إن أردت أن تحجز أفضل المقاعد في المسرح السياسي، ستكون المعارضة في آخر الصف، حيث الأضواء غير مسلَّطة، ولا يلومك أحد، هناك حيث يجلس صف واسع يشمل مختلف الأطياف ففيه النقاد بحق، ولكن فيه كذلك الكسالى الذين يحبون أن يقولوا: لا لأي شيء، ويجلس الفوضويون بجانبهم يصفقون لكل ما قيل فيه: لا، الأمر شبيه بمعارضي نظام التعليم في جامعة، فقد يكونون بحق أذكى من النظام التعليمي القائم ويريدون للناس الأفضل، لكنَّهم كذلك قد يكونون الأشدَّ غباءً من النوع الذي يعترض على التعليم لا جودته!
وأهم ما قد يغفله صف الكسالى أنهم سلطة! لذلك تسعى المعارضة الحقيقية لبلورة رؤيتها السياسية وإنضاج فكرها السياسي، فهي حذرة من الوقوع في شرَك النزعة اليسارية الغبية في شتم كل شيء، بل أن يكون لديها رؤية تختلف عن الوضع القائم، سواء في تشخيصه، أو بيان ثغراته، أو الوصول إلى حلول، دون أن تحول قصائد الهجاء إلى فكرها وسياستها، ليست باكونين الذي كان كما تصوره مسرحية (ماركس في سوهو) حين يُسأل عن نظرته للدولة يقول تبًا للدولة! لا تنظر للفكر السياسي على أنَّه لون من الشعر الحر، بل فكر ينبغي أن يكون مبنيًا على نظرة علمية.
مختلف الأطياف الدكتاتورية في العالَم كانت في المعارضة، ستالين كان معارضًا وسجن، وزعيم ألمانيا في منتصف القرن الماضي كان معارضًا وسجن قبل تعيينه مستشارًا في 1933، صدام حسين كان معارضًا، أنور السادات وجمال عبد الناصر كانا في المعارضة، ومن أخطر ما يمكن أن تبقي المعارضة عليه هو عدم التفريق بين التاريخ، وبين المستقبل، فيتحول الحديث عن نظرتها السياسية وبرنامجها إلى سمفونية طويلة مشبعة بشتائم السابقين، حتى لو أضحوا من الماضي، فلك أن تتصور المالكي في العراق كان وهو في السلطة منهمكًا بمعارضة يزيد بن معاوية!
في هايتي سيطرت عصابات المخدرات والجريمة المنظمة على العاصمة، وحين يسأل أحد قادتهم عما يريدون يطلقون شعارات يسارية ضد الدولة والطبقة الفاسدة من السياسيين، كأنَّ في هذا تسويغًا لممارساتهم من تهجير واغتصاب، وقد يتحول الحديث عن سلطة الماضي رغم أنها تاريخية، كأنها مرشح انتخابي حاضر ينافس المعارض الذي نال السلطة، حتى إن تكلم أحد في وجه تلك المعارضة السلطة قيل له: أنت تحن لأيام القيصر، أو من تلاميذ راسبوتين.
المعارضة قد تكون وجهًا آخر للحكم، وهي التي تعلمت على يديه لكنَّها أطلقت أدواتها الدعائية، وقد تفتقد النظرة المختلفة، فلا يمكن لأي معارضة حقيقية أن تجعل الناس قديسين لمجرد أنهم شاركوا في عمل سياسي، لا يمكن لأي معارضة جادة ألا تخضع نفسها للتقييم، وإلا تعيد سيرة الأولين، بأخذ مطلق السلطات، بحجة إلهاء الجماهير بالتاريخ الدعائي ضد السلطة التاريخية، وتصوير نفسها معيارًا لتجلس آخر الصفوف حيث لا أحد يلومها على شيء.