رواية على خد الفجر @nimo892005 Channel on Telegram

رواية على خد الفجر

@nimo892005


الجزء الثالث من سلسلة (هل للرماد حياة )للكاتبة نرمين نحمدالله

رواية على خد الفجر (Arabic)

رواية "على خد الفجر" هي الجزء الثالث من سلسلة (هل للرماد حياة) للكاتبة نرمين نحمدالله. تأتي هذه الرواية كتتمة مثيرة لأحداث الأجزاء السابقة، وتعد واحدة من أبرز الأعمال الأدبية في الوقت الحالي. بإثارتها وتشويقها، تجذب القارئ من الصفحة الأولى وتأسره بأحداثها المشوقة. الكاتبة نرمين نحمدالله تتميز بأسلوبها الراقي وقدرتها على خلق شخصيات متميزة ومؤثرة تبقى عالقة في ذهن القارئ لفترة طويلة. تعتبر هذه الرواية وقناة التيليجرام التابعة لها بإسم "nimo892005" وجهة مثالية لعشاق الأدب الرومانسي والتشويق. انضم إلينا اليوم لتستمتع بالقراءة والتفاعل مع محبي الكتب والأدبيات. اكتشف عالما جديدا من الإثارة والتشويق مع "رواية على خد الفجر"!

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


لم تر ابتسامته لكنها شعرت بها مع قبلة مستريحة على خدها قبل أن تسمع صوت خطواته وهو يغادر الغرفة..
تطلب منه مصاحبته للخارج لكن أساور وميسرة كانتا نائمتين وهو خاف عليها أن تمشي وحدها..

تغلق الباب خلفه ولم تكد تفعل حتى تذكرت ذاك العود الذي أرسلته لها طيف الرفاعي كهدية يوم زواجها..
ترتعش ابتسامة وجلة على شفتيها وهي تتحرك بخطوات بطيئة تتلمس طريقها نحو الحائط القريب حيث أخفته بين الحائط والخزانة..

ترتجف أناملها وهي تتذكر طلبه منها أن تعزف..
ربما يمكنها فعلها الآن..
أو على الأقل.. التدرب على فعلها!

تشعر بجفاف حلقها وهي تتذكر رغماَ عنها أيامها الأخيرة مع فهمي..
إصراره العنيد ان تعزف له وقت الفجر..
ترتدي الأبيض..
لم يكن يلمسها.. لم يكن يخبرها أي شيء عن ماضيها.. كأنه كان يحميها منه ومن نفسه..
تركها في هذه الهوة البيضاء لسنوات فلا تدري..
هل كان حقاَ حارسها أم سجانها؟!!
تكتم تأوه ألمها وهي تغالب خوفها بقوة تحسد عليها..
تتناول العود بتوجس كأنها على وشك أن تمس أفعى..
يسقط من يدها لأول مرة فتشعر أن للسقوط دويا أضخم في أعماقها..

لكنها تنحني لتتناوله من جديد..
لن تضعف..
ستقاوم..
ستقاوم بكل قوتها..
سيعود فيصل هذه المرة ليجدها تعزف له عليه.

الخاطر الأخير يرسم ابتسامة رقيقة على شفتيها وهي تتشبث بالعود لتجلس على طرف الفراش..
تتذكر أنها ترتدي - للمصادفة- ثوبا أبيض فينقبض قلبها أكثر لكنها تقاوم..
بكل قوتها تقاوم..

تتلمس العود بوجل.. فيبدو لها صقيعيا شديد البرودة..
وللعجب مشتعلاً شديد الحرارة!!
ربما لهذا ترتعش أناملها على أوتاره..
تباَ..
لا تزال تخاف أن تمسها!

لا تزال تخاف سماع اول لحن تسمعه من يدها!

تسمع الباب يفتح دون طرقات فتبتسم وهي تدرك أنه لا ريب فيصل..
هل نسي شيئاَ؟!


_عدت ؟!

تسأل وهي تحاول إخفاء خجلها بمسكة العود..
ودت لو تكون مفاجأتها له عندما تتمكن من فعلها..!

لكنه لا يرد..
فقط تشعر بالخطوات البطيئة تقترب منها..

تتأهب أذناها لسماع الرد المعتاد منه:
(دوما سأعود)..

لكن الصوت المألوف..
المألوف حد الوجع..
هو ما يصفع أذنيها هذه المرة بالرد المعتاد الآخر الذي كادت تظن انها لن تسمعه بعد الآن أبداَ..

(ولمن سواكِ أعود؟!)
========
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


تطفو لذهنه كما قالها مدحت السمري ليلة زفافه على شيما فتلتوي شفتاه بابتسامة شيطانية وهو يستعيد خاطراَ يراوده منذ وقت طويل..
والآن حان تنفيذه!

يتطلع في مرآة سيارته ليمسح الدم المنبثق من جروحه وعيناه تتوهجان بنظرة متوعدة قبل أن يتناول هاتفه ليتصل بمدحت يطلب منه رقم وليد..

وليد الذي كان يغلق الاتصال لتوه مع شيما بعدما وعدته بليلة أخرى قريبة تقضيه معه..
لهذا ينعقد حاجباه بتوجس وهو يرى هاتفه يرن برقم سيد الذي كان قد حفظه عنده منذ وقت طويل..
يفتح الاتصال متصنعاَ الاندهاش.. لكن الاندهاش الحقيقي يصيبه حقاَ وهو يتبين ما يريده منه ذاك المجنون!
هل أحسن السمع حقاَ؟؟!
أم أن ذاك الغبي سيد يريد أن يدفع بهما معاَ إلى أعمق أعماق الجحيم؟!!
========





العراق.. بغداد

_داوود.. ابني.

تتمتم بها حواء وهي تستعيد وعيها للتو في غرفتها بالمشفى ..
المرئيات في عينيها تتشوش قبل أن يستقر المشهد على صورة إلياس وهو يجلس على الكرسي جوار فراشها يناظرها بعينين قلقتين لا تخلوان من عتاب..
فتهتف بأقصى ما حمله صوتها الواهن وهي تحاول النهوض :
_أين داوود ؟! هو بخير؟ دعني اراه.

لكنه يمنعها من الحركة قائلاً :
_لن تستطيعي رؤيته الآن.. استعيدي عافيتك أولاً.. لا تقلقي.. هو بخير.. كلاكما في أمان الآن وقد القت الشرطة القبض على المجرمين.
تهز رأسها نفياً بهلع وهي تقاومه قدر استطاعة جسدها الواهن:
_لا.. ليس كذلك.. لو كان كذلك لكان هنا معك.. ماذا فعلوا بابني ؟!.. بل ماذا فعلت أنا به؟!!

تنتحب بحرقة وهي تشعر بالمزيد من العجز في موقفها هذا.. لكن صوته المطمئن يصلها :




_والله بخير.. المجرمون كانوا يحقنونه بعقار منوم كي لا يثير الفوضى.. لهذا طلبت من طبيب صديق أن يتفحصه جيداَ لنطمئن عليه.. بعد قليل أحضره هنا لكِ..


تتأوه بمزيج من ألم وقلق وهي تتمتم باسم الولد لتعاود هتافها الجزع :
_طبيب صديق؟!.. هل تثق به ؟!



يرمقها بنظرة طويلة زاد فيها عتابه ثم يهز رأسه وهو يعود لكرسيه قائلاً :
_اطمئني.. ليس كل من وثقت بهم ليسوا أهلاً للثقة.. صدق ظني بالبعض أحياناَ.

ترتد مكانها مستسلمة للطعنة التي منحتها إياها كلماته..
تغمض عينيها بقوة لتصمت طويلاً كأنها تمنحه فرصة أن يفرغ فيها لعنات غضبه التي لن تلومه عليها..
لكنه يسكت..
وسكوته أشد وطأة على قلب كقلبها!

لا تزال عقاقيرها تثير الوهن في جسدها فتستسلم لإغماضة عينيها ..صوتها يغادر شفتيها بما بدا كهذيان :
_غريب! غريب هذا الزمان! منذ لقيتك أول مرة وأنا رأيتك طوق النجاة الذي سينتشلني من الغرق في حياتي المظلمة.. وهأنتذا تنهي دورك في حياتي بنفس الصورة.. وكم بين البداية والنهاية؟!!.. كم بينهما؟!!

_كم بينهما!!
يكررها هامساَ بعتاب كأنه يشاركها لوعتها على عمر مفقود!

لكنها تبدو وكأنها لا تسمعه.. سيل اعترافها الصادق يقطع طريقه من قلبها لشفتيها كأنه يطهرها بالمزيد من البوح :

_لم يكن ما بيننا مجرد حب.. كان طريقي للهرب.. ربما لم أحكِ لك الكثير لكنك لا ريب أدركت أي حياة كنت أعيشها.. الآن أعترف لك أنني تعمدت ما حدث بيننا.. كنت أريد أن ادفعك لتعجيل زواجنا.. لكن القدر لا يعانده أحد.. تحطمت أحلامي على صخوره وعدت للسجن الذي أردت الهرب منه مكبلة بالمزيد من القيود.. كم كرهتك في تلك الفترة وأنا أظنك قد تخليت عني.. وكم عدت أحبك عندما عدت لأجدك لا تزال على عهدي..لهذا لم أفكر كثيراَ وأنا أنجرف لتلك الخطة الخطيرة فقط كي أستعيدك.

_ولماذا تراجعتِ ؟!.. لماذا لم تخبريني أنك والولد حقاَ في خطر؟!

صوته العاتب يكتسب المزيد من الحدة فتتنهد وهي تفتح عينيها لتواجهه بنظراتها :



_لأنني مللت!.. مللت هذا المستنقع الذي تغوص فيه قدماي أكثر يوماَ بعد يوم.. أنا جربت الطرق الملتوية التي أجبروني منذ صغري أن أخوضها.. فلماذا لا أجرب الطريق الصحيح لمرة واحدة لعله يصل بي؟!!

يطلق زفرة قصيرة وهو يشيح بوجهه عنها..
فتحدق فيه بنظرة متحسرة لم يرها..

_أنا أحببت حواء التي أحببتها أنت.. حواء القوية الصادقة التي لا تكذب ولا تراوغ.. حواء التي استحقت أن تنتظرها طوال تلك السنوات.. ربما قبل اليوم لم يكن لها وجود إلا في قلب طيب كقلبك تغافلت عيناه عن عيوبها.. لكنها من اليوم ستكون حاضرة دوماَ في عيني حتى وإن غبت أنت.. سأكون هي.. سأسعى أن أكون هي.




تقولها وهي تتذكر تلك الدقائق القليلة التي سبقت فقدانها للوعي..
نورانيات عجيبة بين رؤيا وخيال وحلم تجلت لها كأنها ترشدها للطريق الذي يجب ان تخطوه..
والذي لن تحيد عنه أبداَ بعد اليوم!

الله العظيم الذي يجيب المضطر استجاب دعاءها فكيف بعد الآن يهزمها شيطانها؟!


طرقات خافتة على الباب تقطع أفكارها لتجد الطبيب يدخل ليتفحصها..
فتسأله بترقب :
_ماذا أصاب ساقي بالضبط؟!

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


تزداد رجفتها رغماَ عنها بين ذراعي فيصل الذي ينشغل بها قليلاً وهو يشعر بما تكابده فيشدد ضمته لها بما يثير حنق سيد أكثر فيهتف بسخرية مشتعلة:

_وأنت يا عديم الرجولة! تجلسها في حضنك لتروي لك أشياء كهذه؟!! كنت متعجبا من استمرار زواجكما مع ماضيها المشين هذا.. لكن هاهو ذا زال العجب.. التقت الفاجرة بال..

لم يستطع إكمال جملته ولا حتى إدراك ما حدث!
غرّه حلم فيصل فلم يشعر إلا وقبضته تدمي فكه في لكمات خبيرة سريعة متتابعة لتسقطه أرضاَ..


يحاول كتمان تأوهه لكنه يهرب من شفتيه رغماَ عنه وهو يشعر بحذاء فيصل الثقيل على صدره بينما تضغط قدمه الأخرى على ذراعي سيد اللتين سيطر على حركتهما فوق رأسه..
يشدد ضغط كعبه على موضع قلبه بالضبط فيرفع عينيه إليه شاعراَ بضآلته هو في موقف كهذا وقد بدا فيصل كأنه جبل ضخم يوشك أن يسقط فوقه..

_والله لو ذكرت اسم زوجتي مرة ثانية على لسانة القذر هذا لانتزعت روحك بعدها.



صرخات فجر تستجلب حضور الجميع من الداخل..
يطلق حسام اسوأ ألفاظ سبابه وهو يندفع بخطوات راكضة نحوهم..
فيستغل سيد الفرصة محاولاً تحرير ذراعه وعرقلة فيصل لكن الأخير يضغط على صدره أكثر مزمجراَ بصيحة غاضبة..
يسحب حسام فيصل بعيداَ لا لتخليص سيد منه..
بل ليوقفه دافعاَ إياه نحو الخارج صارخاَ به :
_ما الذي تفعله في بيتي يا خسيس؟! بيتي أنظف من ان تطأه قدمك!

هيئته تبدو مثيرة للشفقة حقاَ وقد انتفخ وجهه بجروحه من أثر لكمات فيصل القوية لكنه يحاول السيطرة على أنفاسه اللاهثة وهو يهتف بتبجح :
_جئت أخبركم أن المحل صار لي.. وقريباَ جداَ يعود كل ما هو لي.. كل ما هو لي.

يضغط حروفه مؤكداَ وهو يركز بصره على فجر فيندفع نحوه فيصل ليهجم عليه من جديد صارخاَ بهياج :
_بعينك!
لكن حسام يحول بينهما وهو مستمر في دفع سيد خارج البيت..

سيد الذي يهز رأسه وهو يرجع للخلف متوعدا فيصل :


_انت كتبت نهايتك بيدك.. تتوعدني بالقتل ؟!.. سنرى من منا سيأخذ روح الآخر!


صرخات فجر التي بدت وكأنها عادت بذكرياتها لنقطة الصفر تجبر فيصل أن يترك كل شيء خلفه وهو يرى حسام مستمراَ في دفع سيد خارج البيت إزاء مقاومة الأخير وصرخاته المتوعدة حتى يختفي كلاهما عن نظره..
يعود إليها بسرعة مطوقاَ إياها بذراعيه هامساَ بين أنفاسه اللاهثة :

_اهدئي حبيبتي.. اهدئي.. أنا هنا جوارك.. لن يؤذيكِ أحد.

_أنت بخير ؟!.. حسام بخير؟!.. كلكم؟!.. ذهب حقاَ؟!!

تهتف بها بهلع ورأسها يدور على عنقها بعجز مقيت كأنها لو فعلت ستتمكن من الرؤية وفهم ما يدور..
لكنه يريح رأسها على صدره محاولاً كظم غيظه للسيطرة على نبرات صوته :
_اطمئني.. كلنا بخير.. كوني بخير وسنكون كلنا بخير.

يقولها ثم يمسح دموع وجهها بأنامله فتجفل للحظة وهي تعود خطوة للخلف وكأنما ردتها كلمات سيد لنقطة الصفر..

لكنها تعود لتمسك كفيه بأناملها..
تستدعي كل قوتها وهي تحتضن كفيه على وجهها تثبتهما هناك..
تثبتهما بكل طاقتها كأنما تريد غرسهما للأبد..
أو حفظ مذاقهما في هذه اللحظة بالذات وكأنها تقاوم بها كوابيس ماضيها وحاضرها..

_لص ومتبجح! يسرق حقنا ويأتي ليعلنها..
يهتف بها حسام وقد عاد إليهما.. فيهتف فيصل بحدة :
_لو كان المحل هو مسمار جحا الذي سيجعله يقفز لحياتنا بين الحين والآخر.. دعه له.. منذ متى هنأ سارق بالحرام؟!

لكن حسام يهز رأسه هاتفاَ بغضب:
_والله لا أترك له قشة واحدة تخصني أو تخص أختي.. هو يستعين بنفوذ قريبه.. لكنني لن أعدم طريقة أسترجع بها حقنا..

يشير له فيصل برأسه إشارة خاصة خفية وهو يحرك عينيه نحو فجر المرتجفة بين ذراعيه..
فيكتم حسام بقية حديثه وهو يقترب ليربت على كتف فجر قائلاً :
_دعكِ من كل هذا.. كلنا معتادون على سخافاته.. صحيح أنه تجاوز الحد هذه المرة لكن ورحمة ربي لن أمررها له..

ثم يلتفت نحو فيصل مردفا :
_خذ زوجتك ودعها تسترح بالداخل.. وإياك من التورط مع ذاك الوغد مرة أخرى.. دعه لي انا.. لا تنس حساسية منصبك.
_انا أنسى كل شيء لأجل فجر.


يقولها فيصل حازماَ فيزفر حسام وهو يشيح بوجهه قبل أن يتحرك بفيصل مع فجر نحو الداخل..

وفي مكانه بسيارته كان سيد يستشيط غضباَ شاعراَ أنه حقاَ يحترق!
خيط رفيع من دمع مقهور يفر من عينيه وهو يتذكر كل كلمة سمعها من فجر بينما تحكي عن الماضي!
جزء انساني فطري طبيعي لكنه واهن داخله يشعر بالشفقة نحو ما عانته..
يريد لو يغطيها بعباءته كما فعل يوما ليحميها من كل ما يسوءها..
لكن جزءا شيطانياَ يصرخ داخله أنها هي السبب..
هي من فعلت بنفسها هذا!
والأسوأ.. أنها تحمله هو جزءاَ من هذا الذنب..
لقد بدت وكأنها تشكوه لفيصل هذا!
تباَ!!
صورة فجر على صدر فيصل ملتصقة بحدقتيه تكويهما كياَ!
لماذا لم يقتله ذاك اليوم في المشفى عندما اكتشف أنه كان يخبئها عنده بعد هروبها من الزواج منه هو؟!!
لماذا لم يفعل؟!!

_سلم على وليد.. ستحتاجه حتما.. لا تدنس يدك.. هو ملقط للأعمال القذرة.

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


يتبادل الطبيب مع إلياس الذي يشيح بوجهه نظرة آسفة ثم يقول بنبرة عملية :
_فعلنا كل ما بوسعنا.. لكن الرصاصة أصابت العظام.. تدخلنا جراحيا لكن أظنها ستترك أثراَ طفيفاَ كعرجة خفيفة في الساق.

ينعقد حاجباها بقلق لأول وهلة لكن شفتاها تتلونان بابتسامة واهنة بعدها وكأنها لم تقنط..!


كانت تشعر أنها وإن عادت للطريق القويم يجب ان يترك الماضي بصمته كي لا تنسى.. فتضل من جديد!
أجل.. كانت تعتبرها منحتها لتتذكر.. فلا تنسى.. لا تنسى أبداَ!

_ماما.. بابا..

يهتف بها داوود وقد دخل الغرفة مع ناي التي تقدمت لتسلم عليها داعية لها بالشفاء وإن وشت نظراتها المتوجسة ببعض الغيرة..
غيرة لم يخففها انتفاض إلياس عندما رآها وكأنما عيناه تعلقتا بها قبل كفيه..

خاصة والصغير يعانق امه بقوة بعد مغادرة الطبيب ثم يمسك كفها بيد ويجذب كف إلياس باليد الأخرى قائلاً :
_بابا أنقذنا من العصابة..

تشعر حواء بغريزتها الأنثوية بما تكابده ناي..
تقاوم شعورها الفطري بالاستحواذ متشبثة بخيوط النور الجديد..
ربما سيبقى (إلياس الأمين) غصة قلبها الذي طالما وجد فيه طوق نجاته لكنه أبداَ لن يكون لها..
لا يمكنها تحدي هذه الحقيقة بعد الآن وهي اعتادت تجرع خساراتها كاملة..
ومن يدري؟!
ربما هي الأخرى تدرك أنها لم تحبه يوماَ ما كما كانت تظن..
فتجري عليها سُنّة الزمان الذي لا يبقي شيئاَ على حاله!


لهذا تتحامل على نفسها لتنهض وتستقيم بظهرها..
تجذب الولد نحوها لتتفحصه ببصرها تطمئن عليه .. تغرق وجهه بقبلاتها.. تسأله بقلق امتزج بشعورها الرهيب بالذنب :
_انت بخير؟!
_نعم.. (دكتور عامر) صاحب (بابا) فحصني جيداَ.. قال إنني بخير.. ماذا حدث؟!.. (بابا) قال إن ساقك قد أصيبت بينما تحاولين إنقاذي.

ترفع حواء نظرة ممتنة نحو إلياس الذي لم يهز صورتها أمام ابنها رغم كل شيئ..

_لا تهتم.. لا تخف.
تقولها بصوت متهدج حاولت معه كتم دموعها.. بينما يوجه إلياس حديثه للصبي مداعباَ شعره :
_لا داعي للخوف..لن يؤذي أحد شعرة من أحدكما.
_كيف عرفت مكاننا؟!
تسأله حواء بدهشة وقد استردت المزيد من صفاء ذهنها..
ليرد إلياس مفسراَ :

_لم يكن مجهوداَ فردياَ.. السيد عاصي الرفاعي له الفضل الأكبر.. عرف بطريقته كيف يتتبع المختطفون.. وما بقي كان دور يحيى هو من نجح في تتبع أثرك بعدما راوغتِ رجالي.

تزفر وهي ترفع إليه عينين مستكشفتين مدركة أنه يتعمد تقليل دوره في الأمر بتواضع كعادته..
تتمتم بوهن :
_سلمتم.. سلمتم جميعاَ.. أنا مدينة لكم كلكم بحياة ابني.

_استريحي الآن ولا تتعبي نفسك.. داوود متعب أيضاَ.. سنأخذه معنا للبيت كي يستريح.

تقولها ناي بابتسامة متسامحة لكن حواء تتشبث به.. نظراتها زائغة بين عجز وكبرياء يدفعها للرفض :
_فليبقَ معي انا..

يقرأها إلياس في عينيها فيقول بحزم وهو يضم الولد إليه :
_ليس الأن.. فيما بعد.. عندما تستردين عافيتك كاملة نفكر فيما ستفعلينه بالمستقبل.. حتى حينها.. أنت وداوود أمانة لدينا.

تتنهد بتعب حقيقي واوجاع روحها تنافس آلام جسدها..
تراقبهم وهم يرحلون ثم ترفع عينيها لأعلى وهي تتحسس قلباَ في صدرها عاد ينبض بنوع جديد من المشاعر..
ليست عشقاَ.. ولا خوفا.. ولا طمعاَ.. ولا حقداَ..
بل أمانا يعدها ببداية جديدة..
تبتسم وهي تتذكر رؤيا شقيقتها لتتمتم بقلب جديد بدا وكأنه ولد لتوه :
_صدقتِ يا أختي.. صدقتِ.. كان في الغرق النجاة.. كان في الغرق النجاة.
======









العراق.. بغداد

في غرفة الزيارة بالسجن الاحتياطي تجلس جوليا بتوتر غاضب وهي لا تفهم ما يحدث..!

أخبروها في مقر الشركة بتركيا أنها يجب أن تعود لبغداد في عمل مهم..
ظنت أن إلياس قد كشف حقيقة تعاونها مع حواء التي لا تجيب على هاتفها بعد آخر مكالمة بينهما..
لكن يحيى كلمها بنفسه ليدعوها على الاحتفال بمولد ابنه!
ولما أرادت استقصاء الأمور أكثر لم تكن أمامها سوى شجون التي أخبرتها أن داوود عاد بالفعل لحضن أمه وأبيه!
ساعتها ظنت أن حواء خانتها وتكاد تجتذب إلياس نحوها من جديد فلم تفكر للحظة وهي تعود لبغداد..
لكنها فوجئت بالشرطة تلقي القبض عليها بمجرد دخولها المطار..
يتهمونها بأنها شريكة في عملية سرقة!

(أي سرقة؟!)
( من صاحب البلاغ؟!)
(هل ورطتها حواء؟! مظفر ؟! أو ربما سلمان البارودي نفسه؟!!)


كل أسئلتها كانت تصطدم بالفراغ حتى وصلها الجواب أخيرا..
من صاحب البلاغ؟!
إلياس الأمين نفسه!

ترى الباب يُفتح ليبدو خلفه الحارس قبل أن تلمح وراءه الوجه الحبيب..

_إلياس!

لوهلة كادت تركض إليه تحتمي به!
ترجوه أن ينقذها من هذا!
حتى وهي لا تفهم ما الذي يحدث لكنها كانت توقن إن إلياس لن يتركها لمصير كهذا..
ليس وهو يظن أنها قد انقذت حياته يوماَ!

يتركهما الحارس وحدهما.. فيتقدم إلياس ليجلس على كرسيه أمامها..
عيناه غاضبتان كما لم ترهما يوماَ.. لكن صوته يخرج باردا :
_كيف حالك؟!

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


ترتجف ابتسامة عصبية على شفتيها وهي تتفرس في ملامحه :
_تسألني عن حالي؟! حقاَ؟! لا تعرف كيف أشعر في موقف كهذا؟!

لكنه يضيق عينيه مشبكاَ أصابعه بقوله :
_أياً كان ما تشعرين به فمن الأفضل أن تعتادي عليه.. لأنه سيطول كثيراَ.. سأحرص أن يطول كثيراَ.

يضغط حروف عبارته الأخيرة بنبرة تهديد واضحة.. فتهتف به بارتباك :
_ما الذي تفعله؟! من الذي أوقع بيننا؟! قل لي ما الذي تظنه فيّ وأنا سأصحح فكرتك.

فيطلق ضحكة ساخرة قصيرة بدت في أذنيها كرصاصة :
_فكرتي صححتها بنفسي.. لا تتعبي نفسك.

يخفق قلبها بجنون خوفها وهي تحاول مس كفه هاتفة :


_لا أصدق أنك نسيت كل الود الذي جمعنا طوال تلك السنوات.. لو تجاهلت انت مشاعري نحوك فكيف تتجاهل صداقتنا؟!

_صداقتنا؟!
يكررها خلفها وهو يهز رأسه بينما يسحب كفه بعيداَ عنها مردفاَ :

_أخبرتكِ من قبل عن قواعدي مع المقربين.. الخطأ الأول مهما عظم لا بأس به لكنه يسحب من الرصيد.. الخطأ الثاني يسحب الرصيد كله.. بعدها لا يكون مجال لخطأ ثالث.. وأنت استنفدت رصيدك كله!

_قل لي فقط.. ماذا أخبروك بالضبط؟!

تهتف بها بصوت ارجفه خوفه وهي تحاول استغلال ذكائها للحظة الأخيرة..
فيطلق زفرة قصيرة وهو يشيح بوجهه.. قبل أن يتحرك ليقف مكانه وقد بدا زاهداَ حتى في عتابها..
لكنها تشده من كم قميصه هاتفة بانهيار بدا وشيكاَ :
_لا تفعل بي هذا.. لا تنس أنني يوماَ ما أنقذت حياتك.. افتديتك بنفسي!

فيلتفت نحوها بحدة وقد تصارعت انفعالات شتى على ملامحه :
_حتى هذه كانت كذبة!



تشحب ملامحها وهي تراه ينفض كفها عن ذراعه كأنما يخشى أن يصيبه دنسها مردفاَ :

_لا تكلفي نفسك المزيد من الخدع.. أنا عرفت كل شيء.. حكاية تعاونك مع مظفر ومن قبله مع أبيه.. ما كنتم تدبرونه طوال الوقت كي تفرقوا بيني وبين زوجتي.. حتى تلك القصة المزعومة عن إنقاذك لي من ذاك الرجل الذي كان صنيعتك انتِ ومظفر..الرجل اعترف لي بعد ضغط بكل شيء.. ما تعجبته حقاَ هو تعاونك مع حواء.. لكنني بعد تفكير طويل أدركت ما كانت نيتك.. طالما أعجبني ذكاءك لكنني لم أتصور يوماَ أن يستحيل نصلاً في ظهري.

دموع حقيقية تغرق وجهها وهي تشعر بمذاق الخسارة المر..
تحاول التشبث بآخر أمل لديها وقد فقدت قدرتها على الإنكار :


_حتى لو كان ما عرفته صحيحاَ.. ليس عدلاً أن تلقي بي في السجن في جريمة لم أرتكبها.

_عدل ؟!.. تتحدثين حقاَ عن العدل؟!
يهتف بها بنبرة غاضبة جمدت الدماء في عروقها وهو يردف :


_لو كنت عاملتك بالعدل لجعلت لك تهمة تهدر شرفك كما فعلتِ بزوجتي لكن أخلاقي منعتني..

تغمض عينيها بألم مع كل كلمة (زوجتي) يرددها فتضغط على جرح خساراتها أكثر..
ولا يزال يهدر بحدة :

_لو كنت عاملتك بالعدل لأذقتك العذاب الذي أذقته لطفل صغير كداوود وأنتِ تقنعين أمه أن توهموه بأنه يتعرض للخطف قبل أن يختطف فعلاً!.. لكنني اخترت أن أجزيكِ بأهون ذنوبك.. كنت تتبجحين أنك تملكين نقاط ضعف لكل واحد تضغطين بها عليه وقت الحاجة.. ونسيتِ أنني لا يعجزني فعل المثل.

_إلياس.. أنا فعلت هذا لأجلك.. لأني أحبك.. طوال تلك السنوات وأنا..

تهتف بها بضراعة مخزية لكنه يقاطعها هاتفاَ بازدراء :



_اخرسي.. الحب الحقيقي أبعد ما يكون عن دناءات أنانيتك.. الحب الحقيقي عرفته مع واحدة تركت يوماَ ما كل شيء خلفها حتى أنا فقط لأنها ظنت أن هذا في صالحي.

_إلياس!

تهتف بها بيأس وهي ترمقه بنظرات ضارعة لكنه يعطيها ظهره قائلاً بصرامة :
_ستنالين ما تستحقين حتماَ.. لن تكوني قادرة على إيذاء أحد بعد الأن.

يقولها ليغادر الغرفة تشيعه نظراتها الكسيرة وقد بدت كصقر جارح طار لأعلى ارتفاع فكان سقوطه مدويا..
لكنها تأبى الاستسلام لآخر لحظة فتهتف بحقد :
_لا تظن الأمر انتهى هاهنا.



تقولها وهي تتذكر وعيد مظفر الثائر في آخر حوار بينهما.. لكن إلياس يرمقها بنظرة عميقة كأنه يسبر أغوارها قبل أن تلتوي شفتاه بابتسامة مستهزئة شعت باحتقاره.. ثم يستمر في طريقه غير مكترث..

يتحرك إلياس فور خروجه نحو سيارته المركونة ولم يكد يفتحها حتى شعر بهذه الأصابع تغطي عينيه.. وكأن صاحبها من خلفه يسأله عن هويته!

يطلق زفرة تشابكت مع ابتسامة ورائحتها الخاصة تداعب أنفه..

_حقاَ ؟؟!
يهتف بها بنظرة عاتبة وهو يزيح أصابعها بخفة عن وجهه ليلتفت نحوها..
فيحمر وجهها بمزيج من خجل وشقاوة طفولية تميزها بينما تكور كفيها حول شفتيها بنبرة معتذرة :


_آسفة!.. عندما علمت أنك ستكون هنا لم أتمالك نفسي..

يهز رأسه بما بدا كاستنكار ناقض هذه النظرة المتولهة في عينيه..
بينما تردف هي بنفس النبرة المعتذرة سريعة الكلمات حد تلاحق الأنفاس ووجهها يزداد احمراراَ :



_اعرف أنني أخطأت عندما جئت دون أن أخبرك.. بل وعندما غطيت عينيك بهذه الطريقة العابثة في الشارع.. ماذا سيقول الناس لو رأوا زوجة إلياس الأمين وهي..

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


تنقطع كلماتها بشهقة عالية وهي تفاجأ به يحملها ليضمها لصدره بقوة..
يدور بها مرة تلو مرة وسط صرخاتها الضاحكة هاتفاَ :


_دعينا نمنح الناس إذن شيئاَ آخر يتناقلونه عن إلياس الأمين وزوجته!

تعلو ضحكاتها أكثر وهي تزيد من تعلق ذراعيها بعنقه..
قدماها لا تلامسان الأرض..
لكن قلبها يلامس السماء!!

ينزلها أخيراَ دون أن يفلتها من بين ذراعيه لتستقر ضحكاتها على كتفه هامسة بدلالها الشهي :
_دوختني.
_طالما فعلتِ!!

يهمس بها بنبرة عاشقة وهو يرفع ذقنها ليمطرها بنظراته المغرمة.. مردفاَ :
_وكأنني أنفقت قبلك كل تعقلي.. وادخرت لكِ وحدك كل جنوني.

تبتسم بخجل وهي تشعر بعيون المارة تحدق بهما :
_يالله! ماذا سيقول الناس؟!

_سيقولون رجلاً ضيّع عمره والأن وجده في عينيكِ! مسكين.. ماذا يفعل؟! صبره ضيّع عقله.. وحبك ضيعهما معاَ!

نسخته المشاكسة تمزج مرحه بعاطفته فتهمس بين دلال وخجل :
_(فدوة)! سلامة عقلك وعمرك.

ثم يغلبها فضولها الطفولي كالعادة فتردف بعينين اتسعتا فجأة بصورة ملحوظة :
_ماذا فعلت مع جوليا؟! ماذا قلت لها؟! وماذا قالت لك؟!!

يمط شفتيه وهو يخبطها بسبابته بخفة على شفتيها..
نسخته الصارمة تفرض حضورها :
_صفحة وانطوت تماماَ..لا مزيد.

تطلق زفرة اعتراض قصيرة وهي تحرر نفسها من ذراعيه بما بدا كعقاب طفولي قبل أن تدور حول السيارة لتستقر في مقعدها فيفعل المثل..
ينطلق بالسيارة وهو يختلس نظرة لملامحها المحتقنة وقد احمر وجهها كثيراَ..

_زعلانة ؟!

يسألها كاتماَ ابتسامته فتهز رأسها بنفي كاذب للحظات..
لكنها لم تحتمله أكثر وهي تنفجر بقولها :



_لا.. لن أحتمل السكوت أكثر.. انت لا تفهم كيف تفكر النساء في العادة في مواقف كهذه.. جوليا هذه طالما حرقت دمي.. لو كان الأمر بيدي للففت شعرها حول قبضتي وزعفت به الأسقف والحوائط.. لهذا اعذرني.. أريد أن أفش غلي.. ليس هذا وقت طبيعتك الكتوم المتحفظة.. تكلم.. احكِ.. ثرثر.. أقول لك.. قلدني.. تقمص شخصيتي.. احك لي ما حدث وكأنك انا.. افعل اي شيء يبرد قلبي من ناحيتها..

كان صوتها يعلو أكثر مع كلمة تنطقها حتى وصل حد الصراخ في عبارتها الأخيرة لكنه لم يملك نوبة من الضحك انفجر فيها وجعلتها تلكزه في كتفه هاتفة بعتاب :
_تسخر مني؟!

يوقف السيارة جانباَ ثم يستدير نحوها بجسده..
راحته تعانق خدها مع همسه :


_لا أقصد مضايقتك لكن رجلاً مثلي ضاع الكثير من عمره عبثاَ ولا أريد أن تضيع ثانية واحدة أخرى معكِ في هراء.. آن الأوان أن نرمي الماضي القبيح خلفنا بكل سوءاته.. لدينا مواضيع أهم نتكلم فيها.

_مثل.. ؟!
تسأله وقد عادت نبرة دلالها تكسو صوتها..
فيهمس بمكر :
_ملحوظة أخرى مثلاَ!

تتأهب حواسها كعهدها كلما يقولها..

_أنفك صغير جداَ.. لكن عندما تتحمسين تتسع فتحتاه فينتفش قليلاً كأنه يستجدي المزيد من الأنفاس وليس أحب عليّ من مشاركتك أنفاسي.

كان يقترب أكثر مع كل كلمة يقولها حتى امتزجت أنفاسهما في عبارته الأخيرة..
قبل أن تلتقي الشفاه في حديث متقد تراقصت فيه دقاتهما صخباَ..

يفترقان أخيراَ ليعود للقيادة فتبتسم وهي تفتح صندوق سيارته أمامها ليحتضن عينيها مرأى ورقتي الشجر الجافتين وقد بقيتا مكانيهما..

_شكراَ..

