قناة مَسَار | محمود أبو عادي @masarchannel Channel on Telegram

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

@masarchannel


أشارك هنا تحليلات شخصية من علم النفس والتحليل النفسي وعلم الاجتماع الثقافي والنقدي | هذه القناة هي محاولة لتأسيس أرضية معرفية لفهم الذات في العالَم المعاصر وتجريدها من هيمنة خطابات شائعة تُرهِق الذات بأعباء متوهّمة واستدخال مفاهيم التزكية والتربية الروحية

قناة مَسَار | محمود أبو عادي (Arabic)

تعد قناة 'مَسَار' على تطبيق تيليجرام واحدة من القنوات المميزة التي تقدم تحليلات شخصية من علوم النفس والتحليل النفسي وعلم الاجتماع الثقافي والنقدي. تهدف هذه القناة إلى إنشاء مساحة معرفية تساهم في فهم الذات في العالم المعاصر وتحريرها من الأفكار السائدة التي تثقل الذهن بأعباء زائفة. من خلال استعراض مفاهيم التزكية والتربية الروحية، تقدم قناة 'مَسار' محتوى ملهم يشجع على التأمل والنمو الشخصي. إذا كنت تبحث عن تجربة تعليمية مميزة تثري حياتك العقلية والروحية، فإن قناة 'مَسار' تعد خيارًا مثاليًا لك.

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

14 Sep, 11:04


تزخر لحظة (موت النبي ﷺ) بملامح سيكولوجية دقيقة، ادّعي أنها لم تحظَ بتحليلها النفسانيّ العميق من حيث أثرها على تصوّرات الأمّة تجاه أنفسهم وتاريخهم والآخرين.

إنّ أدنى قراءة لتاريخ الأمم والملوك، تجعلك مُتأهّبًا حسّاسًا لصورة "الموت الطبيعي" للساسّة والملوك والقادة والأنبياء، لأنّهم مستهدفون مُهدّدون يُزاحمون قوى أخرى بطبيعة الحال.

كان الرسول ﷺ، يملك أهم مشروع أُمَمي صاعد في المنطقة وكانت خطورة المشروع الجديد بالنسبة للحضارات القائمة واضحة بل ولها نبوءاتها القديمة.

وأنجز الرسول ﷺ مهمّة تثبيت الأمّة وسط تزاحم إمبراطوري شديد في محيط الجزيرة، وفي بيئة صعبة يملؤها فِتَن النفاق وكيد الأقلّيات وبُؤس البداوة داخل الجزيرة.

وبالرغم من هذا كلّه، لم يمت الرسول ﷺ مقتولًا ولا مغدورًا، كما لم يمت قبل اكتمال مشروعه، فلم يتركنا حيارى ولم يترك الدّين مبتورًا منقوصًا.

درّب أبو القاسم ﷺ صحابته على الاجتهاد، وألزمهم ممارسة الفقه، وكلّفهم قيادة السرايا، وعلّمهم الحكمة وتدبير شؤون أقوامهم، واحتساب الأموال وتقدير الزكاة، وعدم الغشّ والحرص في مراقبة الأشهر والأيام.

وأرسى منظومة الأسرة وعلاقة الزوج بزوجه وبابنته وأبيه وأمّه وأخوته، أخبركَ أن تطرق الباب على جارك ثلاثًا، أن تستأذن قبل الدخول، وأن تمشي في حاجة صديقك عنده أبلغ من أن تعتكف معتزلًا في محرابك.

اكتملت الدعوة بأركانها، وأنزلت آية التمام (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا) وقالت اليهود: لو أُنزلت علينا آية مثلها، لاتخذنا يوم نزولها عيدًا.

وشاهد الرسول ﷺ أمّته وهي تُصلّي دونه، خلف أبي بكر في لحظة سكينة اطمأنّ بها لانتقال المشروع من بعده، يرى أمّته يصلّون بنفس الطريقة التي علّمهم إيّاها وانشرح وهو يُسلّمهم handover إدارة الأمّة من بعده.

لكن ما الاسثنائي هنا؟

إذا نظرت لمعظم الأديان والطوائف القائمة في العالم، فإن علاقة المتدّينين بأديانهم غالبًا ما تتأسس على (الشعور بالذنب) Guilt تمامًا كما في التصور المسيحي والتصور الشيعي لعلاقة الفرد بإمامه ورسوله.

حين تأخذ جولة في كنائس أوروبا والمشرق، فستغرق ذهنيًا وشعوريًا بكلّ تلك اللوحات والفنون المُعبّرة عن لحظة الخذلان والمعاناة وحالة المظلومية والاضطهاد والشعور المُزمن بـ (عدم الاكتمال) للحظة تاريخية ماضية لم تسر بالاتجاه الصحيح.

هذه التعبيرات الفنية من المظلومية والدماء ولوم الذات وإثارة الشعور بالذنب في الدّين المسيحي لا تفترق عنها في شيء حالة المظلومية في المشروع الشيعي وعدد آخر من الأديان.

خلافًا لذلك كان موت الرسول ﷺ لحظة مكتملة، موت هادئ، تدريجي، موت يُحيطه الهيبة والسلام Peaceful وهذا يعني أن الرسول لم يترك أمته في حالة غضب وعجز وشعور بالذنب حيال نبيهم.

كان موت النبي حتميًا لكنّ صورته كانت طبيعية أكثر مما ينبغي، وهذا هو الفرق بين أن تترك وراءك (أمّة متصالحة مع العالم والوجود) وبين أن تترك وراءك "طائفة Cult" تحرّكها عناقيد الغضب والحقد تشعر بذنب الخذلان.

كان الصحابة نِعمَ الرجال نصروا رسولهم ووقّروه وكان أحبّ إليهم من أنفسهم وولدهم بالقول والفعل.

من هنا كانت علاقة المسلمين برسولهم آمنة Secure فنسبة أفراد الأمة إلى الرسول الكريم نسبة فخر واعتزاز وامتنان ولم تكن علاقة مأزومة يشوبها التوجّس والريبة بفعل التقصير والعجز وجلد الذات والحطّ منها.

هذا البُعد تحديدًا هو ما سيفتح لاحقًا ممكنات "العالَمية" بالنسبة للإسلام خلافًا للمشاريع الأخرى التي تملك حدودًا نظرية لقابليتها للتوسع والاستقرار والتي تسعى لاستذناب أشخاص جُدد غير مُذنبين بالأساس.

صُمّم الإسلام كي يكون مشروعًا أمّميًا مُستقرًّا حتّى في (أوقات الاستقرار وأزمنة الرخاء) مُستقلًّا بذاته، لا يحتاج عدوًّا كي يُبرّر وجوده.

خلافًا لكثير من الحركات الدينية، لم يُصمّم الإسلام كي يكون مشروعًا (انتقاميًا) يعجز عن التواجد إلا في حالة عُصابية مستمرة لتخليق العدو وممارسة الإسقاط النفسي projection عبر جلب لحظة تاريخية ماضوية وإسقاطها على الآخر ومن ثمّ محاربته وعدائه.

الملمح السيكولوجيّ الثاني المهم لـ (موت النبي)، والذي سأجيء عليه بالتفصيل في منشور آخر، فهو أنّ الإسلام قد يكون الدّين الوحيد الذي اعترف بأهلية العقل البشري عبر ختم النبوة. إذ وضع اعتبارًا لكفاءة الأتباع بغياب نبيّهم، وكأنّه يقول:

تملكون بين يديكم من المبادئ والقيم، ما يكفيكم حتى تُقام الساعة. وعالَمٌ فيه المسلمون يُقيمون الحقّ وينكرون الباطل، عالَمٌ لن يحتاج لنبيٍ آخر.

هكذا في لحظة واحدة انقطع خبر السماء، وانبعثت الأمّة واعترفت السماء بالعقل المسلم المُسدّد بالوحي كي يكون أمينًا على الناس والحق وناصرًا للمظلومين والضعفاء إلى يوم الدين.

فصلِّ الّلهم على سيدنا محمّد بن عبدالله، سيّد العُرب والعجم مُعلّم الناس الخير وآله وصحبه وسلّم

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

06 Sep, 19:41


من تمام الإيمان وشهود أسماء الله في كونه وأقداره، أن يشهد المُؤمن ألطاف الله ليس فيما يحصل فحسب، وإنّما أن يلتقط ألطافه فيما لا يحصل وكان بإمكانه أن يحصل أيضًا، ولكنّ الله كفاه (الكافي) وجنّبه أمورًا لم يعلم عنها شيئًا.

يُنبّهنا القرآن لهذا الملمح الإيماني في سورة الكهف كي لا يقع المؤمن فريسة فخّ الاستحقاق المُتوهّم لنجاحاته.

