الأصوات تتداخل في أذني، تشوش تفكيري، صراخ الباعة يملأ المكان "والله ما تلاقي أرخص مني في السوق!" كان يقصد البضاعة، لكنني ضحكت في داخلي، عقلي قال: فعلاً!
عربة حصان تحمل الكثير من الناس، لا يكاد الحصان يمشي، ينهال عليه صاحبه بالضرب، يواصل الحصان سيره، ويتذمر الركاب، يتناهى صوت الباعة مجدداً: البندورة الكيلو ب٤٥ شيكل، الزيت ب٢٣ شيكل اللتر، السكر ب٢٠ شيكل الكيلو...إلخ
يشتم الناس الباعة، والباعة يشتمون الناس، وصاحب الحصان يقسو على حصانه بعصاه، ويلعن الأوضاع في يأس ظاهر.
تمر امرأة بمحاذاتي، تتحدث بصوت مرتفع مع جارتها كأنها تنفث حممها، وجارتها صامتة، تنظر حولها في فضول وضياع: والله ما ضل إشي! إيش نوكل والخبز ريحته معفنة! ويا ريته رخيص! وين المسؤولين؟!
صوت صبي يصرخ خوفاً من حمار أفلت من يده صاحبه تجاه الناس، أم تركض على طفلهت المرتجف، طفل على جانب الطريق الآخر يشد ثوب أمه: ماما، بدي مصاص، مصاصة وحدة بس وحدة! عشاني يا ماما!
وأمه تنفر فيه: خلاص! قلتلك فش! بدي أشتري شي عشان يوكلوا خوانك، افهم يا ولد!
لا تنتهي الثرثرات، بل تزداد، كما يزداد الازدحام وتكثر الفوضى، وكأن غزة لا تنام أبداً.
وقف رجل مع صديقه في جانب الشارع غير المطل على السيارات: مش مكفي؟ مش ضايل إلا هيك! فلس وغلا!
يمسك رجل كبير بعصاه، بينما يمسك الشاب الصغير بعكازه، ويبدو البلاتين خارجاً من ساقه، كلاهما يحمل في صدره هماً أثقله يبين على ملامحه.
تقف طفلة أمام محل ألعاب قديم، ترفع صوتها بغضب: ليش فشي ألعاب يا ماما! وين راحوا الألعاب.
كل شخص من حولي ضبابي، متسارع، كئيب، كأنهم في سباق يدورون فيه حول أنفسهم، لا تخفف ثرثرات البشر من وطأة الشعور وقله، بل تزيده!
فش أمل! قالها شاب وهو يمر مسرعاً بوجه شاحب: منا لو عندي شوية فلوس كان عملتلي مصلحة وبعت زي تجار الدم!
تتناثر كلماته من حنقه كالرصاص على قلوب من حوله، لكن لم يلتفت إليه أحد.
الناس مركوبون بطريقة ما، مشدودو الأعصاب بشكل يقرب على الانفجار، صرخت جدة عجوز في طفلة صغيرة: ارجعي هنا! فش أمان في الشوارع!
والكفلة تجيب ببراءة: لا، بدي أروح عخالتي!
تشدها جدتها من يدها بقوة، وتمر في اللحظة ذاتها طائرة حربية تؤذي القلوب بفظاعة صوتها المدوي.
طفلة رجل،رجل يشكو، امرأة تئن، الكل يتحدث كأنها حديثهم هو الفرصة الأخيرة قبل أذية صدورهم بانفجار داخلي مقهور.
عيناي تلاحقان حركة الناس، أنا عطش، تلاحقني الكلمات المبتورة من الجمل الملفوظة من أفواه الناس، أستمر في المشي، أكاد أتعثر، لكنني لن أن أتوقف، هل يمكن لأحد خارج غزة أن يسمع ازدحام الصدور؟
تشبع عقلي بأصوات الناس، وصلت إلى الخيمة ناجياً من معركة الزمن، الشارع يلفظني، وتتلقفني الخيمة!