تهمس بها بحروف تقطر عشقاَ فيرمقها بنظرة متسائلة وهو يخطئ فهم ما تقصده.. عيناه تشيران لشفتيها بغمزة ألقتها نسخته العابثة :
_هل أعجبتكِ إلى هذا الحد؟!.. يمكننا تعميم التقنية لكل التطبيقات المستقبلية.

لكنها تلكزه في كتفه هاتفة باستنكار :
_ماذا ظننتني أقصد ؟!
_قبّلتكِ فشكرتني!.. ما الذي يفترض أن أفهمه ؟!


_اوف! نسختك العابثة هذه ستصيبني بالجنون يوماَ ما.. وذنبي في رقبتك.


تهمس بها بسخط مصطنع تنفيه كل خلجة من خلجاتها المتيمة به..
فيطلق ضحكة عالية تجعلها تهتف بصوت أعلى :
_وضحكتك هذه قبلها والله!

يضم رأسها إليه بقبلة سريعة محاولاً التركيز في القيادة.. ثم يسألها :
_علامَ كنتِ تشكرينني إذن ؟!

فتتنهد وهي تتلمس ورقتي الشجر بين أناملها..
تتذكر يوم سقوطهما على رأسها.. ثم ترفع عينيها إليه هامسة بامتنان :
_شكراَ لأنك احتفظت بهما هنا حتى الآن.. وعدتَ واوفيت.. شكراَ لأنك جعلتني أستعيد يقيني في الأمنيات.
=======











مصر.. الفيوم

_شكراَ لأنك أتيت بي إلى هنا قبل أن نعود للبيت.

تقولها فجر بامتنان فسره ارتياح حروفها وهي تركب معه فوق ظهر روح التي تهادت خطواتها بين الكوخ وشاطئ البحيرة..
يتردد فيصل قليلاً ولا يزال يخشى عاقبة أي تقارب جسدي بينهما..
لكنه يستجيب لحدسه وذراعه يستريح على خصرها يضمها إليه اكثر بينما يمسك لجام الفرس بالآخر..

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


يود لو يخبرها أنه هو الآخر يحتاج لهدنة من كل هذه الضغوط التي تتراكم على صدره يوماَ بعد يوم ..
أمه.. أخته.. ملاذ.. و.. فجر!
فجر التي تتشابك خيوط ماضيها رغماَ عنهما لتصنع عقدة كبيرة لا يزال عاجزاَ عن فكها!
يشعر بها تستسلم لراحة ظهرها على صدره..
تسند رأسها على كتفه وهي ترفع أناملها تتحسس وجهه كأنما تقرأ ملامحه..
فيحني رأسه لتمتزج أنفاسهما.. فيصلها همسها الحزين كأنما قرأت ما بقلبه :
_متعَبٌ أنت.. حِملك ثقيل.. وأنا أزيده.

تنهيدة حارقة يلفظها صدره وهو يضمها إليه بذراعه الآخر..
شفتاه تستريحان على غمازة خدها للحظات..
قبل ان يأخذ نفساَ عميقاَ يزفره ببطء :

_تذكرين يوم قلت لي أنكِ هنا تتعمدين أن تتباطأ أنفاسك.. تخافين أن ينفد مخزونها.. هكذا حالي معكِ لكن ليس هنا فقط بل في أي مكان.. أنتِ لا تزيدين حملي بل على العكس.. ربما لولاكِ لما كان لحياتي كلها معنى.
ثم يمسك كفها ليتحسس به عنق الفرس مردفاَ :
_هنا.. على عنق روح وضعت قلادة بخط عربي.. كنت قد كتبت عليها (ودعتها عند الغروب ملوحاَ.. من يومها كل الزمان غروب).. كتبتها وأنا أظنك يوماَ لن تعودي لي.. الآن استبدلتها بنفس الخط.. (لاقيتها عند الشروق معانقاَ.. من يومها كل الزمان شروق).. كل الزمان بعدك شروق يا فجر.

تدمع عيناها بتأثر وهي تشعر بقلبها يضج من فرط جنون خفقاته..
كيف يقولون إنها فقدت بصرها؟!
إنها تكاد تقسم أنها ترى ما حولها..
السماء بلونها الصافي وعرائس غيومها البيضاء تشير لها من بعيد تغمزها بشقاوة تعدها بالفرح..
الرمال تبسط لها فرشها الذهبية تدعوها للسير فوقها في طريق طويل لا ينتهي..
البحيرة المسحورة التي يتلون ماءها كما يتلون العمر على أستار قلبها بين جرح وحب..
الفرس التي تبدو لها وكأنها أسطورية تحلق بها بجناحين متلألئين نحو جنة لم يطأها قبلها بشر..
وهو..
هو بكل العشق الذي يموج به قلبه..
بكل الجمال الذي خلقت منه روحه..
بكل هذا النبل الذي فاضت به صفاته..
وبكل هذه الخفة التي يسرق بها قلبها يوماَ بعد يوم كي يضمد جروحه بمهارة لا تظنها لسواه!

_لا أعرف أي شيء يمكن ان يحمله كفّاي لك.. لكن كل ما يمكن أن يحملاه فهو لك.. وأعرف.. أعرف أي عمر قبيح عشته قبلك.. لكنني أطمع في العمر الجميل الذي يمكن ان نعيشه معاَ.. لا يعنيني غروب او شروق.. ليل او نهار.. ظلمة أو نور.. ما يعنيني أن اشعر دوماَ كما الآن أن برودة ظهري لا يسعها إلا دفء صدرك.. وأن المكان الشاغر بين أصابع يدي لن تملأه إلا أصابع يدك.

ولأول مرة يصادف اعترافها هذه الغصة في قلبه!
ليس لأنه لا يصدقها لكن لأنه يدرك ان رواسب الماضي لا تزال عالقة هناك بينهما..
ذاك الوغد فهمي لا يزال حياَ في زاوية مظلمة من روحها..
رائحته على مسام جلدها..
سيبقى حبها له هو منقوصا مادام هو لا يزال واقفاَ بينهما!

وهاهو ذا ظنه يصدق وهو يراها تبتعد فجأة.. تفرك كفيها للحظة قبل أن تعي ما تفعله فتكتمه كما تكتم أنفاسها وهي تنكس رأسها..
كان يدرك جيداَ أنها لن تتجاوزه بهذه السهولة..
لكنه لن يستسلم..
ربما الحل في المزيد من البوح..
في فتح الصندوق المحرم لعلها تطرد أرواحه الشريرة!

يصلان للنقطة المنشودة فيترجل من على الفرس ليساعدها في النزول..
لكنها لا تتعجل الابتعاد عنه..
تبدو له وكأنها تتشبث به كي تقاوم بقايا الماضي داخلها..
تشعر بكفيه على خصرها من الخلف وهو يتوغل بها داخل الماء فتمسكهما بكفيها..
تشعر بذبذبات الماء الناعمة تداعب قدميها الحافيتين..
وبأنفاسه الحارة تدغدغ عنقها فترفع إليه عينين باسمتين :




_ما لون البحيرة الآن؟!..
_قرمزي.
_مممم.. لون خدي عندما أخجل؟!!


تقولها وهي ترد له بضاعته تتذكر يوم قالها لها..
ثم ترفع أناملها تتحسس شفتيه لترى ابتسامته بقلبها..
قبل أن تتحرك أناملها نحو أذنيه مردفة :



_انت أيضاَ.. تحمر أذناك عندما تخجل أو تغضب.
_كيف عرفتِ؟!
يسألها ضاحكاَ.. فتتنهد وهي تهز كتفيها :
_شعرت بهذا.. سخونتهما تفضح شيئاَ كهذا.. هكذا رأيتهما بقلبي..
_سلِم قلبك وكل ما يراه!


يهمس بها بحرارة صادقة.. فيتعالى صوتها وهي تفرد ذراعيها حولها :
_لازلت أذكر كلامك لي هنا.. يوم قلت لي أنني أشبه تلك البحيرة.. أن لون قوتي هو أكثر لون أحببته أنت فيّ.. كم أثرت فيّ كلماتك حينها.. شخص واحد مؤمن بك يجعلك قادراَ على فعل المستحيل.. وأنت كنت قبيلة بأكملها!.. تعرف؟!.. موقفا كهذا الذي عشناه منذ ساعات مع سيد كان يكفي في الماضي ليزيد انهياري.. لدفني في قوقعة مظلمة يلتهمني صمتها.. لكنني لم أستسلم.. هأنذا معك.. أعود لحياتي.. لبيتي.. لعائلتك التي صارت عائلتي.. للجنة التي بنيناها معاَ فلن نلتفت لما خارجها من نيران.

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


يبتسم بفخر ملأ نفسه وزايل بعض مخاوفه وهو يضمها إليه أكثر..
ربما لم تعترف أنها لا تزال تقاوم مشاعر ماضيها نحو فهمي..
لكنه صار يفهم..
هي تريد أن تمشي طريقها الجديد في حبه هو..
ويوماَ ما سينغلق طريق الماضي للأبد..
لن تبقى منه حتى مجرد ذكرى تنغص عليهما فرحتهما.

يملأه الخاطر بشراَ فينقلب غمه أملاً وهو يسمعها تدندن بأغنية قديمة..
فيبتسم وهو يشاركها الدندنة قبل أن يهمس في أذنها :
_يوماَ ما ستعزفينها على العود.

تشحب ملامحها مع رجفة شفتيها..
فيشعر ببعض الندم على ما ذكرها به..
لكنها ترفع إليه وجها مشرقاَ بابتسامة واهنة :
_سأفعل.. يوماَ ما سأفعل.. وهل كنت أصدق يوماَ أن أصل لما أنا فيه الآن معك؟!

ضحكته المتفائلة تمنحها أعظم جوائزها وهو يعاود تدليل غمازتها الأثيرة بفيض قبلاته..
فتتنهد وهي تعانق ذراعيه المتشابكين على صدرها كأنه يحمي قلبها..

يمر الوقت سريعاَ وقد تزودا من طاقة الحب بالمكان الخلاب ما يمكنهما من مجابهة مخاوفهما..
فيعودان للبيت الذي خلا من معالي وقد علما من أساور أنها ذهبت للتكلم مع أعمام ملاذ واستكشاف نياتهم بشأنها لو تم طلاقها..

_لماذا لم تخبرني قبلها كي أذهب معها؟!
يسأل فيصل أساور بضيق فترد بابتسامة ودود :
_كلام في سرك.. أمك تغيرت بعض الشيء.. لعلها أرادت أن تخفف عنك قليلاً الحمل الذي وضعته هي نفسها على ظهرك من البداية.





يتأفف فيصل بضجر قائلاً :
_اعرف.. لكنني أخشى أن يسيئوا فهم زيارتها ويضروا البنت.. أنا كنت سأشرح الأمر بطريقة أفضل.. قولي لي.. هل تعرف ملاذ بالأمر؟!

تومئ المرأة برأسها إيجابا.. فيهتف فيصل بجزع :
_ليتك أخبرتني قبل ان تدخل إليها فجر.. ستجلدها بلسانها وتتهمها من جديد.. ليتني ما أطعتها.. ليتني ما تركتها تدخل لها وحدها..

يقولها وهو يندفع نحو غرفة ملاذ يهم بطرقها..
لكن الباب يفتح لتطل خلفه فجر..
تغلقه خلفها بضيق بدا واضحاَ في ملامحها.. فيسألها بتحفز :
_هل ضايقتك ؟!.. أخبرتك ألا..
لكنها تقاطعه بقولها :
_لم تضايقني.. لم تتكلم معي.. رفضت أي تواصل بيننا.. حتى مصافحة.

يطلق زفرة قصيرة وهو يسأل أساور :
_كيف حالها؟! هل تتناول أدويتها بانتظام؟! لا تزال ساقها تؤلمها؟!

تبتسم المرأة تطمئنه وهي تدرك أن حنانه كعهده يسبق غضبه..
مهما كان حانقا على الفتاة بل إنه حتى لم يكلمها منذ يوم الحادث لكنه لا ينسى أنها في مقام أخته!

أخته!!
هذه مصيبة أخرى!!
هذه الأخرى رفضت الكلام معهما!
ولا تزال تتخذ من صمتها سلاحها الوحيد!!
=======









مصر.. الفيوم

_هل ستسافر الآن ؟!

تسأله فجر بحزن عجزت عن إخفائه وهي تودعه في غرفتهما ..
فيرد فيصل بأسف وهو يقبل جبينها :
_رغماَ عني حبيبتي.. تعرفين أن الاستدعاء للعمل جاءني عاجلاً.. انا معتاد على هذه الأمور.. ويجب أن تعتادي أنت الأخرى.

_لا بأس.. لكنني كنت اريدك ان تكلم حنان على الأقل قبل سفرك.. فرصة سفر أمك جيدة كي تكونا على راحتكما.

_رفضت كل محاولاتي للكلام معها.. بل لا تزال ترفض الحديث مع الجميع.. هكذا هي دوماَ.. طيبة القلب لكن غضبها دوماَ يدفعها لانتقام طفولي كهذا!



يقولها ضائقاَ وهو يتمم على محتويات حقيبته.. قبل ان تغلبه ابتسامة :
_في طفولتنا.. عندما كانت تغضب مني.. كانت تخاصمني هكذا وتخفي كل دفاتر المدرسة مني كي لا أحل الواجب.. وعندما كان يعاقبني المعلم كانت تأتي وتبكي معي.. أو تثقب لي كرتي ثم تحزن لحزني فتعطيني مصروفها المدخر كله كي أشتري غيرها.. هكذا هي.. غضبها يشوش عقلها لكن قلبها الطيب سيراجعها عندما تدرك أننا جميعاَ نسعى لصالحها..

ثم يزفر قائلاً :
_غافلتها ورأيت هاتفها.. فهمت سبب غضبها.. سراج أرسل إليها رسالة.. قرأتها.. بصراحة الرجل كبر في نظري.. لم يكن راضياَ عن فكرة هروبها.. وقطع علاقته بها.. للأسف أمي جرحته بكلامها.. وأنا كذلك دون قصد كنت سبباَ في تركه لعمله.. لكن..

يسكت قليلاً بعدها.. فتدرك أنه يخطط لشيء ما بخصوص سراج..
لكنها لا تتعجله البوح بما يريد كتمانه.. الآن على الأقل!

تسمعه يغلق سحاب حقيبته ليقترب منها أكثر..

_أتعشم ألا أغيب طويلاً.. بالله لا تثقلي على نفسك.. دعي كل الأمور معلقة حتى أعود ونحل أمر ملاذ وحنان معاَ.

تهز رأسها بما يشبه الوعد.. فيقبل وجنتيها مردفاَ :
_وأبلغي أمي السلام.. أخبريها أن الاستدعاء جاء مفاجئاَ فلم أستطع إخبارها.. هي الأخرى معتادة على هذه الأمور.

تودعه بقلق حاولت إخفاءه وهي تشعر بانقباضة قلبها تخزها..
بينما ينهي حديثه بقوله :
_لن أتأخر.. ثلاثة أيام على الأكثر بإذن الله.

تعانقه بكل قوتها كما لم تفعل يوماَ.. فيسألها بقلق :
_تخافين البقاء هنا وحدك؟!.. تفضلين البقاء مع حسام؟! .. أرسل معك ميسرة او أساور بالغد هناك؟!

لكنها تهز رأسها نفياَ قائلة :
_سأنتظرك هنا في بيتنا.

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


الشعاع الخامس والثلاثون
=======
مصر.. الفيوم


في غرفتها تقف حنان وقد فتحت نافذتها على مصراعيها!
تصرف عنيد غريب على طبيعتها التي بقيت خانعة طوال تلك السنوات..


تعرف أن معالي ستغضب لو رأتها مفتوحة هكذا فطالما كانت تأمرها أن تغلقها أو تبقيها نصف مفتوحة على الأقل!
لكنها تريدها أن تغضب!
لماذا تبقى هي وحدها الغاضبة؟!!

منذ تلك الليلة التي فشل فيها هروبها وبعدما صفعتها معالي تشعر بهذا الغضب الفظيع يكتسحها..
غضب لم يخففه عناقها لها بعدها!!

غضب جعلها تتحاشى الحديث مع الجميع..
كلهم..كلهم دفعوها لما كادت تفعله.. وما فشلت فيه!

غضب.. من الكل.. ومن نفسها قبلهم!
غضب يجعلها تتمنى لو تبتلع كلماتها للأبد.. لو تسكت فلا تتكلم بعد اليوم أبداَ..
مادامت لن تستطيع الصراخ فلتصمت إذن.. فلتصمت للنهاية!!

لم تشعر من قبل بالقنوط كما هي الآن!

طالما شعرت أنها في هذا البيت أشبه بمزهرية موضوعة في الزاوية للزينة..

معالي كانت تعاملها دوماَ وكأنها تحفتها التي تنتظر فيها أغلى ثمن!

لا.. ليس المال فقط ما كانت تقصده.. بل كل شيء!


ربما كان هذا واحداَ من أسباب تأخر زواجها حتى الآن..
وإن كانت هي تعرف أن بقية الأسباب تخص سراج..
هو وحده من أغلق عليه قلبها باب الرحلة التي يريد أن يخوضها في هذه الحياة.. وإلا فليخضها وحيداَ!

فيصل؟!
لماذا تشعر بكل هذا السخط نحوه؟!


ربما لأنه منحها - ولو دون أن يشعر - الأمل الذي رفعها لسابع سماء ثم خسف بها سابع أرض!
عندما تزوج فجر بكل ظروف ماضيها شعرت أنه منحها هي صك غفران لسراج كذلك!
لكنه لم يختلف عن الجميع في شيء..
كلهم تركوها وحدوها في صحراء واسعة لا تختلف كثيراَ عن قبر ضيق!


_ائذني لي ان أحتفظ به.. ليست المرة الأولى التي أحتفظ بها بذكرى منكِ لو تعلمين.. لو شُقّ صدري لوجدتِ داخله الكثير من بقايا تركتِها خلفك .. لكنها ستكون أول شيء يمكنني لمسه.. ربما ستكون آخر مرة يمكنني فيها الاقتراب منكِ هكذا.. دعيه لي فقط كي يذكرني أنكِ يوماَ ما كنت بهذا القرب.

تتذكرها بصوت سراج كما سمعتها تلك الليلة وهو يطلب منها الاحتفاظ بوشاحها فتستحيل دموعها لنيران تحرق عينيها وروحها..

طرقات على الباب تنتزعها من شرودها الغاضب لكنها لا تهتم..

تسمع أساور تكلمها عن الصبر فلا تريد أن تسمع!
تحتفظ بصمتها حتى تخرج المرأة فتنفس عن غضبها في زفرة مشتعلة وهي تخدش طلاء الحائط بإظفرها..

تسمع الباب يفتح من جديد لتدخل معالي..
فتغمض عينيها بقوة وهي تتشبث بمكانها أمام النافذة المفتوحة في عناد صامت..
ترى معالي تتحرك لتغلقها لكنها تقبض بكفها بقوة على ذراعها تمنعها بصمت فتلتقي عيناهما في تحدّ صامت..!


طيف من حنان قلق يلوح في عيني أمها لم تعرفه منذ زمن بعيد..
لكن غضبها الدفين يمنعها من الاستجابة له..

_هل ستبقين هكذا طويلاً ؟!

تسألها معالي.. صوتها الصلب لم تفارقه صرامته رغم القلق الذي فضحته نظرتها..


لكن حنان تزم شفتيها بقوة في أقصى رد فعل استطاعت منحه..

_ردي عليّ!
تهتف بها معالي بالمزيد من الغضب وهي تهز كتفي ابنتها التي لمعت عيناها بالمزيد من العناد المقهور..
صمتها يبدو وكأنه أعلى صرخة تطلقها في وجوههم!

فتهتف معالي بحدة وهي تهز رأسها :
_اصمتي كما تشائين.. لن يغير هذا من الوضع شيئاَ.. أنا كلمت ذاك الفتى وهددته.. لن يستطيع أن يقترب منك خطوة واحدة!

تتسع عينا حنان باستنكار قبل أن تملأهما الدموع فتغمضهما لتتحرر عبراتها على وجنتيها مع استطراد أمها المنفعل :
_زعم أنه لا يعرف شيئاَ عن قصة هروبك هذا!.. هل هذا صحيح؟!



تنكس رأسها المهزوم والصمت يبتلعها أكثر فتردف معالي وهي تتفحص ملامحها :
_أظنه صادقاَ!.. ياللعار!!.. ألا يكفي أنك كنت ستهربين معه؟! كنت ستفعلينها أيضاَ دون تحريض منه كأي وضيعة ترمي نفسها على رجل لا يرغب بها بما يكفي!

تغمض حنان عينيها بألم ذبح ملامحها كلها..


تنفرج شفتاها كأنها على وشك الصراخ..
لكنها تعود لتغلقهما بقوة وهي تجد نفسها دون وعي تدفع معالي بعيداَ..!

حركتها لم تكن بهذا العنف لكن معالي شعرت وكأنما سقط جبل هائل على صدرها!
تعرف أنها أمعنت في استفزازها القاسي لها لكنها أرادت أن تغلق هذا الباب دون رجعة!
حتى لو كان سراج هذا بريئا من تهمة تحريض ابنتها على الهرب لكن كيف ترتضي مثله زوجاَ لها؟!

قلبها يخزها بشعور فطري بالقلق نحو ابنتها..
تقبض كفيها بقوة تقاوم رغبتها العارمة بضمها لصدرها!
تخاف لو فعلتها أن تسيء ابنتها فهم حنانها فتظنه ضعفاَ!
لا.. إلا هذا!
لن تسمح أن يرى أحدهم ضعفها أبداَ!

لهذا تلملم وهن مشاعرها الخفي وهي ترفع سبابة مرتعشة نحو ابنتها هاتفة بخشونة :
_أحسن لك أن ترجعي لعقلك.. احمدي ربك أن أنقذك من الفضيحة.. وانزعي من دماغك ضلالاته تلك.. أفيقي.. أفيقي!

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


_حمقاء انتِ! دخلتِ الفخ بقدميكِ! رفضتِ حتى مساعدة إلياس مقابل الحقيقة! ماذا فعلتِ بنفسك؟!

لكن صورة شقيقتها (أحلام) تعاود اجتياح خاطرها..

_اقفزي.. اقفزي.. لعل في الغرق النجاة!

_أين داوود ؟!

تهتف بها بأقصى نبراتها تماسكاَ وهي تحدق في عيني براد الذي يتقدم منها ليعانقها ناثرا قبلاته على وجهها لكنها تدفعه بقوة صارخة :
_أين ابني ؟!

فلا يجزيها إلا بضحكة ساخرة مكتومة تزيد جنونها فتصرخ بهلع وهي تتلفت حولها :
_ماذا فعلت به؟!

_هو فقط نائم.. كان هذا معروفي لك.. لم أشأ أن يشهد مواجهتنا.. لا تخافي..

حنانه ينقلب لشراسة وهو يشد شعرها فجأة فتصرخ بينما يردف بنبرة جمدت الدماء في عروقها :
_مؤقتاَ!

تزداد صرخاتها دوياَ وهي تحاول التفلت من بين ذراعيه المعتصرتين لها بينما يردف :


_أعدكِ ان تخافي طويلاً لكن ليس هنا.. سيكون لدينا متسع من الوقت لأنتقم منك على كل ما فعلتِه بعدما نغادر هذا البلد.

_براد.. سأفعل كل ما تريد.. لكن لا تقترب من ابني.. دعه خارج حساباتنا.

تهتف بها بقوة لم تخذلها حتى في موقفها هذا.. وعيناها تدوران في المكان تبحثان عن الولد..
ليصلها صوت براد متجبراَ ساخرا:
_ستفعلين كل ما أريد حقاَ.. ليس بمزاجك لكن رغماَ عنكِ!

تلمح الصبي أخيراَ هناك وقد أرقدوه على فراش صغير..
نومته تبدو لها غير طبيعية كأنما حقنوه بمخدر ما فتركض نحوه هاتفة باسمه..

لكنها تصرخ وهي تسمع صوت الطلق الناري قبل أن تشعر بألم اختراقه لساقها مع هتاف براد المتشفي :
_نكسر عنادك قليلاً ربما تتعلمين طاعة الأوامر أكثر.

دموع عجزها تغرق وجهها وهي تسمع ضحكات الرجال خلفها..
بعضهم يساوم في ثمن إعادتها مع ابنها لعصابة مقداد..
والآخر يلوم براد على تورطه في بلد آخر لأجلها!
ووسط كل هذا لا يلتفت أحدهم للدماء التي تنزف من جرحها ولا للألم الرهيب الذي عجزت عن كتمانه صرخاتها..

تمد ذراعها قدر ما استطاعت نحو ابنها وهي تحاول الزحف نحوه بكل طاقتها..
لكن براد يضغط بقدمه على كفها فتصرخ بألم وهي ترفع عينيها نحوه شاعرة بالذل..

_اطمئني.. لن تقتلك رصاصة لكنها فقط ستؤدبك قليلاً.. تؤدبك وتذكرك بما نسيته.

يقولها بقسوة متوعدة فتغمض عينيها بقهر وهي لا تعرف سبيلاً.. أي سبيل للنجاة!

وحدها.. وحدها تماما!

ووسط الظلمة التي تغشاها تطفو صورة أحلام لذهنها فيما لم تدرك هل كان حلماَ أم خيالاً..

تمشي على قدميها وقد تخلت عن كرسيها كما لم ترها في حياتها أبداَ.
تمسك بيدها مصحفها وتقرأ فيه..
(أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)

من أين ظهرت هذه؟!
لا تذكر أنها حفظت يوماَ هذه الآية!

ودون صوت تجد نفسها تحدث أحلام كانها تسمعها :
_ليست لي إجابة.. ليس لي دعاء.. أنا ضللت الطريق.

لكن أحلام تقترب أكثر تربت على رأسها قائلة بابتسامتها الحنون :
_اسمعي ما قال ربكِ يا غافلة.. لم يقل (يجيب المؤمن أو المحسن.. بل قال يجيب (المضطر).. لو كانت رحمته فقط للمحسنين.. فمن للمسيئين ؟!

الألم في ساقها يزداد حد السكرة فلا تعرف حقاَ ماذا يحدث لها!
هل تهذي؟!



تختفي أحلام مع مصحفها فتعود الظلمة لتحول بين حدقتيها وجفنيها لكنها تجد نفسها تصرخ دون صوت :
_يارب.. يارب..

الظلمة في عينيها تشتد ومشاهد سابقة من حياتها فقط هي ما تتوهج بظلال حمراء مخيفة كأنها تعرض فيلما متتابع اللقطات لكل ذنوبها..
تزيد قنوطها من عفو الله لكنها تبقى ترددها..
تحارب به ظلمتها..
(يارب.. يارب)

تشعر برأسها يسقط ليصطدم بالأرض..
هل فقدت وعيها؟!
لا..
هي تسمع صوت الباب الخارجي يفتح..
أصوات اقتحام.. صدام..
طلقات نارية..

_داوود.. حواء..

هل هو صوت إلياس؟!
هل هي نجدة السماء حقاَ أم أنها لا تزال تهذي؟!

تجاهد كي تفتح عينيها لتراه وسط ضباباتها ينحني فوقها هاتفاَ بقلق :
_أنتِ بخير ؟!.. أين الولد؟!



بالكاد ترفع سبابتها تشير نحو ابنها وابتسامة مرتعشة تطوف على شفتيها قبل ان تنغلق عيناها رغماَ عنها من جديد..
لم تعد الظلمة تحول بين الحدقة والجفن..
بل نور خافت يدعوها..
لن تكف عن قولها بعد الآن أبدا..
(يارب)
=======




مصر.. القاهرة

_صف لي الحديقة.

تقولها فجر بنبرة حيوية وهي تتأبط ذراعه سائريْن في حديقة بيت حسام فيضغط فيصل كفها برقة حانية وهو يميل عليها بقوله :


_نسيتِ شكلها؟!

تبتسم وهي ترفع وجهها إليه بهذه الطريقة التي تشعره أنها حقاَ تراه.. صوتها يفضح عاطفة لا تدعيها :
_لا.. لكنني صرت أريد ان ارى كل شيء بعينيك أنت.

تشعر به يتوقف فجأة ليسحب ذراعه منها فيرتجف جسدها بشعوره ببرد مؤقت لكن الدفء كله يعود إليها في ضمته الحانية لها..
ذراعاه يضيقان حولها فتتسع الدنيا كلها..!


تحس به وهو يأخذ نفساَ عميقاَ فتشعر بالأنس فقط لأنها تشاركه أنفاسه..
تخبئ رأسها في صدره فيستقبلها قلبه مرحباَ..
دقاته تحت أذنيها تبدو لها وكأنها تفتح لها أبواب مدينة عشق تنتظرها منذ سنوات..

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


_لماذا توقفت ؟!.. سرْ بي.. ليس أحب عليّ من ان أشعر أنك تسير بي.. يوماَ ما ظننت أن الدنيا كلها قد توقفت بي..لا.. لا.. بل سارت بأكملها ونسيتني أنا واقفة مكاني.. حتى أتيتَ أنت.. وعاد كل شيء للدوران.. لا تتوقف.. لا تتوقف أبداَ..

تهمس بها بصوت شديد الخفوت كأنما أرادت أن يسمعها من قلبها لقلبه.. لا من لسانه لأذنيه..
وكان لها ما ارادت!


وها هو ذا يعاود السير بها بعدما دلل غمازة خدها الأثيرة بما يليق..
يهمس لها براحة كأنما كل حرف عصفور يحط مستكيناَ على غصن شجرة كبيرة جذرها ثابت لا تعصف به ريح أبداَ :




_لو تعرفين ما الذي تفعله بي كلماتك هذه!.. لا.. ليست كلماتك فقط بل هذا الإحساس الذي يصلني منك.. مشاعرك نحوي كطير ولد بين ذراعي وراقبته وهو ينمو يوماَ بعد يوم.. وأنتظر بفارغ الصبر ساعة يكبر فيحلق ويحملني على جناحه.

لا تزال تسند رأسها على كتفه بابتسامة كبيرة تتسع وهي تسمعه يصف لها حديقة حسام..
فتشعر أنها حقاَ تراها بعين أخرى!
بالوان أخرى!
قدماها لا تتعثران بالعشب الأخضر الذي طالما شعرت به في السابق كأنه أشواك تذكرها بخطايا الماضي..
بل ثابتتان واثقتان يدغدغهما العشب بنعومة واعداَ إياها بفرحة الغد..

ورغماَ عنها تجتاحها ذكرى من الماضي..


فهمي يسير معها في موقف مشابه في إحدى الحدائق بعد زواجهما..

تكتم تنفسها وهي تجد نفسها تتوقف فجأة..
كأنما تتمنى أن تكتم مع أنفاسها طوفان الذكرى!

_ما لك؟!

يسألها بقلق وهو يشعر بتبدل حالها فتنفرج شفتاها وكأنها على وشك البوح لكنها تعود لتطبقهما بقوة..
قطرات من عرق تترنح فوق جبينها الوضاء فلا يحتاج كثيراَ من الذكاء ليسأل بأسف :
_تذكرتِ شيئاَ أوجعك ؟!
_كل الذكريات صارت توجعني.

صوتها المتهدج يفضح بعض عذاباتها..
رغم مقاومتها التي تليق بشخصية محاربة مثلها..
لكنه لا يلوم هذا الوهن الأسود الذي يلطخ ألوان لوحتها!

_ربما لو تبوحين بها تتخلصين منها..

يهمس بها برجاء عز على قلبها أن ترفضه هذه المرة..
فتتنهد وهي تعاود المسير معه يقتربان من الأرجوحة العريضة التي وضعت في طرف الحديقة..
يجلسها فوقها برفق ليجلس جوارها ضاماَ لها بأحد ذراعيه..
فتغالب خوفها المعهود لتهمس بصوت مرتعش:


_معك حق.. لم أستطع أن أحكي يوماَ.. ربما اليوم أفعل.. معك أفعل.. لأجلك أفعل..


لا يرد وكأنه خاف لو فعلها أن تتراجع فيكتفي بأن يضمها أكثر، يجذب رأسها لصدره فيأسره بين ضلوعه وراحته المفرودة على وجنتها..
كيف يمكن أن تشعر بالأمان أكثر؟!

رائحة عطره القديم تهدي المزيد من الونس لقلب وحشان كقلبها..
فتطلق العنان لشفتيها دون قيود :


_ لم أكن فاسقة متبجحة عندما هربت معه لأتزوجه.. كانت فقط طريقتي في الصراخ في وجه أبي وسيد.. أبي كان يشعرني دوماَ انني خيبته الوحيدة في الحياة لأنه لم يتمكن من إنجاب الابن الذكر.. كل نجاح كنت أصنعه كان لا يساوي شيئاَ في عينيه بل يزيد من عمق شعوره بالخيبة وهو يتحسر على المطر الوافر في الأرض البور.. وسيد كان يرى زواجنا مجرد تحصيل حاصل.. كان يقنع أبي أنني فرس متمرد لن يزيده الدلال إلا عصياناَ.. وأنت تعرف كم كان أبي شخصية صعبة لا تتفاهم.. كنت أشعر أنهم يعدونني للدفن حية بزيجة كهذه.. ووسط كل هذا ظهر هو.. فهمي..

يالله!
كيف نطقت الاسم الأخير؟!
بل كيف سمعه هو؟!!

همست به وهي تخفي رأسها أكثر في صدره كأنما تلوذ به..
وربما..تستجدي منه المزيد من القوة للبوح بالمزيد..

تشعر بخفقات قلبه تتعالى تحت أذنيها..
كفه يزداد ضغطاَ خفيفاَ على وجنتها..
تسكت قليلاً فيظنها لن تكمل ما بدأته..

لكنها تعاود البوح :

_كان متمرداَ مثلي.. ولعل هذا أول ما أصاب قلبي منه.. كان ذكيا بل عبقرياَ.. وكان يقول إن حبي يزيد من قوته.. كنت أقول لنفسي هذا هو الحب الذي أريده بالضبط.. ستكون صرختي في وجه الجميع أن من حقي أن أختار من أحب.. سأقف جواره وأدعمه حتى يحقق نفسه.. سأنقذ نفسي وأنقذه من عالم يريد قص أجنحتنا.. كانت أحلامي تصور لي الأكثر والأكثر.. فأراه بعين خيالي وقد وصل لأعظم المراكز ويده في يدي.. قصة حب تحدت الجميع حتى استقرت بصاحبيها على شاطئ الفوز.. وكنت أمعن في الخيال فأرى أبي في نهاية المطاف يبتسم بفخر لي يقول (كنت مخطئاَ.. أنتِ اخترتِ الطريق الأصعب لكنه اتضح أنه الأروع..لم أنجب ذكراَ لكنك جئتني بالزوج الذي أفتخر أن يكون ابني)..

تنقطع كلماتها ببكاء حارق يدمي قلبه فلا يلومها..
كانت أشد مرة يراها تبكي فيها بهذا الانهيار حتى شعر أنها ستتفتت على صدره!
كل ذرة فيه كانت تستصرخها أن تتوقف عن البكاء لكنه لم يجسر على قولها بشفتيه..
ربما لأنه كان يدرك أنه لعل في هذا تمام شفائها..
دكتور كنان أخبره أنها يجب أن تنفث كل ما بداخلها من سموم أولاً كي يمكنها تطهير روحها كلها..

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


تعطيها حنان ظهرها دون رد فتتشقق ملامحها عن وجع حقيقي لكنها تداريه وهي تغادر الغرفة صافقة الباب خلفها دون أن تنتبه أنها لم تغلق النافذة كما كان يفترض أن تفعل في موقف كهذا!

ولم تكد حنان تتأكد من انصرافها حتى تلاحقت انفاسها أكثر حد انها شعرت أنها ستزهق عن آخرها..

أمها كلمت سراج! أخبرته بما كادت تفعله!! هددته!!
وكأن القدر يعاقبها بالمزيد!



هاهو ذا هاتفها يعلن عن وصول رسالة فتتحرك لتفتحها قبل أن تتسع عيناها وهي تميز أنها منه هو.. سراج..

الدموع تحول بينها وبين الكلمات..
وقد صارت توقن أنه هو الآخر ليس أفضل حالاً منها..

