أيُّهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله ﷺ عليهم فأخذ حفنةً من البطحاء فجعل يَذُرُّه على رؤوسهم وهم لا يَرَوْنَه، وهو يتلو: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩]، ومضى رسول الله ﷺ إلى بيت أبي بكرٍ فخرجا من خوخةٍ في دار أبي بكرٍ ليلًا.

وجاء رجلٌ فرأى القومَ بِبابِه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدًا، قال: خِبتم وخسرتم، قد والله مَرَّ بكم وذَرَّ على رؤوسكم التراب، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، وهم أبو جهلٍ، والحكم بن العاص، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وأبو لهبٍ، وأُبَيُّ بن خلفٍ، ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، فلما أصبحوا قام عليٌّ عن الفراش، فسألوه عن رسول الله ﷺ، فقال: لا عِلمَ لي به.

زاد المعاد (٣ / ٦٢ - ٦٤).

قناة الكتاب الشهري

08 Oct, 14:45


حادثة الإسراء والمعراج:

قال ابن القيم رحمه الله:

ثم أُسْرِيَ برسول الله ﷺ بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البُراق، صحبةَ جبريل - عليهما الصلاة والسلام -، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البُراق بحلقة باب المسجد.

وقد قيل: إنه نزل ببيت لحمٍ وصلَّى فيه، ولا يصحُّ عنه ذلك البتَّة.

ثم عُرِجَ به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستَفتح له جبريل، ففُتِحَ لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلَّم عليه، فرحَّب به ورَدَّ، وأقرَّ بنبوته، وأراه الله أرواح السعداء من بَنِيهِ عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره.

ثم عُرِجَ به إلى السماء الثانية، فاستَفتَح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلَّم عليهما، فردَّا عليه ورحَّبا به وأقرَّا بنبوته.

ثم عُرِجَ به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف الصدِّيق، فسلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوته.

ثم عُرِجَ به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوته.

ثم عُرِجَ به إلى السماء الخامسة، فلقي فيها هارون بن عمران، فسلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوته.

ثم عُرِجَ به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى، فسلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوته، فلما جاوَزَه بكى موسى، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي أن غلامًا بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.

ثم عُرِجَ به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم، فسلَّم عليه ورحَّب به وأقرَّ بنبوته.

ثم رُفِعَ إلى سدرة المنتهى، ثم رُفِعَ له البيت المعمور، ثم عُرِجَ به إلى الجبار ﷻ، فدنا منه حتى كان قابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاةً.

فرجع حتى مَرَّ على موسى، فقال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قال: بخمسين صلاةٍ، فقال: إن أُمَّتَكَ لا تُطيق ذلك، ارجع إلى ربِّك فسَلْهُ التخفيفَ لأُمَّتِكَ، فالتفتَ إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أنْ نعم إن شئتَ، فَعَلَا به جبريل حتى أتى به الجبار ﷻ وهو في مكانه» - هذا لفظ البخاري في صحيحه في بعض الطُّرُق -، فوضع عنه عشرًا، ثم نزل حتى مَرَّ بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف.

فلم يَزَلْ يتردَّد بين موسى وبين ربه ﷻ حتى جعلها خمسًا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: «قد استحيَيْتُ من ربي، ولكن أرضى وأُسَلِّمُ»، فلما نَفَذَ نادى منادٍ: {قد أمضيتُ فريضَتي وخفَّفتُ عن عبادي}.

زاد المعاد (٣ / ٤٢ - ٤٤).

قناة الكتاب الشهري

07 Oct, 19:26


تتابع البلاء على النبي ﷺ:

قال ابن القيم رحمه الله:

فلمَّا نُقِضت الصحيفةُ وافَقَ ذلك موتَ خديجة رضي الله عنها وموتَ أبي طالبٍ، وبينهما يسيرٌ، فاشتدَّ البلاءُ على رسول الله ﷺ من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه وكاشفوه بالأذى.

فخرج رسول الله ﷺ إلى الطائف رجاء أن يُؤْووه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله، فلم يَرَ من يُؤْوي ولم يَرَ ناصِرًا، وآذَوْه مع ذلك أشدَّ الأذى، ونالوا منه ما لم يَنَلْه قومُه.

وكان معه زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم عشرة أيامٍ لا يَدَعُ أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمه، فقالوا: اخرُج من بلدنا، وأغْرَوْا به سفهاءَهم، فوقفوا له سِماطَيْن، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دَمِيَتْ قدماه، وزيد بن حارثة يَقيهِ بنفسِه حتى أصابَه شِجاجٌ في رأسه، فانصرف راجعًا من الطائف إلى مكة محزونًا.

وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور، دعاء الطائف: «اللهم إليك أشكو ضعف قوَّتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أو إلى عدوٍّ ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، غير أنَّ عافيتك هي أوسعُ لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات وصَلَحَ عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يَحِلَّ عليَّ غضبك، أو ينزل بي سخطك. لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».

