قال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (٦٣) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (٦٤) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (٦٥) إنها ساءت مستقرا ومقاما (٦٦) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (٦٧) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (٦٨) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (٦٩) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (٧٠) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا (٧١) والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (٧٢) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (٧٣) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (٧٤) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما (٧٥) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (٧٦) قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما} [الفرقان].
أقول: هذه الآيات يحفظها كثير من المسلمين، غير أن فيها بعداً غائباً عن تفكير كثير منهم، فالآيات بدأت بذكر (عباد الرحمن) شرَّفهم الله عز وجل بإضافاتهم إلى اسمه الرحمن، وفي ذلك دلالة على أن وجود مثل هؤلاء في الناس هو من أعظم آثار رحمة الله عز وجل، لذا ذكر من أحوالهم دعاءهم: {واجعلنا للمتقين إماماً}.
وفي قوله: {واجعلنا للمتقين إماماً} تصحيح للطريقة السلفية، وذلك أنهم ما دعوا بهذا الدعاء إلا والطريقة الصحيحة اقتداء الآخِر بالأول دون إحداث في الدين، ولا شك أن الصحابة الكرام هم رأس هذه الطريقة وأول من تنطبق عليهم هذه الأوصاف بعد الأنبياء، وفيه حجية الإجماع.
غير أن أهم ما يعلَّق عليه في الآيات من وجهة نظري قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}.
هذه أهم صفات عباد الرحمن: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، فما بالك بقوم يفشو فيهم الإلحاد؟ وأما قتل النفس فأعظمه وأشده قتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق، وهذا ما يفشو في المجتمعات المادية باسم الإجهاض، مع كثرة الانتحار الناتج عن العدمية الناتجة عن الإلحاد، وأما الزنا فهذا فشوُّه فيهم ظاهر إلى درجة المجاهرة وعدم الاستتار منه.
فالعجيب أن يسمَّى من تفشو فيهم الصفات النقيضة لعباد الرحمن بالمجتمعات المتقدمة والمتحضرة لمجرد وجود بعض التقدم التقني أو الاقتصادي، ويا ليت شعري ما الذي يراد من هذه الأمور إلا حفظ الدين والنفس والعرض؟
ولا مشكلة في طلب أسباب القوة، ولكن المصيبة في أن تحقر ما معك من الخير وتسخر من المسلمين المستقيمين وتسبُّهم لحساب كفار نالوا بعض الوسائل وضيَّعوا المقاصد، تفضِّل العالماني على المسلم بناء على مقاييس عالمانية لا قرآنية، ثم تُلزم المسلم بهذه الرؤية، هذا الخبط والخلط فاش جداً بين المنتسبين للإسلام وبُنيت عليه بعض المشاريع الإصلاحية، فلو فرضنا وجود تعارض بين الأمرين لكان ترجيح من اتصف بأخلاق عباد الرحمن على من حصَّل عرضاً من الدنيا، لا العكس؛ تسخر من المسلم وتحتقره لأجل إعجابك المفرط بكافر تُنسَج في خيالك الأساطير عنه.
وتامَّل قوله تعالى: {قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما}، فإذا كان الله عز وجل لا يعبأ بهم إذا لم يوحِّدوا فما بالنا اليوم عامة مشاريعنا تبدأ من بُنيَّات أفكار الكفار؟
وعُد إلى أول الآيات: {إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} ومِن أجهل الجهال: المستهزئون بالسنن الذين إذا رأوا شخصاً سمته ظاهر على السنة استهزأ به، وتجده يُظهر تعظيم الغربيين الذين نالوا بعض الوسائل وضيعوا كل المقاصد أو أعظمها، وكثير من أصحاب المشاريع الإصلاحية المزعومة يشركون العالمانيين بكراهية السمت الظاهر والاستهزاء بالسنن، فتجده يقول: (ليس واجباً) ومعناه أنه مستحب، ولكن هذا المستحب يتوارد أعضاء التيار على تركه ثم يشركون العالمانيين بالحرب الخفية أو الجلية على هذا السمت فتجدهم إذا ذكروا موقفاً سلبياً عن بعض أصحاب السمت الظاهر ( وهم لهم كلف بتتبع هذا الأمر ) يربطون بين هذا التصرف والسمت الظاهر فيقولون ( رأيت رجلا لحيته كذا وهو يفعل كذا وكذا ) ويتكرر ذلك منهم حتى يحصل ارتباط ذهني بين التصرفات السلبية والسمت الظاهر ، وتجد المرء منهم يشمئز من مشهد الإزار القصير ويعلق على من يلبسه وهو ساكت عن المتبرجات وذوات اللباس الضيق وفيه فتنة ظاهرة ثم بعد ذلك تجده يثرثر بالنهضة ، وأساس نهضته الاقتداء بمن ضيع المقاصد وحصل بعض الوسائل مع احتقار ظاهر للكثير من المطالب الشرعية الكبرى.
=