(ترددت قبل أن أكتب الرسالة كي لا أسبب لك المزيد من الحرج لكنني قلت لنفسي أنه حقك وحقي أن تكون لنا رسالة وداع.. والدتك أخبرتني بما كدتِ تفعلينه.. صدمتني حقاَ! هل ظننتِ أنني كنت قد أقبل لكِ نقيصة كهذه ؟!.. والله لو كنتِ فعلتها وجئتني بقدميك كنت سأرجعك بنفسي لبيت أهلك.. ليس زهدا فيكِ فالله وحده يعلم أنكِ أغلى ما اتمناه في هذه الدنيا.. لكن لأن حبي لكِ يجعلني أرغب أن أضعك تاجا على كل الرؤوس لا على رأسي وحدي.. أنا.. أنا الذي جربت كيف تنقلب النظرة في العيون من منتهى الفخر لمنتهى الازدراء كيف ظننتني سأرضى لكِ مصيراَ يشبه مصيري ؟!! غالية أنتِ.. غالية جداَ جداَ حتى أن السؤال الذي صرت أنام وأصحو عليه هو (ماذا أفعل كي أستحقك؟!).. لكن الجواب دوماَ يباعد بيننا أكثر!.. هل تعرفين أن أخاكِ اتصل بصاحب العمل الذي أعمل لديه وسأل عني؟!.. أخبرني الرجل وهو ضائق مرتعب.. كان يعرف عن سابقتي ورضي أن أعمل لديه لكن أن يتصل به ضابط شرطة ليسأل عني كان أكبر من قدرته على التقبل.. أجل.. كما ظننتِ تماما.. تركت العمل.. وتركت البيت الذي كنت أقيم فيه.. لا ألوم أخاك ولا ألوم أحداَ.. ربما لو كنت مكانهم لفعلت المثل.. لكنني فقط أردت أن أخبرك كي توقني أن كل الطرق بيننا مغلقة.. ستكون هذه آخر رسائلي إليكِ..هذا الرقم أيضاَ سيكون مغلقاَ مع كل ما أغلق بيننا.. فأغلقي انتِ الأخرى بابك.. في العادة كنت سأقول لك (اذكريني بخير) لكنني على العكس أرجوكِ أن تنسيني.. انسيني.)

تكتم شهقات بكائها وهي تضغط زر الاتصال به رغم يقينها أنه نفذ ما اراد..

(الهاتف الذي طلبته مغلقا)

مغلقا!!
مغلقاَ!!
كم مرة تكررت الكلمة البغيضة أمام عينيها في الدقائق الأخيرة القليلة كسد منيع يقف بينهما؟!!
هي آذته؟!!
جعلته يخسر عمله وبيته والحياة الجديدة التي كان يسعى إليها؟!!
هي دمرت أمله؟!
لا.. ليست هي.. بل هم!!

وبين رياح غضب ويأس تجد نفسها تضع حجابها على رأسها لتغادر البيت دون أن تخبر أحداَ..

إلى أين؟!
لا تعرف.. كل ما تعرفه أنها تريد الهروب من كل شيء حتى نفسها!

خطواتها المهرولة تحملها بين طرقات البلدة وعيناها تدوران حولها..
ربما لم تكن تعرف أنها تبحث عنه هو بالذات حتى لمحته يسلي الصبية بصوته المميز كالعادة..

_زكي!

تناديه بلهفة لكنه ما كاد يلمحها حتى اتسعت عيناه بود للحظة قبل أن ينقلب الرد لذعر طغا على ملامحه وهو يتذكر تهديد معالي له آخر مرة رأته فيها عند البيت أن تحبسه!

ذعر جعله يترك الجميع ويركض مبتعداَ كأنما يطارده شيطان فلم تجد بداَ من اللحاق به حتى وجدته يستقر في فناء بيته المهجور يجلس أمام جذع النخلة المكسور ويخفي وجهه بين كفيه..

_لا تهرب مني أنت الآخر.. لا تفعل..

تهتف بها بين دموعها وهي تراه من بعيد يرمقها بنظراته الخائفة..

_أنتِ طيبة.. لكنهم ليسوا كذلك.. سيؤذونني.. سيجعلوني أختفي كصاحبي.. هو اختفى.. وهم سيخفونني مثله.. ابتعدي.. ابتعدي.. لا تجعليهم يؤذونني.

يهتف بها بنبرته الخائفة وهو يندفع نحوها..
تحاول تهدئته لكنه يتجاوزها ليغادر البيت هارباَ بخطوات راكضة من جديد..
وهذه المرة تفشل في اللحاق به وطمأنته!
تلتفت حولها شاعرة بوحدة رهيبة..
ليس فقط المكان القفر الذي بدا لها شبيهاَ بأطلال روحها..
لكن هذا الفراغ الذي صار يتوحش أكثر داخلها..
حتى زكي صار يخافها ويهرب منها!

تلملم بقاياها المبعثرة وهي تعود للبيت بخطوات متهالكة..
تغلق باب غرفتها خلفها لترفع هاتفها من جديد أمام عينيها..
فيصل يتصل بها لكنها تضغط زر إلغاء المكالمة..
ماذا سيقول الآن؟! بماذا ستجدي كلماته ؟!
هو تخلى عنها كالجميع..
كلهم تركوها وحدها.. كلهم!
لم تعد لها سوى بقايا من ذكريات حب لم يعطوها حتى الفرصة كي تحارب لأجله!
========




العراق.. بغداد

_ها قد أتت الهاربة التي ظنت نفسها أذكى من الجميع.

يهتف بها (براد) بالانجليزية بنبرة ساخرة وعيناه تتقدان بشراسة متوعدة تزيد انقباض قلب حواء، خاصة بعد سماعها صوت إغلاق الباب المعدني لما بدا أشبه بمخزن قديم مهجور.. هذا الذي يقفون فيه الآن..

تدور عيناها بحذر بين الوجوه التي بدت متربصة بها والأيادي التي تحمل أسلحتها..
ولوهلة تشعر بالرعب الشديد يدفعها لأن تلعن نفسها!

رواية على خد الفجر

18 Jan, 21:45


لهذا يحافظ على ثباته بشق الأنفس..
فقط يزيد ضمته الحنون لها فتردف وكأنها لم تعد تراه..
اجتذبتها دوامة الماضي كاملة فصارت تبوح بما لم تجسر يوماَ على قوله لأحد..

_عشت معه أسعد أيام حياتي.. فرحة لم يلطخها إلا شعوري بالذنب نحو أهلي بعدما هربنا لنتزوج.. وحتى هذه كنت أمحوها بالأمل في الغد.. في أن أثبت للجميع أنني اخترت الأفضل.. حتى جاء يوم الحادث.. ذاك اليوم.. ذاك اليوم..

تنقطع كلماتها بأنين خافت متقطع دفنته في صدره وهي تحاول تمالك أنفاسها اللاهثة..
قبضتها تتشبث بصدر قميصه وجسدها كله يتكور ليلتصق به كأنما تحتمي به..
تسكت طويلاً.. طويلاً.. حتى يظن أنها لن تحكي أبداَ..
لكن صوتها يغادر فمها أخيراَ كبركان فاضت حممه :

_لا أذكر عددهم.. ولا أشكالهم.. لعلها رحمة الله بي ألا أفعل.. لكنني أذكر مشهده وهو يفتح لهم الباب بحسن نية قبل أن يقتحموه هم.. بقيت هذه الصورة ملتصقة بذهني لعهد طويل.. لا أحمله وحده ذنب ما حدث..جنون تمردي كان شريكه.. أعرف أنه كان مستعداَ لبذل روحه نفسها لأجلي.. أعرف أن الحادث كان سبباَ في تحوله للمصير الذي آل إليه.. لكن.. رغماَ عني.. لا أستطيع نسيان المشهد من تلك الزاوية.. تماما كما لا أستطيع نسيان مشهده وهم يجبرونه على مشاهدة ما كانوا يفعلونه بي.. لا.. لا أستطيع.. لا أستطيع..



يرتجف جسدها حد الارتعاد في عبارتها الأخيرة فيشعر بخوف حقيقي عليها يجعله يحاول رفع وجهها نحوه لكنها لا تستجيب..
قبضتها تتشبث بصدر قميصه وهي تخفي وجهها الباكي بحرقة بين ضلوعه!


يشعر بقهر حقيقي بين غضب عاشق غيور من تفاصيل تذبح رجولته..
وبين قلق عارم على حالها وهي تنتفض بين ذراعيه كطير ذبيح..

تخبطه بقبضتيها لأول وهلة صارخة بين دموعها :
_لماذا جعلتني أبوح؟! لماذا جعلتني أشعر بالارتياح هكذا حتى أحكي عن شيء كهذا؟! لماذا..

ترق نبرتها رويداَ رويداَ وانفعالاتها تتلون بمشاعرها :
_لماذا أتيت بكل هذا النبل؟! بكل هذا الحنان؟! بكل هذا الحب الذي طمأن قلبي أخيراَ؟! لماذا لم تتركني لوحدتي ؟!! لماذا؟!! لماذا؟!!


يغمض عينيه متفهما لكل هذا الصراع الهائج داخلها

_فيصل.. فيصل..

تهمس بها أخيراَ بين دموعها كأنها تعويذتها لطرد كل هذا القهر داخلها..

فلا يفكر كثيراَ وهو ينحني برأسه ليمطر خدها بقبلاته..

_لا تضغطي على نفسك أكثر.. يكفيك ما قلته اليوم..

ترفع إليه عينين محترقتين بالألم..
ومشعتين بالأمل..

لم تفكر يوماَ أن تشكره على قبلاته لكنها الآن تود لو كان يمكنها أن تفعل!


لو كان يمكنها أن تخبره أنها الآن.. الآن بالذات.. تحتاج دفء لمساته لعله يطهر ذاكرتها من كل الدنس الذي وجدت نفسها غارقة فيه!

لكن أقصى ما استطاعت فعله هو أن تناولت كفه لتقبله بهذه الطريقة التي تسلب عقله وهي تقول بصوت أنهكه بكاءه :

_يوماَ ما ظننت أنني لن أحكي عن هذا أبداَ.. سيكون دوماَ سراَ بيني وبين نفسي.. لكنني حكيت لك.. وكأنك صرت أقرب من نفسي!

(وكأنك صرت أقرب من نفسي!)

عبارة تحيي قلباَ.. وتذبح آخر!

أجل.. فعلى باب البيت الذي فتحه سيد منذ دقائق متأهباَ للدخول كان هو يقف شاعراَ أنه يحترق بسماع كل ما سبق..!
ربما لم تصله بعض الكلمات بوضوح لكن ما وعاه كان يكفي ليحترق بلهب الغيرة والحقد..
عجباَ!


لقد أتى إلى بيت حسام دون تدبير كي يعلنها له ظافراَ متباهياَ أن حماه العزيز قد نجح في أن ينتزع حق فجر في المحل..
لكن القدر كان يدخر له هذه المفاجأة وهو يدخل البيت ليفاجأ بما رآه وسمعه..
لم تدهشه رؤية فجر القديمة له فهكذا كان دوماَ يشعر برفضها وجفائها معه..

لكن ما أثار حنقه هو أن تحكي بكل هذه الأريحية عن ماضيها لهذا (الغريب) وهي بين ذراعيه..
أجل.. غريب..!

هو غريب..!
غريب وإن منحته مجرد ورقة رسمية حقوقا لم يستطع هو نيلها!


غريب.. غريب يغتصب حقه هو في امرأة تعددت العيون حولها لكنها لن تكون إلا له!
غريب يعانقها الآن.. يقبلها.. يمسها بهذه الطريقة التي تثير جنونه وهو يدرك أنه ما استطاع فعلها أبداَ!
هي فجر.. فجره هو.. حلم عمره المراوغ الذي لم يرتح يوماَ على شاطئه وإن بقي يصارع موجه فلا هو يغرق.. ولا هو ينجو!

وبكل هذا الجنون الذي يتأجج في صدره الآن يترك البوابة التي تحجرت عليها أنامله منذ دقائق ليندفع دون محاذير نحو العاشقين اللذيْن كانا في وادٍ أخر ليهتف ببرود لم ينجح في كتمان غيظه :

_هل عدم بيت حسام القاضي غرفه حتى تلاطف أخته الرجال في الحدائق؟! أم أن الفضائح صارت معتادة لديكم؟!.. صحيح.. ماذا يكون هذا وسط بحر الماضي؟!!

ينتفض فيصل واقفاَ بغضب أحرق ملامحه دون أن يتخلى عن عناق فجر التي وقفت معه وقد أعادها صوت سيد لبؤرة مظلمة من ماضيها..

_سمع ؟!.. ماذا سمع؟!
همسها كان شديد الخفوت.. شديد الرهبة.. لكنه وصل فيصل كاملاً كأنما فر من قلبها لقلبه!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


_كيف لم أفهم طوال ذلك الوقت؟!


تهز بها رأسها بعجب فيرمقها بنظرة متسائلة.. لتميل عليه ولا تزال تنظر في عمق عينيه :
_أنت تحب أمينة؟!

يرتد للخلف وقد انعقد حاجباه واحتقنت ملامحه بصراع هائل يعيشه..
ربما.. ربما لو لم يعلن سيد افتراءه البذيء لصرح بها معانداَ أي شيء.. وكل شيء..
لكن.. الآن ؟!!

_هل صدقتِ افتراء سيد يا أمي؟!

يشيح بها بوجهه مراوغاَ متهرباَ من جواب السؤال.. لكن المرأة التي دمعت عيناها تعيد تقريب وجهها نحوه قائلة :
_حاشاك!.. والله لو يحلفون لي على الماء فيجمد ما صدقت فيك سوءاَ.. أنت ابني.. تربية يدي.. حلال فيك كل ما فعلته وما سأبقى أفعله.. ما رأيت منك إلا أخلاق كريم تقيّ يخاف الله في كل شيء..

يسبل فاروق جفنيه على لوعته.. لكن المرأة تبدو وكأنها تمنعه الهرب من سؤالها.. ترفع ذقنه نحوها مردفة :
_لم أسألك عن عيب أو نقيصة.. بل عن حال قلب لا يحكم عليه إلا من خلقه.. أنت.. أنت تحب أمينة؟!

تدمع عينا فاروق وهو يقبض كفيه جواره..
يضغط أسنانه حتى تختلج عضلة فكه..
يشق عليه أن ينكر..
ويشق عليه أكثر أن يعترف!

_هل هذا سبب عزوفك عن الزواج؟!.. لم تكن تدخل بيتنا عندما كانت هي تأتي بعد زواجها؟!.. كنت لا تكاد ترفع عينك نحوها مع أنك كنت تقضي مصالحها هي وزوجها وأولادها.. هل كتمت هذا في نفسك طوال تلك السنوات؟!
تهمس بها المرأة بذهول والحقيقة تتكشف أمام عينيها..
فيشيح بوجهه دون رد..
لكنها تحيط وجهه بكفيها تجبره على النظر إليها من جديد هامسة بانفعال رغم خفوت صوتها :
_لماذا لم تخبرني؟!
_بأي عين؟!

يهمس بها هو الآخر بانفعال وقد ضج بكتمانه لتدمع عيناها هي الأخرى وهي تراه يردف ملوحاَ بكفيه :

_بأي عين كنت أجرؤ على قول هذا؟!.. أي يد كنت أقدمها لكما انتِ وأبي؟! هل كان هذا ليكون رد معروفكما؟! من أنا كي أفعلها؟! الطفل اللقيط الذي ربيتموه إحساناَ فيكبر وبمنتهى الجحود يري نفسه جديرا بابنة ابيه؟!!

تنهمر دموع المرأة بلوعة وهي تشدد ضغط كفيها على وجهه بما بدا كعناق..
بينما ينكس هو رأسه وجسده كله يرتج بمشاعره :
_كان أهون عليّ اموت وانا اراها لغيري.. بدلاً من ان يقال :( عض اليد التي امتدت إليه وظن ان العين تعلو على الحاجب) .

_وماذا فعل لها الغني سليل العائلة والنسب؟! قهرها وظلما وآخر المتمة اتهمها في عقلها وقذفها في شرفها !

تتمتم بها بحسرة وهي تهز رأسها.. فيطلق فاروق زفرة مشتعلة وحاجباه ينعقدان بالمزيد من الغضب..
لو استجاب لجنونه الآن فسيذهب ويدفن سيد مكانه عقاباَ له على خسته!

تتأوه المرأة بالمزيد من الحسرة وهي تربت على كتفه.. تنظر لبعيد حيث اختفت أمينة تطمئن أنها لا تسمع..
لتهمس له بخفوت :


_اسمعني يا ابني.. والله.. والله لو لم يكن ذاك الخسيس أطلق لسانه في شرفكما لما ترددت وكنت كلمت الحاج خضر وطلبتها لك بنفسي.. ولو كان رفض كنت سأقول له أنا أخطب لابني وأبديك عليها هي .. لكن.. الآن.. لو فعلناها الآن فكأننا نؤكد كلام ذاك الخسيس ونقول للناس:(صدّقوا)!

_أعرف يا أمي.. أعرف..


يهمس بها بقنوط وهو يهز رأسه فتربت المرأة على رأسه وهي تمسح دموعها قائلة :
_كملك الله بعقلك ياابني.. ومن يدري؟! علام الغيوب قد يبدل الحال بحال.

يعاود هز رأسه مستسلماَ فتسأله بقلق :
_أمينة تعرف شيئاَ؟! قلت لها شيئاَ؟!

يهز رأسه نفياَ فتتنهد وهي ترفع عينيها بالدعاء :
_فرّجها من عندك يارب.. نحن ظلمناها لكنك لا تظلم احداَ.

تنقطع كلماتها وهي تسمع صوت المفتاح يدور في الباب فتقف مكانها مدركة وصول زوجها..

يقف فاروق بدوره وهو يتحرك ليستقبل الحاج خضر وكذلك أمينة التي قدمت من الداخل بسرعة هاتفة :
_جاء ابي.. ننادي ليان ومعاذ كي..

لكنها تقطع عبارتها وهي ترى هيئة أبيها المزرية..
تهدل كتفيه.. احتقان وجهه.. تلاحق أنفاسه.. وأخيراَ ترنحه!

يركض فاروق نحوه ليسنده وكذلك تفعل هي بينما تصرخ أمها بخوف :
_ما لك يا حاج؟!!

فيرد الرجل قبل أن يسقط مغشياَ عليه :
_فعلها سيد القاضي.. خرب بيتي.. ضعت.. ضعت.. عليه العوض.
========










مصر.. القاهرة


القارب يتأرجح بها ذات اليمين وذات اليسار..
شعرها الأحمر مسدل على كتفيها..
حبات النمش على وجهها تبدو كلؤلؤ وردي يزين بشرتها..
حلقة الزعفران في عينيها تزداد توهجاَ..

البحر حولها ما عاد يمتزج بلون الدم..
أحمر.. أزرق.. أرجواني..
لا.. لا..
اختفى الأحمر!
الأزرق الهادئ يتسيد اللوحة.. فلا ينازعه إلا الأبيض..
السماء تعانق البحر والسحب البيضاء شهود عيان على ضحكة صافية تطلقها..



القارب يتأرجح بها مستمراَ في رحلته..
لكنه لا يذهب.. بل يعود!

_جدي.. أبي.. أمي..

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


تهتف بها ليان من مدخل البيت وهي تركب دراجتها التي تتركها جانباَ لتركض نحوه..
تعانقه فيتأوه متحسساَ إصابة ذراعه لتهتف الصغيرة بحنان يشبه حنان امها :
_اعذرني.. أوجعتك..
لكنها تبتسم وهي تلوح بسبابتها في وجهه هاتفة بوجه عادت له تكشيرته :
_لكن انت السبب.. ابتعدت منذ أيام وجعلتني أفتقدك.. انت المخطئ!

تبتسم أمينة وهي ترى ضحكة فاروق الصافية بينما يضم الصغيرة بذراعه السليمة..


تكتم تنهيدتها وهي تتذكر كم بكى الصغيران بعد انصراف سيد تلك الليلة الأخيرة وكان قد وعدهما أن يصطحبهما معه قبل أن يغادر تاركاَ لهما فقط صوت صرخاته ووعيده..

لكن هل هذا فقط ما تركه لهما؟!
ماذا عن افترائه الحقير الذي صار يشيعه بين الجميع بل ووصل أهل الحي هنا..!
لو كانت هي لا تهتم..
لو فعلها أبواها ثقة فيها..
فماذا عن البقية؟!
هل سيجلدونها بذنب افتراء لا ذنب لها فيه؟!
هل سيعير ولداها دوماَ بأن أبوهما قذف أمهما في شرفها؟!!

تتكدس الدموع في عينيها مع فداحة الخاطر الأخير..
لكنها تمسحهما بقوة وهي تصعد الدرج نحو الأعلى..
لقد عاهدت نفسها الا تذرف دمعة واحدة بسبب ذاك الحقير..
الله يتكفل بعقابه.. وكفى به ولياَ ونصيراَ!

_فاروق!

تهتف بها الأم بلوعة وهي تستقبله عند باب البيت..
تربت على كتفه هاتفة بصوت باك :

_أين كنت يا ابني؟!.. قلقنا عليك.

تقولها متجاهلة التعليق على بذاءة افتراء سيد الأخير الذي دفع فاروق للابتعاد عنهم..

فيتجاهل فاروق بدوره وهو ينحني على كفها يرفعه لجبينه بما يشبه قبلة توقير قائلاَ :
_سلامة قلبك من القلق يا امي.. أنا هنا.


_الحاج في الطريق.. سأصنع السلطة حتى يعود ونأكل معاَ.

تقولها المرأة وهي تتوجه نحو المطبخ فتهم أمينة باللحاق بها لكنها تتوقف عندما تنتبه لابنها..

_فاروق.
يهتف بها معاذ بفرحة غامرة وهو يندفع نحوه ممسكاَ كرته فينطلق فاروق إليه ليحمله بذراعه السليمة هاتفاَ :


_أوحشتني يا بطل.. نلعب حتى يحضرون الغداء؟!!
_طبعاَ!
يهتف بها الولد وهو يسقط الكرة ليفتش في جيوب فاروق مردفاَ :
_أين الشيكولاتة؟!.. انت تحتفظ بها دوماَ في جيبك لأجلي!

تتسع ابتسامة أمينة وهي تكتف ساعديها..
تشرد عيناها بدهشة مستنكرة كمن يشاهد فيلماَ عشرات المرات لكنه يكتشف فجأة أنه يراه لأول مرة..
كل هذه التفاصيل..
كيف كانت عنها غافلة؟!!

_آآه!

تشهق بجزع حقيقي وهي تسمع تأوه فاروق وقد خبطه الصغير رغماَ عنه في موضع إصابته فتندفع نحوهما هاتفة بقلق :
_اوجعك؟!.. أنزله يا فاروق.. لا تحمله هكذا!
_لا يهمك!.. فداه!

يقولها فاروق بحنان حقيقي وهو يقبل الصغير الذي اعتذر قبل أن يفض غلاف الشيكولاتة ليبدأ في تناولها..
فتسأله أمينة بقلق وهي تنظر لجبيرة ذراعه :
_لا يزال يؤلمك؟! متى قال الطبيب أنك ستفكها؟!

عيناه تتفحصانها بعجب.. قلقها ليس غريباَ..
لكن شيئاَ ما فيها مختلف..
كأن النور الذي وقع في قلبه هو منذ سنوات لم يعد يعرف عددها
الآن أصاب قبسه قلبها هي الأخرى..!!
هل يتوهم؟!
الآن؟!
الآن يا أمينة!
الآن وقد رفع الافتراء بيننا ذاك السور الشاهق!



_لا تقلقي.. بضعة أيام على الأكثر..

يقولها بتشتت وعيناه عالقتان بعينيها..
لكن الصغير يقاطعهما وهو يضع في فم أمينة قطعة من الشيكولاتة..
تحاول الاعتراض لكنه يجبرها على تناولها وهو يدسها دساَ في فمها..



_معاذ.. لا.. لا..

تنقطع كلماتها بسعالها وهي تغص رغماَ عنها بما في فمها..
فيضع فاروق الولد ارضاَ ليركض بسرعة كي يحضر لها كوب ماء..

_على مهلك.. على مهلك.. بسم الله..



يهتف بها بجزع وهو يناولها الماء الذي تشربه محاولة تنظيم تنفسها..
تراه يرفع كفه كأنه يهم بالتربيت على ظهرها لكنه يقبضه ليتوقف مكانه فوق كتفها..

تغمض عينيها بقوة وهي تزم شفتيها فيما بدا كمحاولة أخرى لتنظيم نفسها..
لكنها كانت تكتم ابتسامة خجل كادت تغافلها..
هل يظن أنه لم يمسها حقاَ؟!
هل تبالغ لو زعمت أنها شعرت بربتته على ظهرها؟!!

تستغفر الله سراَ وهي تبتعد عدة خطوات ثم ترد عليه بما لا تعي معناه..
ولا تظنه هو الآخر يفعل..!

ترتطم بأمها التي كانت واقفة تراقبهما من بعيد فتتنحنح قائلة بارتباك :


_سأغسل وجهي وأعود لنضع الطعام..

ترمقها أمها بنظرة متفحصة قبل أن تعود لتجلس على الكرسي تراقب فاروق الذي عاد للعب الكرة مع الصغير..

_لا تخافي يا أمي.. لن نكسر شيئاَ..


يقولها منشغلاً باللعب.. لكنها كانت منشغلة بخاطر آخر..

_سامحك الله يا سيد..رغم سوء ما فعلته لكنك فتحت عيني!

هكذا كانت تحدث نفسها وعيناها معلقتان بفاروق الذي تقدم منها أخيراَ لاهثاَ وقد ارهقه اللعب مع معاذ ..

_سأنزل لليان أركب معها الدراجة..
_لكن لا تتشاجرا.. واصعدا بسرعة كي نأكل معاَ عندما يأتي جدك..

تقولها أم امينة لحفيدها الذي يركض للأسفل..
قبل أن تلتفت نحو فاروق الجالس جوارها..
تنظر في عمق عينيه طويلاً دون كلمات.. فيسألها بقلق :
_ما لك يا أمي؟!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


هاهو ذا يوشك ان يصل لكل ما يريده..
حماه الجديد قد وعده أن يمكّنه بثغرة قانونية ما مع استغلال نفوذه من الاحتفاظ بمحل فجر كاملاً لنفسه.. وليضرب حسام رأسه في أكبر حائط!
لكن من قال إنه يريد محل فجر فحسب؟!
هو يريد فجر نفسها!
حلم العمر العنيد الذي طالما راوغه لكنه لن يهدأ حتى يحققه..
سيزيح فيصل هذا عن طريقه أولاً..
ثم يستعيدها لنفسه..
فجر القاضي ستكون له هو آخر المطاف وليس لأي رجل آخر!

أمينة؟!!
هي الأخرى سيستعيدها لكن بعد أن (يربيها)!
لقد اتخذ إجراءاته بالفعل ضد أبيها..
سيخرب بيته حرفياَ!
ساعتها لن يجد أمامه إلا أن يعود صاغراَ له هو!!
فاروق؟!
لن يمكنه الآن حتى ان يرفع عينه في عين أمينة بعد ما رماه هو بافترائه..
حتى لو كان يحبها.. سيكون مجبوراَ أن يبتلع حبه هذا حتى يغص به مختنقاَ دون أن يجرؤ على إعلانه..
وإلا فسيصدق الجميع أنه حقاَ كان على علاقة آثمة معها!

لقد لعب سيد القاضي اللعبة بالطريقة الصحيحة هذه المرة..
سيستعيد أمينة وبيته وأولاده وفجر والمحل..وفوقها عائلة السمري كمكافأة إضافية من القدر!
فقط لو يجيد ترويض جموح شيما هذه!
سيفعل!
بالتأكيد سيفعل!!

تزداد ابتسامته اتساعاَ وهو يقترب من المرآة أكثر..
يصافح هذا وذاك بشرود لكنه لا يرى إلا نفسه..

يهيأ إليه أنه صار أكثر طولاً وعرضاَ..
أكثر ضخامة..
هو أكبر من الجميع.. أشد تألقاَ..
كأنه يبسط ذراعيه الكبيرتين حول كل شيء..

_سيد.. تعال صافح وليد.

يسمع حماه مدحت يناديه فيلتفت ليتقدم مصافحاَ الرجل الذي بدا له ودوداَ بابتسامة واسعة..
بينما يردف مدحت وهو يميل هامساَ بخفوت على أذن سيد :

_وليد ذراعي اليمنى كما يقولون.. يمكنك الوثوق فيه جيداَ.. لا تستخدم يدك مادام يمكنك استخدام ملقط.. ووليد ملقط مثالي لو كنت تفهمني!

يغمزه بها بخفة فتتسع ابتسامة سيد وهو يدرك مغزى عبارة الرجل..


لم يكن يتوقع أقل من هذا في حياة رجل كمدحت السمري!
لابد من رجل كوليد هذا يدفع الفواتير القذرة..
وهو سيحتاجه قريباَ..
قريباَ جداَ!

لمعة شرسة تجتاح عينيه مع الخاطر الأخير الذي ظلل عقله فلم ينتبه وسط ابتسامة وليد المداهنة لنظرة عينيه الحاقدة..


خاصة وهو يسمع الموسيقا تعلو أكثر بينما تنجذب أنظار الحضور للأعلى حيث تظهر شيما بفستان عرسها المبهر فيتحرك سيد صاعداَ نحوها.. ليشعر هو بالغضب يأكل صدره!
يحب شيما!
يحبها كما أحب كل الأشياء التي وجد نفسه محروماَ منها!
يحبها لأنها تشبهه..
مجبورة على واقع لا تحبه.. لكنها يجب أن تعيشه!
يحبها ويشفق عليها من أب كأبيها وإخوة كإخوتها لا يرونها إلا مجرد متاع زائد وحمل ثقيل خاصة مع ظروف مرضها..

يحبها وهو يرى علاقته السرية بها بمثابة صرخته المتمردة - الصامتة- في وجه طغيان أبيها وتكبره عليه هو..

يحبها ولو ترك العقال لغضبه فسيذهب ويختطفها ويركض بها بعيداَ عن كل هذا.. لكنه يدرك أنه أضعف من ان يفعلها..
أضعف.. وربما أجبن!

لهذا يكتفي بنظرته الطويلة لها من مكانه كأنه يذكرها بما اتفقا عليه.. هو سيبقى رجلها بينما - الآخر - مجرد ستار يختبئان خلفه.


نظرته التي تبادله هي إياها بإصرار عنيد كأنها لا تبالي - في هذه اللحظة-لو يرى الجميع أنها تنظر إليه هو لا إلى عريسها المبجل كما يفترض!

وأمامها كان سيد ينظر إليها وهي آخر ما تراه عيناه!
أجل.. آخر ما تراه عيناه!!
جسدها البدين يتبدل في عينيه..
يتراقص تارة بين جسد فجر - الفاجرة - الذي طالما أرق أحلامه وهو يدرك أنه لن يمسه أبداَ بعدما دنسه غيره..
وتارة بين جسد أمينة المثالي.. الذي صنعه هو بمواصفاته القياسية..

عيناه تتلكئان فوق ثوب شيما فلا يكاد يرى فيه شيئاَ إلا بياضه..
ورغماَ عنه تصفعه ذكرى فساتين الزفاف التي اشتراها لفجر..
ثلاثة..
كلها فقدها.. ضاعت.. لكنه يقسم أن يكون الرابع عليها قريبا وهذه المرة لن يفقده..
سيحتفظ به في خزانته ما بقي له من عمر!
ووسط كل هذا تجرفه موجة من حنين..
نسمة باردة لطيفة وسط هذا الجحيم..
لطيفة.. هادئة.. وديعة.. تشبهها..
هي.. هي أمينة!

تدمع عيناه رغماَ عنه وهو يشعر بنفسه عاجزاَ عن منع ارتجافة شفتيه وهو يتذكرها ليلة زفافهما..
لكن ماذا تكون رجفة شفتيه أمام رجفة قلبه ؟!
قلبه الذي كان ينتفض الآن بلوعة حنينه وهو يتذكر شعوره بأول مسة ليدها.. بأول نظرة عشق لعينيها.. بأول ابتسامة تغزلها.. وبأول قبلة يمس بها بشرتها..
آآه..
آه يا أمينة.. آه!

آهة حرمان عالية تتصدع بها ضلوعه!
كيف يعترف أن داخله شبحاَ هزيلاً.. هزيلاَ جداَ.. يتمنى لو يترك كل هذا خلفه ويركض ليحتمي في حضنها!
عزاءه أنه لم يخسرها..
لم يخسرها بعد..
ستعود.. ستعود كما سيعود كل شيء في يده!!

وبهذا اليقين يقهر ذاك الشبح الهزيل داخله مؤقتاَ وهو ينحني ليقبل جبين شيما قبل أن يثني ذراعه لتتأبطه هي قبل أن تهبط معه الدرج وعيناها معلقتان بواحد فقط.. وليد!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


تشيح بها بوجهها في ما بدا كخجل وجواب خفي لما جبن عن السؤال عنه..
لكنها تؤكد المعلومة وهي تغادر الفراش مردفة بصوت خافت :
_سنحتاج تغيير الملاءة.

يزداد انعقاد حاجبيه وهو يميز شارة طهرها المزعوم جواره فيتلجلج صوته بارتباك :
_أنا.. كيف..

لكنها تتحرك لتقترب منه.. تحيط جسده بذراعيها هامسة بأقصى ما تجيده من دلال :
_سأطلب منك شيئاَ.. لا تسرف في شرب الحشيش هكذا مرة أخرى.. كنت أشعر وكأنك لست معي..


_في العادة لا أفقد وعيي هكذا تماما.. لكن.. ربما.. ربما أفرطت حقاَ هذه المرة..

يتمتم بها بارتباك وهو يشعر بالمزيد من التشوش..
فتميل على أذنه هامسة :
_لا أقصد معاتبتك.. كنت رائعا.. لكنني فقط.. اردتك واعياَ.

يهز رأسه لها فتلمع عيناها لمعة خاطفة تصيبه بالدهشة..


إنها تبدو لمعة امرأة منتصرة وليست خجول..!!

لكنه ينفض هذا الخاطر عن رأسه وهو يراها تربت عليه بحنو ظاهر :
_أعد لك الفطور والقهوة.. تحتاج لمسكن للصداع؟!

يهز رأسه إيجاباَ فتنحني لتقبل وجنته قبل أن تنهض مبتسمة لتغادر الغرفة كلها..


ولم تكد تفعل حتى تجهمت ملامحها وهي تبصق خلفها كأنها تمحو عن شفتيها مذاق قبلته..
قبل ان تتوهج عيناها بقبس شرس وهي تهنئ نفسها على نجاح خطتها..
وليد نالها لأول مرة كاملة على فراش من يتبجح أنه صار زوجها..
وهذا فقط أول الغيث!
======
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


تنادي تباعاَ وهي تفتح ذراعيها متأهبة للعناق الكبير..
من عنقها تتدلى سلسلة (الكونزيت).. تتراقص كما الحب الكبير الذي يحمله قلبها..
وفي أذنها قرطين كاملين لا تزيدهما الأيام إلا لمعاناَ..
جبينها لا يزال يحمل مذاق قبلة عاشق أهداه لها القدر..
وكفها لا يزال يحفظ مذاق طفل صار لها ابناَ..

_جدي.. ابي.. أمي..

من جديد تنادي بصوت أعلى فتشعر أن القارب يهتز أكثر..
أكثر وأكثر..
لكنها في الحقيقة كانت هي من تهتز!!

_ديمة.. اصحي..

تفتح عينيها فجأة لتبتسم وهي ترى وجه حسام المطل عليها بقلق..
قلق تحول لبعض الراحة وهو يرى ابتسامتها على وجنتها..
فتمد ذراعيها لتتعلق بعنقه تجذبه إليها هاتفة بصوت لم يفارقه النعاس بعد :
_حلم جميل.. لكن الحقيقة أجمل!

يضحك وهو يزيح خصلات شعرها الاحمر عن جبهتها.. يغرق وجهها بقبلاته قبل أن يهمس بحنان يبدو له دوماَ وكأنه خلق داخله لها وحدها :
_لا أحتاج ان تحكيه لي.. سمعتك تقولين (جدي.. أبي.. أمي)!

تضحك بارتياح وهي تضم رأسه لصدرها هامسة :


_كنت اعود.. أعود لكل ما تركته هناك..

يرفع إليها وجهاَ عابساَ :(بدوني؟!)