فأرسل ربه ﷻ إليه مَلَكَ الجبال يستأمِرُه أن يُطبِقَ الأخْشَبَيْن على أهل مكة - وهما جبلاها اللذان هي بينهما - فقال: «بل أسْتَأْني بهم، لعلَّ الله يُخرِجُ من أصلابهم مَن يعبده لا يشرك به شيئًا».

فلمَّا نزل بنخْلة [موضع قريب من مكة] في مرجعه قام يصلي من الليل، فصرف الله إليه نَفَرًا من الجن، فاستمعوا قراءته، ولم يشعر بهم رسول الله ﷺ حتى نزل عليه: ﴿وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَستَمِعونَ القُرآنَ فَلَمّا حَضَروهُ قالوا أَنصِتوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوا إِلى قَومِهِم مُنذِرينَ. قالوا يا قَومَنا إِنّا سَمِعنا كِتابًا أُنزِلَ مِن بَعدِ موسى مُصَدِّقًا لِما بَينَ يَدَيهِ يَهدي إِلَى الحَقِّ وَإِلى طَريقٍ مُستَقيمٍ. يا قَومَنا أَجيبوا داعِيَ الله وَآمِنوا بِهِ يَغفِر لَكُم مِن ذُنوبِكُم وَيُجِرْكُم مِن عَذابٍ أَليمٍ. وَمَن لا يُجِب داعِيَ الله فَلَيسَ بِمُعجِزٍ فِي الأَرضِ وَلَيسَ لَهُ مِن دونِهِ أَولِياءُ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ﴾ [الأحقاف: ٢٩-٣٢].

زاد المعاد (٣ / ٣٨ - ٤٠).

قناة الكتاب الشهري

07 Oct, 13:34


صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطَّلب:

قال ابن القيم رحمه الله:

لمَّا رأت قريشٌ أمرَ رسول الله ﷺ يعلو الأمور ويتزايد، أجمَعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشمٍ وبني المطلب ابْنَيْ عبد منافٍ: أن لا يُبايِعوهم، ولا يُناكِحوهم، ولا يكلموهم، ولا يُجالِسوهم حتى يُسلِّموا إليهم رسولَ الله ﷺ، وكتبوا بذلك صحيفةً وعلَّقوها في سقف الكعبة، يقال: كتبها: منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: النضر بن الحارث، والصحيح: أنه بغيض بن عامر بن هاشمٍ، فدعا عليه رسول الله ﷺ فشُلَّتْ يده، فانحاز بنو هاشمٍ وبنو المطلب مؤمنُهم وكافرُهم، إلا أبا لهبٍ؛ فإنه ظاهَرَ قريشًا على رسول الله ﷺ وبني هاشمٍ وبني المطَّلب.

وحُبِسَ رسول الله ﷺ ومن معه في الشِّعْبِ شِعْبِ أبي طالبٍ ليلة هلال المحرم سنة سبعٍ من البعثة، وعُلِّقت الصحيفة في جوف الكعبة، وبقوا محبوسين محصورين مُضيَّقًا عليهم جدًّا مقطوعًا عنهم المِيرة والمادة نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد، وسُمِعَ أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشِّعْب.

وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة أولها:
جزى الله عنَّا عبدَ شمسٍ ونوفلا
[عـقـوبـةَ شـرٍّ عـاجِـلًا غيرَ آجـلِ].


وكانت قريشٌ في ذلك بين راضٍ وكارهٍ، فسعى في نقض تلك الصحيفة بعض مَن كان كارهًا لها، وكان القائم بذلك: هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك، مشى في ذلك إلى المُطعِم بن عديٍّ وجماعةٍ من قريشٍ فأجابوه إلى ذلك.

ثم أَطْلَعَ اللهُ رسولَه على أمْر صحيفتهم وأنه أرسل عليها الأَرَضَة فأكلتْ جميع ما فيها مِن جَوْرٍ وقطيعةٍ وظلمٍ إلا ذكر الله ﷻ، فأخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قريشٍ وأخبرهم بأن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإنْ كان كاذبًا خلَّينا بينكم وبينه، وإنْ كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتِنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفتَ، فأنزلوا الصحيفة، فلمَّا رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله ﷺ ازدادوا كفرًا إلى كفرهم.

وخرَج رسول الله ﷺ ومَن معه من الشِّعْب، قال ابن عبد البر: بعد عشرة أعوامٍ من المَبعَث، قال: ومات أبو طالبٍ بعد ذلك بستة أشهرٍ، وماتت خديجةُ بعدَه بثلاثة أيامٍ، وقيل غير ذلك.

زاد المعاد (٣ / ٣٦ - ٣٨).