فصاحب الجنّتين حين اغترّ بما لديه من ثراء وسعة وبركة في جنّاته، يأتي القرآن على لسان صاحبه المؤمن، كي يُنبهنا للمُمكنات الإحصائية الأخرى لحاله الذي عليه:

إنّه يقول له من الصحيح أنّك اليوم تملك هاتين الجنّتين العامرتين بثمارها وخيراتها..

لكن، كل هذه الأحوال السليمة مُعرّضة لمصائب لا يُمكن السيطرة عليها، كأن يصبها حُسبانًا (عذابًا) من السماء، وحينها لن تكون هذه الأرض غير قابلة للزراعة فحسب، بل عندها لن تكون قابلة لأن يطأها إنسان أساسًا أو أن يمشي عليها أحدٌ بقدميه (صعيدًا زلقًا).

احتمال إحصائي آخر، كان بإمكان الماء الذي يُحيط اليوم بجناتك، أن تبتلعه الأرض وأن يضيع مُشتّتًا في أجوافها وحين سيستحيل عليك إخراجه أو استخراجه أو الاستفادة منه أنت وجناتك كلّها.

هذا مَشهَد مُتكرّر في حياة الناس اليومية، خاصّة مع "لسعة" الأدمغة والأذهان التي تسبّبت بها علوم الإدارة وكُتيبات النجاح المعنونة بـ (كيف تصير ثريًا؟) و (كيف تُصبِح ناجحًا؟) وهذا الوهم المغلوط -إحصائيًا كما تشير الدراسات- من أنّ "النجاح" حتمي لمن يتّبع مجموعة خطوات محدّدة سيقولها لك خبير النجاح في كتابه.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، انتشار كلّ هذه الخطابات المأزومة التي تُغذّي هذه الهواجس اللاواعية للبشر ورغبة الإنسان اليوم لتأليه نفسه Deification، وجعل نفسه إلهًا يظنّ أنّه بتدخلاته يُمكنه أن يُحيّد جميع المتغيرات، أن يصرف عن نفسه الأذى وأن يجلب لنفسه الخير عبر خطوات حتمية.

والوجه الآخر لهذه الرغبة العُصابية لتأليه الذات: سعي الإنسان النّاجح لتعميم تجربته على الآخرين وكأنّ وصوله لما هو عليه إنّما هُو نتيجة طبيعية لعقله وتدبيره واجتهاده (إنّما أوتيته على علمٍ عندي).

تُسمّى هذه الظاهرة بـ "الغطرسة المعرفية" Epistemic Arrogance كما يصطلح عليها نسيم طالب المُختص بالإحصاء الرياضي، وهذه الغطرسة تعبير عن مبالغة البشر بقدراتهم على التنبّؤ بالأشياء التي ستحصل، بسبب ثقتهم المُفرطة بالمعرفة التي لديهم (التي هي في الغالب ضئيلة ومحدودة جدًّا إذا ما قيست بعدد المتغيرات الإحصائية التي تتحكّم بالظاهرة).

ومن الدراسات الشهيرة التي تقصّت ظاهرة (الغطرسة المعرفية) ما أجراه باحثان من جامعة هارفارد طلبوا فيها من المشاركين الإجابة على أسئلة مُحدّدة عن طريق اختيار مدى رقمي لإجاباتهم ما يُعطي مرونة وأريحية بالإجابات (مثال: "كم عدد أشجار الخشب الأحمر في متنزّه الخشب الأحمر بكاليفورنيا؟" والإجابة تكون: "أنا متأكد بنسبة 98٪ أن هناك عدد بين (س) و (ص) من الأشجار").

اكتشف الباحثون أن المشاركين، على الرغم من تأكّدهم بنسبة 98٪ من إجاباتهم، كانوا مخطئين في 45٪ من الأحيان! ومن المفارقات الطريفة أنّ المشاركين بالدراسة كانوا من حملة ماجستير إدارة الأعمال MBA من هارفارد.

بمعنى آخر، اختار المشاركون مدى ضيّق للإجابات، فأخطؤوا. كان بإمكانهم أن يزيدوا المدى كي يشمل الأرقام الصحيحة، لكنّهم وقعوا في فخّ (الغطرسة المعرفية) حين بالغوا في تقدير قدرتهم على التخمين والتنبّؤ، ولو اختاروا مدىً أوسع -معترفین بجهلهم- لحقّقوا نتائج أفضل بكثير.

من المهم أن ندرك أنّ ما تشير له الدراسة هنا، هو التفاوت الكبير بين ما نعرفه وما نظنّ أنّنا نعرفه. نحن متغطرسون لأنّنا نعتقد أنّنا نعرف أكثر مما نعرفه حقًا.

تذكّرنا هذه الدراسات بالأية الكريمة في سورة الزمر عن غطرسة الإنسان وشعوره بالاستحقاق:

ثُمّ إذا خوّلناه نعمةً منّا.. قال إنّما أوتيته على علم

بل هي فتنة.. ولكنّ أكثرهم لا يعلمون


الواقع بحسب المنطق الإحصائي المُعقّد:

مُقابل كُل شخص ناجح يُحدّثك عن نجاحه على الشاشات، ثمّة 99 شخص آخر يأكلون السردين على العشاء، كانوا قد اتّبعوا نفس الخطوات لكنّهم فشلوا تمامًا وخسروا كلّ ما لديهم.

يُعيدنا هذا المثال إلى علم النفس الإدراكي والانحياز النفسي الشهير المُسمّى "انحياز النجاة" Survivorship bias إنّ قصص النجاح تُلغي الوعي الإحصائي بأولئك الذين لم يتمكّنوا من النجاة وهُم كُثر، كما تُلغي دور التوفيق الإلهي وعناصر أخرى مثل التوقيت المناسب وتهيّؤ الظروف وهي أمور خارجة عن السيطرة تلعب الدور الأكبر في تحقيق النجاح.

كما يُذكّرنا هذا بمفهوم (المكتبة المُضادة) Antilibrary لدى أمبرتو إيكو، فالأهم من الكُتب التي قرأتها: الكُتب التي لم تقرأها، والكتب التي تعي أنّك لا تعلم عنها شيئًا.

إنّ وَعيك بحدود معرفتك وإدراكك لجهلك هو ما يجعلك إنسان واعي حقًّا وليس العكس.

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

05 Sep, 09:53


غالبًا ما يتمّ التعاطي مع حوادث الاغتيال الإسرائيلية بوصفها عمليات تصفية فردية لغايات أمنية بحتة.

من هنا أحاول في هذا المقال أن أقدّم مُقاربة سيكولوجية اجتماعية للاغتيالات من منظور الإدارة الإسرائيلية، وهي مُقاربة تستند لعدد من المُعطيات الهامّة التي يُقدّمها كتاب (انهض واقتل أوّلًا) للصحافي الإسرائيلي رونين برغمان، هو كتاب مهم جدًّا يجيء في 800 صفحة.

المُقاربة البسيطة التي أحاول تقديمها أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية في اغتيال قادة المقاومة ورموزها، تسعى لتحقيق مُكتسبات وأبعاد مختلفة بشكلٍ متوازٍ:

- بُعد عملياتي: بإضعاف القدرات التخطيطية والحركية لحركات المقاومة بتصفية العقول المُدبِّرة.

- بُعد إعلامي: متمثّل بسياسة اليد الطويلة - بإمكانية الوصول (الوصولية الإسرائيلية) لأي أحد بأي مكان بأي وقت بلا ضوابط أو مُحدّدات.

- بُعد استخباراتي: متمثّل بالتعيين أو التخريط mapping الدقيق للرموز والعناصر المؤثّرة في حركات المقاومة ومراقبتهم استخباراتيًا من مدّة زمنية طويلة تسبق قرار التصفية.

- بُعد سيكولوجيّ: عبر إحباط النموذج المُحتَفى به لدى الشعوب (الأبطال، قادة الكتائب، الناطقون الإعلاميون أصحاب الكاريزما..).

- بُعد سُلطوي: أو ما يُسمّيه ميشيل فوكو بـ"السُّلطة التأديبية" (Disciplinary Power)، حيث تُستخدم العقوبات القاسية لترويض المجتمعات وإجبارها على الامتثال.

- بُعد سيكولوجيّ-اجتماعي: متمثّل بإحباط الشعوب ودفعهم نحو اليأس أمام كلّ بريق أمل يظهر أمامهم ممّا يُؤدّي لتكريس العجز المكتسب لدى المجتمعات المُقاوِمة.