لكنها هي من تغرق وجهه بقبلاتها هذه المرة هاتفة بحرارة :
_(تقبر قلبي).. وهل أقدر؟!.. كنتما معي.. أنت وسند.. لا يحرمني الله منكما أبداَ!

ثم تنظر حولها قائلة :
_كم الساعة الآن؟!
_اوووه.. صح النوم! عدنا لتونا من صلاة الجمعة أنا وسند.
_وأين هو؟!
تهتف بها بلهفة وهي تغادر الفراش فيسمع كلاهما صوت رنين الجرس..

_لا ريب انهما فهد وجنة.. سيتناولان الغداء معنا.


يقولها حسام وهو يغادر الفراش.. ليقف بدوره فتهتف به بجزع :
_لم أعد شيئا.
لكنه يضحك وهو يقرص وجنتها قائلاً :
_جنة أعدته وجاءت به.. (حلاوة) الحرية!

تضحك ديمة وهي تراه يغادر الغرفة ليفتح لهما الباب..
فتهيئ نفسها بسرعة للخروج لهما..
لتفاجأ بحضور فجر وفيصل كذلك!

_كل الأحبة هنا!
تهتف بها بسعادة وهي تتقدم لتصافحهم فترد فجر برقتها المعهودة :
_وهل نتجمع لأعز منك؟!

لكن جنة تتقدم منها تعانقها بقوة هاتفة بحماستها المعهودة :

_تعالي.. تعالي.. رأيت التلفاز ؟!

_ماذا حدث؟! هناك جديد؟!!

تهتف بها ديمة بلهفة وهي تستدير بعينيها نحو شاشة التلفاز الذي شغله حسام..

تدمع عيناها وهي ترى توافد الآلاف لساحة الجامع الأموي في دمشق قبيل صلاة الجمعة..
المشاركون وبينهم رجال ونساء وأطفال يتجمعون في باحة المسجد في مشهد غير مسبوق..
يرفعون علم الاستقلال السوري مع الهتافات (واحد واحد الشعب السوري واحد)
يحتفلون بسقوط النظام السابق ويحتفلون ببداية عهد جديد.

تنهمر دموعها حتى تغرق وجهها كله وهي ترى الشاشة تعرض مشهداَ لآخر حيث (اللاذقية) ..

(يا غزة نحن معاكي للموت)


يهتف بها المحتفلون في محاكاة للهتاف الذي كانوا يهتفون به في بداية الثورة السورية :

(يا درعا نحن معاكي للموت)

وكأنهم يصيحون في وجه العالم انهم لم ينسوا غزة.. بل إن غزة شانها شان اي ارض سورية!

(واحد واحد الشعب السوري واحد)

من جديد يدوي الهتاف مع إطلاق العيارات النارية ورفع أعلام الثورة فيزداد جسدها ارتجافاَ وهي عاجزة عن التحكم في دموعها مع كل مظاهر الفرحة التي تراها أمام عينيها..

يقترب منها حسام ليضمها إليه محاولاَ تهدئتها فتهتف وهي تشير بسبابة مرتجفة نحو الشاشة :



_هذا الآخر ليس حلماَ.. راح الظلم.. راح.. صحيح؟!.. أعيد تشغيل الميناء وعادت السفن.. صحيح ؟!.. بلدي حرة.. صحيح؟! .. يمكنني العودة إليها.. صحيح؟!

تكررها وسط دموع فرحتها فيقبل رأسها قائلاَ بتأثر :
_صحيح.. صحيح..

(يا بحرية.. هيلا هيلا)


ينطلق الهتاف من المحتفلين على الشاشة فتفاجا ديمة بسند يكرره خلفهم مع ملك الصغيرة وهما يحركان قبضاتهما الصغيرة ..

تنطلق ضاحكة وهي تميل لتعانق سند فيكررها وقد شعر أنها تسعدها..
بينما تهتف ملك بوعي يفوق سنها الصغيرة تقلد كلام أمها :

_اليوم سوريا وغداَ فلسطين.


فيكررون جميعاَ خلفها بالقلوب قبل الألسنة :
_نعم.. اليوم سوريا وغداَ فلسطين.
========







مصر.. القاهرة

في إحدى أفخم قاعات العاصمة يقام حفل زفاف سيد وشيما السمري..

في أكثر تخيلاته جموحاَ لم يكن يتوقع سيد أن يكون حفل زفافه بهذا الترف..
إنه يبدو له أسطوريا!
حماه العزيز يبدو له وكأنه جمع نخبة المجتمع في حفل واحد!


هاهو ذا بدأ يستعيد خيوط حياته من جديد..
عائلته - التي كان حسام القاضي قد أوقع بينهم بعد ما فعله هو بفجر- عاد هو ليجمعهم حوله ثانية بنسبه المشرف الجديد..
(المصالح تتصالح) كما يقولون!

يراقب صورته في مرآة القاعة وقد زادتها الأنوار تلألئا فينتفش صدره بخيلاء..

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


لا بأس..
الليلة تمنح لسيد دليل طهارتها المزعومة.. قبل أن تصير الأبواب كلها مفتوحة أمامها لتكمل حياتها مع العاشق الذي اختارته.. ولو من خلف ستار!
=======
مصر.. القاهرة


يشير لها بالدخول ليغلق الباب خلفهما فتغتصب ابتسامة واهنة وهي تستدير نحوه..
يمد كفيه ليحيط وجهها بهما فترتعش ابتسامتها وهي تسمعه يقول بلطف :
_بدلي ملابسك على راحتك في غرفة النوم.. وأنا سأنتظرك في الغرفة العلوية.

يقولها سيد مشيراَ لغرفة السطح في بيته فترفع عينيها نحو هناك ببعض الاستهانة :
_غرفة (المزاج) تلك ؟!.. هل تنوي أن تكون ليلتنا الأولى هناك؟!

يشعر ببعض الانزعاج من جرأتها التي تحاول تلطيفها بإسبال جفنيها مدعية الخجل..

حركة نجحت في خداعه وهو يملأ عينيه من ملامحها يحاول أن يجد فيها ما يثير إعجابه..
لا يروقه شكلها كثيراَ.. لكنه يعترف أن لها شفتين مثاليتين جداَ.. كأنما خلقتا للقُبل!


ربما لهذا تتعلق عيناه بهما للحظات تخمن هي فيها نيته فتتراجع للخلف بادعاء المزيد من الخجل هاتفة :
_طيب.. سأبدل ملابسي وألحق بك.

_لن تحتاجي لمساعدة؟!

يشدها بها من ذراعها برفق ولا تزال عيناه معلقتين بوجهتهما..
لكنها تسحبه منه هاتفة :
_لا.. لا.. سأكون بخير.

تمنحه أفضل ابتساماتها وهي تندفع نحو غرفة النوم تغلق بابها خلفها بسرعة..
فيطلق هو زفرة قصيرة وهو يخلع سترته ثم رابطة عنقه..
يفتح أزرار قميصه وعيناه تحيدان رغماَ عنه للغرفة التي اختفت خلف بابها.. ثم للمطبخ.. ثم لمائدة السفرة..
حلقه يجف فجأة وعيناه تشردان بحنين..
كيف يقنع نفسه أن أمينة ليست من ستخرج الآن من غرفة النوم في أبهى زينتها..
أو ستهرع إليه من المطبخ لترص الطعام الذي يحبه على المائدة؟!
أو ستركض حتى هنا لتضمه بين ذراعيها.. يسألها عن حالها فترد بالجواب المعروف:
(أنت تعرف ما بقلبي!)

أصابعه تكاد تمزق قميصه في موضع قلبه وهو يفتح أحد الأدراج القريبة بكفه الحر ليستخرج منها دبلتها حيث خلعها ليبقيها هناك..


يرفعها أمام شفتيه المرتعشتين يقبلها بخشية..
لكنه يعود ليتمالك نفسه وهو يعيدها مكانها بعنف قبل أن يغلق الدرج بعنف أكبر ليصعد نحو الأعلى بخطوات راكضة..

يرتب الجلسة كما اعتاد ليستقر في مجلسه..
يشعل الأرجيلة مستعداَ لاستقبال المزيد من (سحب الدخان)..


عيناه ترنوان نحو الجدار المقابل..
هنا..
هنا كانت يوماَ تستقر صورة زفافه على أمينة..
الآن صار الجدار خاوياَ يشبه تجويفاَ غائراَ بقلبه لن يملأه سواها!

المزيد من سحب الدخان..

عبرها يرى شيما تتقدم نحوه بملامح خجولة..
مئزرها الأبيض يخفي معالم جسدها..
لا يزال لا يشعر برغبة قوية فيها لكن عناده يدفعه للتشبث بما يمكن ان يجذبه إليها...
رائحة عطرها خلابة حقاَ..
وشفتاها!
شفتاها هاتان اللتان خلقتا للقبل!

يشدها إليه ببعض العنف فتسقط جواره مع آهة مندهشة منها..


يجذبها نحوه معانقاَ فلا يرى انعقاد حاجبيها بمزيج من غضب وألم..
يحاول ملاطفتها بكلماته لكن أذنها كانت صماء حقاَ وهي تشعر برغبة عارمة في الانتقام منه..

تشعر بلسانه يتثاقل وحركاته تزداد جرأة فتلتمع عيناها بتحفز وهي تستخرج ما تخفيه بين طيات ثيابها خلسة لتضعه له في كوب العصير..
تجاوبه بمزيج حذر بين خجل ودلال وهي تسقيه العصير بيدها فيستجيب باستمتاع مغرور..
تتصنع المزيد من التمنع وضحكاتها تزيد جنونه..
يسالها إن كانت تجيد الرقص فتضحك ساخرة وهي تدرك أنه لن يجد الوقت للمشاهدة..

تنهض لتقف فتراه من علو وهو يمسك رأسه..


_ما لك؟!

تسأله وهي تحاول ان تخفي شماتتها الساخرة قدر استطاعتها لكن رأسه يدور أكثر قبل أن تراه يسقط على جانبه وقد فقد وعيه ..

تبتسم بظفر وهي تركله بقدمها بخفة تتأكد من تمام فقدانه لوعيه..
قبل أن تغادر الغرفة نحو الأسفل..
تتناول هاتفها لتتصل بوليد الذي يفاجأ بسماع صوتها في ليلة كهذه..
لكنها تضحك ضحكة منتصرة تناسب قولها :

_تعال هنا.. أنا أنتظرك ؟!
_اي (هنا) بالضبط؟!

يسألها بتشكك فتعلو ضحكتها من جديد مع قولها :
_في بيت (السيد).. قال (سيد) قال!.. على نفسه!

_شيما!.. لا تلعبي بأعصابي.. ماذا فعلتِ ؟!
يهتف بها بتوتر فتتنهد بارتياح قائلة :
_سيكون هذا اول انتقامي من ذاك المغرور.. ستكون أول ليلة لي هنا معك أنت.. وعلى فراشه!
=======





مصر.. القاهرة

يستيقظ سيد من نومه قرب الظهيرة شاعراَ بألم رهيب في رأسه..
ينعقد حاجباه بدهشة وهو يميز جسد شيما النائم جواره..
آخر ما يذكره أنه كان معها في الغرفة العلوية الليلة الماضية..
متى وكيف انتقل معها إلى هنا؟!
وماذا حدث؟!

ينهض بتثاقل ولايزال ذهنه مشوشاَ ليشعر بها تتململ في نومتها..
قبل أن تفتح عينيها.. تبتسم له بملامح تظهر خجلها :
_صباح الخير.

يرد تحيتها بتشتت فتنهض بدورها.. تمسح وجهها مدعية المزيد من الخجل :
_نمت جيداَ؟!

يهز رأسه وهو يسألها :
_ماذا حدث؟!

_الا تذكر؟!.

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


تقولها فجر وهي تقف على بعد خطوات من غرفة معالي..
كفها يتشبث بكف فيصل الذي يضمها إليه بقوة.. صوته المرتجف يفضح براكين غضبه التي يحاول إخمادها..
على الأقل أمامها هي..

_لا تفعلي.. أنتِ تضغطين على نفسك كثيراَ.. كان هذا عهدي معك أول يوم دخلنا فيه هذا البيت.. أنك لن تتحملي فوق طاقتك.. لكن هاهي ذي الأمور تزداد سوءاَ.. أخشى أن أطلب منكِ أن تبقي مع حسام فتظنينني أتخلى عنكِ!

لكنها ترفع وجهها نحوه هامسة بحسم :


_لم يعد هذا الدور الخانع يناسبني.. صدقني.. شفائي الحقيقي لم يكن فقط في ما منحته أنت لي بل في ما يمكنني أن أمنحه لك وللجميع.. فدعني أكمل ما بدأته.

يربت على وجنتها برقة مع زفرة مستسلمة.. فتبتسم قائلة :
_اذهب لحنان.. لا تتركها وحدها الآن.. وأنا سألحق بك.. لكنني أريد التحدث مع والدتك قليلاً.

_أمي ترفض الكلام مع أي أحد.
_دعني أجرب حظي.
_عن أي شيء تريدين الكلام معها؟ !

القلق في صوته يخزها فتسأله ببعض العتب الرقيق :
_ألا تثق بي؟!
_والله أكثر من نفسي.



يقولها بسرعة دون تفكير فتبتسم من جديد وهي ترفع كفه نحو شفتيها في قبلة طالت لثوانٍ..

ثوانٍ فقط لكنها كادت تذهب بعقله..!

يحيطها بذراعيه بكل قوته وشفتاه تسكنان هناك فوق غمازتها الأثيرة مردفاَ :



_لكنني فقط تمنيت لو أحميكِ من كل ما قد يسوءك.. لو تكون كل أيامك معي راحة وحبا وفرحة تستحقينها.. ظننتني سأكون قادراَ على فعلها.

ترفع وجهها إليه.. تتحسس ملامحه بهذه الحركة التي تذيب أوصاله..

_أنت فعلت الأفضل من هذا.. أنت جعلتني أعود لروحي القديمة التي افتقدتها.. لقوتي التي ظننتني دفنتها مع ما دفنته.. جعلتني أحارب خوفي بنفسي ولا أنتظر من يدفعه عني.. أي شيء في الدنيا أفضل من هذا؟!.. لو كان للأمان معنى في عينيّ فهو أنت.. ليس اليوم ولا غدا ولا بعد غد.. بل..

تقطع عبارتها وهي ترفع إصبعها بدبلتها حيث رمز اللانهائية..
لتردف :
_إلى ما لا نهاية.

يتنهد براحة شعرت بها رغم كل الألم الذي يسكنه..
فتبتسم وهي تربت على وجنته برفق..
يقتربان معاَ من غرفة معالي يطرق هو بابها.. فيصلهما الصوت الصارم من الداخل.. حزنها لم يقدح في هيبة صوتها :
_لا أريد الكلام مع أحد.

_لنرحل الآن ولنعد في وقت آخر.


يهمس بها فيصل في أذن فجر لكن الأخيرة تفاجئه وهي تفتح الباب لتدخل قبل أن تغلقه خلفها..

يطلق زفرة قصيرة قبل ان ترتسم ابتسامة واهنة على شفتيه تخفف حدة دهشته المتوترة..
لماذا العجب ؟!
هذه هي فجر القاضي التي عشقها بكل قوتها وجرأتها وعنفوان تمردها..
هذا الذي كان مدفوناَ تحت رماد ذنبها القديم..
والآن آن الأوان أن تكون للرماد حياة!

_ألم اقل أنني لا أريد الكلام مع أحد؟!

تهتف بها معالي في غرفتها وهي تنتفض لتغادر فراشها..
تتقدم نحو فجر التي تقول برقتها المعهودة :
_منذ فقدت بصري وأنا تعودت أن اسمع الناس بما تقوله قلوبهم وليس ألسنتهم!

تطلق المرأة صوتاَ ساخراَ وصوتها الصارم لا يخذلها حتى في نكبة كهذه :
_وماذا سمعتِ قلبي يقول؟!

_يريدني أن أقترب.. وسأقترب!

تقولها فجر بخليط متجانس غريب من قوة وحنان وهي تتخذ خطواتها نحو معالي التي تتوقف مكانها ترمقها بنظرة جامدة ثابتة متفحصة..
تشعر فجر بالارتباك فهي المرة الأولى التي تدخل فيها غرفة معالي..
لا يمكنها تحسس طريقها عبر تلمس الأرض كما تفعل في العادة..
لكنها تفرد ذراعيها أمامها وهي تتحرك بعناد نحو الأمام..

تتعثر في طرف السجادة فتطلق صرخة قصيرة وهي تكاد ترتطم بطرف الفراش..


لكنها تفاجأ بقبضتي معالي القويتين تحيطان بها لتسنداها..

أنفاس المرأة القوية تبدو لها بهذا القرب ثائرة هادرة..
لكنها حمائية عاطفية كعهدها تجاه كل من يخص قلبها!
ويبدو أن فجر صارت منهم!
ولأول مرة تشعر فجر بهذا التشابه بينها وبين فيصل!




لهذا لم تفكر طويلاً وهي تمد أناملها برفق تتحسس وجه معالي التي أغمضت عينيها بقوة وقد تلاحقت أنفاسها أكثر..
بينما تقول فجر برقة معتذرة :

_اعذريني.. هي طريقتي في حفظ ملامح من أحبهم.


_تحبينهم ؟!

تتمتم بها معالي ببطء ولا تزال تتفحص خلجات فجر بحذر..
لكن الأخيرة تقول بابتسامة :
_فيصل قال لي إنه يشبه أباه.. لكنني أشعر أنه يشبهك أنت أكثر.. ليس فقط في ملامحه لكن في طبعه.. طبعه الحمائي المسئول نحو كل من يرعاهم قلبه.. ربما تختلفان في الوسيلة لكن غايتكما واحدة.. الحماية!..

تطرق معالي برأسها دون رد..
لا تزال فجر تجيد اقتحام حصونها العنيدة برقتها المعهودة فتشعر معالي أنها كانت على حق يوم وصفتها بالساحرة..

كل يوم تفهم أكثر لماذا ظل ابنها متعلقاَ بها طوال تلك السنوات!
هالة غريبة من سحر خاص جداَ تحيطها وتجعل من يراها يقع في حبها دون مجهود!



لكن فجر تفاجئها بالمزيد وهي تضمها إليها تعانقها بقوة حانية قبل أن تطبع على جبينها قبلة عميقة!

_ماذا تفعلين؟!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


_أجل.. لست أفضل منهن.. خدعتك مثلهن.. كذبت عليك مثلهن.. لو كان يريحك أن تنتقم مني أنا.. تثأر مني أنا لكل ما تشعر به نحوهن فافعلها.. افعلها ووالله لا أعترض أبداَ.. لكن.. لا تفقد نفسك.. لا تسقط في هذه الحفرة السوداء..

ثم ترفع وجهه تجبره على مواجهة عينيها باستطرادها دامعة العينين.. كأنها تسكب روحها بين كلماتها :

_أعرف كيف تفكر الآن.. كم تشعر بالغبن.. تلوم نفسك لأنك كنت ضحية استغلال.. تتهمها بالغباء والحماقة.. لست كذلك.. لكنها فقط مرؤتك تسبق عقلك.. شهامتك تسبق حذرك.. لو كان هذا عيباَ فأنا أفدي عيباَ كهذا بكل عمري.. لو كانت نقيصة فأنا اول عاشقة لهذه النقيصة.. لكنها ليست هذا ولا ذاك.. هي فقط دلالة قلب فارس في زمن قل فيه الفرسان..

تقولها ثم تقبل جبينه بعمق هامسة :

_آسفة.. أعتذر لك نيابة عن الجميع.. والله لو كان الأمر بيدي لمسحت كل حزن ماضيك ولو كان الثمن روحي نفسها.. اصرخ فيّ أنا.. صب غضبك عليّ أنا.. لو كان هذا يريح قلبك فلا هم لي إلا راحة قلبك.

يضمها إليه فجأة في أقوى عناق جمعهما يوماَ!
حتى أنها شعرت أن ضلوعها قد التصقت بضلوعه لن يمكن تفريقها بعد الآن أبداَ..
شفتاها تهيمان فوق وجهه كأنها تمنحه أصدق علامات اعتذاراتها..
وأقوى عطايا عشقها!

وأخيراَ يخرج بوحه كأثمن رد تمنته في هذه اللحظة :


_صدمتي في حواء بالذات كانت القاضية!.. ثقتي فيها كانت بلا حدود.. كانت جزءاَ من ماضيّ.. كانت أنا!.. هل يشك الواحد في نفسه؟!.. وبالذات بعدما عرفته عن معاناتها طوال تلك السنوات.. داوود!.. كيف أصدق أنه ليس ابني؟!.. كيف أتعايش مع أنني لا تربطني به صلة؟!



_ومن قال إنك ستتخلى عنه؟!

تقولها مغالبة كل وساوس غيرتها التي تنهش صدرها في هذه اللحظة..
ليرفع عينيه إليها فتردف بابتسامة ارتعشت على شفتيها :

_إلياس الأمين الذي اعرفه لا يتخلى عن كف يحتاجه.. يمد له يده دون تردد.. فكيف بكف طفل صغير صار يدعوك (بابا)؟!!.. مهما كان ذنب أمه فالولد لا يزال في خطر.. هما معاَ لا يزالان في خطر.. حتى لو كانت كذبت عليك بشأن نسبه.. فالخطر على حياتها حقيقي.

يتنهد وهو ينظر لعينيها طويلاً.. قبل أن يقول بنبرة متعبة :

_غريبة انتِ!.. منذ بضع دقائق فقط كانت كل رغبتي أن تبتعدي عني.. كنت أقول لنفسي أنك آخر من أريد رؤيته الآن.. ليس غضباَ منك لكن.. خفت.. خفت أن أرى في عينيك انعكاس شعوري بالخديعة.. خفت أن تشاركيني لحظة كهذه فتكونين معهن في الإثم سواء.. خفت أن أضعك ولو للحظة واحدة في نفس الكفة معهن.. لكن.. هأنتذا.. تفرضين حضورك الطاغي على قلبي الظمآن دوماَ لكِ.. تقولين ما أحتاج سماعه بالضبط.. شكراَ لأنك عصيتني هذه المرة فلم ترحلي.. كنت حقاَ أحتاجك.


يتهدج صوته في عبارته الأخيرة وهو يعاود ضمها نحوه..
يصهر انفاسه في أنفاسها هامساَ :
_كيف ظننت أنني سأكون بخير وحدي بدونك؟!

تزداد ابتسامتها ارتعاشاَ وأناملها تتهادى برقة على وجنتيه..

(نسخته العاشقة) تغزل هذا الوهج المتألق في عينيه..

إبهامه يلامس طرف شفتها بخفة.. (نسخته العابثة) تتولى زمام الأمر أخيراَ :

_أظنه وقت الاعتراف ب (ملحوظة أخرى)..

تتسع عيناها لامعتين كعهدها كلما يأتي على ذكر ملحوظاته..
فتبدوان له وكأنما الشمس الغاربة قد انسكبت فيهما بالتساوي..


ليبتسم وإبهامه يدور حول طرف شفتيها :

_عندما تنفعلين يظهر حماسك هنا.. هنا.. عند طرف شفتيكِ.. يرتعش بشدة.. في الناحية اليسرى فقط.. في كل مرة أراها أشعر وكأن قلبك طفلٌ يتراقص.. يكاد يقفز من هنا.. لن تهدئه سوى قُبلة.. تذهب به وبي لآخر حدود السِحر.

تنتهي حروفه بين شفتيها في برهان عملي لما قال..
قبلتهما هذه المرة مختلفة كأنها تضع درجة إضافية في اختبار آخر يجتازانه معاَ بنجاح..!


(نسخته الجامحة) لا تفشل أبداَ في إبهارها كل مرة كأنه يجذبها معه للقفز من قمة لقمة أعلى..

وأخيراَ تجد القوة لتلتقط بعض أنفاسها بعيداَ عنه..


رأسها يستريح على صدره.. لكنه يرفع ذقنها نحوه هامساَ بين أنفاسه المتلاحقة هو الآخر :

_غابت الشمس تماماَ.. أظنكِ المرأة الوحيدة في هذا العالم التي يمكنني رؤية لمعة بياض الأقحوان على خدها مهما كانت الظلمة! (لخدّك فجرٌ لا يغيب أبداَ)..

آهة تأثر تفر من شفتيها يدللها بطريقته للحظات..
لكن رنين هاتفه يقاطعهما فيطلق زفرة قصيرة وهو يفكر حقا في تجاهل كل شيء الآن عداها..
لكنه يجده الرجل الذي وكله بمراقبة حواء سراَ..

ينعقد حاجباه بشدة ورغبة بدائية مدفوعة بغضبه تكاد تجعله الآن يرمي حواء بكل ما يخصها خلف ظهره..
لكنه.. لم يستطع!


ولو انمحى كل شيء بينهما.. فلا يمكنه تجاهل شعوره بمسئوليته عنها رغم كل شيء..

لهذا يطلق زفرة أخرى وهو يفتح الاتصال.. ليفاجئه الرجل بقوله بصوت شاحب:
_عفواَ سيدي.. يبدو أن السيدة حواء كانت تتحسب لوجود من يراقبها.. نجَحَت في مراوغتي حتى فقدت أثرها تماما.
=======


مصر.. الفيوم

_دعني أدخل لها وحدي..

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


يتحشرج بها صوت معالي وقد بدا أنها تقاوم رغبة عارمة في البكاء.. لتجيب فجر بما تبادر لذهنها :


_عندما عادت حنان ومع كل المشاعر المختلفة التي أحس بها الجميع خاصة بعد ما عرفنا ما فعلته ملاذ تعجبت أن الجميع كانوا يبادرونك بكل أنواع الكلام.. المواساة..الاطمئنان.. الرجاء بالهدوء وعدم الغضب.. طلب العفو لحنان.. لكن أحداَ لم يفكر مثلي أنه ربما ما تحتاجينه الآن هو حضن.. حضن دافئ يطمئنك ويختصر كل هذا الكلام.. حضن لا يعاتب مؤقتاَ ولا يتهمك بالتقصير بل يتفهم خوف أم تعبت وصبرت طوال تلك السنوات كي ترى أولادها في أعلى مكان ولم تر في هذا ذنباَ يريدون اليوم أن يحاسبوها عليه..

وفي معجزة ظنتها يوماَ ستكون مستحيلة.. بكت معالي!
بكت في حضن فجر!

فجر التي شددت عناقها لها وهي تخشى أن تجرح كبرياء المرأة المعهود بأي كلمة..


لكنها تركت قلبها يقودها كالعادة وهي تطبع قبلاتها واحدة تلو الأخرى على جبين المرأة :

_شكراَ لأنك منحتني الفرصة لأنال حضناَ كهذا.. هذا هو بالضبط الحضن الذي تمنيت لو أمنحه لأمي وأبي..

تنقطع كلماتها بتأوهاتها الحارة ودموعها تمتزج بدموع حماتها مردفة بحرارة أكبر :

_لو تعرفين! أكبر حسرة كانت على قلبي أنهما رحلا دون أن أتمكن من فعلها.. دون ان أستطيع ان أقول (آسفة) كما يليق.. والأدهى أنهما رحلا كذلك بسببي.. يوما ما ظننت أنني سأموت ولا ازال أحمل بقلبي نفس النصل المسموم بالذنب.. لكنني الآن.. الآن عندما عانقتك هكذا.. شعرت أنني ربما.. ربما داويت قلبي قليلاً.. شكراَ.. شكراَ..


ترفع معالي وجهها نحوها وهي تشعر بالارتباك..
لأول مرة في هذا العمر تحس أن أحدهم يفهمها إلى هذا الحد!
ليس هذا فحسب..
فجر لم تجرح كبرياءها وهي تمن عليها بأنها أنقذت ابنتها من مصير مشين ولم تكن ستلومها لو فعلت..
لكنها على العكس..
تشعرها أنها هي المدينة لها بعناق كهذا.. لا العكس!


لهذا تخرج كلماتها متحشرجة لكنها صادقة :
_عندما اشترطت على فيصل أن يتزوجك هنا في نفس البيت مع ملاذ فعلتها لسبب واحد.. أن يقارن بالتجربة بينكما.. أن يرى بعينيه الفارق الكبير ويتعلم الدرس بنفسه.. لم أكن أعرف أنني أنا من ساتعلم الدرس.. أنا من ستدرك الفارق..



تهز فجر رأسها بتساؤل لكن معالي تمنحها الجواب العملي وهي تمسح دموع فجر بنفسها!


تبتسم فجر وهي تشعر لأول مرة بدفء أنامل المرأة على بشرتها..
ورغم أن معالي لم تزد على حركتها هذه..
لكن فجر شعرت وكأنها مع كل لمسة تمسح دمعة وتزرع وردة!



_أطلب منك شيئاَ؟!
تهمس بها فجر بحذر فتربت معالي على رأسها في إذن صامت..

لتردف فجر :
_ملاذ.. رغم بشاعة ما فعلته لكن الخالة أساور جعلتني أفهم كيف تفكر.. كيف تشعر.. ربما كانت حادثة ساقها فرصة لنتمهل قليلاً قبل الحكم عليها.. سيطلقها فيصل على أي حال.. لكن.. لا أحب أن تخرج من البيت الذي تربت فيه طوال عمرها منبوذة بفضيحة كهذه..

_الفضيحة هي من صنعتها.. ولم تكتف بأنها صنعتها لنفسها بل كادت تتسبب فيها لابنتي كذلك!

تهتف بها معالي بحدة عادت تجتاح صوتها..
لكن فجر تربت على صدر المرأة تهدئها بقولها :


_صحيح.. لكن.. فيصل أخبرني عن معروف أبيها معه.. ولا أحتاج أن يخبرني أحدهم عن مكانة والدتها رحمها الله عندك.. القصاص ليس دوماَ دواء.. حتى لو كانت تستحق ما تريدون فعله بها لكن السؤال الذي يجب أن نسأله الآن.. هل نريد الانتقام منها.. أم نريد إصلاحها؟!

تتنهد معالي بحرقة وهي تخبط بكفها على رأسها في حركة منفعلة كأنما ضج رأسها من التفكير..
لم تر فجر حركتها بطبيعة الحال.. لكنها شعرت بحيرتها المشتعلة..
لهذا عادت تربت على صدرها بقولها :
_دعينا نمنحها الفرصة الأخيرة.. أيامها التي ستقضيها هنا بعدما كسرت ساقها.. من يدري كيف ستتغير الأمور عندما تتعافى.. الله يقلب القلوب بين يوم وليلة.

_ولو وافقت انا؟!..فيصل سيوافق؟!


تسألها باستنكار فتبتسم لها قائلة :
_وافقي أنت اولاً.. وأنا سأحاول إقناعه.

تسكت معالي قليلاً وهي تتفرس في ملامحها شاعرة أنها تسقط أكثر وأكثر في بئر سحرها..
قبل أن يطلق كبرياءها موافقتها مبهمة كالعادة :
_الله يصلح الأحوال.

تتسع ابتسامة فجر :
_إذن اتركك ترتاحين قليلاً.

وهذه المرة تساعدها معالي للخروج من غرفتها نحو غرفة نوم فجر مع فيصل..
يستقبلهما الأخير بنظرات غامضة لم تتبينها فجر..
لكن معالي ابتسمت له ابتسامة واهنة كأنما فهمت قبل أن تغادر الغرفة لتغلق بابها خلفها..!



_تكلمت مع حنان؟!

تسأله فجر باهتمام.. فيرد بارتباك :
_ليس بعد..
_لماذا لم تستطع..؟!

لكنها تقطع عبارتها وهي ترفع اناملها أمام أنفه.. لينعقد حاجباها :
_أنفاسك سريعة متلاحقة.. وكأنك.. كنت تركض.. فيصل..!


تهتف باسمه مستنكرة لتردف :
_لا تقل إنك كنت تستمع لكلامي مع والدتك وجريت إلى هنا عندما كدنا نغادر الغرفة!

يضحك بارتباك وهو يمسد مؤخرة رأسه بكفه متمتماَ :
_خطيرة انتِ!.. الا يخفى عليك شيء؟!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


_زعلت!.. لماذا فعلتها؟!
تقولها عاتبة وهي تبتعد عنه خطوة.. لكنه يقترب ليضمها بين ذراعيه هامساَ ببعض المرح :

_مذنب ومعترف يا افندم!

لكنها تبتسم وهي تشيح بوجهها ولازال على وجهها أمارات عتابها فيردف بنبرة معتذرة تقطر عشقاَ :




_بصراحة لم أستطع مقاومة خوفي عليكِ.. عليكما معاَ.. أعرف أمي عندما تغضب وتحتد.. أردت التدخل في الوقت المناسب لو حدث ما يسوء لكِ أو لها.

فتتسع ابتسامتها وهي تستجيب لرغبة في دلال أنثوي تقهرها غالباَ.. لكنها الآن تستسلم لها بعفوية..
ترفع ذراعيها لتتعلق بعنقه هامسة :
_مادمت معترفاَ بذنبك نطبق عليك ثلاثة أحكام..

_أقبل..
يهمس بها بحرارة وهو يضمها إليه أكثر يلصقها به..
فتتنحنح هامسة :

_الأول أظنك استنتجته بعدما سمعت كلامي مع والدتك.. ملاذ.. ستبقى هنا حتى تتعافى.. دعني أحاول معها محاولة أخيرة..

_أقبل..
يهمس بها وهو يميل على غمازتها الأثيرة بقبلة عميقة طويلة شعرت وكأنها تدغدغ خلاياها كلها..
ارتباك لذيذ يغشاها لكنه لا يزال يندحر مهزوماَ أمام طغيان ذكرياتها الأسود..
ومع هذا تقاومه بكل قوتها وهي تحاول إلقاء مشاعرها السلبية خلف ظهرها..

_الثاني.. حنان.. أعرف كم يمكن أن تكون غاضباَ منها الآن ولا ألومك.. لكنني أرجوك ألا تثقل عليها في العتاب.. كن صديقها.. هي الآن تحتاج صديقا متفهما أكثر مما تحتاج أخا غيوراَ.

_أقبل..
يهمس بها بنفس الحرارة الذائبة المذيبة وهو يميل على خدها الآخر بقبلة مشابهة..

فتزدرد ريقها هامسة بارتباك فاضح لهذه الحرب داخلها..

_الثالث.. حسام..
_ماله حسام؟!
يهتف بها بتوجس فتهتف بحماسة فرحة :
_ليس حسام بالضبط.. ديمة.. تعرف ماذا حدث في سوريا الآن.. هي شديدة السعادة والانفعال.. أريد ان أكون معها كي أشاركها فرحة كهذه.. كنت أريد أن نزورهما في القاهرة غداَ.

_أقبل..


وهذه المرة تستقر شفتاه على ثغرها فيما بدا كقبلة لكن كليهما كان يدرك أنه اختبار..
أصعب اختبار!

تغمض عينيها بقوة وهي تشعر بخوف رهيب يجتاحها..
كأنما سقط جسدها كله في قالب من ثلج!
الظلمة في عينيها تشتد كأنما وجدت نفسها فجأة في قبر ضيق!


لكنه يتبع قبلته بأخر ناعمات متتابعات كطرقات هادئة على باب طال إغلاقه والآن لأجله.. لأجله هو فقط يريد أن ينفتح!

الثلج يذوب رويداَ رويداَ..
القبر يتسع حتى يستحيل لفضاء عريض يستقبل الفجر..
حتى أنه عندما ابتعد بوجهه أخيراَ وجدت نفسها تتحسس شفتيها بأناملها كأنما تخشى أن تسقط قبلاته من فوقها..!


فلتبقَ.. وليبقَ أثرها هاهنا.. لعلها تهزم به و-له- ما بقي من مخاوفها..

يتفرس ملامحها شاعراَ ببعض الضيق من العرق البارد الذي نضب على جبينها وكأنها كانت تخوض حرباَ..
يبتعد مغلباَ شعوره بالخوف عليها على طغيان شعوره الجارف بها الآن..
لكنه يفاجأ بها تشده نحوها في اختبار جديد..

_كم أحبك.

هذه المرة قالتها واعية..
قالتها متعمدة..
والأدهى قالتها وهي أمامه!

من يلومه لو انهار السد؟!!

دقائق مرت بهما عاصفة في جنون عاطفي هادر تشهده هي معه لأول مرة بهذا الطغيان..
تقاوم الخوف.. الظلمة.. البرد.. الماضي.. الذنب..
تقاوم بكل قوتها..
تقاوم.. وتقاوم..
لكنها للأسف تنهزم!

