على سبيل المثال، يُقدّم العلم المادي نفسه كحقيقة مطلقة، حتى وإن لم يدّعِ ذلك بشكل صريح. إلا أنه يغرق الإنسان في رؤية محدودة للعالم، مما يجعله يفقد المعنى الأوسع الذي يتجاوز القيم المادية.
الفلسفات الحداثية التي تدعو إلى “الحرية المطلقة”، تبدو للوهلة الأولى كأنها تقدم للإنسان تحريرًا من القيود، لكنها في جوهرها تجعل الإنسان عبدًا لرغباته وشهواته، وتدفعه نحو التفكك الروحي والاغتراب عن المعنى الأسمى.
أما النظم الاقتصادية والاجتماعية التي تعتمد على الاستهلاك والجشع، فإنها تكرّس أيضًا هذه السطحية في الحياة الإنسانية، وتؤدي إلى فقدان القيم الروحية لصالح القيم المادية الزائلة.
في “هيمنة الكمية وعلامات الزمن”, يربط غينون بين سيطرة الشيطان وظهور الحداثة المادية.
الحداثة، من خلال نزع القداسة عن العالم، تحول القيم العليا إلى قيم مادية سطحية، مثل استبدال فكرة الآخرة أو الخلاص الروحي بفكرة التقدم المادي. ومن ثم، تقوم الحداثة باستبدال هذه القيم إلى ما لا نهاية بأفكار جديدة، غير روحية، تظل تروج لتقدم زائف.
الشيطان، يعتمد على المحاكاة الزائفة التي تشوّه الحقيقة الروحية وتحوّلها إلى أوهام تخدع الإنسان. من هذه الأوهام، الحداثة تعتبر تجسيدًا بارزًا لهذه المحاكاة الزائفة. فهي تقدم نفسها كما لو كانت “حقيقة” أو تقدمًا، لكنها في الواقع تعمل على تقليص الأفق الروحي للإنسان، وتجذبه نحو عالم المادة والسطحية. الحداثة تُمثل نظامًا يغذي الوهم الكمي، حيث يتم استبدال القيم الروحية الأبدية بمفاهيم مادية زائلة، مما يكرس اغتراب النفس البشرية عن الحقيقة الأصلية.