وعلى أيّة حال، أحاول منذ بدء الحرب تقديم مُعطيات علمية جديدة للمجال العربي، لتوسعة النقاش حول ما يعرفه عدوّنا عنّا وعمّا يفعله بنا من هندسة اجتماعية مُمنهجة تستند لخبرات تراكمية في حقل علم النفس والاجتماع.

وكنت أحاول تقديم مُقاربات أدّعي أنّها لم تُعالَج بمنظور سيكولوجيّ في النطاق العربي من قبل، تحديدًا بعيدًا عن النقاش الاختزالي لملفات "الصحّة النفسية" بصيغتها المُبسّطة (ما هي الاضطرابات النفسية التي تحدث لنا بسبب الحرب؟) وإنّما النظر في ديناميات الظاهرة نفسيًا، ما يشعر به الإنسان وكيف يعتمل هذا الشعور في تغيير صورته عن ذاته، وتشويه علاقته بالمجتمع، وتأزيم أو تعميق علاقته بالله عزّ وجلّ، وبمواقفه حيال المقاومة والعدو.. كما فعلت في مادتين سابقتين بعنوان:

المعاناة النفسية لبتر الأعضاء.. أن تشاهد جسدك منقوصًا مرّة واحدة وللأبد

وكذلك الحال في مادة:

سيكولوجية التديّن.. البُنية التحتيّة للمقاومة في غزة

التي أقدّم فيها للقارئ العربي، النموذج الديناميكي المُوسّع لعالم النفس الأمريكية كريستال بارك في جامعة كونيتيكت، حول الدّين كمصنّع للمعنى المُتغيّر وفق مراحل مختلفة من حياتنا كأفراد، خلافًا للمنظور الستاتيكي للدّين بوصفه يمنح المعنى بصيغة أحادية مرّة واحدة وللأبد.. وهي محاولة نظرية جادّة للإجابة عن سؤال (ما الذي يحدث حين يفشل المعنى الأوّلي الذي يمنحنا إيّاه الدّين ونؤمن به في تفسير واقعنا؟).

عسى أن تُفرَج قريبًا على أهلنا في غزّة

والّله غالبٌ على أمره

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

27 Jul, 17:37


في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" يلتقط الفيلسوف النمساوي الشهير كارل بوبر، مفارقة فلسفية وعملية مهمة يُسمّيها:

مُفارقة التسامح Paradox of tolerance

بحسب بوبر، فإن التسامح غير المشروط مع جميع الأفكار والآراء لا بد وأن يُفضي تلقائيًا إلى اختفاء التسامح، أي أنّ أعتى الأنظمة العالمية تسامحًا لا بد وفي نهاية المطاف أن تُطالب بحقّها في "عدم التسامح" مع مَن هُم "ضد التسامح".

ما يستشكله بوبر على المجتمعات التي تدّعي القيم الليبرالية المطلقة والانفتاح غير المشروط مع الآخرين، هو أنّ "التسامح والتعدّدية" كفكرة مُقدّسة أو كقيمة أخلاقية مُطلقة بحدّ ذاتها، هي قيمة مأزومة بُنيَويًا وساقطة عمليًا، لأنّه ومن أجل حماية هذه القيمة، لا بد على المجتمع الليبرالي أن يُمارس قدرًا من اللاتسامح مع أولئك الذين لا يتسامحون مع فكرة التسامح.

في النُكتة التي يرويها سلافوي جيجك، حول المساواة المُزيفة والمَيل العُصابي للمِزاج الرأسمالي للعالم نحو خلق فروقات طبقية وعنصرية داخل حتّى أكثر الأنظمة أخلاقية، يروي:

في يوم السبت وفي أحد المعابد اليهودية (كنيس)..

يأتي الحاخام ويقول: إلهي! من أنا لأقف بين يديك، أنتَ العظيم وأنا نكرة لا شيء!

ثمّ يأتي رجلٌ غنيّ من أغنياء اليهود، ويقول: إلهي! من أنا؟ أنا نكرة تقف أمام عظمتك وجلالك وهيبتك!

ثُمّ يأتي رجلٌ فقير من فقراء اليهود، ويقول: يا رب! من أنا أمام عظمتك وجبروتك؟ أنا لا شيء!

وحين يسمع الرجلُ الغنيّ، الرجلَ الفقير يدعو ربّه بهذه الكلمات، يقوم بوكز الحاخام ويقول ساخطًا: هذا الفقير، مَن يظنّ نفسه.. كي يدعو الله مثلي ومثلك؟ كيف يجرؤ أن يقول للربّ كلامًا نقوله أنا وأنت وكأنّه مثلنا؟

تخبرنا النكتة أنّ بعض الحضارات وبعض النفوس كذلك، لا تستطيع أن تفهم نفسها إلّا من خلال "دونية الآخر" أو التواجد في أوساط يكون فيها الآخر أقلّ درجة أو أكثر فقرًا.

إنّ التواضع والتذلّل أمام الله الذي مارسه الرجل الغنيّ برفقة الحاخام، ليس إلّا أداء تمثيلي ومسرحي لإشباع الذات (يا لي من متواضع! رغم ثرائي الفاحش) ومُجرد طريقة أخرى لتأكيد المكانة الاجتماعية المُتفوّقة للأغنياء "المُتواضعين"

مَن يقف في أعلى التسلسل الهرمي الاجتماعي أو الحضاري، هو وحده من يُسمح له بإظهار التواضع والتسامح مع "الآخرين" الأقل مكانةً والأقل حضارةً، وحين تُقلَب الآية، سيشعر "مدّعو الحضارة" بالإهانة والإذلال.

يعكس حفل افتتاح الأولمبياد في باريس، أنّ المشروع الّليبرالي لم يعد مشروعًا لاحتواء "الآخر" وإنّما مشروع لإهانته ومعاداته. فالآخر لكي يكون آخرًا لا بُد أن يكون على مقاسنا، مُلوّن البشرة، أو مُعادي للأديان، أو متحوّل جنسيًا، أمّا "الآخر" كما يُريد أن يكون، بمشروعه الحضاريّ، وأصالته، وتقاليده وقيمه، فهذا غير مسموح!

تُشير دراسات الاستشراق وتفكيك الاستعمار، إلى أنّ الغرب انتقل في تعاطيه مع الحضارات الأخرى وشعوبها قد تنقّل في أربعة مستويات:

مرحلة (1): المجتمعات الأخرى بربرية وهمج، غير حضارية، تحتاج إلى تمدين وبنى تحتية (عبر الاستعمار)

مرحلة (2): المجتمعات الأخرى لُغز مثير، بحاجة لاستكشاف (التخييل الجنسي للمجتمعات الأخرى: ألف ليلة وليلة)

مرحلة (3): الحضارات الأخرى سلطوية متخلفة، بحاجة إلى المشروع الديمقراطي (أهداف التنمية المُستدامة)

مرحلة (4): المجتمعات الأخرى جاهلة، النساء مقهورات وكائنات طفولية تحتاج للتعليم والعمل (مشاريع المنظمات الدولية)

"الآخر" بالنسبة للغرب مشكلة دائمًا، إنه تذكير بعُقَده النفسية، وحدود مشروعه "الأخلاقي" لريادة العالم، ومن الواضح أن المرحلة الخامسة التي يتّجه نحوها الغرب هي "إقصاء الآخر" كمحاولة تسوية أخيرة قبل تعدّد الأقطاب.

وقد اشتهرت مقولة سارتر في مسرحيته: "الآخر هو الجحيم" قاصدًا بذلك عبء العلاقات الإنسانية ونظرات الآخرين تجاه الذات وإطلاق الأحكام على الفرد، وسعى المشروع التنويري للغرب للتحرّر من إطلاق الأحكام التقليدية، وتوفير مساحة آمنة "للذات" عبر الفردانية، يصير فيها الإنسان ما يريد دون أن يتمّ الحكم عليه being judged.

لكن هذا الهاجس من عدم إطلاق الأحكام على الآخرين، نجم عنه أكبر مشروع إطلاق أحكام judgmental في التاريخ، فصار الغربيون اليوم أكثر جماعة بشرية تَصِم الآخرين بوصمات التخلّف والإرهاب والانغلاق وأكثرها حساسية تجاه "الآخر" المخالف!

الفيلسوف الألماني-الكوري بيونغ تشول هان، يصطلح على هذه الظاهرة اسم:

"إقصاء الآخر" أو طرده Expulsion of the Other

إنّ شدّة التركيز على "قبول الآخر" هي في الحقيقة توجّس عميق ممّا يُمكن أن يكونه الآخر، وأنّ النتيجة الحقيقية لهاجس التعدّدية هو (شيوع التشابه)

إنّها محاولة لتوحيد الآخرين، كي يكونوا آخرين ضمن الخيارات المُتاحة (متحوّل جنسيًا، أقلّية، إنسان يُعرّف نفسه بوصفه كلب أو أريكة..) إنّها تقليل للآخرية وللغَيرية، كي يكون الآخر متوقّعًا ومنزوعًا من أي مشروع حضاري بديل.