دموعها تغرق جسدها المرتعد وهي تدفعه بوهن ..
لم تعد تشعر بأنامله وحدها فوقها..
عشرات الأصابع تندفع نحوها لتمزقها..

عشرات الصرخات تطلقها لكنها لا تغادر حلقها بل تبقى حبيسة داخلها فتنفجر شظاياها في روحها..

تبتعد لتنحني كي تلتقط ثوبها الذي كان قد سقط على الأرض لكنها تسقط جواره..
تتناوله لتغطي به جسدها.. بينما ترفع ذراعها تغطي به وجهها هاتفة بين نشيج بكائها المرتفع :
_آسفة.. آسفة.. حاولت..والله حاولت.. رغماَ عني..رغماَ عني..

تشعر به يسقط جوارها هو الآخر.. أنفاسه الحارة تطوقها قبل ذراعيه..
كفه يعانق رأسها ليلصقه بصدره.. يربت عليه مرة تلو أخرى..

_اهدئي حبيبتي.. اهدئي.. إنه أنا.. أنا..

يهمس بها بانفعال لم يفارقه حنانه..


وكأنه صار يدرك أن (انا) التي تخصه في قاموسها صارت تعني الأمان!

غضب عارم يجتاحه ككل مرة يشعر أي أثر تركه فيها الماضي اللعين..
غضب يمتزج بندمه على تسرعه هذه المرة..
ليته - كعهده- صبر!



_بالله لا تطلبي أن أتركك وحدك الآن.. لن أستطيع.. والله لن أستطيع.. دعيني جوارك.

يهمس بها بنفس الانفعال ولا يزال يربت على رأسها المرتجف كبقية جسدها..

لكنها تتشبث بقبضتها في صدره حتى يشعر أن أناملها قد انغرست بين ضلوعه..

صوتها يخرج مترنحاَ بين (قوة) محاربة تقاتل.. و(وهن) أسيرة تستباح :

_بل لا تتركني.. لا تتركني أبداَ.. أنا لن اكون افضل إلا معك.

تنهيدة حارقة تغادر صدره وهو يضمها إليه أكثر قبل أن يقف ليحملها بين ذراعيه إلى فراشها الذي يرقدها فوقه..


يلبسها ثوبها بنفسه من جديد ثم يرفع عليها غطاءها قبل أن يتمدد جوارها داعياَ إياها لتتوسد صدره فتفعلها..

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


_تكلمي يا فجر.. لا تسكتي.. قولي كل ما تريدين.. أنا أسمعك.

يهمس بها بحرارة فتهز رأسها رفضاَ..
لكنه يربت على وجنتها.. يتشبث بكل ذرة من عشقه لها قاهراَ وحش غيرته..

_هل.. هل تشعرين بالذنب لأنك لا تزالين تحبينه هو؟!

شهقتها العالية تبدو له وكأنها نصل طعن صدريهما معاَ!
جسدها يرتجف من جديد في نوبة بكاء عالية..
لم تقلها!
لم تستطع قولها!
كيف تخبره أنها في أشد لحظاتهما حميمية تقع بين نارين أهونهما جحيم!
عندما يمسها فينفر جسدها وهي تتذكر دقائق اغتصابها..
تجد ذهنها يفر رغماَ عنها للحظاتها السعيدة مع فهمي..
فتحاول الهروب من جديد تذكر نفسها أنها صارت زوجة لآخر..
أخر صارت تحبه!
ان مجرد ذكرياتها السعيدة خيانة!

لكن تلك الذكريات وحدها ما تجد نفسها تقاوم به نفورها من لمساته!


كل لمسة تعيد الدائرة من أولها..
كل مرة تصفعها وهي تسلمها من لهب للهب..!!
ربما لو لم يمت فهمي..
لو كان بقي على قيد الحياة..
لو كانت قد واجهته بكل ما بداخلها!
لما بقي منه داخلها شيء..
لكنه لا يزال عالقاَ كصبغة دموية ثقيلة تأبى أن تزال من نسيج العمر مهما تم غسله!

وأمامها كان هو يشعر بكل ما تكابده..
لم تقل.. لكنه سمعها بأذن قلبه الخبير بكل تفاصيلها!
ونفس الخاطر الغريب يدور بعقله..
لو كان ذاك الوغد قد بقي على قيد الحياة..
لو لم يغادر حياتها بتلك الطريقة تاركا دمه على كفيها..
كانت هي أول من ستصرخ انها تعافت من وهم حبه..


كانت ستتخلص من كل دنس علق بها منه!
ورغم أن التحريات التي قام بها لم تثبت - ولم تنفِ - حقيقة أن ذاك الوغد لا يزال على قيد الحياة..
لكنه الآن يتمنى لو كان..
لو يلقيه تحت قدميها بنفسه فتركله.. وتركل معه كل ذكرى بقيت لها منه!

يراها تفرك كفيها دون وعي فيفهم ما الذي يدور في ذهنها الآن..

لهذا يرفعهما بسرعة لينفخ فيهما بهذه الحركة التي تنثر أمان الدنيا كلها بين جنباتها..


تهدأ أنفاسها رويداَ رويداَ وتتوقف شهقاتها لتستحيل لأنفاس ناعمة..
هنا يعيد رأسها لصدره فتنفلت من شفتيها تنهيدة عالية.. همسها يبدو وكأنه صراخ مستغيث :


_أنا أحبك.. لا أكذب عندما أقولها.. لا أكذب ولا أجامل ولا أبالغ.. هكذا أشعر حقاَ.. لكن..

تقطع همسها عاجزة عن شرح المزيد.. لكن من قال إنه يحتاج المزيد؟!

يميل على وجنتها حيث غمازتها الأثيرة لتلقي شفتاه واحدة من قصائد عشقهما..
قبل أن يهمس بعنفوان عشقه المعهود :
_ماذا أحتاج لأسمع أجمل من هذا؟!.. ما بقي لا يلزمه إلا مزيد من عشق وصبر.. ولا ينقصني كلاهما لو تعلمين.

فترفع وجهها إليه بهذه الحركة الآسرة وأناملها تتحسس ملامحه كأنما تراه..
قبل أن تهمس بعاطفة مست قلبه رغم الوجع :
_تذكر يوم قلت لك أشعر وكأنني ألعب الغميضة منذ سنوات ولم يعثر عليّ أحد؟!
_أنا عثرت عليكِ.
يهمس بها بحرارة مؤكداَ كما قالها ذاك اليوم..
فتهز رأسها قبل أن تعيده لوطنها الآمن على صدره.. تكررها :
_أنت.. أنت عثرت عليّ.
========






مصر.. القاهرة

_فاروق هنا؟!
تسأل أمينة بقلق وهي تطرق باب بيت العم متولي لتفتح لها امرأة عجوز ترمقها بنظرة جاهلة..
ولوهلة تشعر أمينة بخوف غريب ليس في محله..
أين عم متولي؟! ألا يكفيها قلقها على فاروق؟! هل ستقلق على الرجل كذلك؟!!

لكن العم متولي يظهر من خلف ظهر المرأة داعياً إياها للدخول :
_تعالي يا ذات الوجه الصبوح.. تفضلي.

فتتنهد أمينة بارتياح وهي تتقدم للداخل فيعرفها متولي بالمرأة قائلاً بسعادة :
_شقيقة زوجتي.. عادت من السفر مع زوجها.. دعوتهما ليقيما معي قليلاً.



تبتسم أمينة بمزيج من شفقة وفخر وهي ترى كيف يفرح العجوز بأي أثر له من زوجته الراحلة..
يوماَ ما كان يشعرها هذا بالقهر.. بالغبن..
وهي ترى نفسها كانت في عين رجلها هينة الشأن ضئيلة القيمة..
لكن الآن..
الآن بعد ما عرفته عن حب فاروق..


صارت تشعر وكأنها تريد أن تصرخ في وجه الدنيا كلها أنها ليست هينة ولا ضئيلة..
أن لها عاشقاَ انتظرها صابراَ طوال تلك السنوات..
لم يكن يرى سواها من النساء..
لكن..
هل هذه فقط مكانة فاروق عندها؟!
مجرد رجل يعيد لها كبرياءها المفقود؟!


تكتم قلبها عن الجواب الذي صار أصعب ما يكون خاصة بعد افتراء سيد الحقير الذي أشاعه بين الناس!
والذي جعل فاروق نفسه يبتعد عنها وعن عائلتها منذ أيام!

_فاروق هنا؟!

تكرر السؤال بعد محادثة قصيرة مع العم متولي وشقيقة زوجته التي رحبت بها بحفاوة..
ليشير العجوز نحو الجزء الخلفي للبيت الذي يطل على حائط كبير يوفر له عزلة مناسبة..
هناك حيث جلس فاروق على درجات السلم منكس الرأس وقد أمسك عصا طويلة صار يحفر بها على رمال الطريق رسماَ لأول حروف اسمه مع اسمها..
فاء وألف!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


كانت تقف خلفه تماما وقد رأت من علو ما كان يرسمه..
تغمض عينيها بتأثر وهي تعلم أنها ليست المرة الأولى..
في طفولتها كان يفعلها كثيراَ بينما يلعبان..
كان يبدو لها الصبي الكبير الذي يعرف كل شيء أكثر منها..
وعندما كان يرسم الحرفين الأولين لاسميهما بهذه الطريقة كان يخبرها أنهما سيبقيان معاَ طوال العمر..
كبرت وكانت تظن أنه كان يعني بها أنها جزء من عائلته الوحيدة التي يعرفها..
والآن ؟!
الآن!!

_فاروق!

تنتزعه بها من شروده فيلتفت نحوها وقد اشتد وجهه بمفاجأته..
يزدرد ريقه بارتباك وهو يلقي العصا بعيداَ كانه ينفي عنه جرماَ..
فتتخذ مجلسها جواره على أبعد مسافة ممكنة وعيناها معلقتان بالرسم على الرمال..


_أنا من وجدتك هذه المرة.

تقولها مطرقة برأسها وهي تتذكر آخر مرة جلسا فيها هذه الجلسة بعدما طلبت الطلاق من سيد..
يومها كانت هاربة من الدنيا كلها وهو من وجدها كالعادة..
لكن اليوم تنقلب الأدوار..

يرمق جانب وجهها بنظرة طويلة صامتة وهو يشعر بألم غائر في ضلوعه..
كل يوم تزداد المسافات بينهما أكثر..
بعد افتراء سيد الشائن لم يعد يستطيع الاقتراب منها كي لا يؤذيها..

لكنها كانت في وادٍ غير واديه وهي تنظر بعيداَ حيث رمت دبلة سيد وقتها..

_هناك.. هناك رميت دبلته بدلاً من أن اردها له.. يومها قلت لك إن الدبلة التي ترد تسهل إعادتها.. لكن تلك التي تُرمى لا يعثر عليها أحد.. تبقى هناك حتى يطمرها التراب.

هنا يجد بقايا من صوته المتهدج وهو ينظر حيث تشير :
_أنا طمرتها وقتها.. أهلت عليها التراب بنفسي.. لأنني أعرفك جيداَ .. أعرف أنكِ تمنحين وتتغافلين وتسامحين لكنك إذا ما قررتِ الرحيل لا تنظرين خلفك ابداَ.

_لماذا تركتنا إذن؟!

عتابها يمتزج برجائها لكنه لا يجرؤ على رفع عينيه إليها.. بينما تردف :
_ما دمت متأكداَ انني لم أعد أقيم وزناَ لذاك الرجل ولا لكلمة واحدة تغادر فمه البذيئ لماذا فعلت أنت؟!

_لأجلك..
يهتف بها بسرعة وقد غافله قلبه لكنه يعود ليغمض عينيه مردفاَ بخشونة صوته التي تناقض حنان أفعاله :
_لأجلكم جميعاَ.. لن أكون شوكة في حلق الجميع بعد افتراء ذاك الوغد عديم الضمير..

فتهتف بانفعال جارف فجرته قوة شخصيتها المتمردة مؤخراَ :

_ومالنا وافتراءه؟!.. لو عملنا حسابا لكل كلب يعوي في الطريق فستصم آذاننا.. لماذا نهتم به وببذاءاته؟! لماذا تجعل هذا يمنعك عن الناس الذين تحبهم ويحبونك؟!! .. أبي الذي يعتبرك ابنه.. أمي التي تعتبرك ابنها.. ولداي الذين يعتبرونك أقرب الناس إليهما.. أنا..

تقطع عبارتها فجأة ليلتفت نحوها فتلتقي عيونهما في هذه اللحظة..
ترتعش حدقتاه وهو يميز هذه النظرة الجديدة في عينيها..
أجل..



هو يحفظ عينيها الحبيبتين كما يحفظ التلميذ المجتهد أسهل دروسه..

لكن هذا (الحِبْر) المشعّ الجديد فيهما هو الغريب!
يعرف نضرة خدها عندما تتحمس.. تنفعل.. تغضب.. تثور..
لكن هذه الحمرة الخجلة في حضرته هي الغريبة!
يعرف رجفة شفتيها عندما لا يسعفها الكلام فتسكت..
لكن زمتهما هكذا بين شهقة وشبه ابتسامة هي الغريبة!

_أنتِ.. ؟!

يسألها مستفسراَ مبهوتاَ وهو عاجز عن رفع عينيه عنها لكنها تطرق برأسها ساكتة..
رغم كل ما تبديه من قوة لكنها ليست بهذه السذاجة لتنكر هذه الحرب الدائرة داخلها..
حرباَ ليس عدلاً أن تلقيه هو الآخر فيها رغم معرفتها بما يعانيه..
لكن.. ماذا عساها تصنع؟!
هي لا تريده ان يبتعد..
لا يمكنها الشعور أنه بعيد ولا يمكنها الاعتراف الآن بأي مسمى لهذا!

لهذا تدمع عيناها بوهن وهي تشير للرسم أمامه بعينيها هاتفة باستنكار :

_انا ماذا يا فاروق؟!.. منذ وعيت على الدنيا وأنت أمامي.. خلفي.. جواري.. ومعي.. تغيرت كل الثوابت حولي وبقيت أنت كما أنت.. سيد ذاك لا أحرك جفن عيني الآن لأجله.. تريدني بسببه أن أبعدك أنت عني؟!

ابتسامته!
لمعة عينيه!
هذه الحركة العفوية التي استدار بها جسده نحوها!
كل واحدة منها بدت في عينيها قصة عشق وحدها!!


_أمينة.. أنتِ لا تريدين حقاَ أن أبتعد؟!

صوته يزداد ارتجافاً.. وقلبها يزداد دوياَ..

لكنها تجيبه عملياَ وهي تقف لتنفض ثيابها قائلة :

_أمي تنتظرك على الغداء..أبي بحث عنك ولم يجدك لكنني أخبرته أنني لن ارجع للبيت إلا معك.. ليان تنتظرك لتشاهدها وقد صارت تجيد ركوب الدراجة كما علمتها.. ومعاذ ينتظرك ليلعب معك الكرة لكن انتبه لنفسك.. ذراعك لم تشفَ بعد.

تتسع ابتسامته وهو يقف بدوره.. يسمعان صوت المرأة وعم متولي يتقدمان منهما.. تدعوهما المرأة للغداء لكن أمينة تقول بثبات :
_فاروق سيأكل في بيته.

يغادران بيت العم متولي فتسير أمينة كعادتها أمامه بمسافة مناسبة وهو خلفها..
تبتسم وهي تدرك أن هذه الحركة بالذات كانت تأسر قلبها في كل مرة يفعلها..
كانت تفهمها قديماَ كعطية أمان..
والآن تفهمها أعمق كعطية عشق!

_سيدي روقة!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


الشعاع الرابع والثلاثون
=======

العراق.. بغداد

في مكانه فوق سطح بيت أمه القديم يقف نزار يرمق غروب الشمس بنظرات بائسة..

حادثة خطف داوود أحيت داخله تلك الذكريات التي ظن أنه دفنها في أعمق نقطة داخله..
عندما سمع عن الأمر كان يفترض أن يقف جوار إلياس ويحيى يدعمهما لكنه وجد نفسه رغماً عنه يهرب..
يترك كل شيء خلفه ليركض ركضاَ إلى هنا!
إلى بيته القديم!
ورغم أنه لم يعرف الصبي داوود كثيراَ لكنه شعر أنه رأى في حاله الآن ما يشبه حاله هو منذ سنوات !
ربما لهذا عاد إلى هنا بالذات..!


يرتجف..
يرتعد شاعراَ بالبرد فيضم جسده يعانق نفسه العناق الذي يعرف أنه لن يمنحه إياه أحد..
تماماَ كما كان يفعلها في صغره بعد هروبه من هنا!


لا يعرف كم مر عليه من الوقت منذ وصل ..
جاب بالغرف كلها واحدة تلو الأخرى..
حتى استقر هنا على السطح..
كم تختلف هذه المرة عن سابقاتها وقد غسلها الصفح من الحقد القديم..!


_نزار!

يلتفت للنداء خلفه فتلتوي شفتاه بابتسامة مريرة حاول كسوتها بعبثه المعهود :


_كالأفلام بالضبط!.. البطل يهرب لمكانه المفضل.. والبطلة تلحق به هاتفة (كنت أعرف أني سأجدك هنا!).. غير أنكِ تزعمين أنك لا تريدين أن تكوني بطلة هذه الحكاية.. كما أن هذا ليس مكاني المفضل لو تعلمين!

يقولها ثم يعطيها ظهره معاوداَ النظر للأفق الكئيب..



فتتغضن ملامح حسناء وهي تراه عاقداَ ساعديه كأنما يعانق نفسه بهذه الطريقة التي مست جدار أمومتها..!

تقترب منه أكثر..
في روحها الف صراع لكنها تترك الدفة لقلبها مؤقتاَ يوجهها حيث شاء..
خشونة صوتها تهتز بفظاظة :



_خالك يسأل عليك.. يشعر بالقلق لأجلك وانت تعرف أن حالته لم تستقر بعد .. يحيى أيضاَ كلمني على تليفون المشفى وقال إن هاتفك غير متاح..وهاتفي كسره (الباشا) الغيور - حماه الله - منذ بضعة أيام..

تشير بها له ساخرة فيرمقها بنظرة زاجرة كانه يحذرها من ان تذكره بالأمر..
فتردف بنفس الفظاظة :


_ لهذا وجدتني مضطرة للبحث عنك بنفسي.. هل هذا وقت تختفي فيه؟؟!

_هل وجدوا الولد؟!

لهفة قلقة هي كل ما حمل الحيوية لصوته المنهك والذي عاد باهتاَ بعدما أجابته بالنفي..
يكتفي بأن يفتح هاتفه قبل ان يعيده لجيبه قائلاَ :


_سأذهب إليهم بعد قليل.. كنت فقط ألتقط أنفاسي.. عودي أنتِ الأخرى هذا المكان لا يناسبك.

تتردد قليلاً وهي تشعر به يتباعد عنها..

كالعادة كلما يتذكر طفولته يرتفع هذا الحاجز غير المرئي بينه وبين الجميع..


كأنه يحمي نفسه من أن يتعلق فيُترَك.. يحتاج فيُخذَل.. يتشبث فيُتخلّى عنه!

كفها يرتفع ببطء ليحط على كتفه فيلتفت نحوها من جديد لتلتقي عيناهما فتلمح هذه الدمعة المتجمدة فيهما..

لا يزال يكتف ساعديه بهذه الطريقة كأنه يعانق نفسه..


لكنه ما كاد يستقي هذه النظرة الحنون الصامتة في عينيها حتى وجد نفسه يستبدل برودة ذراعيه بدفء صدرها!

يتأوه بخفوت وهو يبسط كفيه منفردتين على ظهرها بكل اتساعهما..
أظافره تحفر حفرا وهو يضغطها إليه بكل طاقته كأنه يتشبث بكل ما بقي له من الدنيا..
بشرة خده الملتصق بخدها شديدة البرودة تفضح صقيع روحه..
على عكس أنفاسه المشتعلة التي تفضح لهيب قلبه..
صوته شديد الخفوت لكنه عظيم الدوي في أذنها هي:

_قبل حضورك الأن كنت أدعو الله أن تأتي.. أن تجديني.. أحتاج دوماَ أن تجديني..أطير فرحاَ عندما تجدينني.. أجمل ما حدث في حياتي أنك وجدتِني..



تدمع عيناها بتأثر وهي بالكاد تحافظ على كفيها المنقبضتين جوارها تقاوم نفسها بقوة كي لا تبادله عناقه..
تحاول التشبث بقناع فظاظتها فيخرج صوتها متحشرجاَ خشناَ :

_تتحدث وكأنني سعيت خلفك! وكأنك لم تهبط في حياتي كالقضاء المستعجل لتبعثرها وتزيدها تعقيداَ!



لكنه لا يكترث لظاهر جفافها.. يضمها إليه أكثر وهو يخفي وجهه بين عنقها وكتفها :

_أنا من سعيت خلفك لكنك من وجدتني!.. تدركين لهفة المفقود الذي عاش طول عمره ضائعاً حتى وجده أحدهم؟!.. بالله لا تجعليني أشعر بالضياع من جديد!



تدمع عيناها وقلبها يخفق بجنون تأثرها بمشاعره التي ترج قلبها رجاَ..
فتحاول الهروب من طغيان عاطفتها.. تسأله:

_لماذا جئت إلى هنا؟!.. آخر مرة كنا فيها هنا زعمت أنك تودع هذا البيت بكل ذكرياته السوداء.

تنهيدته تلفح عنقها لكنه لا يغير وضعه.. همسه يزداد برداَ ورجفة :

_عندما عرفت باختطاف الولد شعرت بتلك النغزة في صدري.. وكأنني عدت بالزمن للوراء.. أنا من ابتعد عن بيته.. من وجد نفسه فجأة بين الغرباء.. الصبي الذي وجد نفسه مجبورا أن يكبر فجأة ليعيش أهوال الكبار.. غير أن داوود يمكنه الصراخ ب(أمي).. أنا لم أكن أستطع النطق بها وقتها.. هو يمكنه أن يحلم بالعودة لبيت.. أنا حتى لم أكن أملك رفاهية ذاك الحلم..


تسيل دموعها الصامتة على خديها.. تحاول أن تفهمه أكثر :
_ولماذا عدت إلى هنا الآن إذن ؟!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


هنا يرفع وجهه نحوها.. عيناه اللتان طالما اشتكت هي دكنتهما تصفوان الآن لها مع همسه :
_قولي أنتِ.. أغمضي عينيكِ.. ألم أخبركِ من قبل أنك ترينني أفضل عندما تكونين مغمضة العينين؟!!



تأخذ نفساَ عميقاَ وهي تغمض عينيها..
تتذكر يوم قالت له..

_أرى فتى غاضبا يريد تكسير كل الجدران حتى لو أدمى قبضتيه.. حزينا يريد البكاء وحده حتى تفرغ عيناه من الدموع.. عاجزاَ كأنه الغريب الذي وجد نفسه معدما وحيدا في بلد لا يفهم لغتها.. لكنه طيب.. شديد الطيبة.. كأن جروح الزمن لم تزد غلاف قلبه الأخضر إلا رقة.. ووسط كل هذا ألمح ماسة صغيرة لامعة.. تخصني وحدي.. لم يرها غيري ولن تستقر إلا في كفي.. ماسة تدعى :(حبه)!

فتلتوي شفتاها بابتسامة حزينة عاتبة تليق بهمسها :

_أرى فتى غاضباَ أراد تكسير كل الجدران فكسر معها قلبي.. حزينا يريد البكاء فشدني لأغرق معه بين دموعي.. عاجزاَ كأنه الغريب المعدم في بلد لا يفهم لغته فجعلني معه في الغربة سواء..

يطول صمتها بعدها دون ان تفتح عينيها فيكمل هو لها بنبرة راجية :
_لكنه طيب.. شديد الطيبة.. جروح الزمن لم تزد قلبه الأخضر إلا رقة.

_لا يكفي..


تهمس بها بقنوط دون أن تفتح عينيها.. فيقترب بوجهه أكثر..
شفتاه على مدى قبلة من شفتيها..
همسه يزداد رجاء وحرارة :

_ووسط كل هذا ماسة صغيرة لامعة تخصك وحدك.. لم يرها غيرك.. ولن تستقر إلا في كفك.. ماسة تدعى :(حبه!).. هذا الأخر لا يكفي؟!

يرتفع نحيب بكائها فجأة فاضحاَ صراعها فيضم رأسها بقوة يخفيه في صدره هاتفاَ :

_لا تبكي.. بالله لا تبكي.. ألعن نفسي الف مرة عندما تفعلينها.. تسألين لماذا عدت إلى هنا اليوم؟! لأنني أردت أن أثبت لنفسي أنني تغيرت.. أنني لم أعد أخاف الماضي كالسابق.. أنني لن أسمح له أن يضيع ما بقي من عمري.. وأنتِ.. أنتِ يا حسناء كل ما بقي من عمري..


ترفع إليه وجهاَ غارقاَ في الدموع فيجذبها من ذراعها ليركض ويشدها خلفه هاتفاَ :
_تعالي.. تعالي..

تحاول التقاط انفاسها وهي تجد نفسها تندفع خلفه بينما يهبط للأسفل..
يدخل بها البيت.. يفتح أنوار الغرف تباعاَ يعرفها بمحتوياتها بصوت عال مرتجف كأنه يقاوم معها خوفه من آلام ماضيه..
يصل لغرفته هو..
فيضغط زر إضاءتها..
يغمض عينيه بألم فتشعر أن هذه صاحبة أقسى ذكرى..
صوته العالي يرتجف أكثر ولا يزال يغمض عينيه كأنه هنا..
هنا بالذات..
أكثر ألما..أكثر غضباَ.. أكثر جبناَ..
سبابته المرتعشة تشير للفراش..




_هنا.. هنا حكاية لم تكتمل.. ترويها أم عاجزة لطفل لم يكبر.. لم يكبر أبداَ.. هنا.. هنا كوب لبن بقي مكانه لم يشربه أبداَ.. هنا.. صوت شجار وضجيج وصراخ.. لم يهدأ.. طوال هذه السنوات لم يهدأ..

أنفاسه اللاهثة تتلاحق حد الخطورة فتشعر بالقلق عليه..
كفها الحر يرتفع ليربت على صدره لعلها تهدئ خفقاته..

فيشهق دفعة واحدة وهو يفتح عينيه فجأة..
يهز رأسه لأعلى وأسفل عدة مرات هاتفاَ كأنه يؤكد لنفسه قبلها :
_الآن.. الآن هدأ.

تهز رأسها بإشفاق حقيقي وهي تشعر بالصراع الحقيقي الذي يدور داخله..
تدرك كم يحارب نفسه الآن وهو يجذبها من يدها..


لا يترك كفها أبداَ وهو يتحرك ليفتح خزانة الملابس.. يستعرض لها محتوياتها بأنامل مرتعشة..
يتبعها بأدراج مكتب قديم كان هناك..
قبل أن يفتح نافذة الغرفة ليتخلل الهواء الغرفة منعشاَ رغم برودته..

_لم أعد أهاب الماضي.. لم أعد أكترث له.. أنا عدت إلى هنا بإرادتي.. عدت أتحسس الذكريات الجميلة التي تركتها خلفي والتي ظننتها ضاعت مع ما ضاع.. الأمر ليس بهذه السهولة التي أحكيها.. لكنني أحاول.. والله أحاول..

صوته يتأرجح بين رعشة انفعاله.. وثبات عزيمته..
لكنها لا تزال تخشى التعثر بأحجار ماضيه..

فتطرق برأسها دون رد..

لتجده يجذبها من جديد بينما ينحني ليجلس بركبتيه على الأرض..
هناك.. فيما يشبه فجوة صغيرة في الجدار بين السرير والخزانة سدت بخرقة بالية من الثياب..
هذه التي يسحبها هو الآن برجفة انتقلت منه إليها وقد اتخذت مجلسها هي الأخرى على الأرض جواره..

_سيكون هنا.. لعله لم يضع!

يتمتم بها برجاء وهو يمد كفه بحرص لتتهلل أساريره بضحكة عصبية منفعلة وهو يستخرج صندوقاَ صغيراَ يرفعه أمامها بكف واحد ولا يزال الآخر متشبثاَ بكفها هي يخشى لو تركه ان تهرب!

ابتسامة واهنة تتراقص واهنة على شفتيها وهي تراه يفتح الصندوق بكف واحد..

يستخرج محتوياته تباعاَ أمامها.. يستعرضها بصوته المنفعل الذي يمتزج شجنه بسعادته :


_كنوزي الصغيرة.. أحجار مسبحة خالي التي انفرطت منه يوماً ووعدته أن أجد ما ضاع منها.. لم أفِ بوعدي بعد.. لكنني سأفعل.. من اليوم سأجد أحجاراَ تشبهها وأعيد نظمها.. وهذه.. هذه.. آخر ضرس خلعتها.. كانت مؤلمة لكن أمي عانقتني وقتها بقوة حتى نسيت الوجع.. ربما لهذا احتفظت بهذا الضرس كأنني أدخر فيه مذاق عناق أمي.. لم تكن كل ذكرياتي هنا سيئة كما يبدو.. صحيح ؟!

رواية على خد الفجر

28 Dec, 21:03


تدمع عيناها بتأثر وهي تراه يضحك بانفعال بينما يستخرج ما يرفعه أخيراَ أمام عينيها:

_وهذا مغناطيس.. أول مغناطيس رأيته في حياتي.. كنت منبهراَ به عندما شرحه لنا مدرس العلوم ولما أجبت سؤالا صحيحاَ أعطاه لي كجائزة.. احتفظت به هنا مع هذه البرادة من الحديد.. انظري..

تتسع ابتسامة تأثرها وهي تشعر به قد عاد في لحظات ذاك الطفل الحائر..
تراه ينثر البرادة أمامها على الأرض.. يدور بالمغناطيس حولها فتنجذب البرادة نحوه حسب حركته بأشكال مختلفة..

ضحكته المنفعلة تعلو أكثر ويتحشرج معها صوته فاضحاَ تأثره..
يرفع المغناطيس أمام عينيها بهمسه الحار :


_هكذا أنتِ تماما.. منذ عرفتك.. بؤرة بداخلي منجذبة إليك.. لا تسمح لي أبداَ ان أبتعد.. فلا تسمحي أنت الأخرى.. لا تسمحي!

تنهيدة عميقة تفر من حلقها وهي تشيح بوجهها..
اليوم تعتقد أنها اقتربت أكثر من روحه..
مست جرحه القديم كما لم تفعل من قبل..


اليوم لا تراه يتشبث بقناع الضحية التي تلقي اللوم على كل من حولها..
بل تراه يتشبث بالقليل الذي تركه خلفه من ذكرياته الحلوة..
لا يستسلم للظلام الذي جره للهاوية قديما..
بل يفتح ذراعيه للنور ولو خفت شعاعه!
لكنها لا تزال تخشى الاستسلام لتصديق وهمه من جديد!



ورنين هاتفه ينقذها من حيرة الرد..
الخال كرم يريد مغادرة المشفى والعودة لبيته وقد سمحوا له.
======







العراق.. بغداد

في حقل الأقحوان يجلس وحده هذه المرة!
لم يستخدم المصعد مكتفياً بالجلوس على الأرض ..
لم يستطع الشعور أنه يمكنه الارتفاع كالعادة فوق كل شيء والهرب من كل ما يوجعه..
حتى هنا!


الشمس مالت للغروب مضفية ظلالها الكئيبة على أوراق الأقحوان البيضاء وقد بهت رونقها..

_إلياس.


يرفع رأسه حيث يسمع نداءها اللاهث وقد جاءت نحوه راكضة فيلتفت حيث يرى يحيى في سيارته يشير له برأسه من بعيد فيدرك انه من قام بتوصيلها إلى هنا..

_ارجعي معه.

صرامته الباردة تفيض من (نسخته الغاضبة) تكشف لها ما هي مقبلة عليه..
لكنها تجلس قبالته هاتفة بعناد راجٍ:
_لم آتِ كل هذه المسافة كي أرجع وحدي.

_ناي!.. اتركيني وحدي من فضلك.. قلت لك قبل مغادرتي البيت أنني أحتاج البقاء وحدي قليلاً.. ما الذي لا تفهمينه في هذا؟!

يهتف بها محاولاً ترقيق نبرته وإكسابها بعض اللطف لكن حروفه تخرج حادة كأنها توشك أن تجرحها بشظاياها..

_لم تتركني وحدي أبداَ.. لم تفعلها في أشد لحظاتي سوءاَ.. كيف افعلها أنا الآن؟!
عنادها يمتزج بعاطفتها في فيض جارف..
لكنه يقف فجأة وقد بدا عاجزاَ عن السيطرة عن الغضب داخله..

_اسمعي كلامي مرة واحدة دون جدال..هاهو ذا يحيى رغم كل شيء فعلها واستجاب لرغبتي.. لا أريدك جواري الآن.. الآن بالذات.. سأجرحك وأنا لا اريد ان أفعل!

يصرخ بها هادراَ فينعقد حاجباها وهي تقف بدورها هاتفة :
_افعلها!

يزم شفتيه وهو يشيح بوجهه فتقترب منه لتعانق كفيه بكفيها مردفة :

_افعلها واجرحني لا أبالي لو كان في هذا شفاءك!.. تظنني لا أعرف كيف تفكر الآن؟!.. كيف تشعر بالخداع من الجميع؟!.. بداية من أم يحيى التي خدعت حواء في الماضي لتبعدها عنك.. ثم جوليا التي دبرت كل تلك المصائب.. وأخيراَ حواء نفسها..

_وكأنكِ انتِ لم تفعلي! انتِ لستِ افضل حالاً منهن!

يهتف بها بحدة وهو يبعد كفيه عنها ببعض العنف.. فترتد للخلف مجفلة!

لكنه ما كاد يهتف بها حتى زفر بقوة وهو يرفع وجهه للأعلى يغطيه بكفيه مردفاَ بصوت أكثر خفوتاَ :

_ناي.. ارحلي.. أرجوكِ..اخبرتك أنني لا أريد أن أجرحك.. دعيني أعيد ترتيب أوراقي وحدي.

تتزاحم الدموع في عينيها دون أن تسقط..
كأنها تعلن عجزها عن مداواته هذه المرة وهي نفسها واحدة من أسباب جراحه!



فيربت على رأسها بأنامل مرتعشة قبل أن يشير نحو سيارة يحيى في أمر صامت..

تتردد قليلاً لكنها تبدو وكأنها رضخت للنظرة الصارمة في عينيه..
تتحرك نحو سيارة يحيى بخطوات مستسلمة بينما يعطيها إلياس ظهره وهو يضم قبضتيه جواره بغضب مكتوم..


يسمع صوت سيارة يحيى تنطلق فيطلق هو الآخر زفرة مشتعلة وهو يشعر بالضجيج داخله يتعالى..


ما أشبهه بأحمق كبير ضحك الجميع على سذاجته سرا!
كلهن تلاعبن بحياته وهو يظن أنه وحده المسيطر عليها!!
وهم!


كل عمره كان مسرحية هزلية ظن أنه بطلها لكنه كان مجرد كومبارس يضحكون عليه من خلف الستار!

_معك حق.. ربما لست أفضل منهن..

يفاجئه صوتها خلفه من جديد فيلتفت ليجدها تتشبث بقبضتيها الصغيرتين في صدر قميصه مردفة بعنفوانها المعهود :


_لكنني مع عظم ذنبي لن أتركك.. لن أتركك أبدا..

نظرته تتشح بالغضب لأول وهلة.. لكن أمواج حدته تتكسر تدريجياَ على شواطئ عينيها..

وأخيراَ يغمض عينيه بزفرة قصيرة وهو يلقي جبينه فوق جبينها..
هناك حيث.. يود أن يجد راحته ولو قليلاً!
فترفع كفيها لتضم رأسه تلصقه بها أكثر مردفة بأنفاس لاهثة كعهدها عندما تنفعل :

رواية على خد الفجر

14 Dec, 21:33


لهذا تشيح بوجهها بينما يردف يحيى :
_تلك الأفعى جوليا هددت سفيان كي يزور نتيجة التحليل.. لكن الرجل ليس خائنا.. انتظر حتى راوغها ثم جاء واعترف لي.



تتمالك ناي صدمتها مرغمة وهي تشعر بحاجة إلياس لها الآن..
تتحرك لتقف جواره تضم أحد كفيه بقوة وتبسط الآخر على ظهره بدعم صامت..

