ينبغيَّات في طريق العِلم (56)
قال تاج الدين السبكي رحمه الله: "ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وألا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح.
ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم؛ فإنك لم تُخلق لهذا؛ فاشتغل بما يعنيك ودع مالا يعنيك.
ولا يزال طالب العلم عندي نبيلًا حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين ويقضى لبعضهم على بعض؛ فإياك ثم إياك أن تصغى إلى ما اتفق بين أبى حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبى ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي، أو بين أحمد ابن حنبل والحارث المحاسبي، وهلم جرًّا إلى زمان الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقى الدين بن الصلاح.
فإنك إن اشتغلت بذلك خشيتُ عليك الهلاك؛ فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل ربما لم يُفهم بعضها، فليس لنا إلا الترضي عنهم، والسكوت عما جرى بينهم، كما يفعل فيما جرى بين الصحابة رضى الله عنهم".
طبقات الشافعية 2/ 278
ومثل هذا الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، فأقوال بعضهم في بعضٍ ساقطة لم يعُد لها محل لها من الإعراب! حتى إن جلَّ مقدار من قالها! بل: وإن كان من عصور السلف الصالح؛ لأن العلماء الراسخين من بعدهم قد استقرَّت كلمتهم على إهدارها وعدم الالتفات إليها.
ومثل هذا الخلاف بين السادة الأشاعرة والسادة الحنابلة وأهل الحديث المنزِّهة؛ فقد استقرت كلمة المتأخرين على شمول مصطلح (أهل السنة والجماعة) لهم، وأن الخلافات بينهما ليست من أصول الدين المتفق عليها، بل هي أشبه بفروع الفقه التي يسوغ فيها الخلاف، ما دام الفريقان متفقَين على إثبات المتفق عليه من الصفات، ومنزِّهين عن التجسيم والتكييف.
.