ولو كان الحال غير الحال، والقلب غير القلب؛ لكتبتُ حاشية على السيرة الذاتية البديعة للشاعر العربي محمود درويش، التي سماها "في حضرة الغياب"، ولا يقل نثرُه عن شعره بل ربّما فاقه، فقد حشد فيها رموزا كثيرة لأشياء من واقع الحياة، من واقع البلاد والهزيمة، والحاضر والتاريخ، والحرب والسياسة وغير ذلك..
انظر إليه يقول: "ولا تندم على حربٍ أنضجتْكَ كما يُنضج آبُ أكواز الرمّان على منحدرات الجبال المنهوبة".
يريد – والله أعلم – منحدرات جبال صفورية، إحدى أكبر قرى الجليل المهجّرة، التي اشتهرت بالرمّان وكانت عامرة به قبل النكبة.
ويقول: "وحين تصحو لا تندم لأنّك كنت تحلم، ولم تسأل أحدًا: هل أنت من القراصنة؟ لكنّ أحدًا ما سيسألك: هل أنت من القراصنة؟ فكيف تزوّد البديهة بالوثائق والبنادق، وفيها ما يكفيها من محاريث خشبية، وجرارٍ من فخّار، وفيها زيت يضيء وإنْ لم تمسسه نار، وقرآن، وجدائل من فلفل وبامية، وحصان لا يحارب".
يريد الصهاينةَ الذين بدأوا بالتوافد إلى فلسطين بنيّة أخذِها، وهم أنفسهم سيسألونه – بعد احتلال البلاد عام 1948 - هو وآلاف غيره من الذين حاولوا الرجوع إلى فلسطين بُعيد النكبة: هل أنت من القراصنة؟ أي: هل أنت متسلل "غير شرعي" تريد العودة إلى منزلك؟! عاد درويش متسللا من لبنان مع أسرته وهو طفلٌ صغير، فوجدوا بلدتهم "البِرْوَة" حطامًا، فانتقلوا للعيش – متسلّلين مستخفين – إلى بلدة دير الأسد التي تبعد عنها مسافة قليلة.
ويشير درويش إلى مسألة مهمة: وهي سخافة تلك المحاولات التي تحاول إثبات أحقّيتنا بفلسطين من خلال الدلائل التاريخية، سواء كانت موغلة في التاريخ أو بريطانية المذاق! فما كان فيها وما زال من حياة حاضرة تعجّ بنا وبأشيائنا وبثقافتنا وحضارتنا ورموزها كافٍ، وهو "البديهة" التي لا تحتاج إلى دلائل!
ويقول عن أهل البلاد قبل التهجير: "وكانوا شجعانًا بلا سيوف، وعفويين بلا بلاغة، فانكسروا أمام الدبابات، وهُجّروا وبُعثروا في مهبّ الريح، دون أن يفقدوا إيمانهم بالشفاء من جرح التاريخ".
يريد ضعفنا المادي والدبلوماسي، كنا ضعفاء حقّا، لا نملك جيشا مدجّجًا بأحدث الأسلحة، ولا مشروعًا سياسيّا يرعاه دبلوماسيون حاذقون كما كان لدى الآخرين.
ويقول: "وبحثْنا عن علَمنا الوطنيّ، فأرشدنا بُعدنا القوميّ إلى بيت الشعر إيّاه، الذي أغدق على الألوان الأربعة أوصافًا قد تجافي الموصوف، ولكنّها تهيّج الحماسة".
يريد بيت صفيّ الدين الحلّي في قصيدته الرائعة عن معركة زوراء العراق ضدّ المغول:
بيضٌ صَنائِعُنا سودٌ وَقائِعُنا .. خُضرٌ مَرابِعُنا حُمرٌ مَواضينا
وهي الألوان التي شكّلت علم الثورة العربية الكبرى ثم علم فلسطين مع اختلاف في ترتيب الألوان. لكن هل العلم مستوحى فعلا من هذا البيت؟ ثمة معلومات تاريخية تتحدث عن رسمه بالتعاون مع شخصيات بريطانية، والموضوع يستحق البحث.
أراد درويش من نصّه أشياء، وأردتُ أنا أشياء في تأويلاتي له..
ولكنْ ما الذي نريده نحن في هذه الورطة التاريخية التي نعيشها؟
هل أقول: في هذا الذلّ؟ في هذه الخيمة التاريخية التي ملأتها ثقوب الوهن بماء الهزيمة؟!
ماذا فعلنا نحن المتنعّمون في عواصم هذا العالم الخربة؟
نحن الذين نتأفف من بللٍ قليل يلامس أجسادَنا حين يَزخُّ علينا الشتاء في الطرقات..
نعتذر لأمّهاتنا الصابرات في الخيام عن خطيئة وهْننا وهواننا.. ثم نمضي بوجوه متمعّرة مدركين أننا لم نفعل شيئا، ولكنّا نحاول إقناع ضمائرنا بأنّا عاجزون، وأنّ استياءنا كافٍ، وأنّ الحياة ستمضي رغم كل شيء..
بيد أنّ المعتذر عن خطيئة الوهن والهوان لا ينفق عمره في شيء لا يرضي الله، ولا يسعى في مساعي اللهو والغفلة والفساد، ولا يضع الدنيا أمام ناظريه فيسعى إليها وهو يدرك في قراره قلبه أنّ هذا كان مبتدأ سقوطنا!
المعتذر عن خطيئة الوهن والهوان حين يرى رأس أمّته منكّسًا في التراب يهبّ لرفعه وليمسح عنه وحل الهزيمة والسفول، ولا يطؤه بقدميه وهو يزعم أنّه يبكي تأسّفًا عليه!
فماذا فعلنا نحن الذين تمعّرت وجوهنا لله – كما نزعم – كي نخرج من مستنقع نكساتنا ونكباتنا؟!