بينما يردف يحيى :
_والأخطر أن جوليا هي من كانت خلف قصة اختطاف الولد.. أظنها خطة أخرى منهما معاَ كي يورطا ناي..

يلتفت إلياس نحو حواء بنظرة ذبيحة.. متمتماَ بذهول عاجز عن التصديق :
_خطة؟!.. خطتكما معاَ ؟!!

تغمض حواء عينيها وهي تهم بإخباره أن الولد قد اختطف فعلاً..
لكنها تتراجع!
هي اختارت القفز!
اختارت أن تقطع الخيط الرفيع الذي بقي بينهما!

لهذا تهز رأسها ببطء وهي تتراجع للخلف أكثر :
_لم يعد لي مكان هنا..

ثم تلتفت نحو ناي.. تطلب منها السماح بعينيها وقد ذاب الكلام على شفتيها المرتعدتين..

قبل أن تركض خارج البيت الذي أغلقت أبوابه خلفها وقد قررت أن تواجه مصيرها ومصير ابنها وحدها..
لعل في الغرق النجاة..
لعل في الغرق النجاة!
=====
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

14 Dec, 21:33


تراه يتقدم منها مع ناي التي ترمقها بنظرة مشفقة رغم كل شيء فيتلجلج حجر ثقيل على صدرها..

_حواء.. لا تقلقي.. أنا أجريت اتصالاتي وفعلت كل ما يمكن فعله.. أوصلت الأمر لأعلى مستوى.. لا تخافي.. مهما كانت نية من اختطفه سأفعل كل شيء كي يعود..



تسيل دموعها الصامتة على وجنتيها وجسدها يرتجف ببكائها..
فتقترب منها ناي بعفويتها لتعانقها بقوة هاتفة بين دموعها :
_سيعود بخير.. لن يضيعنا الله..

(لن يضيعنا الله)!

تخترق قلبها كسهم من نور!!
منذ متى لم تسمع كلاماَ كهذا؟!


منذ متى لم ترفع عينيها للسماء ولو بدعاء!!
منذ متى أصابها اليأس والقنوط من كل شيء حتى صارت تعتقد انها تعيش في غابة لو لم تكن فيها من الضواري فستكون هي نفسها اول فريسة ينهشونها؟!!

ومن جديد تتعلق عيناها بعجلات كرسي مجد!
تدور وتدور كأنها تعيد أمام عينيها شريط عمرها كله!!

ضحية.. جانية.. ضحية.. جانية..
أدوارها تتقلب في سيناريو مجنون لم توضع نهايته بعد!!

ترفع وجهها نحو ناي التي بدت متسامحة معها رغم سابق إهانتها..

وفي عينيها تلمح بريقاَ يشبه بريقاَ كان في عينيها هي يوماَ ما..
يوم كانت تؤمن أنه بعد الرعد والبرق تمطر السماء ويعود قوس قزح..
ترتجف شفتاها بين بكاء وابتسامة وهي تعود بظهرها للخلف..
ترى قلادة ناي في عنقها..

(لو بيا يندار العمر.. مو مرة أحبنك عشر)

لامعة.. براقة.. تتدلى منها ماسة تليق ببراءتها..
بينما قلادتها هي صارت صدئة قبيحة تليق بما آل إليه حالها!


هل كانت حقاَ تستحق حباَ كهذا؟!
هاهو ذا العمر دار حقاَ لكن.. كي يدهس ذاك الحب تحت عجلاته!

يدعوها إلياس للدخول معهما للبيت لكنها تبقى مكانها..

تراهما يبتعدان معاَ فتراقب ظهريهما المنصرفين بنظرة شاردة..


هاتفها يهتز في يدها فترفعه لأذنها..
(براد) يخبرها بموعد اللقاء ومكانه ويؤكد عليها ان تكون وحدها!

تغلق الاتصال والدوامة داخلها تتسع أكثر..
عيناها حائرتان بين عجلات الكرسي..
وبين مشهد قلادة ناي البراقة..
وبين مشهد داوود وهو يصرخ..

تتسع أكثر لترى نفسها ذاك اليوم الذي عرف فيه مقداد بحقيقة حملها من إلياس فظل يضربها حتى فقدت الجنين..
وأكثر وأكثر حتى يمتزج الخوف بالندم..

حانت لحظة الاختيار يا بائسة..
اقفزي.. لعل في الغرق النجاة!
أو انتظري حتى تسقطي فتتحطمين فوق الصخور!



_إلياس.

تصرخ بها تناديه فيلتفت نحوها بدهشة..
أناملها تشتد فوق هاتفها قبل أن تخفيه في جيبها لتتقدم نحوه..

_أريد أن أخبرك شيئاَ.

تتحفز حواسه بترقب وهو يشعر بالقلق نحوها..
_ماذا ؟! هل اتصل بك أحد الخاطفين؟!

تزم شفتيها بقوة وهي تنقل بصرها بينه وبين ناي..
قبل أن تتخذ القرار الأخير..

_ابننا.. مات.

تشهق ناي بجزع بينما تنفلت صرخة قصيرة من شفتي إلياس الذي يرتعد جسده :
_ماذا.. ماذا تقولين؟!

_أنا كذبت عليك.. داوود الذي رأيته ليس ابنك.. أنا زورت التحليل.. داوود ابننا مات قبل أن يرى النور.. قتله مقداد في بطني يوم اكتشف الحقيقة.

تلطم ناي خدها بصمت وهي تتراجع للخلف رغماَ عنها..
بينما تتلون ملامح إلياس بشتى المشاعر وهو يقف مصدوماَ للحظات..
قبضتاه ترتفعان رغماَ عنه تحطان على كتفيها..
يرج جسدها رجاَ وقد بدت وكأن الكلمات كلها ذابت على شفتيه..

_لماذا تكذبين؟!.. داوود ابني.. ابني.. أنا.. أنا شعرت..

يتمتم بها أخيراَ بذهول وعيناه تمتلئان بالدموع..
فتهمس بغصة خنقتها :


_أنا أيضاَ تمنيت لو كان ابنك.. لهذا سميته نفس الاسم الذي سبقه به ابننا الراحل.. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه..

_كيف؟!.. كيف تختلقين كذبة كهذه؟!.. كيف؟!!!

يصرخ بها هادراَ ولا يزال يرجها بين ذراعيه فتغمض عينيها بقوة وصوته يفضح لها نزف روحه :


_أنا انتظرتك كل هذه السنوات.. بقي عمري وقْفا عليكِ.. لم أفكر لحظة واحدة أن أشكك في كلمة قلتِها!.. حتى عندما خرج قلبي عن سلطاني صرخت بكل قوتي أنني لن أتخلى عنكِ.. أي وجه لك عرفته وأي وجه لم أعرفه؟!!

لكنها تزيح كفيه عن كتفيها وهي تتراجع للخلف أكثر في طريق خروجها من البيت..

_هأنذا أقطع آخر خيط بيننا.. لم يعد هناك وقت للعتاب.. دعني وشأني..

تقولها وهي تعطيه ظهرها لكنه يشدها بقوة صارخاَ ببغضب:
_بهذه البساطة ؟!.. تلقين كلامك في وجهي وترحلين؟!.. لن أتركك حتى أعرف الحقيقة كاملة!

_صدقها يا إلياس..


يظهر يحيى في الصورة وهو يتقدم منهم مردفاَ بغضب مكتوم :
_سفيان اعترف لي بالحقيقة منذ دقائق لهذا طلبت منك سرعة الحضور.. جوليا الحقيرة تعاونت معها كي تزيف حقيقة نسب الولد.

_ماذا؟!
يهتف بها إلياس مصدوماَ وهو ينقل بصره بينهما..
فتبتسم حواء متعجبة بمرارة من تصاريف القدر..
ياللعجب!
لو لم تسبق بالاعتراف كان أمرها سيفتضح على كل حال!
لكن.. ما يعنيها الآن؟!!
لقد قفزت..
قفزت وانتهى الأمر!

رواية على خد الفجر

14 Dec, 21:33


_قولي لم أعتد رؤية فاروق وجواره امرأة غيري.

تتأفف أمينة من جديد وهي تهم بالهروب لكن تغريد تهمس لها بجدية هذه المرة :

_أنا لا أمزح.. أنت تعودت رؤية فاروق وهو يدور في مدارك انت وحدك.. يعمل مع أبيك.. مع زوجك.. وحتى عندما استقل بعمله بقي صديقا لزوجك.. ورفيقا لأولادك.. ما بقي من وقته دوماَ كان لك.. حتى ولو تطلبي.. حتى ولو لم تشعري..

تغمض أمينة عينيها بتأثر وهي تتعجب..
كيف لم تنتبه طوال ذاك الوقت؟!

بينما تردف تغريد :

_آن الأوان أن تنظري له نظرة أخرى.. دعي قلبك يغير الزاوية التي يراه منها.. ستجدين رجلاً يستأهلك.. صدقيني.

يرن الجرس من جديد فتهتف تغريد مستبشرة :
_لعلهما عمي وزوجة عمي.. قلبي يشعر ان أباكِ سيلين ويراضيكِ..

_يارب.
تهتف بها أمينة مبتهلة وهي ترفع كفيها لأعلى فتقرصها تغريد في وجنتها مردفة :
_وفكري في كلامي.
=======
تتقدم أمينة بترقب حذر لتسلم على والديها اللذين جلسا على جانبي فاروق..

يعانقان الصغيرين بقوة فضحت اشتياقا فطريا لهما..

تدمع عيناها بمزيج من شعورها بالظلم والعجز وهي تنحني لتعانق أمها..
ثم تقبل كف أبيها الذي يشيح بوجهه وقد بقي وجهه على القليل من تجهمه..

تتخذ مجلسها بين الجميع فتهتف زوجة العم بطيبة :
_نخزي الشيطان يا جماعة وننسى ما فات..

يزفر أبو أمينة وهو يخبط بقبضته على ركبته.. فتربت زوجته على كتفه قائلة :
_عندما سمعنا عن الحادث وقع قلبنا.. الحاج ضغطه علا جدا لكن ربنا ستر.. وهو بنفسه الذي طلب أن نأتي لنزوركم.. وترجع أمينة لبيت أبيها.

تبتسم أمينة برضا امتزج بنشوة الانتصار فلم تكتم تنهيدة ارتياح غادرت صدرها..
هي تشبثت بحقها للنهاية..
صمدت حتى عاد كل شيء لوضعه!
خسر سيد.. خسرها..
وهي.. لن تخسر المزيد!



تنهض من مكانها لتتوجه نحو أبيها فتميل عليه لتحتضنه بقوة.. تقبل رأسه قائلة بحنان :
_ألف سلامة عليك.

_يهمك كثيراَ ؟!

لا يزال صوته ساخطاَ وإن لانت نظراته.. فتجلس جواره تمسك كفيه تقبلهما تباعاَ..



_ومن لي غيرك؟!.. لن أتكلم في ما فات.. أعرف أن لا أحد في هذه الدنيا كلها سيريد مصلحتي مثلك.. أنا فقط كنت أرى ما لا تراه.

تلتقي عيناها بعيني أبيها فتلمح هذه الدمعة العزيزة في عينيه..
ارتجافة شفتيه تفضح انفعالا عارماَ يجتاحه منذ سمع عن الحادث..
لوهلة تخيل لو لم ينقذها فاروق..
لو راحت منه..
لو تأذى فاروق أكثر..
فاروق هو الآخر ابنه..
مهما بلغ غضبه منه لا يمكنه أن ينكر أنه ابنه ولو لم يكن من صلبه..
حتى أنه عندما عيره بنسبه وصفعه لم يرفع فاروق صوته عليه..

يتحشرج صوته الصارم وهو يصرف الولدين للداخل بعدما عانقهما بقوة..


قبل أن يدور بعينيه بين أمينة وفاروق قائلاً :
_الواحد راجع نفسه.. اسمعي يا أمينة.. كان لك زوج تحسدك الدنيا كلها عليه.. ليس زوجا فقط لكنه أبا ولديك.. قلتِ لا أريده.. وسيد لم يكن فقط زوج ابنتي.. يشهد ربنا اعتبرته ابني وشريك تجارتي.. لهذا حاولت قدر استطاعتي أن أردك عن قرارك كي أحافظ لك على بيتك فأنا لن أعيش لك العمر كله..

ينقبض قلب أمينة وهي تخشى أن تكون هذه مقدمة للمزيد من الضغط عليها لكن الرجل يردف بتنهيدة استسلام رغم سخطه :

_مادمتِ عنيدة هكذا.. فلن أقف أتفرج وأنتِ تذبلين أمام عيني.. ارجعي البيت.. أولادك ليس لهم ذنب كي أحرم منهم ويحرموا مني..

ثم يلتفت نحو فاروق مردفاَ :
_وأنت يا ابني.. أنا راجعت نفسي بشأنك أنت الآخر.. قسوت عليك في آخر مرة بيننا.. لكن..

يقاطعه فاروق وقد عزت عليه نظرة الندم في عين الرجل ليمد كفه السليم فيربت على كفه قائلاً بتسامح :

_أنت أبي.. مهما فعلت لا يكفي العمر كله كي أجزيك عن خير معروفك معي..


ثم يلتفت نحو أمينة ليردف :
_ما فعلته انا لم يكن عصيانا لك ولا نكرانا لفضلك.. لكن لأجل أمينة التي هي قطعة منك.. أنت نفسك لم تكن ستسامحني لو كنت تركتها وحدها.

_بارك الله لك يا ابني.. بارك الله لك..



تدعو أم أمينة له وهي تربت على ظهره في حنو.. فتبتسم أمينة وهي تشعر بحمل ثقيل ينزاح من فوق كتفيها..

يرن الجرس من جديد فتهتف تغريد بمرح :
_العيون صارت على بيتنا هذه الأيام.. ترى من الطارق؟!


_بابا!

صوت معاذ الذي فتح الباب يصيب الجميع بالتوجس فيقفون بترقب وهم يرون سيد يتقدم نحوهم حاملاً الصغير الذي دفن وجهه في عنقه ..
تأتي ليان كذلك كقذيفة من الداخل لتتعلق بأبيها فينحني سيد ليضم الصغيرين معاَ بين ذراعيه بقوة..
تنكتم أنفاسه مع دمعة شوق حقيقية لمعت في عينيه وهو يشعر بفردوسه المفقود يعيره بالحرمان..

يوماَ ما كان كل هذا ملك يده بأروع ما يكون ..
طفلاه.. قطعتان من روحه.. حما وحماة يحبانه كابنتهما.. وزوجة تود لو تقتطع من السماء قطعة فتضعها بين كفيه..

لكن..
من قال إنه خسر كل هذا؟!
غداَ يسترده بأكثر منه وأعظم!!

لهذا يتمالك انفعالاته وهو يربت على رأسي الصغيرين بقوله دون أن يلقي السلام حتى على الموجودين :
_اذهبا وبدلا ثيابكما.. سآخذكما.

رواية على خد الفجر

14 Dec, 21:33


يسعل سيد شاعراَ بالاختناق وهو يحاول ضرب فاروق بكوعه لكن الأخير يبدو وكأنه يستميت حقاَ في الدفاع عن الصغيرين..

يكاد الأمر يصل حد الخطورة وفاروق يضغط على عنقه أكثر لكن الأب والعم يتدخلان ليفصلا بينهما..
قبل أن يدفع العم سيد ليطرده خارج البيت بينما يصلهم صراخ سيد من الخارج :
_سآخذ اولادي تربيهم زوجتي الجديدة.. وأنتم.. سأعرف كيف أدفن رؤوسكم كلكم في التراب.

تنهار أمينة باكية في حضن أمها التي لم تكن أفضل منها حالاً..
بينما ينكس الرجال رؤوسهم وهم يشعرون بحجم الفضيحة التي يوشك هذا الحقير أن يثيرها..

تشحب ملامح تغريد وهي تدرك أن قصة فاروق وأمينة قد تعقدت أكثر..
ذاك القذر سيد سيفضحهما..
لسانه المفتري سيدنسهما بادعاءاته..
ولو عرض فاروق الزواج بها فسيؤكد كل ما قاله..
للأسف..
انتهت حكايتهما قبل أن تبداً..
انتهت بافتراء حقير!
فضيحة كهذه كيف ستدارى؟!
======










العراق.. بغداد


أمام قبر (أحلام) تجلس حواء على ركبتيها..

جسدها كله يهتز ببكائها كأنما تنزف روحها نفسها..




كفاها يقبضان على حفنتين من التراب ترفعهما أمام وجهها وهي تهتف بين شهقات بكائها..

_آه يا أحلام.. آآه.. ضاقت بي الدنيا بما فيها ومن فيها.. لم أجد غيرك.. بقيتِ وحدك آخر وآآمن حضن ضمني.. غاضبة أنتِ مني.. وغاضبة أنا من نفسي.. غاضبة من نفسي ومن الدنيا كلها.. لازلت أذكر حكاياتك..عناقك لي عندما أخاف من شرير الحكاية.. كبرت يا أحلام.. كبرت وصرت أنا شرير الحكاية..وجدت نفسي أؤذي كما أؤذيت.. أخدع كما خُدعت.. أظلم كما ظُلمت.. أدبر كما دُبّر لي.. ضيعت نفسي.. لكن لا يهم.. أنا خسرت نفسي منذ زمن.. ما يحرقني الآن أنني آذيت ابني.. القيته بيدي في النار التي عشت أحميه منها.. ماذا أفعل الآن يا أحلام؟!.. ماذا أفعل؟!!



صوتها المبحوح من فرط البكاء يخفت وهي تستعيد مكالمة (براد) لها منذ قليل..

_الولد معي.. حياته تساوي حياتك..عندما أتصل بك ثانية ستأتين إلى المكان الذي سأخبرك به.. وحدك.. بيننا حساب نريد تصفيته..

فتتعالى شهقات بكائها وهي تنحني لتسند رأسها فوق ذراعها المبسوط على الأرض..

_داوود.. ماذا فعلت بك يا صغيري؟!.. ماذا فعلت بك؟! كن بخير وليهن دونك أي شيء..

لم تدر كم ظلت تبكي لكنها سقطت فجأة في هوة عميقة بين يقظة ونوم..
نفس الرؤيا الغريبة تتجلى أمامها من جديد..



أحلام شقيقتها تجذبها من كفها لتصعد بها نحو أعلى الجبل شاهق الارتفاع.. تعانقها بقوة حتى شعرت أنها قد التصقت بها.. قبل أن تقول بصوت حاد..

_اقفزي الآن.. اقفزي.. افعليها بنفسك واسقطي في النهر.. لعل في الغرق النجاة.. والا ستسقطين وترتطمين بالصخور.. ساعتها لا نجاة.. لا نجاة..


تشهق وهي تفتح عينيها فجأة تدور ببصرها حولها كأنما تتبين أين هي..
تتلاحق أنفاسها فتبسط كفها على صدرها..
كم بدا لها الأمر حقيقياَ..
ريح باردة تعصف بصدرها كأنها لا تزال تشعر بعناق شقيقتها..

الآن.. تفهم..
تفهم أي قفز تقصده..
الحقيقة!!
الحقيقة!!
فلتخبر إلياس بالحقيقة ولتتحرر من ثقل هذا الوزر الثقيل على كتفيها..
فلتقفز..
لكن.. كيف تفعلها الآن؟!
كيف وهي أحوج ما تكون إليه!!
لو عرف أن داوود ليس ابنه فلن يساعدها..
ستكون وحدها في مواجهة الموج..
ستغرق..
ستغرق..

لا!
لا يمكنها فعل هذا الآن!
لن تؤذي ابنها مرتين..
مرة دون إرادتها ومرة بإرادتها..
مرة عندما سمحت باختطافه ولو زيفاَ..
ومرة عندما تتنازل عن دعم إلياس بيديها!

لا..
_لا.. لا.. لن استطيع.. لن أستطيع..

تهتف بها بحدة وهي تقف مكانها كأنها تخاطب شقيقتها..

_لا يمكنني فعلها.. ليس الآن.. لن أخاطر بأي شيء..

تقولها ثم تركض هاربة كأنها تفر من ضميرها..
إلياس سيبقى فرصتها الوحيدة..
أملها الأخير في إنقاذ ابنها..
كيف تضيع كل هذا لأي سبب؟!!

تعود لبيت الأمين فتتوقف فجأة في حديقته وهي تلمح مجد من بعيد تقرأ تحت ظل شجرة..
يخفق قلبها بجنون وعيناها تتعلقان بالكرسي المتحرك..
عجلاته ثابتة لكنها تشعر أنها تدور بها..
تدور وتدور..



تعيدها تلك الطفلة البريئة التي تجلس جوار شقيقتها تقرأ لها القرآن وتحدثها عن الخير والشر..

دموعها تغرق وجهها وهي تشعر أنها تخوض حربا قاسية داخلها..
وأي حرب أقسى من صراع يكابده المرء بين بعض روحه وبعض روحه؟!
بين عقله وضميره..
بين ماسة الخير داخله وبين شيطانه؟!!

لا تزال عيناها معلقتين بعجلات الكرسي..
لعل هذه إشارتها..
فلتعترف لإلياس بالحقيقة!
لعل في الغرق النجاة!!

تهز رأسها بتردد وقد بدا وكأنها اتخذت قرارها..



لكنها تلتفت لتجده عائداَ يغادر سيارته مع ناي وعيناه تنبضان لها بالعشق الذي تمنته..
جَلدة من سوط غيرةٍ تضرب ظهر أنوثتها فتتحفز حواسها برفض..
لا..
لن تخبره..
لن تقف وحدها في مواجهة الطوفان بينما تترك ناي - غريمتها - تتمتع بما كان لها هي!

رواية على خد الفجر

14 Dec, 21:33


يتهلل الصغيران بجهل.. يهتفان :
_سنرجع للبيت؟

يومئ برأسه موافقاَ فتهتف أمينة باندفاع :
_من الذي..؟!

لكن تغريد تقبض على كفها تمنعها التهور بالقول أمام الصغيرين اللذين يركضان نحو الداخل..

هنا يتقدم سيد نحوهم بملامح متجهمة..
يبادره العم بالسلام بنظرة عاتبة لكنه لا يرد..
نظرة غضب سوداء تحرق عينيه وهو يميز الثياب البيتية التي يرتديها فاروق..

سبابته المرتجفة تشير نحوه وهو يخاطب أبا أمينة بقوله :

_هل كان هذا الرجل يبيت ليلته هنا؟!.. في البيت الذي تنام فيه.. أم أولادي ؟!

يتحشرج صوته في عبارته الأخيرة.. فتنتفض أمينة للتلميح القذر في عبارته..
بينما يهتف عمها باستنكار :


_ماذا تقول يا ابني؟!.. الرجل تعرض لحادث واستضفناه في بيتنا.. هو غريب؟!

_نعم.. غريب.. غريب.. عن أم أولادي هو غريب.. كيف يبيت معها في نفس المكان؟!

تشتمه تغريد بصوت خفيض وهي تشد بكفها أكثر على كف أمينة تمنعها الكلام..
بينما يتدخل أبو أمينة في الكلام قائلاً بضيق:
_ماذا جرى يا سيد؟!.. هل كنت تغيب عن أولادك طوال تلك الفترة لتأتي الآن وتثير عاصفة بلا سبب؟!

فيكز سيد على أسنانه وهو يصعق أمينة بنظراته قائلاً ببطء :
_معك حق.. لن أتركهما بعد الآن.

تشحب ملامح أمينة بقلق وعيناها تحيدان رغماَ عنها لملاذها الآمن..
فاروق..
كانها تستنجد به!

الحركة التي أثارت المزيد من غيظ سيد وهو يهتف بحسم :
_ولداي سيأتيان معي.. لم أعد آمن امرأة كهذه لتكون أمهما.

تشهق أمينة شهقة عالية كادت تذبح صدرها بينما يحتقن وجه فاروق بالدماء وهو يتقدم ليقف في مواجهته قائلاً :



_اخرس.. لم لسانك واخرج من هنا!

لكن سيد يجذبه من ثيابه يتعمد الضغط على موضع إصابته صارخاَ :

_أنت من سيخرس أيها الحقير الخائن.. أدخلتك بيتي ورضيت بك صديقا وأنت عينك على زوجتي.. حرضتها على الطلاق.. وجعلتها تعادي أهلها..


_سيد..بماذا تخرف؟!

يصرخ بها أبو أمينة بحدة بينما تلطم أم أمينة خديها تتمتم (ياللفضيحة!)..

لكن سيد يستمر في افتراءاته البذيئة :
_كنت أنكر مثلك حتى تأكدت من قولي.. الحقير يحبها.. يحبها ويضع عينه عليها منذ سنوات..


_اخرس.. اخرس..

يهتف بها أبو أمينة بغضب وقد احتقن وجهه بانفعاله فيهتف سيد مخاطباَ فاروق :
_تنكر انك تحبها؟!.. تنكر ؟!!

تتعلق العيون بفاروق الذي تختلج عضلة فكه وهو يشعر بقلبه يكاد يتوقف..
يشق عليه أن ينكر حبها..
لكن ما الذي ينقذها في وضع كهذا إلا أن يفعل؟!

لا يمهله سيد الفرصة وهو يتوجه ببصره نحو أمينة.. يباغتها بقوله :
_وأنتِ؟!.. أنتِ أيها الطاهرة البريئة التي لم تحتمل أن يتزوج زوجها ابنة عمه من باب المروءة.. تنكرين أنك تعرفين أنه يحبك؟!.. تحلفين بالله القادر على حياة أولادك؟!

تدمع عينا أمينة من فرط شعورها بالظلم في هذه اللحظة..

كل كلماتها تتجمد على شفتيها وكأنها فقدت قدرتها على النطق..


_لماذا لا تدخل بيتي أبداَ؟!.. كان به عفريت!!

تطفو لذهن سيد من الماضي.. تذكره كم كان فاروق حريصاَ ألا يدخل بيته..
ألا يرفع عينه في وجه أمينة..
بل إنه كان من يصلح بينهما وقت المشاكل..
من نصحه كثيراَ بالحفاظ عليها..
يوقن تمام اليقين أن فاروق - وإن كان يعشقها - فلم يدنس بهذا العشق شرفاَ ولم يرتكب به خطيئة..

ومع هذا يتمادى في افتراءاته وقد بدت له طريقته الوحيدة في إقصاء فاروق وإذلال أمينة حتى تعود لعصمته..



_ومن يدري ما الذي كان يحدث بينكما في بيتي؟!..ما الذي دفعها لطلب الطلاق الغريب والاستماتة عليه؟!.. ما الذي جعلها تذهب لتعمل معه في المحل.. نفس الشيء الذي تستكملانه الآن في هذا البيت!! وتريدون مني ترك أولادي لها؟!!

لكمة تصيب فكه وتصيبه بالغضب من صاحبها..
فقد كان الحاج خضر نفسه!
أبو أمينة!
الرجل الذي فاض به الكيل وهو يشد سيد بعنف هاتفاَ بحدة :
_هل تخوض في شرف ابنتي؟!! .. بل ولداي.. كلاهما ولداي يا (ابن ال...) ؟!!

يهتاج سيد للفظة البذيئة التي يطلقها الرجل بينما لا يكترث فاروق لإصابته وهو يدفعه بعنف نحو باب البيت هاتفاَ :
_اخرج.. اخرج قبل ان أقتلك امام اولادك.. اخرج.


لكن سيد يصرخ بغضب وهو يدفع فاروق ليسقطه أرضاَ يضغط بقدمه على موضع إصابته فيكتم فاروق صرخته..

_ستدفعون كلكم ثمن هذا.. سآخذ اولادي إن لم يكن طوعاَ فقسراَ.. سأفضحكم أمام الجميع..

ثم يلتفت نحو أبو امينة الذي يحاول دفعه بعيداَ عن فاروق مردفاَ :
_وأنت.. ستدفع ثمن لكمتك هذه.. سأخرب بيتك بالشروط الجزائية التي بيننا.. سأسجنك.. أنت لا تعرف من هو نسيبي الجديد وما هي قدراته..

_لعنك الله.. لعنك الله..
يصرخ بها أبو أمينة فيهتف سيد بغلظة :
_سنرى من بنا الملعون.. والآن سآخذ أولادي وارحل.

لكن فاروق ينتفض واقفاَ كمارد ضخم ينقض على سيد من الخلف ليضغط عنقه بين عضده وساعده السليم هاتفاَ باستماتة :
_على جثتي.. لن تأخذهما إلا على جثتي.

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


فيصل؟!

ملاذ محقة!
سيخاف على أمه أن تنتكس حالتها..
وهي أيضاَ تخاف..
تخاف أن تمرض وهي بعيدة..
لكن..
تخاف أكثر ان تبقى فتكرهها أكثر وتتمنى لها الموت!

تنخرط فجأة في بكاء صامت وهي تشعر بفداحة ما هي مقبلة عليه..
لكنها لا تريد الاستسلام لهذا الظلم..
تريد أن تدافع عن اختيارها ومصيرها!

لهذا تمسح دموعها وهي ترى القطار قد اقترب..
تحمل حقيبتها وهي تتوجه نحوه بخطوات متثاقلة..
كان ينبغي ان تهرب الليلة بالذات..
قبل أن يأتي العريس غداَ..
قبل أن تورطها أمها بسياسة الأمر الواقع..
وقبل أن يرجع فيصل!

تتنهد بحرارة وهي تضع قدمها على أول درجة من سلم القطار تدفع حقيبتها للداخل..
قبل أن تبحث بعينيها عن رقم كرسيها الذي ساعدتها ملاذ في حجزه..
تستقر عليه وهي تنتظر ان يحملها القطار لوجهتها..
تتناول هاتفها وهي تتردد أن تكلم سراج..
تخبره بما تنتويه كي ينتظرها هناك..
لكنها تتراجع..
فليفاجأ بها أمامه!
فلتأخذ هي القرار نيابة عن كليهما!
هي سأمت من ان تكون مجرد مفعول به..
فلتكن الفاعلة هذه المرة!

تتململ في جلستها وهي تشعر بالحماس ينمل أطرافها..
لكنها تشعر بهذه الأنفاس اللاهثة فوق رأسها فترفع عينيها لتصطدم بالعينين الغاضبتين..
الذعر يخنق همستها وهي تنكمش في مقعدها :
_فيصل.
========






مصر.. الفيوم

_حنان ليست في غرفتها..

تصرخ بها ملاذ في وسط البيت فتنفتح أبواب الغرف تباعاَ..
تخرج إليها أساور راكضة وهي تهتف بصوتها الناعس:
_ماذا حدث لحنان؟!

_ليست في البيت كله..
تهتف بها ملاذ وهي ترى معالي تتقدم منها بوجه عابس..
شفتاها ترتجفان بغضب تحاول السيطرة عليه..
فتردف وهي تلوح بذراعيها :
_خزانة ملابسها خالية.. ياويلي!.. تكون قد هربت!!

يحتقن وجه معالي حتى يبدو وكأن الدم سيخرج منه..
تتلجلج وقفتها فتجلس على كرسي قريب وهي تشير بكفها المرتجف نحو أساور التي تندفع لغرفة حنان تتفقدها..
لتخرج صارخة بينما تخبط بكفها تباعاَ على صدرها :
_هربت! البنت هربت!

تظهر فجر أخيراَ وهي تتحسس طريقها إليهم..

فتستدير معالي نحوها بعينين صاخبتين..
ملامحها تبدو وكأنها شقت من وجع..
تحاول السيطرة على مشاعرها فتخرج حروفها مرتجفة منكرة :
_ابنة معالي لا تهرب.. ابنتي تعرف حدودها..

_بل هربت.. هربت.. وأنا أعرف من لعب في دماغها وحرضها..

تصرخ بها ملاذ وهي تضع آخر قالب في خطتها..
بينما تندفع نحو فجر الصامتة ترجها بين ذراعيها مردفة بحقد :

_انتِ من حرضتها!.. أردتِها أن تكون مثلك!!
=======










العراق.. بغداد

يغادر إلياس بيت الأمين كقذيفة فتلحق به ناي لكنه يبسط راحته في وجهها.. نسخته الصارمة تلقي أوامرها :
_لا تلحقي بي.. مادمتِ قد جئتِ بنفسك إلى هنا فلن تغادري هذا البيت لأي مكان.

_لا اريد البقاء هنا.. خذني معك.


تهتف بها بإصرار.. لكنه يهتف بحدة :
_ليس هذا وقت الرفاهية.. هنا أكثر الأماكن اماناَ الآن.. بيتنا ليس مؤمنا.

_لن ابقى واتركك وحدك.. لا أعرف ما سيواجهك عندما تخرج من هنا.

تهتف بها بعناد وهي تتمسك بعضده لكنه ينتزع ذراعه منها ببعض العنف هاتفاَ :
_ستبقين!.. ستنفذين الأوامر هذه المرة.. لا اريد مفاجآت.

عبارته الأخيرة تحمل لها مغزى خاصاَ منكهة بعتابه الصارم..
فترمقه بنظرة راجية لكنه يعطيها ظهره ليغادر بخطوات شبه راكضة..



-إلياس ..

بكل لوعتها ..ندمها ..عشقها ..تناديه فيلتفت نحوها غارسا نظراته الحادة في عينيها بينما يلوح بسبابته :

_ولا كلمة واحدة ! ..أنا دافعت عنك أمامها لأنني لا أسمح لأحد ..أي أحد ..أن يهين زوجتي ..حتى لو كانت أم ابني ..لكن هذا لا ينفي أن بيننا حسابا عسيرا على ما فعلته ..

تنفرج شفتاها تهم بالتبرير لكنه يخبطهما بسبابته بخفة مردفا :
-ليس ما فعلتِه بالضبط ..لكن كتمانك له .

يقولها ثم يعطيها ظهره مبتعدا عدة خطوات وهو يشعر برأسه يكاد ينفجر ..
لكن ..

_كم مرة ستتركني خلفك ؟!

هتافها الباكي خلفه يوقفه فيطلق زفرة ساخطة وقدماه تتجمدان رغما عنه ..
عيناه تخاصمانها عنادا في كل ذرة من كيانه الآن ..
وتجبرا على كل خفقة من خفقات قلبه تناديها ..

بينما تردف هي دون أن تتحرك من مكانها :


_تعرف كم مرة تركتني خلفك ؟! ..كم مرة أعطيتني ظهرك ؟!..كم مرة وقفت فيها أعد خطواتك عداً بينما تبتعد عني ؟! ..لا أريد فعلها هذه المرة ..بالله لا تجعلني أفعل ..ليس لأجلي أنا بل لأجلك ..أنت تحتاجني الآن أكثر مما أحتاجك ..فلا تحرمني أن أكون معك .

يطلق زفرة قصيرة وهو يلتفت إليها برأسه..


نظرته العاتبة تزداد حدة فتكتف جسدها بذراعيها وهي تهيئ نفسها لواحدة من ردات فعله الغاضبة..

لكنه يفاجئها وهو يندفع نحوها..
يشدها بقوة ليغمرها بين ذراعيه ببعض العنف الذي فضح غضبه..
قبل أن يبعدها قليلاً ليمسح دموعها هامساَ :

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


_لم أتركك خلفي أبداَ.. لو فكرتِ جيداَ فستدركين أنني كنت فقط أدور لأرجع إليكِ.. كل تلك الخطوات التي تقولين أنك وقفتِ تعدينها وأنا أعطيكِ ظهري كنت أعودها راكضاَ نحوك..

تسبل جفنيها ولا يزال جسدها على رعشته.. بينما صوته المنفعل يتأرجح على نغمة متوازنة بين عشقه وغضبه :


_غاضب منكِ؟!.. نعم.. جداَ.. كنا قد اتفقنا أن نقف على أرض ثابتة.. أن تخبريني بكل شيء.. ألا تضعيني في موقف كهذا الذي وقفت فيه منذ قليل كمغفل لا يعرف أين كانت زوجته.. ألا تكذبي.. ولا تخفي شيئاَ لأنك تثقين بي.. لكنك كالعادة فضلتِ رداء الطفلة الخائفة التي تنقلب بها السيارة!

فتهتف مدافعة وهي تغرس نظراتها في عينيه :
_لا.. لا.. لا تظلمني.. لم أفعلها هذه المرة.. والله قد نجحت.. كنت فعلاً سأهرب كالعادة لكنني أخذت قوتي منك.. عندما سمعتك تدافع عني شعرت أنني قد شفيت.. أنني.. أنني ودعت تلك الطفلة الخائفة للأبد..