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

25 Jul, 20:03


هذا ليس خطابًا عن الماضي، هذا خطاب عمّا هو قادم!

عطفًا على التصفيق الهستيري والحارّ لرئيس الوزراء الإسرائيلي تحت قبّة الكونغرس، أُعالج في هذا المقال الدلالات النفسية لخطاب بنيامين نتنياهو وردّة الفعل المُبالغ فيها لأعضاء الكونجرس.

بشيء من تفكيك الخطاب والتحليل النفسي، يمكن أن نستكشف التلاعب النفسي الذي قام به نتنياهو بالجماهير والمشاهدين، بدءًا بنظرية إدارة الذعر واستثارة غرائز الموت، مرورًا بالتعاطف القائم على القواسم المشتركة، والتلاعب الاستعطافي، وليس انتهاءً بنزع الأنسنة عن الفلسطينيين، بوصفهم عشّاق للموت كارهين للحياة.

بإجماع المُصفّقين يُعيد نتنياهو الصراع بالنسبة للغرب، إلى حلبته الداروينية، أو "ما قبل الحضارة" أو ما يصطلح الغربيون على تسميته dog-eat-dog
وبدلًا من أن يكون المشروع الديمقراطيّ الغربيّ مشروعًا لتحقيق الأحلام ونظرة تفاؤلية للعالَم لتحقيق عالَم أفضل للنّاس، فجأة يتقزّم المشروع الغربي في خانة حرّاس الحضارة، وحماية النّاس من الكوابيس.


لقد وصفت ديبورا لابتون عالمة الاجتماع، منطق "الخطر Risk" بوصفه المنطق السوسيولوجي الجديد لإدارة العالَم. وفق منطق الخطر الدائم، الخطر المُحدِق، ويجب أن نخرس وأن نخضع وستقوم الحكومة والدّول الكبرى بحماياتنا بطبيعة الحال.

كما أشارت الفيلسوفة الفرنسية تيريز دلباش في كتابها: التوحّش: عودة البربرية في القرن الواحد والعشرين حول حالة الترقّب المليئة بالعنف والفُجائية والخطابات الهستيرية، وإذا ما سمحنا لأنفسنا أن نتصرّف بعبارة تروتسكي، فيمكننا القول:

«من يَتوق إلى عيش حياة هادئة.. فقد أخطأ السبيل حين أتى إلى العالم في القرن الحادي والعشرين»

هكذا سيبقى العالَم خلال السنوات القادمة ضمن منطق “حرب وشيكة وسلام غير مُمكن” حتّى تتخلّق فوضى لا يُمكن السيطرة عليها ولا على عنصر الفُجائية التي تحتمله، والتي تشهد البشرية ملامحها منذ السابع من أكتوبر وتبعاته.

https://www.aljazeera.net/sukoon/2024/7/25/%D8%AD%D9%81%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B5%D9%81%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

08 Jun, 17:39


منذ قرابة شهر تقريبًا، نشر حساب (وحدة العمليات النفسية) المُسمّاة بالوحدة الرابعة في الجيش الأمريكيّ 4th Psychological Operations Group

أقول، نشرت هذه الوحدة مقطعًا مرئيًا ضمن سلسلة مقاطع استعراضية حول تفوّق الجيش الأمريكي وحلفائه وأدواتهم السيكولوجية في نطاق (الحرب النفسية) يبدأ المقطع المرئيّ المُصمّم بعناية باقتباس عريض يقول:

إنّ أخطر سلاح يملكه القاهر في يده: عقلُ المقهور!

“The most dangerous weapon in the hand of the oppressor is the mind of the oppressed”


يُنفق الغرب المليارات من أموالهم، وعشرات السنين من أعمارهم، كي يستدخلوا للحظة واحدة فكرة تفوّقهم في أذهاننا مرّة واحدة وللأبد!

في لحظات كهذه، وحين تسير الأمور بغير الطريقة التي نتمنّاها، نملك خيارًا بفرض رواية لا يحبّ الغرب سماعها!

أن تقهر عدوّك، بعدم قبول روايته الوحيدة للأحداث!

بول أوستر الروائي الشهير، قال ذات مرّة:

"القصص تحدث فقط لأولئك القادرين على روايتها"

ما هي القصص التي نرويها عن أنفسنا؟

إن كُنّا عاجزين عن تداول ضحكات الأطفال وصمود المُجاهدين ورقصات الفتيات فوق الحطام، فمَن هذا الذي نُكافؤه برواية بُؤسنا وهزيمتنا فقط؟

ومَن هذا الذي سيقدّس دماءنا حين لا نملك في جعبتنا سوى رواية العجز واليأس والخذلان؟

هذا بلاء وهذه مأساة ومصير لم يختره النّاس لأنفسهم، ولكنّهم وجدوا أنفسهم مدفوعين فيه. ورواية الصمود لا تلغي عذابات شعبنا ولا تُسخّف منها، صاغها الراحل حسين البرغوثي ببراعة ذات مرّة، حين قال:

"ولَنا أهلٌ وبلادٌ يا سيّد
نحزن مثلَ بَقيّة خلق الله
ويُؤلمنا أنّ الخُطى تنفصل كأنهار الخرائط
يا سيّد..
وجدنا الحياة فعشناها
ومَن كُتبَت عليه خُطىً.. مَشاها"


في كتابه الممتاز المُعنوَن بـ "ما لا يقتلنا.. يخلقنا: مَا نُصبِح عليه بعد المأساة والصدمة" يقول مايك مارياني:

"نحن نروي لأنفسنا القصص كي نعيش
إنّ وضع الصعوبات التي نَمرُّ بها ضمن سياق أكبر، يحوّلها من آلام ومعاناة إلى مَرْهَم فعال كي نتعافى من جِراحنا!"

الهزيمة ليست في أن تسقط أرضًا، الهزيمة أن تنسى، أن تنسى أن تنتقم أن تنسى دماء الشهداء وآلام إخوتك

الهزيمة أن تنسى أن تردّ الإهانة ولو بعد حين

الهزيمة أن تمنح عدوّك نشوة انتصاره عبر تردادك السلبيّ لتقهقرك واستسلامك!

استكمالًا لنقاش واسع خضّته سابقًا مع مُنى في بودكاست البلاد، أكتب هنا في هذا المقال برفقة الزميلة مريم، مادة أكثر مباشرة حول ميكانيزمات الصمود عبر ثلاثية: ردّ الإهانة، سرد الذات، وصناعة الأبطال!

إن كان من صمود للشعب الفلسطيني والمقاومة، فهو لا شك يكمن في التفاصيل الحميمية لثقافة الفلسطينيين أنفسهم، في حكايا جداتهم، وفي إرثهم وقصصهم عن ذواتهم، وفي إنتاجهم لأبطالهم واحتفائهم بالمقاومين من أبنائهم، إذ تُشير دراسات عدة إلى أن المجتمعات والأفراد الذين يحظَون بصورة ذهنية عن أبطالهم هُم أقدر على تجاوز الأزمات والتعافي من الكوارث والحروب، وكذلك كل رأس المال الاجتماعي الذي تحمله الشعوب الصامدة من نسيج مجتمعي متكافل يحرص على رواية قصصه وبطولاته ويعتني أفراده بعضهم ببعض.

والله غالبٌ على أمره

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

20 May, 18:39


تعلّموا اليقين.. فإنّي أتعلّمه

عن كمّية التعقيد السيكولوجيّ في سلوك المُقاومين


أعيد بكامل وجداني المشهد مرارًا وتكرارًا، تختلط فيّ مشاعر الدهشة والفخر وآلام الراحلين

واعتقد أنّها المرّة الأولى التي أشاهد فيها مقطعًا أكثر من مائة مرّة، جولات عدّة..