قناة الكتاب الشهري

06 Oct, 19:01


الألم في الدنيا أمْرٌ لا بد منه لكل أحد، والمؤمن يلتمس رضا الله ولو سخط الناس:

قال ابن القيم رحمه الله:

مَن آمَنَ بالرسل وأطاعَهم عاداه أعداؤهم وآذَوْه، فابْتُلِيَ بما يؤلمه،
وإن لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهم عوقِبَ في الدنيا والآخرة فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم أعظمَ وأدومَ من ألم اتِّباعهم.

فلا بُدَّ مِن حصول الألم لكل نفسٍ آمنَتْ أو رغبَتْ عن الإيمان،

لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة،
والمُعْرِض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداءً ثم يصير في الألم الدائم.

وسئل الشافعي: أيهما أفضلُ للرجل: أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ فقال: "لا يُمَكَّنُ حتى يُبْتَلَى"، والله ﷻ ابْتَلَى أولي العزم من رسله، فلمَّا صبروا مَكَّنَهم.

فلا يظنَّ أحدٌ أنه يَخْلُص من الألم البتَّةَ، وإنما تَفاوَتَ أهلُ الآلام في العقول،
فأعقلُهم مَن باعَ ألمًا مستمرًّا عظيمًا بألمٍ منقطعٍ يسيرٍ،
وأسْفَهُهم مَن باعَ الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر.

فإن قيل: كيف يختار العقل هذا؟ قيل: الحامل له على هذا: النَّقْد والنَّسيئَة، والنفسُ مُوَكَّلَةٌ بالعاجِل: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ [القيامة: ٢٠-٢١]، ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٧]، وهذا يحصل لكل أحدٍ؛ فإن الإنسان مدنيٌّ بالطبع لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إراداتٌ وتصوُّراتٌ، فيطلبون منه أن يوافقَهم عليها، وإن لم يوافقْهم آذَوْه وعذَّبوه، وإن وافقَهم حصل له الأذى والعذاب، تارةً منهم وتارةً من غيرهم.

كمَن عنده دِينٌ وتُقًى حَلَّ بين قومٍ فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ، ولا يتمكَّنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإنْ وافقَهم أو سكت عنهم سَلِمَ مِن شرِّهم في الابتداء، ثم يتسلَّطون عليه بالإهانة والأذى أضعافَ ما كان يخافُه ابتداءً لو أنكَرَ عليهم وخالَفَهم، وإنْ سلم منهم فلا بد أن يُهانَ ويُعاقَبَ على يد غيرهم.

فالحزمُ كلُّ الحزمِ في الأخذ بما قالت أم المؤمنين لمعاوية رضي الله عنهما: "مَن أرضى اللهَ بسَخَط الناس كفاه الله مؤنة الناس،
ومَن أرضى الناسَ بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئًا".


ومَن تَأَمَّلَ أحوالَ العالَمِ رأى هذا كثيرًا فيمَن يُعِين الرؤساءَ على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعِين أهلَ البِدَعِ على بِدَعِهم هَرَبًا مِن عقوبتهم، فمَن هداه الله وألهمه رُشْدَه ووقاه شرَّ نفسِه: امتنع مِن الموافقة على فعل المُحَرَّم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت الرُّسُلُ وأتباعُهم كالمهاجرين والأنصار ومَن ابْتُلِيَ مِن العلماء والعُبَّاد وصالحي الوُلاة والتُّجَّار وغيرِهم.

زاد المعاد (٣ / ١٧ - ١٩).

قناة الكتاب الشهري

06 Oct, 08:07


تتمة مراتب جهاد النفس والشيطان والأعداء:

قال ابن القيم رحمه الله:

② وأما جهاد الشيطان فمرتبتان:

إحداهما: جهاده على دفع ما يُلْقِي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

والثانية: جهاده على دفع ما يُلْقِي إليه مِن الإرادات والشهوات.

فالجهاد الأول يكون بِعُدَّة اليقين،
والثاني بِعُدَّة الصبر.

قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤].
فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين؛
فالصبر يدفع الشهوات والإرادات،
واليقين يدفع الشكوك والشبهات...

③④ وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب:
١- بالقلب،
٢- واللسان،
٣- والمال،
٤- والنفس.

وجهاد الكفار أخصُّ باليد،
وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان
...

وأما جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبِدَع فثلاث مراتب:

١- الأولى: باليد إذا قَدَرَ،
٢- فإن عَجَزَ انتقل إلى اللسان،
٣- فإن عَجَزَ جاهَدَ بقلبه.


فهذه ثلاثَ عَشْرَةَ مرتبةً مِن الجهاد، ومَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ نفسَه بالغزو: مات على شعبةٍ مِن النفاق.

زاد المعاد (٣ / ١٢ - ١٣).

1,511

subscribers

8

photos

5

videos