لباس الفقيه
قال ابن رجب: (كان كثير من الصادقين من السلف يجتنب لباس الثياب التي يُظن بأصحابها الخير، إبعاداً لهذا الظن من أنفسهم).
صباحكم نفوسٌ زكيَّة وأفئدةٌ تقيَّة.
ذكر ابنُ خلكان في ترجمته للقاضي أبي يوسف رحمه الله أنه أول من استحدث للعلماء والفقهاء لباساً خاصاً وشعاراً مميزا، وكان ملبوس الناس كافةً قبل ذلك شيئاً واحدا، لا يتميز أحد عن أحد بلباسه.
وهذا الذي ذكره ابن خلكان يسوقُنا إلى المسألة المشهورة في حكم اختصاص العلماء بلباس يميزهم عن العامة، خاصةً مع ما نشهده اليوم من اختصاص طائفة من أهل العلم بنسَقٍ من العمائم، وآخرين من أهل العلم بنسَقٍ من الأردية، وطائفة ثالثة من العلماء يخالفون العامة في ثيابهم، وهذا أمر مشهود.
ونحن إذا نظرنا إلى الصحاح والسنن والمسانيد وكتب السير والمغازي لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتكلفون في لباسهم على وجهٍ يميزهم عن غيرهم، كما قال ابن القيم رحمه الله: (والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغَّب فيها وداوم عليها، وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما يتيسر من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة....)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصحابة لما فتحوا الأمصار كان كلٌّ منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها، ولو كان هذا الثاني أفضل في حقهم لكانوا أولى باختيار الأفضل)، ويذكر ابن خلدون في مقدمته (أن علياً رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة، ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص).
ولا ريب أن قدراً من كلام العلماء في هذا الباب كانوا يستحضرون فيه حال المتصوفة والمتزهدة الذين يقصدون إلى المرقع من الثياب والمهلهل من اللباس، ويرون ذلك شعاراً للزهد وعلامةً على العبودية، كما يقول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (واللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً... فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك، وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك، بل كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وثبوت الشهرة).
ولا شك أن طائفة من متأخري الفقهاء استحبوا ذلك كما يذكره شيخ الإسلام، ولهم في استحباب هذا عللٌ مثل أن يُعرف العلماء فيُستَفتوا، وأنهم إذا أَمروا أُطيعوا، وإذا نصَحوا استُجيب لهم، ولا يلزم عندهم أن يكون محفوظاً عن السلف، وقد قال ابن السبكي: (وما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم من سعة الأكمام وكبر العمة ولبس الطيالس حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزاً لهم يُعرَفون به، ويُلتَفت به إلى فتاويهم وأقوالهم).
ومن تأمل الخلاف بين العلماء في أصل هذه المسألة وجده قريباً ورأى الاختلاف فيه سائغاً، ولم يجعل أحد القولين غلطاً بيناً أو بدعةً محضة، وهو بابٌ تحكمه المصالحُ والمفاسد، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأوضاع والأحوال.
لكن هناك صورةً لهذه المسألة لا يكاد يختلف العلماءُ في النهي عنها والمنع منها، وهي إجماعٌ عندهم أو كالإجماع، وذلك فيمن يتزيَّا بزي العلماء والفقهاء على وجه السُّمعة والرياء وهو غيرُ متأهل، ثم يتقحم باب الفتيا ويتجرأ على الكلام في الأحكام ويتصدَّر بين يدي الناس، فهذا مذموم محرم باتفاق العلماء، ووجودُ مثل هذا جعل طائفةً من حذاق العلماء يغلقون الباب بالكلية، ويمنعون الفقيه أن يتميز بلباس خاص، لأن الخروج من درجة العوام إلى درجة الفقهاء تكون بوضعٍ ثوب أو عمامة، وهذا سبيلٌ إلى فساد الأديان وغياب العلماء.
ويستنكر العلامة ابن الحاج المالكي في كتاب المدخل ظاهرة ربط الفقه والعلوم الشرعية باللباس والمظهر الخارجي بدلًا من التحصيل العلمي والفهم الصحيح. ويبين أن ارتداء بعض الملابس الخاصة أصبح معيارًا لتمييز الفقيه عن العامة، حتى لو لم يكن لديه من العلم ما يؤهله لذلك. ويشير إلى أن هذا يؤدي إلى أن يتصدر الجهال للإفتاء، إذ يمنعهم مظهرهم من الاعتراف بجهلهم خشية سقوطهم من أعين الناس، فيفتي أحدهم بغير علم، فيضل ويضل غيره. ويؤكد ابن الحاج أن هذه المفسدة العظمى نشأت بسبب مخالفة السنة في اللباس، محذرًا من خطورة استبدال المظهر بالعلم الحقيقي، ومؤكدًا أن ترك السنة في أي أمر يؤدي إلى فقدان الخير.
📑 نشرة المحصل
••