يشيح بوجهه دون رد وإن ازداد ضغط ذراعيه حولها..
لكنها تحيط وجنته براحتها تجبره على النظر إليها بقولها :


_أنا أخطأت حقاَ عندما لم أخبرك.. لكنني..

تقطع عبارتها دون ان تكملها لتمسح بقايا دموعها مردفة :

_لا بأس.. لن ابرر.. أخطأت.. أخطأت وأعتذر وأعدك الا أفعلها مرة أخرى.. والله.. والله لن أفعلها مرة أخرى.. لكن لا تتركني هنا اموت قلقاَ عليك.

_ناي.. انا لست ذاهباَ لنزهة!.. انا خارج لأبحث عن طرف خيط يوصلني للولد.. لا أعرف من خطفه ولا ماذا يريد ولا لماذا يتربص بنا ولا الذي ينتوي فعله بنا.. أين آخذك ؟! تظننينني أبقيكِ هنا عقاباَ لكِ؟!

يهتف بها ببعض الحدة التي امتزجت بتفهمه..
لكنها تتشبث بياقة قميصه هاتفة برجاء عنيد :


_خذني معك أينما تذهب.. لا يصيبك شيء إلا ويصيبني معك.. لا أهتم.. أي أمان تظنني ارجوه بعيداَ عنك؟!!

يطلق زفرة مشتعلة وهو يحيط كفيها بقبضتيه.. فتهتف مكابرة :
_كما ان المكان هنا ليس آمناَ كما تظن.. ألم يختطفوا داوود من هنا؟!.. ما يدريك ما حدث؟!.. أي خائن هنا وما الذي يمكنه فعله؟!

تنبهه كلماتها لخاطر ما.. فيتناول هاتفه ليتأكد من شيء ما..
مصعب حاول الاتصال به ثلاث مرات لكنه لم يرد في غمرة انشغاله بما حدث..
هل يكون للأمر علاقة بخطف الولد؟!

_طيب.. اقترضي معطفاَ من طيف وتعالي.. الجو شديد البرودة..

يقولها بشرود فتبتسم رغماَ عنها لاهتمامه بها رغم كل ما يحيط به..
تتحرك لتنفذ ما قال لكنها تتوقف مكانها لتهتف بشك :

_إلياس!.. أنت لا تعاملني كطفلة.. لن أعود لأجدك قد رحلت وكنت فقط تشغلني.. أبي كان يفعلها كثيراَ في صغري.

يبتسم رغماَ عنه وهو يلمح رغم كل شيء بقايا من عقد طفولتها..
تطلب منه ألا يعاملها كطفلة بينما هي تحمل هذا الوجه الذي لا يمكن تجاهله أبداَ!

يتنهد وهو يشير لها بالذهاب بنظرة حازمة تحمل وعده فتركض نحو الداخل..
بينما يجري هو اتصاله بمصعب الذي يبتدره بقوله :

_مستر إلياس.. أريد التحدث معك بأمر مهم..يخص الطفل داوود.

تتأهب حواسه وهو يسمع مصعب يردف بسرعة تشي بخطورة ما يعرفه :
_أحد أصدقائي في طاقم الحرس الذين اخترتهم لحراسة البيت.. لكنه يرفض ان يقول اسمه يخاف أن يؤذوه.. أخبرني أن أحدهم كلفه بتعطيل الكاميرات.. هدده بشيء ما.. لهذا أنصحك ان تغير الطاقم كاملاً.

_لو لم تكن تعرف من (أحدهم) هذا الذي كلفه وهدده فلا داعي لاتصالك.. كنت سأفعلها مع تقصيرهم على أي حال!

يقولها إلياس بنفاد صبر فيقول مصعب بحذر :
_بصراحة.. كنت متردداَ في إخبارك.. لكن..

يسكت قليلاً فيهتف به إلياس بحدة :
_مصعب!.. ابني مفقود ولا وقت عندي لترددك.. قل أو اسكت.

_السيدة جوليا.

يقولها مصعب بسرعة كأنه يحسم تردده.. فيصمت إلياس للحظات تضيق فيها عيناه بحذر قبل أن يردد :
_ما لها جوليا؟!

يتنهد مصعب قبل ان يلقي ما في جعبته كاملاَ :
_لم أشأ أن أخبرك في البداية لأن السيدة جوليا كانت هي من توسطت لي للعمل في شركتك.. لكن أول لقاء لي معها كان في شركة سلمان البارودي أيام كنت أعمل لديه.. هي كانت هناك معه..

_ثانية!.. جوليا كانت عند سلمان.. منذ متى كان هذا؟!

يسأل إلياس بشك ليخبره مصعب بالتاريخ تقريباَ فينعقد حاجباه وهو يتذكر..

جوليا اعترفت له أنها كانت تتلصص على حديثه مع مؤيد قبل موته والذي أخبره فيه بوضع ناي مع مظفر..
ليلتها بالضبط كان إطلاق النار الذي منع الزواج وراح ضحيته مؤيد..
من أخبر سلمان البارودي بموعد عقد القران ليفسده؟!
لم يكن يعرف!
الآن صار يفعل!

تتسع عيناه بإدراك وهو يميز المزيد من الحقائق تباعاَ..

الرجل الذي ادعى زواجه العرفي من ناي..
كاد يطعنه لولا تدخل جوليا في الوقت المناسب!
الوقت المناسب تماماَ كأنها كانت تعرف!

صورة ناي ومظفر يقبّلها والتي كادت تثير فضيحة كارثية في الشركة..
من أوصلها هناك؟!
هي أخبرته أنها وجدت من فعلها بسرعة..
سرعة يجدها الآن مثيرة للشك حقاَ!!

يكز على أسنانه بغضب وهو يقبض كفه الحر بينما الآخر يعتصر هاتفه :
_ماذا فعلت جوليا؟!

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


_هي من هددت الرجل لتعطيل الكاميرات.. لكنها لم تحسب حساب أن الرجل قد مات طفله من أسبوعين.. والحادث جدد جراحه.. لهذا خاطر بكل شيء وأخبرني.. لم أصدقه في البداية.. لكنني قررت ان اترك الأمر لك.

يشكره إلياس باقتضاب شارد قبل ان يغلق الاتصال وهو يحدث نفسه بغضب :
_اوف.. إلياس.. أوف.. تلوم ناي زاعماَ أنها جعلتك مغفلاً!!.. والله يا جوليا لو كان ما بظني صحيحاَ فلا أدع أرضاَ تسعك ولا سماء!

يقولها ثم يفتح هاتفه من جديد مجرياَ اتصالاته في تركيا..
سيحكم الحصار حولها اولاً قبل ان يحضرها تحت قدميه ليجعلها تعترف بكل شيء!
=======









العراق.. بغداد

في غرفتها تدور حواء كوحش مقيد ودموعها تغرق وجهها..
قلبها يحترق بمزيج من شعورها بالندم والغضب..
تقف أمام مرآتها تخاطب نفسها :
_ما الذي فعلته بداوود؟!.. ما الذي فعلته بابنك يا غبية؟!

المزيد من دموعها تنهمر وهي تتذكر منظر الولد ورجال جوليا يجبرونه على الخروج معهم..
لم تستطع التدخل..
لم تستطع أن تظهر في الصورة..
جوليا أقنعتها ان الولد لا يجب ان يعرف شيئاَ كي لا يعترف بما حدث..
كان يجب أن يظن انه مختطف حقاَ حتى يعود في الوقت المناسب!

كيف رضت بهذا؟!
كيف سمحت ان يواجه ابنها خوفاَ كهذا؟!
هي؟!
هي التي عاشت شعور الخوف طيلة طفولتها كيف سمحت ان يعيشه ابنها ولو لساعات؟!!
ولو لأجل أن تستعيد أباه!
أباه؟!!
اباه!!
هل صدقت كذبتها؟!!

صرخة عالية تطلقها وهي تحطم المرآة أمامها..
تصيبها بعض الشظايا لكنها لا تهتم وهي تشعر أنها تكاد تسقط..
تسقط كما رأت نفسها في الحلم..
كما أخبرتها شقيقتها احلام انها ستفعل!

هل فسدت خطتها؟!
إلياس لم يصدقها!
نصر زوجته عليها!

لوهلة شعرت أنها تحسد ناي..
تحسدها على براءتها التي جعلت إلياس لا يتردد لحظة وهو يدافع عنها..
كم تمنت لو كانت مثلها..
لو بقيت مثلها.. !

ومن جديد تجرفها أفكارها الثائرة نحو داوود..
لن تحتمل دقيقة قلق إضافية..
كيف ظنت ان الأمر سيكون سهلاً؟!
كيف فعلت هذا به؟!!

لكنها لم تملك نفسها عندما رأت ناي تكلمه من خلف الأسوار..
كان إلياس قد غادرها لتوه لتفاجأ بظهور ناي الغريب وتلصصها من خلف الأسوار تراقب داوود..
ودت ساعتها لو تقفز فوقها تنشب أظافرها في عنقها..
لكنها اختبأت مكانها مكتفية بمراقبتها حتى رأتها تغادر..
وعندما اصطدم بصرها بإحدى كاميرات المراقبة وجدت الفكرة تختمر في رأسها قبل أن تخبر بها جوليا فتساعدها على إتمامها..



تتناول هاتفها وهي تتحرك نحو زاوية الغرفة..
جوليا كانت قد حذرتها من الاتصال بها لكنها لم تستطع الصبر أكثر..
تفتح جوليا الاتصال فتبادرها بهمسها المنفعل :


_إلياس لم يصدق كذبتنا بشأن ناي.. وأنا لن أحتمل فراق داوود أكثر.. دعي رجلك يظهر بسرعة ويتصل بهم على انه الخاطف..يطلب الفدية و يتعمد أن يقع في أيديهم ويتظاهر بالندم كما اتفقنا زاعماَ أنه عشيق ناي وكان يخطط للهرب معها بعدما يتسلما نقود الفدية..

تسمع صوت لعنات جوليا الغاضبة مع صراخها..
فتسألها بقلق :
_ماذا حدث؟!


لا تزال جوليا تصرخ وقد فقدت سيطرتها على نفسها تماما مع كلماتها :
_أحدهم كان يتعقبنا.. أخذ الطفل من رجالي واختفى به!

تشعر حواء بالبرودة تجمد أطرافها رغم كل النيران التي استعرت في صدرها فجأة وهي تتمتم بذعر رافضة تصديق ما حدث:
_ماذا تعنين؟!


_أعني انها لم تعد خدعة.. الولد اختطف فعلاً!.. اختطف بمجرد خروجنا به من بيت الأمين!

يسقط الهاتف من يدها وهي تقبض بكفها على قلبها النازف..
فعلها (براد)!


اختطف داوود كي ينتقم منها!
ما الذي فعلته بابنها؟!
ما الذي فعلته بنفسها؟!
والصرخة التي أطلقتها بعدها بدت وكأنها لن تكون الأخيرة!
=======
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


_أهلاً شيما.. تعالي..

يهتف بها مدحت السمري مرحباَ وهو يتقدم نحوها ليقبل جبينها..
يربت على كتفها شاعراَ ببعض الغرابة من منظرها لكنه عزا هذا لموضة شباب هذه الأيام..
بينما يبدو الاستياء واضحاَ على وجه سيد وهو يشيح عنها بنظراته..

كان هذا ليثير حفيظتها محيياَ عقدة شعورها بالنقص في موقف آخر..
لكنها الآن تشعر بالرضا!
لا تزال موهبتها في (تطفيش العرسان) تعمل بكفاءة!

يدعوها والدها للجلوس جوار سيد فتفعلها لتطرق برأسها مشبكة كفيها في وضع متململ..
وسيم سيد!
له طلة رجولية مهيبة!
ربما لو لم تكن تحب وليد..
لو لم تكن تعرف جيداَ انها ليست زيجة بالمعنى المفهوم بل صفقة هي فيها السلعة..
لكانت الآن سعيدة به!

_أنا تكلمت مع سيد.. حددنا موعد عقد القران بعد غد.. والزفاف بعد أسبوعين.

تصرخ ملامحها بالرفض لكنها تجيد إخفاء هذا خلف نبرتها متصنعة الخجل :
_ألا نتمهل قليلاً ؟!
_لماذا ؟!

يهز بها مدحت كتفيه باستهانة فترفع إليه عينين راجيتين..
هي أخبرته عشرات المرات أنها غير راضية عن هذه الزيجة لكنه لم يهتم..
بل لم يسمع..
والأدهى.. أنه تقريباَ قد عيرها لأول بمرضها الذي يقلل فرصها في الحصول على فرصة زواج كهذه!



صحيح أنه عانقها بعدها مبتزاَ عاطفتها قائلاً أنه يريد الاطمئنان عليها مع رجل يصونها..
لكن كل هذا بقي كطبقة خادعة من السكر تغطي ثمرة مُرة المذاق!

لهذا تتنهد أخيراَ باستسلام وهي تطرق برأسها فيتركهما مدحت كي يمنحهما فرصة للحديث بحرية..

_كيف حالك؟!


يسألها سيد برقة فترد بضيق لم تخفه :
_كما ترى.


_هل تتعمدين تغليظ صوتك؟!
يسألها بعينين ضيقتين وكأنه يحاول فهمها فترد باندفاع :
_مرضي يجعل صوتي غليظاَ.. لا حيلة لي في هذا.


تتلون ملامحه بتعاطف لم يمحُ ضيقه فتطلق زفرة قصيرة وهي تشيح بوجهها..
فيعاود تأمل ملامحها باهتمام..
ليست قبيحة.. يمكنها إجراء بعض عمليات التجميل البسيطة..
لكنها تحتاج أن تنقص وزنها كثيراَ..
ليس صعباَ!
سيجعل منها أيقونة مثالية للجمال الذي يريده!
تماماَ.. كأمينة!

يغمض عينيه عند هذا الخاطر مخفياَ دمعة كبيرة تحجرت بين جفنيه وهو يشعر بقلبه ينتفض بلوعة..
يتذكر منظرها الأخير مع فاروق الذي افتداها بنفسه وألقى جسده أمام السيارة..
فاروق الذي فضحته نظرته بعشقه لها!
كيف نجح ان يداري شيئاَ كهذا طوال تلك السنوات ؟!
هل تعرف أمينة؟!
هل تبادله شعوره ؟!
أي حمق هذا؟!
فاروق هذا ولو أتى لها بنجمة من السماء فلن تفتح له باباَ.. ولا حتى نافذة..
أمينة تحبه هو.. لن يملأ عينيها رجل غيره..
لقد منع نفسه بالكاد وقتها أن يركض نحوهما فيحملها بين ذراعيه قسراَ..
يصرخ في وجه الجميع أنها له..
حبيبته.. زوجته.. أم أولاده..
يعانقها.. يقبلها.. عشر قبلات. مائة.. ألفاً.. حتى يستخرج اعترافها من شفتيها أنها لم ولن تكون إلا له!
لكن.. لا بأس..
سيستعيدها بطريقته..
سيغرس عصاه في عيني فاروق ذاك كي لا ينظر لها هذه النظرة مرة أخرى..
سيجعل كل واحد يلزم مكانه..
لكن أولاً..
فليتم زيجته من شيما!
هي ورقته الرابحة التي سيضمن بها أن اللعبة ستنتهي لصالحه!

_تعرفين أن ملامحك مريحة.. أشعر وكأنني أعرفك منذ زمن طويل.

يقولها ملاطفاَ فتبتسم له شيما ابتسامة صفراء :
_خلقة ربنا!
_أعتقد أنك فقط بحاجة أن تنقصي وزنك قليلاً.


يقولها جاهلاً!
يظن كل النساء أمينة.. يأمر فتطيع!

لكن شيما ترمقه بنظرة شرسة وهي تشير بيدها لندبة عنقها حيث موضع العملية الجراحية قائلة :
_لا حيلة لي في وزني.. أجريت منذ فترة عملية جراحية.. لا أريد إدخالك في تفاصيل معقدة لكنني لا يمكنني الخضوع لحمية قاسية أو استخدام أدوية للتخسيس.. كما أن الدواء الذي أتناوله يزيد وزني أكثر.. تقبّل هذا أو لا تتقبله.. لن يمكنني تغيير الأمر.

ينعقد حاجباه للمفاجأة وهو يشعر بالارتباك!
لقد ظنها أنثى كسواها!
سيشكلها كيف شاء.. حتى يصنع منها النسخة التي ترضي عينيه وتشبع جسده..
لكن مرضها هذا يبدو وكأنه أخطر مما كان يظن!
ماذا؟!
هل يتراجع عن الزيجة؟!

لا..
أبداَ!
ليس بعدما أخبر أمينة والجميع أنه سيفعلها!
ليس وهي طريقته الوحيدة في استعادة محل فجر.. بل وفجر نفسها!
سينتقم من فيصل ذاك.. ومن فاروق.. ومن كل رجل يضع عينه على واحدة من نسائه!

لهذا يبتلع ضيقه قسراَ وهو يغتصب ابتسامة مداهنة :
_مرضك لا يعيبك في شيء.. وأنا أراكِ جميلة في كل حال.
_طيب.
تقولها من بين أسنانها فيزم شفتيه بضيق من طريقتها المقتضبة.. لكنه يعاود طرق باب آخر :
_كيف تقضين يومك؟!



_أكل ومرعى وقِلة صنعة! لا أريد فعل شيء ولا أصلح لفعل أي شيء.. لو كان هذا لا يعجبك فأنصحك بالفرار من الآن قبل أن نتورط أكثر.

لا تزال تمارس هوايتها في تطفيشه..
لكنه يكظم غيظه قائلاً :
_لا بأس.. المرأة خلقت للدلال.

تبتسم ساخرة وهي تعقد ساعديها :


_وهل كنت تدلل زوجتك كثيراَ؟!.. لهذا تطلقت منك؟!

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


يحمر وجهه بغضب أثار خوفها قليلاً لكنها لم تظهر هذا..
عروق جبهته تنفر مع قوله بحدة :
_أنا من طلقتها وليست هي من تركتني.. وبالنسبة لسؤالك.. فنعم.. كنت أدللها كثيراَ.

تدمع عيناه رغماَ عنه في جملته الأخيرة وهو يستعيد مشاهد سابقة من حياته مع أمينة..
فردوسه المفقود الذي يبكي دما بدل الدموع عليه!

تزفر شيما من جديد وهي تنهض لتقدم له كأس العصير..
تتعمد أن يترنح كفها بالكأس لتسقط بعض العصير فوقه..
تتلطخ عباءته فينهض سيد متذمراَ..
لكن شيما لا تعتذر..


تهتف بصوتها الغليظ وهي تحمل عباءته تلقيها جانباَ ببعض الازدراء الذي لم تبخل به حروفها :

_في ظرف آخر كنت سأعتذر.. لكن هذه العباءة لا تعجبني.. من الجيد انها تبللت كي لا ترتديها.. لا أريد رؤيتك بها مرة أخرى.. منظرها لا يليق بي.

يحمر وجهه حتى تشعر أن الدم سينبثق منه..
لكنه لم يبتلع إهانته هذه المرة..
تشهق مجفلة وهي تراه يعتصر معصمها يجبرها أن تمسك العباءة.. يغرس نظراته الصارمة في عينيها :
_نظفيها حالاً.. بيديكِ.. وضعيها بنفسك على كتفي.

تحاول نزع معصمها منه والاستنكار الرافض يفترش ملامحها..
تهم بالصراخ منادية أباها لكنها توقفت بعجز!
لن يقف أبوها في صفها!
بل سيتهمها بإفساد الزيجة وربما شدد مراقبتها ليكتشف السبب..
ساعتها سيدرك علاقتها مع وليد وتكون نهايتهما معاَ!!

وفي هذه اللحظة فقط قررت أن تنتقم من سيد!
لم تنجح في تطفيشه..
فليبقَ إذن..
وليرَ كيف سيكون انتقامها منه!


هذا المغرور الوصولي المنافق يظنها ستكون عجينة في يده يشكلها كيف يشاء..
لكنها ستجعله لعبتها!
ستتزوجه!
ستتزوجه وليكن هذا انتقامها الفريد منه!
وسبيلاً لحريتها في علاقتها مع وليد!

زواجها منه سيكون طريقتها في إخراج لسانها للجميع مغيظة إياهم..
يظنون أنها ستمتثل لرغبتهم والحقيقة أنها ستخدعهم من خلف الستار!

لهذا تجبر ملامحها على استراحة مداهنة.. تحاول ترقيق صوتها الغليظ :
_غضبت ؟!.. أنا ظننت صراحتنا طريقنا كي يصل كل واحد منا لقلب الآخر.



لا يزال حاجبيه على انعقادهما وغضبه منتصباَ متراقصاَ على عِرق جبينه..
يترك كفها وهو يتنهد أخيراَ يحاول السيطرة على انفعاله..
لن تفسد هذه الزيجة..
لن تفسد أبداَ.

بينما تنحني هي لتلتقط العباءة.. تختفي قليلاً لتعود بها بعد قليل وقد نظفتها تماما.. وجففتها أيضاَ..
تضعها على كتفه وهي تسبل جفنيها مخفية عنه نظرتها الحاقدة..
ليصلها صوته الحاسم :
_عباءتي جزء من شخصيتي.. لا أخلعها أبداَ.. اعتادي عليها.

تهز كتفيها تتظاهر بالاستسلام ووعيدها نحوه يتضخم داخلها أكثر..
هذا الرجل يستحق أن يُصفع على وجه غروره!


_ما الأخبار؟!

يظهر مدحت أخيراَ في المشهد وهو يتقدم نحوهما..
فيغتصب كلاهما ابتسامة مصطنعة تخدع الرجل الذي يتقدم أكثر ليفرد ذراعاَ فوق كل منهما قائلاً برضا :
_تبدوان متفاهمين تماماَ.. كما ظننت بالضبط.



تكتم شيما دمعة قهرها وهي تشيح بوجهها..
لن يخفف وجع هذا اليوم إلا لقاءها بعد قليل مع وليد..
لن يطفئ ألمها إلا اشتعالها بين ذراعيه بعاطفة لا يمنحها إياها غيره!
هو وحده من يحبها.. من يستحقها!

بينما تلمع عينا سيد وهو لا يرى أمامه إلا جذوة طمعه تتوهج أكثر..
هاهو أخضع شيما وأثبت قدرته عليها في أول صدام حقيقي بينهما..
وسيكون الحال دوماَ هكذا!

الآن يمكنه زيارة أمينة كي يلقنها هي وفاروق درساَ لن ينسوه!
سيد القاضي لا يخسر!
لا يخسر أبداَ!
=======



مصر.. الفيوم

_سراج!

صوتها الخجول يحمل شظايا لوعتها وهي تكلمه عبر الهاتف فيصلها صوته جزعاَ :
_حنان!.. هذه أنتِ ؟!

_انا.. أنا..

تقولها دون ان تملك دموعها وعيناها معلقتان بباب غرفتها تخاف أن يدخل أحدهم في أي وقت رغم ان الليل قد انتصف!

قلبها يخفق بجنون لمغامرة جديدة لم تعتدها في تاريخها المسالم كله..
الخوف والقلق يكادان يشقان قلبها شقاَ..
لكن شعورها أنه عرف صوتها رغم أنهما لم يتكلما كثيراَ من قبل جعلها تشعر بنشوة خفية منحتها بعض العوض..

ولم يكن هو أقل منها ارتباكاَ وهو يسألها بلهفة :
_انتِ بخير؟!.. كيف عرفت الرقم؟!

تتنهد بحرارة وهي تحاول فك عقدة خجلها..
تشرح له ما فعله المجذوب زكي وصراخه أمام نافذتها ثم مغامرتها للحصول على رقمه من هاتف صاحبة المحل..


فيسكت قليلاً قبل أن يقول باستنكار :
_لماذا فعلتِ هذا؟!.. الم تفكري ماذا لو ضبطتك المرأة؟! لو استغلت الأمر وأضرت سمعتك؟!

تجفل للحظة من حدة صوته.. لكنه يطلق زفرة قصيرة وهو يردف بنبرة أكثر ليناَ :



_أنا تركت البلدة كلها كي لا يصيبك شيء من هذا.. لن أسامح نفسي أبداَ لو أصابك أي سوء بسببي.

_وأنا أيضاَ لن أسامح نفسي لأنك تركت بلدك لأجلي.

_انسي كل هذا.. انسي كل ما يتعلق بي.. أنا لا أليق بكِ.. ليس بعد كل ما صار.

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


_وأنا لا أجد نفسي اليق إلا بك انت!.. أنا أعرفك.. أعرفك أكثر من الجميع.. ربما تكون قد أخطات لكن.. من منا لا يخطئ؟!.. أنت دفعت ثمن ذنبك بما يكفي.. ليس عدلاً أن تعير به عمرك كله!

آهة خافتة يطلقها وتخز قلبها كنصل سام..
صراع هادر داخله تفضحه أنفاسه الثائرة وينتهي بقوله الحازم :


_لا تكلميني مرة أخرى.. أنا احتملت ان أهجر كل شيء حتى انتِ لكنني لن أحتمل أن تتأذي انتِ الأخرى بسببي.. أمي أيضاَ ..

يقطع عبارته فجأة فتشعر بهذه الغصة التي اختنق معها صوته.. لتدرك أين وصلت به أفكاره..
هو يحمل نفسه ذنب موت أمه..
ولا يريد ان يؤذيها هي الأخرى بأي شكل!


_ أنا لا أريد إلا أن أطمئن عليك.. أعرف أنك بخير..من يدري؟! ربما نكون في البعد قريبين أكثر مما كنا معاَ في نفس البلدة!

الصمت يظللهما من جديد..
تخاف أن يغلق الاتصال في أي لحظة..
ولأول مرة تشعر أنها تكره مروءته التي تدفعها بعيداَ عنه!

ربما لهذا تتمالك شجاعتها قائلة :

_لن أستسلم مثلك.. لن أدعي أن كل شيء سينتهي.. أنا أعرف كم تحتاجني.. ما جدوى الحب الذي جمعنا طوال تلك السنوات لو لم يسند أحدنا الآخر في محنة كهذه؟!.. الحب الذي لم ربما لم نتبادل فيه الكلمات قدر ما تبادلنا فيه الشعور!

تطبق شفتيها بعدها بقوة وكأنها تتعجب نفسها!
رغم كل الخجل الذي يسكنها ويكاد يحترق معه وجهها..
كيف واتتها الجرأة لتقول كلمات كهذه؟!
كأنما انفجرت فيها كل ينابيع الحب التي سدتها طوال تلك السنوات..
فلم تعد قادرة على منع تدفقها!
هو ذا سراج!
الذي طالما اكتفت منه برسم صورة في الخفاء.. ونظرات مختلسة تقتنصها من خلف رأس الزمن..
الآن تجد نفسها تتكلم معه وكأنها لم تكف معه يوماَ عن الكلام!

ولما شعرت أن صراعه يطول في صمته الصاخب..
وجدت نفسها تستدرجه في الكلام لعله يقبل تواصلهما كأمر واقع :

_كيف حالك؟!.. وجدت عملاً ؟!

يصمت للحظات يهيأ إليها أنه لن يتكلم بعدها لكنه يبدو وكأنه هو الآخر يفتقد من يخبره عن حاله..

_عمل مقبول.. في الترجمة.. راتبه ليس جيداَ بما يكفي لكنه يوفر لي مكان إقامة.. الناس هنا لا يعرفون عني شيئاَ.. يعاملونني جيداَ.. لكنني لا أزال أشعر بغرابة كل هذا.

تبتسم وقد اعتبرتها شارة جيدة..
تسأله عن المزيد من المعلومات عن مكان عمله وطبيعته.. عن شكل مسكنه..
كيف يقضي يومه..
تحاول أن تذيب هذا الجدار بينهما..
فيجيبها باقتضاب تارة كأنه يخشى أن ينجرف معها للمزيد..
وباندفاع تارة كأنه ملهوف لكل هذا الاهتمام الذي تمنحه له وهو المحروم منه منذ سنوات!

لكنه يقول أخيراَ بنبرة مستنزفة رغم ما حاول بث فيها من حسم :
_حنان.. ستكون هذه آخر مرة ت..
لكنها تقاطع عبارته :
_لن أتوقف عن الاتصال بك.. لا ترد لو استطعت.


تغلق الاتصال بعدها دون أن تنتظر رده ثم تمسح الاتصال من هاتفها تحسباَ لأي شيء..
تصطدم عيناها باتصالات فيصل المتكررة على الشاشة والتي لم ترد عليها فيخزها قلبها بمزيج من شعور الذنب والغضب!

لا يمكنها الآن بالضبط تحديد مدى خطأ ما تفعله مع سراج..
لكنه طريقتها في الصراخ في وجه الجميع أنها حرة!
أن من حقها أن تدافع عن اختيارها وتتحمل تبعاته!
لو كان جبنها يمنعها الوقوف أمام أمها..
لكنه لن يمنعها ان تدافع عن مصيرها!

يفتح الباب فتكتم شهقة خوفها وهي تخفي الهاتف خلف ظهرها عفوياَ..
لكن وجه ملاذ يمنحها بعض الراحة وهي تراها تدلف إلى الداخل..

تبتسم لها بامتنان حقيقي وهي تتذكر موقفها معها يوم كانوا في محل الدجاج..

كاد قلبها يتوقف ذعراَ بينما تحاول الحصول على رقم سراج لتفاجأ بتلك الكف على كتفها..
لكنها كانت هي.. ملاذ!
غمزتها بخفة وهي تحاول التغطية عليها بجسدها حتى تمكنت من إرسال الرقم لنفسها قبل أن تعيد الهاتف مكانه كان لم يحدث شيئ!

_كلمتِه؟!

تسألها ملاذ باهتمام وهي تجلس جوارها على طرف الفراش فتشيح حنان بوجهها دون رد..
لكن ملاذ تمسك يدها قائلة بانكسار صار يكسو صوتها مؤخراَ :
_أعرف أنه من حقك ألا تثقي بي بعد كل ما فعلته.. لكنني بنت خالتك.. تربينا معا مثل الإخوة.. لا أريد لك إلا السعادة.

فتعود لها حنان ببصرها لتقول بتأثر :
_شكراَ على ما فعلته معي.. لولاك لما استطعت أن أكلمه وأطمئن عليه.

تبتسم لها ملاذ وعيناها مغرورقتان بالدموع :
_على الأقل واحدة منا تكون سعيدة!

_سعيدة؟!

تهمس بها حنان بسخرية مستنكرة فتسألها ملاذ بقلق :
_ماذا حدث بينكما؟!.. ماذا قال لكِ؟!

تتردد حنان قليلاً قبل أن تخبرها بما دار بينهما في المكالمة..
فتبتسم ملاذ قائلة :
_محترم!.. واحد غيره كان استغل الفرصة.. لكن يبدو أنه يريد ان يبعدك عنه فعلاً لأجل مصلحتك.


_لن أبتعد.

تقولها حنان بعناد.. فيبدو التردد على وجه ملاذ كأنها تخفي عنها شيئاَ..
لتسألها حنان بترقب:
_ملاذ!.. ماذا تخفين ؟!
_سأخبرك.. لكن بالله لا تخبري خالتي أنني أنا من قلت لك!

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


تمنحها حنان وعدها فتزفر ملاذ وأناملها تتلاعب بطرف ملاءة السرير قائلة بأسى:
_سمعت خالتي تكلم العريس.. الضابط صاحب فيصل.. يبدو أن فيصل وقف إلى جانبك ورفض أن يكلمه فعاندت هي وكلمته من تلقاء نفسها.
_ماذا قالت له؟!
تسألها بارتياع لترد ملاذ بنبرة باكية :

_نفس ما فعلته مع فيصل عندما أجبرته على الزواج بي.. أمك لا تغير خططها.. سياسة الأمر الواقع.. قالت إنها موافقة على الخطبة وحددت له موعداَ بعد غد.

تلطم حنان خديها مع صرخة خافتة أطلقتها..
لتتمتم باستنكار :
_كيف جرؤت؟! كيف؟!

لكن الاستنكار يتحول لإدراك وهي تستعيد ما تعرفه عن طبيعة أمها.. لتهمس بين دموعها :
_لكن.. لماذا العجب ؟!..الأم التي أجبرت ابنها الرجل على الزواج لن تفعلها مع البنت؟!

فتستدير ملاذ نحوها وقد تجسد مزيج من الشقاء والذنب على ملامحها ..
تحيط كتفيها بقبضتيها هامسة بالم :
_لا تكوني تعيسة مثلي.. أنا ندمت أشد الندم على ما فعلته بنفسي.. ركضت ركضاَ حتى أتزوج فيصل بكل الطرق.. ثم ماذا بعد؟!.. خسرت كل شيء.. إنه حتى لا يراني بطرف عينه.. ومع هذا لا يمكنني طلب الطلاق منه.. أنا ضيعت نفسي.. لكنني لا أريدك أن تضيعي مثلي.

_وماذا أفعل؟!

_اهربي..

تشهق حنان بجزع وهي تكتم شفتيها بقبضتها فتردف ملاذ :



_سافري لسراج.. تزوجيه هناك.. معك ما يكفي من النقود في حسابك بالبنك.. عيشا معاَ الحب الذي تستحقانه بعيداَ عن كل شيء..

_بماذا تخرفين ؟! أهرب؟! أجلب العار لأهلي؟!

تهمس بها حنان بالمزيد من الاستنكار فتهمس ملاذ مدافعة عن حجتها :

_أي عار؟!.. ألم يقبلوا هم أنفسهم عار فجر التي تزوجها فيصل بنفسه ودافع عنها أمام الجميع؟!.. ماذا ستفعلين انت زيادة عما فعلته هي منذ سنوات؟!.. لن يستطيع اتهامك بشيء هو نفسه قبله في زوجته!

_لا.. لا.. هذا جنون.. لا يمكنني فعل هذا أبداَ.. سأنتظر عودة فيصل و..

تقطع عبارتها بعجز..
لكن ملاذ تكملها لها :

_فيصل لن يمكنه الوقوف أمام خالتي بعد الان.. تعرفين طبعها.. ستبتزه بمرضها وضعفها.. كلاهما سيرفض أن تتزوجي من يراه الناس لصاَ.. وحتى لو لم تتزوجي ذاك الضابط صاحب فيصل سيجبرونك على غيره.. أو تبقين هكذا على أحسن الفروض دون زواج.. تراقبين عمرك وهو يضيع مثلي.

ترفع إليها حنان عينين دامعتين وهي تتخيل ما تحكي عنه..
لأول مرة تصيب ملاذ!
ترى ما لا تراه هي!!
لكنها لا تملك الشجاعة لفعل هذا الذي تقوله!!

_لا يمكنني فعلها.. لا أستطيع.

تتمتم بها رافضة فتنهض ملاذ من مكانها لتربت على كتفها قائلة :

_كما تريدين.. كل ما أملكه أن أدعو لك بمصير غير مصيري.

تتنهد بحرارة بعدها وهي تغادر الغرفة لتغلق بابها خلفها بينما تنكمش حنان على نفسها وهي تتكور فوق الفراش..
هل ستفعلها بها أمها حقاَ؟!
هل ستقبل هي هذا الوضع؟!
=======






العراق.. بغداد

_كيف حدث هذا؟!

يصرخ بها إلياس بغضب هادر وهو يدخل بيت الأمين يستقبله يحيى بنظراته القلقة الممتزجة بغضبه هو الآخر :
_للأسف.. طاقم الحراسة تكاسل عندما خرجت مع طيف للمشفى.. عدنا لنكتشف غياب الولد.

_تكاسل؟!.. تقول (تكاسل) يا يحيى؟!.. هل هذه كفاءة رجال نختارهم ليحموا ابننا؟!

لا يزال إلياس يصرخ بها بانفعال قبل أن يطلب استدعاء الحرس الذين يقسمون أنهم لم يروا أحداَ يقترب من باب البيت.

_من بكم الخائن؟! من سلّم الولد؟! من؟!

يعنفهم إلياس بقسوة هادرة غريبة على طبعه الحليم..
صفعاته الغاضبة تنال منهم واحداَ تلو الآخر قبل أن يتحرك يحيى ليمنعه مكبلاً ذراعيه بقوة هاتفاَ :

_اهدأ.. اهدأ.. ثورتك هذه لن تفيد أحداَ.. سنعرف كل شيء..اهدأ.. اهدأ وأطمئن.