جولة لعقلي: بحثًا عن لغة شارحة لهذه العظمة

جولة لعيناي: إجلالًا لهيبة الإرادة الحرّة

جَولة لقلبي: كي يتعلّم شيئًا من اليقين الذي يعرفه الشهداء

لستُ هنا في جراحة تجميلية لدماء الشهداء، ولا في مَهمّة لتقديس الفعل المُقاوِم، فالشهادة فعلٌ مُكتفٍ بذاته

لكنّ التفاصيل يا سادة! التفاصيل.. تنتمي لعوالم إلهية، لا نعرف عنها شيئًا


المُقاوِم الأوّل | أن تُقتَل وقوفًا بين زخّات الرصّاص


المشهد الأوّل: عقب إصابته، فورًا، قبل أن يستوعب آلامه، دون حتّى أن يُكلّف نفسه عناء النظر إلى تفاصيل إصابته

المشهد الثاني: يُسارع المقاوم الأوّل للوقوف كالجبل الشامخ.. كان بإمكانه أن يزحف، وهذا أليَق بإصابته، لكنّه اختار الوقوف

المشهد الثالث: يأتينا الدرس التالي من علم المُتّجهات الهندسية، عن الفرق بين الكمّية القياسية Scalar وبين الكمّية المُتّجهة Vector

يندفع المقاوم نحو نقطة الاشتباك، المقاوم هُنا له زخمه الخاصّ واتّجاهه المُحدّد مُسبقًا، وليس زخمًا بلا اتّجاه

المشهد الرابع: من المهمّ جدًّا يا سادة أن ننتبه لتفاصيل اتّكائة المقاوم بوضعية التصويب، إنّه لم يأتِ للموت ولا بحثًا عن خلاص لآلامه

هذا المقاتل لم يعاود الاشتباك كي يُخلّص حياته، وإنّما اتّخذ وضعية التصويب، إنّه يبحث عن أهداف

إنّها وضعية هجومية يعرفها خبراء العسكرية بوضعية الاتّكاء والتمترس Barricade Position

المُقاوم هُنا كيان مُفترِس، جسد منفصل عن آلامه، المُقاوِم يُطارد أعداءه حتّى الرمق الأخير

إنّه الإصرار على (الإقبال) بالمفهوم القرآني العميق، إنّها براءة الذات من أيّ احتمال أو اشتباه للتلطّخ بوحل (الإدبار)


المُقاومِ الثاني | ضد الطبيعي والمألوف والمُتوقّع


برأيي الشخصيّ، المُقاوم الثاني لا يقلّ تعقيدًا عن المُقاوِم الأوّل، لأنّه يُصرّ على العودة لنقطة الاشتباك في أوج استهدافها

يُعطينا المقاوِم الثاني درسًا للتفريق بين (الإنسان القادر) و(الإنسان الحرّ)، عن الفرق بين (القدرة) و(الإرادة) وشروحات كثيرة هنا، لا يتّسع المقام لذكرها

أن تكونَ قادرًا لا يعني أن تكونَ حرًّا، وأن تكونَ حرًّا يعني أنّك حرقت قواميس القدرة وراءك

كان المقاوم الثاني يملك خيارات عدّة لإعادة التموضع، للبزوغ من نقطة اشتباك جديدة، لكنّه لم يُرِد أن يخذل أخاه

أراد استكمال المَسير، أراد التأكيد على إرادة أخيه من قبل، أصرّ على إعادة الاشتباك من نفس النقطة

كي يعلَم العدوّ، أنّه إنّما يُسقط الأجساد لا الإرادة، الإرادة واحدة، الأجساد تتعدّد

إنّه درس في العزّة والأنفة والشجاعة، درس في الإيمان الذي يصدّقه العَمَل

إنّه الدرس الأكبر الذي قال عنه شَريعتي ذات مرّة:

يأتي الشهيد كي يُعلّم النّاس أنّ: "الشهادة" ليست "خسارة" ولكنّها "اختيار"

اختيار المُجاهد للتضحيّة على أعتاب محراب الحرية ومعبد الحب، إنّه اختيار النصر!

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

13 May, 15:09


يُميّز الفيلسوف إيفان إيليتش بين (العيش بأمل) و (العيش بتوقّعات)

مشكلة الحداثة والعيش في الأزمنة الحالية بحسب إيليتش هي أنّها استبدلت الأمل بالتوقّع، وبات الناس يختبرون حياتهم اليومية من منظور التوقّعات الفقير الذي أزاحَ منظور الآمال الفسيح

Expectation has come to replace hope in contemporary modern cultures

ينسى النّاس اليوم ما الذي يعنيه (الأمل) وما الذي نخسره حين ننسى أن نعيش بأمل!

الفرق بين (الأمل) و(التوقّع) هو أنّ:

الأمل يُحرّرنا والتوقّع يستنزفنا

الأمل هادئ
والتوقّع شديد الإلحاح

الأمل يدفعك للاطمئنان
أمّا التوقّع فيحرقك من شدّة التأهّب

الأمل تحقّق المأمول.. ولو بعد حين!
التوقّع ساخط.. حين يتأخّر المطلوب!

---------------

الأمل مُنفتح على عالَم يزخر بالاحتمالات، غير واضح المعالَم، وهذا ما يُحرّرنا لأنّنا لا نعرف ما الذي ننتظره، لكنّنا نؤمن أنّه سيجيء على أيّة حال.

أمّا التوقّعات فإنّها لئيمة مُلِحّة وقاسية لأنّها مُحدّدة مُسبقًا ومرسومة بالتفصيل.

الأمل ضيف مُرحّب به مُسبقًا، أنّى كانت هيئته..

التوقّع، اعتماديّ وتثبيطي.. يمنعك من الحركة والتصرّف قبل أن تتحقّق التوقّعات

الأمل حبّ ناضج للأيّام التي ستجيء، لا يضع شروطًا للكيفية التي ينبغي أن يكون عليها التحرير أو التغيير!

أمّا التوقّع فصبيانيّ، يرتهن لرغبات النفس وضيق العقل وتطرّف الفكرة.

---------------

الأمل إيمان.. وقوده الصبر

ومَن لم يُنجِه الصبر.. أهلكه الجَزَع

وقد قال الحكيم العليم في كتابه العظيم:

"ولا تَيأسوا من رَوحِ الله إنّه لا يَيَأس من رّوح الله إلّا القوم الكافرون"

---------------

علامة الكُفر: الضجر!

والمرءُ لا تهزمه الخسارات وإنّما فقدان الأمل

وما زال الإنسان بخيرٍ: ما ساءه كلّ ظُلم.. وما استوقفه كلّ جَمَال

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

04 May, 12:16


كلّما حاولت أن تظهر بطريقة عفوية أثناء التقاط الصورة، كلّما ظهر التكلّف المبذول كي تبدو عفويًا!

ألدوس هكسلي، الكاتب الإنجليزي أشار ذات مرّة في كتابه "بوابات الإدراك" إلى ظاهرة بشرية وإدراكية مثيرة للاهتمام، سمّاها:

قانون الجُهد المعكوس
Law of Reversed Effort


يلتفت القانون إلى الأثر العكسي الذي يحصل كلّما حاولنا تحقيق شيء ما، بطريقة مبالغ فيها

حين نتكلّف ونُفرِط بشكل هاجسي ومأزوم لتحقيق شيء ما، فإنّنا غالبًا سنخسره أو سنحصل على نقيضه تمامًا!

على مستوى علم النفس، ثمّة تطبيقات عديدة لهذا التأثير المعكوس:

أفضل طريقة كي تنام، هي أن تفكّر في شيء آخر غير النّوم

كُلّما فكّرت أكثر بأنّني (ينبغي أن أنام) كلّما اشتدّ الأرق وامتنع النوم!

نلاحظ أيضًا على المستوى التربوي أنّ الآباء المهجوسون كثيرًا بتربية أبنائهم وتصويب سلوكياتهم بطريقة عُصابية وشديدة، هُم أكثر الأبناء إفسادًا لأبنائهم وشخصياتهم!

الأزواج الذين يحاولون السيطرة على العلاقة الزوجية وتفاصيلها بطريقة جنونية، من باب حمايتها والحرص عليها، هُم أكثر الأزواج الذين تنتهي علاقتهم بالانفصال من شدّة محاولات التحكّم والسيطرة!

هذا لا يعني أن نصير مُستهترين أو غير مُبالين بتربية أبنائنا أو إنقاذ زواجنا، ولكنّه يعني أن نمارس قدرًا (مَعقولًا) من التدّخلات الكافية، دون أن نتحوّل لإلهة تحاول السيطرة على جميع التفاصيل.

هذا يعني أيضًا أن نترك مساحة لفنّ التخلّي، التغافل، التسامح، وغض الطرف عن الأخطاء البسيطة والصغيرة والتي لا تتسبّب بأضرار كارثية

بهذا المعنى، نحنُ نترك مساحة للتوكّل والتسليم، ومساحة أخرى كي يكون الآخرون من حولنا: بشر! أن يكونوا واقعيين وليسوا مثاليين كما نتمنّاهم في أذهاننا!

