الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء نظرًا، ووضعها في مواضعها عملًا.
حاجة الناس إليها أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لو كانوا يعلمون.
وللحكمة جانبان: نظريٌّ، وعمليٌّ.
فأما النظري؛ فأصله فطريٌّ، وابتناؤه معرفيٌّ.
ورأس المعرفة وحي الله؛ قرآنه الحق وسنة نبيه المجيدة وآثار كتبه السالفة، ثم علوم الشريعة؛ أصولها في فروعها؛ تؤسس الأصول في النفوس قواعدها، وتجلِّي الفروع للعقول بنيانها، مع النظر السديد في العلوم الإنسانية؛ شيءٌ من التاريخ والفلسفة وعلم النفس والاجتماع ونحوها.
وفي كثيرٍ من مقالات الحكماء وأفعالهم -لمن قسَم الله له حظًّا من مخالطتهم- اختصارُ بعض هذا.
وكم يورَّث منها في أصلاب الآباء وأرحام الوالدات لمن تأمل!
وأما عمليُّها؛ فمن العبادة، ومن السير في الأرض.
فأما العبادة؛ فلا تزال بأصحابها -إذا خلُصت لوجه الله الأكرم، واستقامت على طريقة نبيه صلى الله عليه وسلم- حتى تفيض من أفئدتهم على ألسنتهم وجوارحهم فيضًا كريمًا.
ولا حكمة كتوحيد الله ومتابعة نبيه؛ فذلك حق معرفة حقيقة الأمور، ووضعها في مواضعها.
وأما السير في الأرض؛ فعلوم المأثور والمنظور؛ مقاديرُ ربٍّ حكيمٍ خبيرٍ في تصرفاتٍ عبادٍ لا تحصى أنواعهم وأوضاعهم؛ تمتزجان -في الخلق- بحُسبانٍ معلومٍ؛ فيكون من أحوال الأمم ما يكون.
ومن تكلَّف الحكمة بحميد الأخلاق -مع نصيبٍ طيبٍ مما مضى- كان له منها قدرٌ عظيمٌ؛ لا سيما التواضع والحلم؛ لا يرقى من نبيل الأخلاق بأهلها إلى الحكمة مثلُهما.
ذلك؛ وإن الحكمة هبة الرحمن لمن شاء من عباده، يختص بأنوارها من فضَّل منهم بعلمه؛ كما قال في تنزيله الفرقان: "وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا".
ورأس الحكمة خشية الله، "ولا حكيم إلا ذو تجربةٍ"، وليس الحكيم الذي لا يجهل ولا يخطئ بل الحكيم الذي يستفيد كثيرًا فيسدِّد كثيرًا، ولا يبلغ الحكمة خاملٌ ولا جبانٌ، وإن من الصمت لحكمةً، وليس حكيمًا من لا عدو له، ولكل حكيمٍ عثرةٌ، وأول الحكمة مغامرةٌ، والشدة شطر الحكمة.