إنّ أدنى قراءة لتاريخ الأمم والملوك، تجعلك مُتأهّبًا حسّاسًا لصورة "الموت الطبيعي" للساسّة والملوك والقادة والأنبياء، لأنّهم مستهدفون مُهدّدون يُزاحمون قوى أخرى بطبيعة الحال.
كان الرسول ﷺ، يملك أهم مشروع أُمَمي صاعد في المنطقة وكانت خطورة المشروع الجديد بالنسبة للحضارات القائمة واضحة بل ولها نبوءاتها القديمة.
وأنجز الرسول ﷺ مهمّة تثبيت الأمّة وسط تزاحم إمبراطوري شديد في محيط الجزيرة، وفي بيئة صعبة يملؤها فِتَن النفاق وكيد الأقلّيات وبُؤس البداوة داخل الجزيرة.
وبالرغم من هذا كلّه، لم يمت الرسول ﷺ مقتولًا ولا مغدورًا، كما لم يمت قبل اكتمال مشروعه، فلم يتركنا حيارى ولم يترك الدّين مبتورًا منقوصًا.
درّب أبو القاسم ﷺ صحابته على الاجتهاد، وألزمهم ممارسة الفقه، وكلّفهم قيادة السرايا، وعلّمهم الحكمة وتدبير شؤون أقوامهم، واحتساب الأموال وتقدير الزكاة، وعدم الغشّ والحرص في مراقبة الأشهر والأيام.
وأرسى منظومة الأسرة وعلاقة الزوج بزوجه وبابنته وأبيه وأمّه وأخوته، أخبركَ أن تطرق الباب على جارك ثلاثًا، أن تستأذن قبل الدخول، وأن تمشي في حاجة صديقك عنده أبلغ من أن تعتكف معتزلًا في محرابك.
اكتملت الدعوة بأركانها، وأنزلت آية التمام (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا) وقالت اليهود: لو أُنزلت علينا آية مثلها، لاتخذنا يوم نزولها عيدًا.
وشاهد الرسول ﷺ أمّته وهي تُصلّي دونه، خلف أبي بكر في لحظة سكينة اطمأنّ بها لانتقال المشروع من بعده، يرى أمّته يصلّون بنفس الطريقة التي علّمهم إيّاها وانشرح وهو يُسلّمهم handover إدارة الأمّة من بعده.
لكن ما الاسثنائي هنا؟
إذا نظرت لمعظم الأديان والطوائف القائمة في العالم، فإن علاقة المتدّينين بأديانهم غالبًا ما تتأسس على (الشعور بالذنب) Guilt تمامًا كما في التصور المسيحي والتصور الشيعي لعلاقة الفرد بإمامه ورسوله.
حين تأخذ جولة في كنائس أوروبا والمشرق، فستغرق ذهنيًا وشعوريًا بكلّ تلك اللوحات والفنون المُعبّرة عن لحظة الخذلان والمعاناة وحالة المظلومية والاضطهاد والشعور المُزمن بـ (عدم الاكتمال) للحظة تاريخية ماضية لم تسر بالاتجاه الصحيح.
هذه التعبيرات الفنية من المظلومية والدماء ولوم الذات وإثارة الشعور بالذنب في الدّين المسيحي لا تفترق عنها في شيء حالة المظلومية في المشروع الشيعي وعدد آخر من الأديان.
خلافًا لذلك كان موت الرسول ﷺ لحظة مكتملة، موت هادئ، تدريجي، موت يُحيطه الهيبة والسلام Peaceful وهذا يعني أن الرسول لم يترك أمته في حالة غضب وعجز وشعور بالذنب حيال نبيهم.
كان موت النبي حتميًا لكنّ صورته كانت طبيعية أكثر مما ينبغي، وهذا هو الفرق بين أن تترك وراءك (أمّة متصالحة مع العالم والوجود) وبين أن تترك وراءك "طائفة Cult" تحرّكها عناقيد الغضب والحقد تشعر بذنب الخذلان.
كان الصحابة نِعمَ الرجال نصروا رسولهم ووقّروه وكان أحبّ إليهم من أنفسهم وولدهم بالقول والفعل.
من هنا كانت علاقة المسلمين برسولهم آمنة Secure فنسبة أفراد الأمة إلى الرسول الكريم نسبة فخر واعتزاز وامتنان ولم تكن علاقة مأزومة يشوبها التوجّس والريبة بفعل التقصير والعجز وجلد الذات والحطّ منها.
هذا البُعد تحديدًا هو ما سيفتح لاحقًا ممكنات "العالَمية" بالنسبة للإسلام خلافًا للمشاريع الأخرى التي تملك حدودًا نظرية لقابليتها للتوسع والاستقرار والتي تسعى لاستذناب أشخاص جُدد غير مُذنبين بالأساس.
صُمّم الإسلام كي يكون مشروعًا أمّميًا مُستقرًّا حتّى في (أوقات الاستقرار وأزمنة الرخاء) مُستقلًّا بذاته، لا يحتاج عدوًّا كي يُبرّر وجوده.
خلافًا لكثير من الحركات الدينية، لم يُصمّم الإسلام كي يكون مشروعًا (انتقاميًا) يعجز عن التواجد إلا في حالة عُصابية مستمرة لتخليق العدو وممارسة الإسقاط النفسي projection عبر جلب لحظة تاريخية ماضوية وإسقاطها على الآخر ومن ثمّ محاربته وعدائه.
الملمح السيكولوجيّ الثاني المهم لـ (موت النبي)، والذي سأجيء عليه بالتفصيل في منشور آخر، فهو أنّ الإسلام قد يكون الدّين الوحيد الذي اعترف بأهلية العقل البشري عبر ختم النبوة. إذ وضع اعتبارًا لكفاءة الأتباع بغياب نبيّهم، وكأنّه يقول:
تملكون بين يديكم من المبادئ والقيم، ما يكفيكم حتى تُقام الساعة. وعالَمٌ فيه المسلمون يُقيمون الحقّ وينكرون الباطل، عالَمٌ لن يحتاج لنبيٍ آخر.
هكذا في لحظة واحدة انقطع خبر السماء، وانبعثت الأمّة واعترفت السماء بالعقل المسلم المُسدّد بالوحي كي يكون أمينًا على الناس والحق وناصرًا للمظلومين والضعفاء إلى يوم الدين.
فصلِّ الّلهم على سيدنا محمّد بن عبدالله، سيّد العُرب والعجم مُعلّم الناس الخير وآله وصحبه وسلّم