بحسب التحليل النفسي، تُسمّى الحالة التي يكون فيها الشخص كثير الانتقاد للآخرين والذي يحاول بشكلٍ مُفرِط التحكّم بالآخرين وتصرّفاتهم بـ:

عُقدة الإله God Complex

غالبًا ما يتسبّب المُصابون بعُقدة الإله، بتدمير الأشخاص والعلاقات من حولهم وتدمير أنفسهم لأنّهم يرفعون أنفسهم مقام الألوهية وينسون حدودهم البشرية في السيطرة على الأشياء

لا يُعتبر قانون الجهد المعكوس، قانونًا علميًا، ولكنّه من حيث المبدأ العامّ معمول به في كثير من الاتّجاهات العلاجية

خُذ على سبيل المثال الموجة الثالثة والأخيرة من العلاج المعرفي السلوكي وأحد نماذجها المُسمّاة بالعلاج النفسي بالتقبّل والالتزام ACT

وُجد مثلًا أنّ أفضل طريقة للتخلّص من المخاوف والوسواس، لا تكمن في مقاومتها ولا تفكيكها، ولا دحضها أو نقدها وإظهار مدى لا عقلانيتها

بل إنّ محاورة المخاوف وجدالها ومحاولة نقد الوساوس، تؤول غالبًا إلى زيادة حدّتها وشدّتها (تأثير الحلقة المُفرَغة) لأنّ التحاور معها فيه شيء من التعزيز الإيجابي لوجودها بالأساس.

لا يطلب منك العلاج النفسي بالتقبّل أن تتجنّب هذه الأفكار أو أن تهرب منها، بل على العكس تمامًا، العلاج الفعّال يطلب منك الاعتراف بوجودها وتقبّلها ابتداءً وملاحظتها كوسواس أو مخاوف وعدم الهروب منها!

في حالة المخاوف، يُملي عليكَ عقلك استجابة أوّلية متمّثلة بتجنّب مصدر الخوف والتهديد.. وخلافًا لما هو متوقّع، يُؤدّي التجنّب إلى زيادة المخاوف وتعظيمها في النفس

يقوم العلاج السلوكي في حالة المخاوف المُحدّدة في بعض تقنياته على المواجهة المباشرة، العلاج بالغَمر، التعريض المُفرِط لمصدر الخوف.. جريًا على القاعدة التي صاغها سيدنا عليّ بن أبي طالب ببراعة:

"إذا هِبتَ (خشيتَ) أمرًا.. فَقَع فيه!"

أي ألقِ نفسك في الأمر الذي تخشاه وتحاول تجنّبه، هذه هي الطريقة الوحيدة للتحرّر منه!

أحبّ التفكير في (التأثير المعكوس) وكأنّه مفتاح خفي متناثر لقضايا شائكة عدّة في الحياة!

مثلًا انظر للقول الذكي الذي يُنسَب للصدّيق عليه السلام: اطلبوا المَوت.. تُوهَب لكم الحياة

إنّك تجد أنّ أكثر النّاس إغراقًا في الحياة وملذّاتها وأكثرهم إفراطًا في عيشها، هُم أنفسهم أكثر مَن يُواجهون أزمة المعنى ويتساءلون عن غاية وجودهم!

فيما تجد أولئك الذين يُجاهدون ويعيشون تحت وطأة القصف والموت، يحترفون فنّ العيش وتجدهم أكثر تمسّكًا بالحياة وتكثيفًا لمعانيها

يعلّمنا القرآن أنّ حلول كثير من المشاكل لا يكون بالخوض فيها ولكن بالتخلّي عنها والانهماك بنشاط أكثر فاعلية واستقلالية!

مثل الإنفاق أو التصدّق كحلّ للشعور بالضائقة المالية (ومَن قُدرَ عليه رزقه)!

مثلًا حين تتعرّض للأذى والحزن بفعل تشكيك الآخرين وآرائهم حيالك، لا يخبرك القرآن أن تذهب بمنطق صبياني وطفولي نحو القيل والقال فتراجع مَن قال فيما قاله!

ولكن يخبرك أن تركّز على ما يهمّ، على المُنجيات، على الأفعال الحرّة المُستقلّة، كالتسبيح والذكر!

(ولقد نعلم أنّك يضيقُ صدرك بما يقولون.. فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين)

وقد قال العارفون من قبل:

يُقضى بالذكر.. ما لا يُقضى بالفكر!

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

01 May, 19:26


إنّ كلّ مرّة يموت فيها إنسان.. يكون عالَمٌ بأكمله قد تحطّم وانهار بموته

يُدرِك المرء ذلك، إذا ما وضع نفسَه مكانَ هذا الإنسان

إنّ الكائنات الإنسانية غير قابلة للاستبدال، فهي كائنات قادرة على الاستمتاع بالحياة، على المعاناة، على مواجهة الموت، مُواجهة واعية.

تُنسينا الحرب هذه الحقيقة

حين نراقب أرقام الشهداء والضحايا كعشرات الآلاف، يطغى الكَم والعدد على العوالَم الخاصّة لكلّ طفل، شاب، امرأة، أم، أب، أخ، أخت، جدّ وجدّة.

أو كما جاء على شاهد القبر في فيلم Shutter Island:

تذكّروا أن تتذكّرونا ..

فنحنُ أيضًا عِشنا، وأحببنا وضحكنا!

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

29 Apr, 14:24


يحدث في العيادة النفسية أن يواجه المعالج النفسيّ مقاومة ضد التعافي لدى الأشخاص الذين يمرّون بحالة "حِداد" وحزن شديد نتيجة وفاة أو فقد أو خسارة إنسان مهم في حياتهم أو عنصر حميميّ وهو تشخيص معروف بالطب النفسيّ تحت مُسمّى (الفَقد) أو (فجع الموت) Grief/Breavment

على مستوى التحليل النفسي، يشعر الأشخاص الذين فقدوا شخصًا يُحبّونه، أنّ تعافيهم وعودتهم لمواصلة الحياة بكفاءة، يعني بطريقة أو بأخرى: خيانتهم للشخص المتوفّى، خيانة مواصلة العيش بعد رحيلك!

يأتي الحِداد بهذا المعنى، كطريقة للتعبير عن وفائنا للراحلين..

إنّ (الحزن) أو (التوقّف عن العيش) أشبه بهديّة أخيرة نقدّمها لأرواح الراحلين، أشبه بقُربان رمزي نقدّمه بين أيديهم، كي يعلموا كَم كان يعنينا وجودهم بالقرب منّا

لذلك يحدث كثيرًا وحتّى بعد مرور سنة أو أكثر من وفاة الزوج أو الأم أو الصديق، وحين يمرّ الإنسان بلحظة سعادة حقيقية مع أشخاص آخرين، أقول.. يحدث أن تعاود هذه الشخصيات النكوص والانهيار، نتيجة الشعور بالذنب الناجم عن لحظات سعادة حقيقية، فرحوا بها بعفوية بالرغم من غياب مَن نُحبّ ووفاته

نرى أيضًا لدى بعض المراجعين، أشكالًا أخرى تعبّر عن هذا الشعور العميق بخيانة المتوفّى، كأنّ يعتبر النّاس أن (الحزن) هو "رسالة اجتماعية" للتأكيد للآخرين عن مقدار الحبّ الذي نكنّه للشخص المُتوفّى!

إذ ما الذي يعنيه أن نعود للعمل والدراسة بعد يومين أو أسبوع من موت شخص عزيز؟

سيظنّ الآخرون أنّنا لم نتأثّر كثيرًا لوفاته، ومن ثمّ سيصمونني بعدم الوفاء وعدم الإخلاص أو قد يحدث الأسوأ، سيقولون: لقد استراح بعد وفاته، وكأنّه كان يكره وجوده بالأساس!

هذه التصوّرات العميقة والمغلوطة بطبيعة الحال، هي المدخل العلاجي في كثير من الأحيان لحالات الحِداد والفقد، وهي المصدر الأساسي للممانعة والمقاومة ضد العلاج!

في هذه الحالة، ومن أجل التعافي.. نُجري مع العميل تمرينًا ذهنيًا، نُعلّمه فيها أن يفهم أثر هذه التصوّرات على نفسيته، ومن ثمّ التفكير بطرائق بديلة لكيفية التعبير عن حبّنا للراحلين والموتى

• هل (الحزن) أو (التعطّل) أو (التوقّف عن العيش) هي الطريقة الوحيدة لإثبات حبّنا للعزيز الذي رحل؟

• إن كان الشخص الراحل متواجدًا الآن، وهو يحبّك بالفعل، بحسب معرفتك بشخصيته، ما الذي كان سيقوله لكَ من بعد رحيله؟

• إذا ما فكّرت بنفسك بعد مرور 20 سنة من الآن، ما هو الطقس أو التقليد الذي ستحبّ لو أنّك التزمت به للتعبير عن وفائك للشخص الذي رحل؟

مثلًا، تُساعدنا التقاليد الدّينية على استحداث طرق عملية للحفاظ على حِبال تواصلنا و انتمائنا للأشخاص، كحديث الرسول ﷺ:

إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انقَطَعَ عَنهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدعُو لَهُ!

