والحق أقول: إن نهايتهم تلك نصرٌ وأي نصر! فأي غايةٍ أرفعُ من أن تموت شامخًا راسخَ الأقدام في طريق الحق؟! غيرَ آبهٍ بترهيب ولا ترغيب!
بل إنه نصرٌ حتى في نظر قاصر النظر لو تأمل! لأن مَوْتتَهم الشريفةَ تلك، تبعثُ في النفوس قوةً وشجاعةً وثباتًا، "وشجاعاتُ الرجالِ مُعدِيَة" تُورِثَ العزمَ الحديد، وتُوقِدُ فتيلَ الأمل من جديد، وتبعثُ رايةَ النضالِ جذَعةً، يتوارثُها الأجيالُ جيلًا فَجيلًا، يكتب اللهُ النصرَ على أيديهم، ويُظَفِّرُهم على عدوهم. وإنما نبتَ هذا الجيلُ -جيلَ النصر- من غراس تلك الثلة الميمونة المصطفاة، التي أفنَت نفسَها في سبيل ربها، فماتوا وما ماتت آثارُهم، بل انبعثت حيةً من تحت الرماد، تحكي قصتَهم، وتروي حكايتَهم، وتتلو خبَرَهم، وتَنشرُ ذِكرَهم، وتُذيعُ مآثرَهم، فيصبحون -مِن حُسن السيرة وجمال الأُحدوثة- مثلًا يُحتذى، وأثرًا يُقتَفَى، وغايةً يرنو لها النشءُ الميمون، يتطلعُ لبلوغها، فيسلكُ سبيلَها، ويكمل طريقَها، ويترسّمُ معانيها، ويستوفي مبانيها، فيتحقق فيهم موعودُ الله بالنصر والتمكين.
ولقد ألمحَ القرآنُ الحكيمُ إلى أن نهايتهم تلك كانت فوزًا، فقد قال اللهُ تعالى عقبَ خبرهم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡكَبِيرُ}
وليس هذا فوزًا وحسب، بل هو الفوز الكبير، والغايةُ الكبرى، والجزاءُ الأوفى. وهو وإن كان خطابًا عامًّا يشمل كافةَ المؤمنين، فإن أقربَ المؤمنين صلةً به، هم المذكورون في صدر السورة من المفتونين المقذوفين في نار الدنيا، المرحومين من نار الآخرة، الفائزين الفوزَ الكبيرَ بجنة الله ورضوانه. "جَزاءَ مُقاساتِهِمْ لِنِيرانِ الدُّنْيا مِن نارِ الأُخْدُودِ الحِسِّيَّةِ، ومِن نِيرانِ الغُمُومِ والأحْزانِ المَعْنَوِيَّةِ".]