حديث بديع.. يُعطينا أفق تفكيريّ، لممكنات الانتماء للموتى بعد رحيلهم، ممكنات عملية، مفيدة مجتمعيًا، ذات طابع تأثيري

وفي الوقت ذاته، يُعطينا التزامات تتطلّب منّا (جُهدًا شخصيًا) أي كُلفة رمزية ومادية نُضحّي بها، وليست مجرّد ادّعاءات شكلية حول حبّنا للمتوفى وانتمائنا له


هناك فروقات بالطبع تختلف باختلاف شكل الموت، على سبيل المثال أحيانًا يشعر الأحياء بالغدر أو الخيانة، إذا كان رحيل مَن يُحبّون اختياري أو طوعي، مثل الانتحار. وهناك حالات مختلفة كالشهادة أو النضال، وفي هذا ينطبق ما قاله شريعتي من قبل: الأهمّ من الشهيد، القضية التي مات لأجلها!

**
موت من نُحبّ له دلالة مزدوجة:

أنّهم رحلوا عنّا، وهذا أوّل بؤس وأول فاجعة!

وأنّنا سنُكمل هذا الوجود بدونهم، وهذه الحقيقة هي الأشدّ إيلامًا وأكثرها ديمومة!

إنّنا نحتمل الخلاف مع أهلنا، والتعارك مع أصدقائنا، وأن يُؤذينا من نُحبّ!

لكنّا لا نحتمل أن يتركونا في هذا الوجود لوحدنا..

تمامًا كما في التعبير العبقري لفرقة ميامي حين تقول:

" فرّحني يوم.. واجرحني يوم.. بس لا تغيب! "

أن يكون الآخرون في حياتنا فحسب، هذا كلّ ما نريده!
أن يؤذونا وأن نؤذيهم، هذا أمر لاحق مُحتَمَل!

أن نفرحهم وأن نبكيهم، كلّها قضايا لاحقة وسيبقى حضورهم أهمّ من أي شيء آخر!

يشكّل الدّين عزاءً جوهريًا للمَوت، إذ يعدنا الدّين بلقاء آخر، لقاء بلا فراق (أبدي)، في عالَم أكثر اكتمالًا (فردوسي)!

ويظلّ (عزاء الموت) الدّور الأكثر جوهرية للدّين، كما أشار لذلك لوك فيري، الفيلسوف الفرنسيّ ووزير التعليم السابق، وقال أنّ البشر حتّى اليوم لم يستطيعوا استحداث طريقة ولا منظومة تُجيب عن سؤال الموت كما يفعل الدّين.

أي أمل يُعيننا على تقبّل فكرة الموت.. سوى أنّ هذا الفناء سيكون مَعبرًا لنا لكي نلقى من أحببنا ورحلوا عنّا؟

يحكي ابن عقيل الحنبلي عن تجربته الأليمة في مرض ابنه ووفاته، وعن وفاة ابنه الثاني لاحقًا.. فاختتم بمقولة، تختصر هذا كلّه:

لولا أنّ القلوب تُوقن باجتماعٍٍ ثانٍ.. لتفطّرت المرائر لفِراق المُحبّين

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

27 Apr, 20:56


قناة مَسَار | محمود أبو عادي pinned «عن دراسات الصداقة وعلاقتها بنجاح الزواج وديمومة الحبّ في الدراسة الشهيرة التي أجراها سيمون شال وفريقها البحثيّ، وُجد أنّ الرفقة الطيّبة تهوّن علينا مصاعب الحياة لا من جهة معنوية فحسب ولكن من جهة إدراكية وحسّية أيضًا! والتفاصيل الإجرائية للدراسة لطيفة للغاية،…»

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

26 Apr, 12:25


جمعة مباركة يا أعزّاء

هذا الّلقاء الأخير لي ضمن أثير في بودكاست البلاد، أناقش فيه مع مُنى، حديثًا حول الحرب والاستعمار والقهر، وكيفية تعاطينا معه وكيف يمكن لعلم النفس أن يساعدنا على فهم هذا كلّه، وكيف تفكّر مدرسة (علم النفس التحرّري) بشكل بديل ونقدي تجاه هيمنة المستعمر.

اعتقد أنّ النقاط الأبرز التي أردت الإضاءة عليها هي الآتي:

أولًا: أنّنا نعيش في عصر (استباحة الذات) أو حصار الذات البشرية والتحكّم بها عن طريق التنبّؤ بردود أفعالها وتوجيه خياراتها من خلال العلوم السلوكية واقتصاديات السلوك ونظريات التأطير والهندسة الاجتماعية التي تستثمر في كلّ ما نعرفه عن الإنسان وما يخيفه وما يشتهيه.

ثانيًا: أنّنا نعيش سابقة تاريخية في مواجهة (مشروع استعماري) فريد، بطبيعة الحال خاضت شعوب عدّة تجارب استعمارية قاسية، لكن ما أقوله هنا، هي أنّ هذه هي المرّة التي نواجه فيها (آلة استعمارية) لديّها كلّ هذه الأدوات التقنية ليست العسكرية فحسب، وإنّما نُظُم الرقابة والذكاء الاصطناعي وتحليل المشاعر وتعريف الوجوه والتنبّؤ بالسلوك بالإضافة إلى أدوات علم النفس في الخطاب الإعلامي والحرب النفسية وشبكات الموساد عبر منصّات التواصل الاجتماعي.

ثالثًا: قدّمت خلال اللقاء بعض المقاربات النظرية الخاصّة بعلم النفس التحرّري Liberation Psychology أعرّف فيه المهتمّين على مشروع السلفادوري "أغناسيو مارتن بارو" الأب الروحي والمهندس المعماري لعلم النفس التحرّري، والذي اعتبر أنّ أول مبادئ علم النفس التحرّري هي أن نحرّر علم النفس من حمولاته الاستعمارية والغربية. ومعظم النقاط التي مررت عليها خلال الحلقة حول هذا الحقل، هي من قراءاتي الخاصّة لمؤلّفات عالمة النفس والمعالجة النقدية ليليان كوماس دياز، ومؤلّفها المرجعيّ الذي حرّرته في علم النفس التحرّري.

رابعًا: أمرّ في نهاية الحلقة على واحدة من أهمّ الدراسات المنشورة خلال السنوات الأخيرة، والتي بحثت في ملف (حالات الموت والإخطار) أثناء وباء كورونا، وبين العوامل المجتمعية والثقافية، والتي وجدت خلافًا للافتراض الوبائي التقليدي، أنّ المجتمعات التي تشبهنا (ذات النسيج الجَمعي) قد أثبتت صمودًا وارتبطت بحالات إخطار ووفاة أقلّ من تلك المجتمعات الفردانية على عكس المتوقّع. ثمّة عدّة تفسيرات بطبيعة الحال، لكن الدرس الأكبر هو (فك الارتباط) بين "الأنظمة الجمعية" والتصوّرات "الهمجية" أو "البربرية" عن الشعوب، بل أبدت الشعوب الجمعية كفاءة حضارية والتزامات تضحوية بمصالحها الخاصّة لصالح الجماعة والآخرين.

خامسًا: صوّرنا هذا اللقاء قبل رحيل الأسير والمثقّف الفلسطيني وليد دقّة في سجون الأسر والذي قضى 38 عامًا من عمره في السجون الإسرائيلية، وقد استشهدت مرارًا خلال الحلقة بمقولاته وما أورده في أعمال مختلفة حول: صهر الوعي، وحول الهندسة الاجتماعية للفلسطينيين.

سادسًا: تحدّثت كثيرًا خلال اللقاء عن أهمية البُنية التحتية للمقاومة، البُنية التحتية بمعناها العميق، المتمثّلة بالإيمان والدّين والمبادئ والقيم والنسيج الاجتماعي العضوي والمتماسك للفلسطينيين وأهميته في منع تغلغل الاحتلال وهيمنته. وقد أشرت سريعًا حول أهمّية (المؤسّسات الوقفية) خلال تاريخ الأمّة في مقاومة المشاريع الاستعمارية، وما يقاربها من مؤسسات مجتمعية أصيلة حافظت على تعليم وضخّ خطاب ينتمي لنا ولأمّتنا وليس للعالَم الغربي ومنظمّاته.

أخيرًا، أشرت إلى خطورة التعاطي مع الفلسطينيين ضمن منطقين مُجحفين: الأوّل (تمجيدهم) حدًّا يخرجهم عن إنسانيتهم ومعاناتهم فيجعلهم يستحقّون ما يجري لهم وبالتالي لا داعي لأن نفعل شيئًا. وقراءة على النقيض الآخر تُفرط في أنسنتهم وفق مفهوم (الصدمة النفسية) والتعاطي معهم جميعًا بوصفهم مصدومين نفسيًا كقراءة اختزالية غارقة بعلم النفس الغربي الذي يعجز أحيانًا عن إدراك بُنى الصمود ودور الإيمان والدّين والمشاريع التحرّرية في خلق أنداد ذوي مَنَعة نفسية غير تقليدية.

فمفهوم الصدمة النفسية Trauma يتعاطى مع مع القهر والاحتلال بوصفه حادثة Incident أو واقعة مؤقتة تحصل مرّة وتزول، ثمّ تعيش بعدها حالة نفسية يُسمّيها الأخصائيون "اضطراب ما بعد الصدمة" PTSD وهذه قراءة مغلوطة لواقع يهيمن فيه القهر والاستعمار والظلم على خطّ عريض على مُنحنى الزمن.

قراءة الألم من منظور طبّي فقط Medicalization of Pain فيه اختزال للتجربة البشرية وتسخيف منها، مع أنّ الألم عبر التاريخ البشري يملك قراءات متعدّدة، منها القراءة الدينية، والقراءة الفلسفية والقراءة السياسية، وهو معنى التقطه جون لينون، حين قال:

God is a concept by which we measure our pain

https://youtu.be/Ax3IhJokhb4?si=8tCAnKh8MdphfSza

قناة مَسَار | محمود أبو عادي

24 Apr, 18:05


يُعلّمكَ الجميع كيف تبدأ؟ كيف تبدأ مشروعًا؟ كيف تبدأ علاقة ناجحة؟ كيف تخطّط لعامك الجديد؟ كيف تستقبل شهر رمضان!

لكن لا يخبرك أحد عن النهايات، كيف تُنهي علاقةً؟ كيف تُنهي مشروعك؟ وكيف تحافظ على علاقتك مع ربّك حين ينتهي شهر رمضان!

يقوم جزء كبير من العلاج النفسي على إيجاد (النهايات اللائقة) Closure

مثلًا: يفضّل البشر عند رفع درجة صوت التلفاز، أن يتوقّفوا عند أرقام مغلقة نسبيًا (30 أو 50 أو 75) ونكره أن نضع درجة الصوت عند (39 أو 17)

مثلًا: يرغب النّاس الذين يفقدون أحباءهم في الخارج بحضور الدفن، برؤية جثة الميّت.. هذه كلّها ممارسات صحية للإغلاق والنهايات اللائقة!

ما الذي يحدث حين لا نحصل على خاتمة جيّدة أو نهاية لائقة؟ نظلّ عالقين في شِباك التوقّع!

ماذا لو لم يمت مَن فقدنا حقًّا؟ ماذا لو قرّر تغيير اسمه وهويّته وابتدأ حياةً جديدة!

ماذا لو لم تنتهي العلاقة حقًّا؟ ماذا لو كان لدى الآخر ما يريد قوله! ماذا لو كان الآخر ما زال يحبّنا ويعشقنا!

نرى كثيرًا في العيادة النفسية مُراجعين لا يستطيعون مواصلة حياتهم، لأنّهم ما زالوا عالقين عند تجربة ماضية مؤلمة
يظلّ الناس واقفين مكانهم، بحثًا عن:

- اعتذار عن الأذى
- تفسير لما حصل
- وداع أخير

تعلّق مَرَضيّ.. يتركك أسيرًا

على المستوى الإدراكي، نعرف تبعات هذه الظاهرة على المستوى اليومي، يُطلق الباحثون في علم النفس على هذه الظاهرة اسم: "تأثير زيجارنيك" Zeigarnik effect

وهي أنّ التجارب غير المكتملة والأعمال غير المُنجَزة تظلّ عالقة في الذاكرة وأشدّ حضورًا بالذهن، أكثر بكثير من تلك التجارب المنتهية والأعمال المُنجَزة!

والأسوأ هي أنّها تظلّ تقفز من خلفية العقل إلى شاشة الوعي بشكل متكرّر بين الحين والآخر وتقاطع تفكيرك وتفقدك من تركيزك، لأنّك لم تقم بإغلاق ما كان ينبغي إغلاقه منذ وقتٍ طويل.

يحضرني هذا العطب السيكولوجي الشائع لدى البشر في حياتهم اليومية على مستوى العلاقات، العمل، الإدراك، الموت.. وأنا أتذكّر كيف اعتنى الإسلام بخواتيم المراحل وخواتيم الأعمال!

حرصت الشريعة على الإغلاقات الصحيحة والخاتمة اللائقة في دقائق الأمور حدًّا مُذهلًا!

فالدعاء الذي يطلب منك أن تسأل الله (مداخل الصدق) هو نفسه الذي يطلب منك أن تسأله (مخارج الصدق)

إذ يحدث كثيرًا أن تبدأ بدايةً صحيحةً بنواياك ومقاصدك، ثمّ تنحرف بوصلتك خلال المسير فتخرج مخرجًا لا يليق بك ولا بنواياك!

كان الإسلام حسّاسًا جدًّا لأنصاف الوضعيات في العلاقات، فهو يكره أن (تذروها كالمُعلّقة)

وأخبرك أنّ أفضل ممارساتك بالعلاقات دائمًا: الوضوح (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)

كما يدهشني أنّ الإسلام جعل (الفجور في الخصومة) من آيات النفاق وعلاماته!

فإذا أردتَ أن تعرف الشخص الطيّب من الدنيء، فانظر إلى أخلاقه عند الخصومة!

أقول هذا وأنا أرى أشخاصًا يهيمون باندفاعية بكامل أزماتهم التي يحملونها من تجاربهم السابقة، تلكَ التي لَم يُقيموا عليها حِدادًا واعيًا يليق بها، فصاروا مدفوعين بشراهة وعبثية لأنّهم لم يحظوا بالخاتمة التدريجية كما كان ينبغي أن يكون.

يعتني الإسلام بالنهايات وبعد النهايات، ينتهي شهر رمضان لكنّ الإسلام لا يرميك للفوضى

يقول لك: فلتقم بخاتمة تليق بأدائك السابق في رمضان.. صُم ستًّا من شوال! بالاختيار والتدريج والتقطّع أو كما تشاء، لكن لا تنقطع فجأة!

ولمّا عَلِم الحقّ منك وجود الملل: لوّن لكَ الطاعات!

وما أبلغ الشريعة وما أكثر واقعيتها حين تعترف بفترات الرخاء الخاصّة بك، حين تعترف بأنّك إنسان يتعب ويضجر، فاحترم هذا الضعف الذي فيك (علم أنّ فيكم ضعفًا)

وما أجمل الشريعة حين تعترف أنّك تعتريكَ أحوالٌ من النشاط والفتور، والهمّة والرخاء، والإقبال والإدبار
فوفصفها الرسول ﷺ:

إنَ لكلّ عملٍ شِرَّة ولكلّ شِرَّة فَترَة، فمن كانت شِرَّتُه إلى سُنَّتي فقد أفلح، ومن كانت فَترَتُه إلى غيرِ ذلك فقد هلكَ!

حديث عظيم! صكّ قانونًا بشريًّا: لكلّ عمل مهما كان، إقبال وإدبار، شغف وفتور، نشاط وكسل!

لذلك هو لَم يُعب عليكَ الفتور، ولكن عاب عليكَ الانحراف!

وهو لم يؤاخذك بالراحة، لكنّه نبّهكَ إلى شكلها!

وهو لم يحاسبك على الاستراحة، لكنّه يؤاخذك على التساهل فيها!

فقال: من كانت فَترتَه إلى غير ذلك.. فقد هلك!

ملمَح عبقري من نبيٍّ حكيم أوتي الحكمة وجوامع الكلم! أقول هذا وأنا أذكر مبادئ عامّة في علم النفس الأخلاقي حول دراسات (الرخصة الأخلاقية) Moral Liscense

وهو المنزلق الذي يقع به الأخيار والفضلاء حين يقدّمون كثيرًا من الخير والأعمال الجيّدة، فيبيحون لأنفسهم عقبها أن يتجاوزوا بعض التجاوزات الأخلاقية هنا وهناك، ظنًّا منهم أنّ لديهم رصيد أخلاقي طويل سيعفيهم من المُساءلة وسيبرّر لهم الانحراف!

الّلهم مدخل الصدق الذي ترضى، ومخرج الصدق الذي تحبّ!