_أهدأ وأطمئن ؟!.. أنت صرت أبا يا يحيى.. لو كنت مكاني هل كنت ستهدأ وتطمئن؟!

يهتف بها إلياس بعينين محمرتين من فرط غضبه وقلقه وهو يزيح ذراعي يحيى عنه ببعض العنف..

فيسبل يحيى جفنيه بحزن جارف لكنه يتمالك نفسه هاتفاَ بنبرة حاسمة :


_نحن نحتاج أن نهدأ كي نتدارك الأمر ونعيد الولد بأسرع الوقت دون أن يمسه أذى.

والعبارة الأخيرة تصيب أقسى مخاوف إلياس فينقبض قلبه بجزع.. ليسأل أخيراَ وكانه لم ينتبه إلا الآن :

_أين حواء ؟!



فتشير شجون الباكية برأسها نحو زاوية الصالون البعيد حيث جلست حواء رافعة ركبتيها تضمهما لصدرها..
نظراتها زائغة تبدو غائبة عن كل هذا الذي يحدث..
دموعها متجمدة على وجهها..
هل زادت كسرات شعرها أم انه يتوهم؟!
الجزع الذي كان يكسو صوتها عندما كانت تكلمه عبر الهاتف الآن يستحيل لصدمة شلت كيانها كله!

يتقدم نحوها راكضاَ ليجلس على ركبتيه أمامها..
يناديها مرة تلو مرة لكنها تبدو غائبة عن كل هذا تحدق عبر النافذة المطلة على مدخل البيت كأنها تنتظر ان يعود الولد في أي لحظة..

_مسكينة! منذ كلمتك عبر الهاتف وصرخت بصدمتها سقطت فاقدة الوعي وبعد أفاقتها ظلت هكذا لا تكلم أحداَ ولا ترد علينا.

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


تقولها شجون عبر المزيد من زخات دموعها.. فيمسك إلياس كتفي حواء يهزهما بقوة هاتفاَ :
_حواء!.. لا تستسلمي هكذا.. سنجده.. أعدك ان..

_ابتعد..

تدفعه بغتة صارخة قبل أن تنتفض من مكانها مردفة بانهيار :



_وعد آخر؟!.. وهل وفيت بما سبق؟!..كل وعودك معي أخلفتها.. لكن هذا بالذات.. لم يكن وعداَ.. كان حياة.. حياتي كلها يا إلياس!

تنخرط بعدها في بكاء حارق وهي تردد اسم ابنها مراراَ كأنها تناديه..
فتحتقن ملامح إلياس وهو يقف محاولاً تهدئتها..
لم يرها يوماَ في هذه الحال من قبل..


طالما بدت له قوية لا يكسرها شيء..
لكن.. هل يلومها ؟!
هو نفسه يشعر ان الأرض تميد به!

_انت ضيعت من يدي كل شيء.. كل شيء.

تهتف بها أخيراَ بصوت مبحوح وعيناها تغرسان سهام عتابها في عينيه.. صوتها اللائم يجلده مرة خلف مرة :

_كنت تعرف أننا في خطر.. ماذا فعلت؟!.. تركتنا خلفك لتتنعم مع عروسك!.. أتفهم أن يرتضي قلبك فعلها معي أنا وقد صرت مجرد صورة باهتة من الماضي.. لكن ابنك.. ابننا.. كيف ارتضى قلبك أن تتركه؟!.. عندما عدتُ إلى بغداد كان لي عندك رجاء واحد.. أن تحمينا.. ماذا فعلت أنت؟!.. وعدتني بالسماء ثم طرحتني على الأرض! تماماَ كما فعلت في الماضي!.. والآن تقول لي (أعدك!)..؟!!.. لم تعد لي حاجة في وعودك.. أنا سأبحث عن ابني بنفسي.. أفتديه بروحي لو لزم الأمر..

تتحرك وهي تهم بالخروج لكن إلياس يجذبها من ذراعها بعنف هاتفاَ :
_لن تذهبي لأي مكان.. لو كان أحدنا سيفتدي داوود بروحه فهو أنا.

_اتركني.. اتركني..

تهتف بها بعناد أقرب للانهيار وهي تحاول التفلت من بين ذراعيه.. لكن نظراتها تتجمد فجأة وهي تلمح تلك التي دخلت لتوها من باب البيت..
ناي!

كانت المرة الأولى التي ترى فيها كلتاهما الأخرى رؤيا العين بعيداَ عن تخيلات الصور..



ناي التي اتسعت عيناها بصدمة لأول وهلة وهي تسيء فهم وجودها بين ذراعي إلياس!
هل كان يعانقها؟!
هل كانت لتوها على صدره!

فاتنة حواء!
أجمل كثيراَ مما رأتها في الصور..
ربما لهذا لم تملك وخزة قاسية من غيرة خدشت قلبها في هذه اللحظة!


لماذا يبدو لها مشهدها مع إلياس أكثر منطقية وملاءمة من مشهدها هي معه؟!
هي الماضي.. الأصل.. أم ابنه..
ولعلها هي (ناي) النزوة العابرة!

حواء؟!
حواء لم تكن أفضل حالاً وهي تشعر بنفس الوخزة!
ها هي ذي ناي!
من خطفت منها حلمها!
من جاءت بعد كل هذه السنوات التي انتظرها فيها إلياس لتزيحها من مكانها في قلبه بخطوة واحدة!

جميلة..
لكن جمالها ليس شيئاَ أمام هذه الروح النقية التي تبزغ كالشمس في عينيها!
لكن.. ألم تكن هي نفسها نقية مثلها يوما قبل أن يدنسوها رغماَ عنها؟!
صورة ناي تتبدل في عينيها لترى فيها نفسها..
أيام كانت فقط شقيقة (أحلام).. تحتمي تحت مظلة مبادئها..
قبل أن تجد نفسها مضطرة ان تكون (ابنة أبيها)!
لماذا لم يدع لها الزمن رداء فطرتها؟!

لماذا تنجو ناي لتبقى ناصعة البياض بينما تجد هي نفسها كل مرة مجبورة أن تلطخ بسواد خطيئتها ؟!


ربما لهذا يمتزج حقدها عليها بإعجابها بها!
هكذا يجب أن تبقى ناي دوماَ..
بعيدة.. تراقب من مسافة كافية..
لكنها هي حواء من ستبقى الأقرب لإلياس..
تماماَ كما هما الآن!

ينتبه إلياس لنظرتها فيلتفت حيث وجهتها لتتسع عيناه باستنكار مع هتافه :

_ناي!.. ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟! ألم أطلب منكِ ألا تغادري البيت؟!

_جاءت تحوم حول جريمتها.

تهتف بها حواء بحدة وهي تندفع نحو ناي التي شحبت ملامحها.. بينما ترى حواء تهزها بقوة.. تعتصر ذراعيها صارخة بغضب وحشي:
_ماذا فعلتِ بابني ؟! أين أخذته؟!



تشهق ناي مصدومة وهي تهز رأسها بجهل بينما يندفع إلياس ليحول بينهما صارخاَ بحدة في حواء :
_ما الذي تقولينه؟!.. ما دخل ناي باختطاف داوود؟!

_ألم يخبرك يحيى؟!
تصرخ بها حواء باستنكار فيلتفت إلياس نحو يحيى الذي انعقد حاجباه بشدة وهو يطلق زفرة قصيرة..
قبل أن يشير بعينيه نحو الحاسوب القريب قائلاً بتوتر :
_راجعنا كاميرات المراقبة.. الخاطفون قاموا بتعطيل أغلبها ولا نعرف كيف تم هذا.. لكن آخر مشهد مرصود.. كان..

يقطع عبارته بالمزيد من التوتر وهو يرمق ناي بنظرة منفعلة..
فيركض إلياس نحو شاشة الحاسوب..
تتسع عيناه بصدمة وهو يعيد المشهد أمامه مرة تلو مرة..
فقد كانت ناي أمامه..
تقف خلف أسوار البيت في جانب خفي تمد ذراعيها نحو داوود.. تبدو وكأنها تناديه..
يتقدم الولد نحوها بحذر تفصلهما القضبان.. ليدور بينهما حديث قصير.. قبل أن يعود الولد للبيت وهو يتلفت خلفه كأنما التصقت عيناه بها!

_أين ذهبتِ بابني؟! أين أخذته؟! أم يكفكِ كل ما أخذته مني؟! ألم يكفكِ كل ما حرمتني منه؟!

تصرخ بها حواء وقد بدا وكأن رؤيتها للمشهد أثارت غضبها وخوفها من جديد..

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


ثم تعاود الالتفات نحو حواء هاتفة بحرارة صادقة :
_لماذا؟!.. لأنني كنت أريد التكلم مع داوود..
فتصرخ فيها حواء بثورة عاصفة :
_ماذا كنتِ تريدين من ابني؟!
_ألا يكون مثلي!


تصرخ بها ناي بنفس الانفعال الصادق فيشدد إلياس ضغطه على كفها كأنه يمنحها دعمه رغم غضبه وقلقه..
بينما تردف ناي :

_كان تصرفاَ أهوج مني.. كان يمكنني أن انتظر يوماَ أو بضعة أيام لكنني لم أستطع.. عندما رأيته شعرت بالذنب فجأة.. خفت أن يسمع كلام إلياس معك أو يدرك بأي طريقة أن زواجكما لن يتم.. خفت ان يسيء الفهم فيظن أن إلياس سيتركه او يتخلى عنه.. خفت أن يظنني حجر عثرة في طريقه.. لم أفكر لحظة وأنا أجدني أناديه كي اتحدث معه.. أطمئنه أنه لن يفقد أباه.. أنه لن يكون مثلي..

يرتعش صوتها في عبارتها الأخيرة فاضحاَ عقدتها الخفية فيطلق إلياس زفرة مشتعلة وهو يضمها إليه بذراعه..
لتردف بصوت منقطع من فرط تأثرها :
_عندما رأيته يلعب في الحديقة لم أستطع تمالك نفسي.. شعرت أنها هدية القدر لي كي ألتقي به دون أن أكلف نفسي مشقة التبرير.. أجل.. تكلمت معه قليلاً.. أخبرته بكل ما يجول في خاطري.. لم أتركه حتى شعرت أنه قد اطمأن وعاد لداخل البيت..

ثم تلتفت نحو إلياس :
_لم أره بعدها.. وفوجئت مثلك بالكارثة!

_تريدين مني تصديق هذا الهراء؟!

تصرخ بها حواء باستنكار فيهم إلياس بالرد وقد وشت لغة جسده بانفعاله لكن ناي ترفع ذقنها في كبرياء هاتفة :
_لا أريد منك شيئا.. لا أريد إلا أن يعود داوود لحضن أبيه وأمه.. أنا لا أبرر لكِ ولا لأي أحد.. انا لم أخطئ في شيء..



ثم تلتفت من جديد نحو إلياس وقد لانت نبرتها بقولها :
_فقط.. أعتذر لك لأنني أخفيت الأمر عنك.

_وأنت بالطبع ستصدق كلامها وتطلب مني الصبر حتى تعود لي بابني.. وتعرف من اختطفه!

تهتف بها حواء بحدة مستنكرة فيقول إلياس بصرامة لم تخل من حنان تفهمه لمشاعر أم خائفة :
_بالضبط.

تكاد حواء تشد شعرها غيظاَ فيردف :
_لن ينتهي اليوم حتي يكون الولد في حضنك ولو فتشت العراق كلها شبرا شبرا.

تهز حواء رأسها باستهجان قبل ان تركض نحو غرفتها تصفق بابها خلفها بعنف..



وفي الدور العلوي حيث وقف عاصي مع طيف على سور الدرج يراقبان المشهد من مكانيهما..
تلتفت نحوه طيف لتقول بتهكمها المعهود :

_استقبال مشرف لابني في أول يوم له هنا.. يا لحظي! عائلة لا تخلو من متعة المغامرة.. كان من المفترض ان اكون الآن في فراشي كأي نفساء أشرب (المُغات) و(الحلبة) وأقصى مشاكلي أن اللبن قليل وصراخ الرضيع لا ينومني!.. لكن كما ترى.. كوارث آل الأمين لا تنتهي! يبدو ان (فرقع لوز) ذاك محق.. بومة تزوجت قنفذ!

يبتسم لها عاصي بشرود فتردف وهي تهز كتفيها بينما تهدهد الصغير الغافي بين ذراعيها :
_ما رأيك فيما يحدث؟!

يصمت عاصي قليلاً قبل أن يقول بحسم :


_أخبريني أولاَ عن ملابسات قصة حواء هذه.

تخبره طيف باقتضاب عن حكايتها فيهز رأسه للحظات قبل أن تلتوي شفتاه بابتسامة ماكرة اشتاقتها :

_أظنني عرفت من خلف قصة الخطف هذه!


فتهز كتفيها قائلة بابتسامة تشبهها :
_أظنني أنا الأخرى عرفت.

تتسع ابتسامته الماكرة وهو يشير حيث اختفت حواء بقوله :

_الأم التي يختطف ابنها لا تستسلم في نقاش كهذا لتدخل وتغلق عليها غرفتها وكأنها طفل أخذوا منه لعبته!.. بل تقيم الدنيا وتقعدها.. تخرج ولا تعود إلا به.. هذه المرأة تعرف جيداَ أين ابنها.. تعرف وتطمئن عليه!

_بالضبط.
تقولها طيف بذكاء لا ينقصها.. قبل ان تسأله بما ظاهره فضول وباطنه رجاء :
_قلت لي من قبل ان لك أيادٍ خفية هنا.. هل يمكنك مساعدة إلياس في العثور على الولد؟!

فيرتفع حاجباه بمزيج نادر من حنان ومكر وهو يضمها إليه قائلاً باقتضابه المعهود :
_تسألين ؟!

تبتسم بارتياح ما عادت تنكره وهي تسند رأسها على صدره..
هو ذا عاصي الرفاعي!
رمز الأمان والقوة أينما حل.. وكيفما حل!
======






مصر.. الفيوم

في محطة القطار تجلس حنان على مقعد الانتظار وهي تسدل حجابها على وجهها تحاول التخفي قدر استطاعتها..
تدمع عيناها وهي تبسط كفها على حقيبة ملابسها جوارها تنتظر وصول القطار الذي سيحملها للقاهرة..
لحلمها!

اجل!
هي اتخذت قرارها!
ستهرب لسراج..
ستفاجئه بحضورها وتقنعه بزواجهما!
ملاذ كانت محقة..
لن تصبر حتى تجد نفسها في مصير يشبه مصيرها!

هل تعجلت القرار؟!
شخصية مثلها عاشت طوال عمرها في إطار تصفه بالجبن.. الاستسلام.. الخنوع..
من أين نبت لها جناح من تهور واندفاع وجرأة؟!

والجواب يفضحه هذا الألم في صدرها..
جبروت أمها هو ما أيقظ فيها كل هذا!
لو أنها فقط حاولت أن تقترب منها كما تفعل أي ام..
أن تتفهم مشاعرها.. أن تسألها حتى عما في قلبها..


لكنها اكتفت بالصراخ في وجهها أنها تعرف مصلحتها أكثر منها..
تعيرها دوماَ بما فعلته لأجلهما منذ الصغر هي وفيصل..
وكأن تربيتها لهما تبرر امتلاكها إياهما طوال العمر!!

معالي لا تراها ابنة.. بل عقاراَ استثمرت فيه وترجو المكسب!

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


بينما تبدو ناي مصدومة وهي تتراجع للخلف..
لسانها مربوط.. مختنق..
عيناها معلقتان بإلياس الذي يقترب منها بعينين محتقنتين..
صراع هائل يبدو على ملامحه بين (نسخته العاشقة) و (نسخته الغاضبة)..
صراع تترنح بين طياته كلماته :

_أنتِ كنتِ هنا اليوم؟!.. ألم تخبريني أنك لم تغادري بيت جدتك حتى اتيتِ للمشفى؟!

ترتجف شفتا ناي وهذه النظرة المذنبة تمطر في عينيها..
فيزداد انعقاد حاجبيه وهو يميز كيف لم يغفل عنها كذلك عندما رآها في المشفى..



_إلياس! هل أنت حقاَ بهذه السذاجة؟! أم تراه أعماك عشقك عن رؤية حقيقتها؟!

تهتف بها حواء ليلتفت نحوها إلياس صارخاَ بغضب وقد بدا فاقداَ تماماَ لسيطرته :
_لا تتجاوزي حدودك!

_انت تصرخ فيّ انا؟!!.. بينما ينبغي أن تكون ثورتك نحو هذه المرأة؟!.. ماذا كانت تفعل هنا خلسة مع ابني؟!.. اي حديث دار بينهما قبل ان تنفصل الكاميرات؟! ولماذا لم تخبرك بهذا؟!

لا تزال حواء تصرخ بجنون فتتدخل شجون محاولة الدفاع عن ناي مخاطبة حواء بقولها :

_اهدئي يا ابنتي.. لا تدعي غضبك يدفعك لظلمها.. شأن الخطف هذا معقد جداَ لا يمكن أن تفعله ناي وحدها.. هي كانت معنا في المشفى.. وبعدها ذهبت مع إلياس إلى البيت.

_وما أدراني أنها لم تخطف ابني ساعتها؟! أي خدعة رمتها في أذنه كي يخرج معها؟!

_وأين ستخفيه؟!.. في بيت جدتها أم في بيت إلياس؟!.. المسكينة ليس لها أحد!

لا تزال شجون تدافع عن ناي التي وقفت شاحبة الوجه متسعة العينين في ضعف غريب على عنفوانها المعهود..
تناظر عيني إلياس الذي ضم قبضتيه جواره وهو يحدجها بنظرات مشتعلة أقصاها غضب.. وأهونها عتاب!

لكن حواء تقطع تواصلهما البصري هذا وهي تلكز إلياس بسبابتها في صدره توجه كلامها له وللجميع..

_المسكينة ؟!.. بل انتم المساكين!!.. هل تظنون أنها فعلتها وحدها؟!.. لم يساعدها احد؟! ألا تتذكر لماذا تزوجتها وأي إشاعات بقيت تحوم حولها؟! ..

ثم تنظر لإلياس نافثة سمها في عينيه :
_ألم تكن هاربة منك؟! هل تعرف أين كانت مختفية طوال الفترة السابقة؟!.. مع من كانت؟! هل تثق بها حقاَ إلى حد تصديق فقط ما تلقيه لك من فتات؟! أم أن مروءتك كالعادة سبقت ذكاءك؟!



تكتم ناي شهقتها بكفها وهي تغمض عينيها بقوة..
لا تريد رؤية ما سيحدث!
لا تريد سماع ما سيقال!
رغماَ عنها تشعر أن الأرض تحتها تدور..
ليست الأرض.. بل هي..
هي تنقلب مرة تلو مرة.. تنكمش طفلة منزوية في سيارة مغلقة وفي يدها تلك التفاحة الملطخة بدم أمها!

تهرب!
فلتهرب!!
لا يمكنها احتمال هذا.. فلتهرب!!

تركض بضع خطوات نحو باب البيت..
واحدة..
اثنتان..
ثلاثة!
لكن..



_وما الذي يكفي تلك الطفلة الخائفة كي تشعر بالأمان فلا تهرب أبداَ؟! حبي لا يكفي؟!

_الكلام سهل.. الوعود قوية.. الحب رائع ويكفي لمنحي الأمان..كل هذا ممكن مادمنا معاَ وحدنا تحيطنا اربعة جدران.. لكن ماذا سيحدث عندما نغادر؟!..

_لا أعرف كيف حالي لديكِ.. لكنني أعرف نفسي.. أنا أحملكِ في قلبي أين ما رحلت.. ومع من التقيت..أربعة جدران لا تختلف كثيراَ عن عالم بأسره مادامت المسألة أنتِ!


تفتح عينيها أخيراَ وهي تتوقف مكانها تزامناَ مع صوته القوي الذي يصلها من خلف ظهرها وهو يخاطب حواء :



_لولا أنك أم ابني لقطعت لسانك عقاباً على تلميحك القذر! احمدي الله أني أقدر فقدانك لأعصابك مع وضعنا الحالي لكن إياكِ.. إياكِ ان تذكري ناي بسوء!

تنهمر دموع ناي بغزارة حتى تغرق وجهها..
تفتح كفها تبحث عن تفاحتها!
لا تراها!
أخيراَ لا تراها!!
لم تعد تلك الطفلة الخائفة داخلها!


فلتهدأ..
فلتطمئن!

وكأنها ذهبت بوجه وعادت بآخر!!

خطواتها تحملها من جديد إليه..
لا تزال نظراته تتراقص بين الغضب والعتاب.. لكنها أبداَ..
أبداَ.. لم تفقد الثقة!



وهاهو ذا يمد كفه.. يعتصر كف ناي في قبضته هاتفاَ بيقين :
_أنا أثق بزوجتي.. لا يهتز يقيني فيها ولو بقدر شعرة.. لابد أن لديها تفسيرا ما لما حدث.

فتأخذ ناي نفساَ عميقاَ وهي تشعر أن عنفوان قوتها قد عاد إليها..
لتواجه حواء محتقنة الوجه بكلماتها :


_أجل.. أنا جئت إلى هنا دون أن أخبر إلياس.. أتيت خلفه عندما تركني في بيت جدتي..

ثم تلتفت بعينيها نحو إلياس الذي ازداد احتقان وجهه ومع هذا تستجمع شجاعتها مردفة :

_لم أستطع أن أخبرك.. خشيت أن تسيئ فهمي.. أن تظن أنني أتبعك لأنني لا أثق فيك أو أنني أحشر قدمي في اي مسافة شاغرة بينكما.. خفت أن تحس أنني أريد التلصص على مواجهتكما معاَ.. لم أستطع أن أخبرك.. لكنني عجزت عن الانتظار وأنا أحترق بداخلي..وجدتني دون وعي أتبعك.. دون تفكير.. دون إرادة.. كل ما كان يملأني وقتها هو شعوري أنني يجب أن أكون قريبة منك.. ألا أتركك تبتعد.. لكنني عندما وجدتني أمام البيت استعدت بعض عقلي.. هل أدخل ؟! ماذا سأقول لك؟! ماذا سيكون دوري؟! تجمدت مكاني ساعتها.. هممت بالعودة لكنني رأيت داوود يلعب في الحديقة.. ساعتها لم أتمالك نفسي..تقدمت من الأسوار دون أن أدخل..

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


الشعاع الثاني والثلاثون
=======
مصر.. الفيوم

في غرفتها تجلس فجر شاردة وأناملها تقبض على هاتفها..
تبتسم دون أن تشعر وكلماته تطفو لذهنها مزينة بالورد..

_قبلتان لعينيك اللتان تدخران صورتي.. وقبلة لخدك الذي لا تلمع غمازته إلا بابتسامة تخصني.. وقبلة لكفك الذي لا يترك كفي..

تتعالى خفقاتها أكثر وهي تبسط كفها الحر على صدرها بينما يستمر قصف الذكرى الضاري..


_وألف قبلة لقلبك حتى يطمئن.. فيبوح.. ولا يتركني هكذا معلقاَ في انتظار كلماته!

تتسع ابتسامتها أكثر وهي تشعر بسخونة خديها فترفع أناملها تتحسس وجهها..
والمزيد من زخات الذكرى تمطرها بوابل صيب يغني قفر واديها..

_أي نعيم بقى في الدنيا بعدما توسدت قلبك؟!

تنهيدة حارة تفر من حلقها وهي تشعر بقلبها يكاد يقفز من بين ضلوعها..
تخاف الاعتراف أنها اشتاقت حنو لمساته!


لا يزال داخلها ركن مظلم يحذرها الاقتراب من دوامة ستجرفها للأسوأ..
لا يمكنها تصديق انها ستعيش معه حياة طبيعية..
لكنها تقاوم بكل ما استطاعت من قوة..
لأجله هو تفعل!

ترفع هاتفها تتحسسه لتضغط زر الاتصال به..
لا يزال الهاتف مغلقاَ!

للأسف استدعوه للعمل والسفر للصعيد صبيحة تلك الليلة الدافئة بينهما والتي انتهت نهاية بائسة بصراخ المجذوب أمام نافذة حنان
:
(صاحبي.. صاحبي.. أعيدوا لي صاحبي)

تتأوه بألم وهي تتذكر حال الجميع وقتها..

معالي التي فتحت نافذة غرفة ابنتها لتطرد المجذوب صارخة :
_لا تقترب من هنا ثانية وإلا جعلت ابني يرميك في السجن طوال عمرك.

حنان التي انهارت جالسة في زاوية الغرفة تضم ركبتيها المرفوعتين وتبكي..

حتى وصل فيصل ليهدئ الوضع قدر استطاعته عاجزاَ عن السيطرة على أمه التي كان أقصى خوفها أن يسمع الناس صراخ المجذوب فيطلقون الشائعات على ابنتها وذاك اللص سراج..

لكنه نجح أخيراَ أن يصرف المجذوب زكي بكلمات رفيقة وهو يعده أن يوصل رسالته لسراج..
قبل أن يعود للبيت ليجد أمه قد أغلقت عليها غرفتها رافضة التحدث مع الجميع..
حنان؟!
رفضت حتى أن تنظر إليه أو إلى أحد!
كأن روحها قد انسحبت منها برحيله!

هكذا حكت لها أساور بين شهقات بكائها قبل أن يتجمد الوضع كله باضطرار فيصل للسفر مع استدعائه المفاجئ لعملية ما تخص عمله..

يرن هاتفها في يدها فتشهق فجأة وهي تسمع التطبيق الخاص الذي أضافوه لهاتفها يعلن اسم المتصل..

_فيصل!
تهتف بها بلهفة وهي تفتح الاتصال مع رجفة تهز جسدها كله..
صوته المؤنس يصلها أخيراَ :
_يا روح فيصل.

تأخذ نفساَ عميقاَ كأنها تملأ روحها كلها من دفء حضوره..
قبل أن يتأرجح صوتها بين اشتياقها وعتابها :
_أسبوع بأكمله لم أسمع فيه صوتك.


_على عيني والله!.. لم أستطع فتح الهاتف إلا الآن.. اعذريني.. ظروف عملي قد تكون قاسية أحيانا.

لا يزال صوته رغم إرهاقه يحملها على جناحين من نور..
فتتنهد براحة تسأله :
_أنت بخير ؟!

_لولا أنكِ اوحشتني لقلت نعم.

تبتسم بعمق عاطفة تزداد رسوخاَ يوماَ بعد يوم لكنها لا تزال لا تجرؤ أن تصل بها لمنتهى الطريق..

_كلكم بخير؟!

صوته يحمل المزيد من القلق وينقلها لواقع عائلته البائس..
يتلجلج صوتها وهي تخشى ان تثقل عليه..

_لا تقلق.. كلنا بخير.. ننتظرك..

_حنان.. كيف حالها؟!.. رفضت الكلام معي قبل سفري.

تسكت دون رد.. فيردف بزفرة مشتعلة :
_لا تشقي على نفسك بالكذب لتطمئنيني.. أعرف كيف يمكن أن تكون حالتها.

لم تشأ ان تخبره أن حنان لم تغادر غرفتها منذ تلك الليلة..
حاولت هي التواصل معها لكنها بدت كسلحفاة احتمت بصدفتها وأبت ان تخرج!

_كنت ستسأل عن سراج.. عرفت عنه شيئاَ؟!

تسأله باهتمام ليتنهد بين ضيق وحيرة :

_جريمة السرقة مثبتة عليه بالفعل.. ليست السرقة فحسب بل والإدمان كذلك.. لكن.. بعد المعلومات الدقيقة التي عرفتها لا يمكنني رؤيته من نفس الزاوية أبداَ..

يزداد اهتمامها وهي تستمع لصوته يزداد تأثراَ :

_الرجل كان مضرب الأمثال في حسن الخلق قبل موت أبيه وهو لا يزال في مرحلته الجامعية .. عزيز قوم ذل كما يقولون.. بعدها نهب عمه إرثه وتبدلت الأحوال وتكفلت صحبة السوء بالباقي.. الجميع يقولون إنه عاد لرشده بعد خروجه من السجن خاصة بعدما توفيت أمه وهو محبوس تأثراَ بحاله.. وبعدها عاش مستقيماَ منزوياَ في الظل.

تمسح خيطين من الدموع سالا على وجنتيها وهي تسأله السؤال الذي طالما سألته لنفسها الف مرة :
_خطأ واحد..ذنب واحد.. جريمة واحدة.. هل ينبغي أن تكلفنا عمراَ بأكمله؟!


زفرته المشتعلة تزيد لهيبها وهي تسمعه يرد :
_من المبكر أن نحكم على شيء كهذا.. لكن.. جيد جداَ أنه رحل عن مدينتنا وبدأ لنفسه حياة في مكان آخر بعيداَ عن خيبات ماضيه.. لعله يجد الطريق الصحيح هذه المرة.

_وهي؟!
تسأله بقلق على حنان فيرد بحزمه الحنون :

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


_هي يجب أن تفهم أنني لا اقف ضدها.. أنا معها في نفس الضفة.. لو كانت حرباَ فأنا حليفها على ذات الجانب.. لكن الأمر يحتاج لصبر.. أنا الآخر أحتاج لوقت كي أختبر ذاك الرجل وأعرف عنه أكثر.. ولو كان هو اختيارها النهائي ولو كان حقاَ يستحقها فأنا أقف خلفها بكل ما أملك.

تبتسم بارتياح وحروفها تغافلها :
_كم أحبك.

تكتم شهقتها بعدها وهي تكتم شفتيها!
لم يكن ندماَ على ما تفوهت به ولكن.. دهشة!
قلبها حقاَ متواطئ عليها كما يزعم هو!
يخونها لينطق على شفتيها بما لا تتعمده!

صمت قصير يسودهما على الهاتف لا يقطعه إلا صوت أنفاسه الثائرة..
قبل ان يهمس أخيراَ بصوت متهدج..
ضحكته تمتزج بعاطفته :
_هل قلتِ ما سمعته حقاَ؟!

_لا.. أقصد.. نعم.. يعني.. ليس بالضبط..

وهل ألذ من ارتباك كهذا؟!

ضحكته القصيرة تبدو وكأنها تحلق عبر كل المسافات بينهما لتحمل قلبه إليها..

صوته يزداد ثباتاَ كأنه بمشاعرها فقط.. يجد وتداَ!

_كم أحب قلبك الخائن لكِ هذا! صار خارجاَ عن سيطرتك بالفعل! تعرفين؟! صرت أشفق عليكِ!

_فيصل!
تهمس بها بين استنكار وخجل فيهتف بانفعال مفاجئ :



_ماذا أفعل الآن؟!.. صرت اوقن أنني اتعس أهل الأرض!.. تظنين أن أمي غاضبة عليّ إلى هذا الحد؟! بالتأكيد!.. ما انا فيه ليس إلا دعوة أم غاضبة!

تهمهم بعدم فهم أول الأمر قبل ان يصلها استطراده بانفعال أكبر :




_وربما هو حظك أنتِ!.. لا أعرف كيف كانت لتكون ردة فعلي لو كنتِ أمامي الآن بعد اعترافك هذا! والله لم أكن ذرة هواء تفصل بين شفتي وشفتيك بعد اعترافهما العفوي هذا!

تشهق بخجل وهي ترفع كفها نحو شفتيها..
جسدها يرتجف برعدة خوف تعرفها.. تألفها.. تتوجع بها منذ سنوات ملت من عدها..
لكنها الآن صارت تمتزج بشعور لذيذ لا تنكره..
كيف تعترف أنها الآن..
ربما..
ربما..
ربما لا تمانع لو يمارس تهديده!
يالله!
حتى تهديده العابث يمنحها شعوراَ بالأمن.. بالونس.. بالراحة!

تسمعه يهمس باسمها بصوت ذبحه اشتياقه..
فلا تقوى على أكثر من همهمة..
ليردف وصوته يرفعها على ارجوحة وردية :

_قولي أنك تبتسمين الآن! غمازتك تتسيد خدك كأروع ما يكون.. حُمرته يتنازعها عشق وخجل وليس أي شيء آخر.. قولي أن خدك المزدحم.. الذي طالما بدا لي مزدحماَ.. الآن يبدو شاغراَ إلا من قُبلتي..وصلتكِ رغم البعد.. وصلتك أخيراَ!


تمسح دمعة تأثر فرت من طرف عينها وهي عاجزة عن النطق..
كل ذرة فيها تريد الاستسلام لشعورها الآمن نحوه..
لكن..
لا يزال هذا الحاجز غير المرئي بينهما يخبرها أن الطريق لم ينته بعد!
ربما بدأت في التعافي لكن..
الجرح لا يزال مفتوحا.. أي وخزة قد تفتح نزيفه من جديد!


_غيرت رأيي.. لا تقولي شيئاَ.. سأصبر حتى أعود وسيتكفل قلبك خائنك بأن يبوح لي بكل شيء.

مرحه يمتزج بتفهمه في مزيج نادر فتبتسم وهي تسأله عن موعد عودته.. ليرد :
_دعيها مفاجأة.. لكن.. لن أتأخر.. هل أطلب منكِ شيئاَ؟!

_طبعاَ.
_حنان.. أنا أعتبرك مكاني عندك.. سأتصل بها لكنني أعرف انها قد لا ترد.. حاولي أن تكوني قريبة منها.. أنا أعرف أن سحرك ينفذ لكل الأرواح.. ستصلين لقلبها دون شك.

يقولها باعتزاز واثق ينقل يقينه إليها فتمنحه وعدها.. قبل أن يصلها صوته العاشق :

_أريد ان أطيل الكلام لعل قلبك خائنك يسرب المزيد من اعترافاته.. لكنني لن أحتمل المزيد مع هذا البعد.. سأكتفي بغنيمة اليوم حتى ألقاكِ وأضمك بين ذراعي.. ساعتها سيكون لي مع قلبك حديث طويل.. ومع شفتيك حديث أطول.

تغلق الاتصال على ابتسامة واسعة شعت في ملامحها..
تبسط راحتها على صدرها لعلها تهدئ خفقات قلبها الذي بدا وكأنه حقاَ يتواطأ معه ضدها!

قبل أن تتذكر وعدها له فتتحرك لتغادر الغرفة التي صارت تحفظ محتوياتها..
تنادي ميسرة كي تذهب معها لحنان..
لعلها تفتح لها الباب الذي تغلقه في وجوه الجميع!
=========








مصر.. الفيوم

في غرفتها تجلس حنان دامعة العينين أمام نافذة غرفتها التي بدت لها كسجن..
بل كقبر!
قبر لم يعد يضم رفاتها وحدها.. بل رفاته هو الآخر!
تعلم كم كان يحب مدينتهما هنا!
طوال تلك السنوات ورغم كل ما كان يطاله من الأذى كان يصر على البقاء..
لم تكن تعرف السبب قديماَ.. لكنها الآن تفعل!
هي!
هي كانت سببه الوحيد في البقاء!
قلبها لم يكن مخطئاَ في ظنه بشأنه..
لم يكن مبالغاَ في انتظاره طوال ذلك الوقت!

تبتسم لذكريات متفرقة صارت كل زادها في بُعده..
ذكريات لهما منذ كانا جارين في العهد القديم..

نظراته العميقة لها..
ابتسامته التي لا تتسع إلا لأجلها..
ضحكته التي يرن صوتها رنيناَ خاصاَ فقط عندما تمر وكأنه يريد جذب انتباهها..

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


أمام مرآتها تقف شيماء تصفف شعرها تنتظر حضور الضيف!
الضيف؟!!
وهل ظل ضيفاَ؟!
دموع الغيظ تتكدس في عينيها وهي تتجاهل أدوات زينتها المعهودة..
ترفع شعرها كله فوق رأسها لتلفه في عقصة قاتمة كهم ثقيل تحمله..
هم يشبه الزائر المنتظر..
سيد القاضي!

ترمق جسدها البدين بنظرة بائسة قبل ان تتحرك لتختار ثوباَ ترتديه..
في العادة تتعمد اختيار موديلات بعينها تداري بدانتها..
لكنها هذه المرة لا تهتم!
بل تعاند لتختار ثوباَ شاحب اللون بلون القمح بقصة صدر منفوشة تضيف المزيد من الحجم الذي لا ينقصها..

ينسدل حتى ركبتيها فيظهر ساقيها الممتلئتين..
تقترب من المرآة تتفحص شكلها..
في العادة تسدل شعرها على رقبتها وكتفيها وتتعمد ارتداء ثياب بصدر مقفول كي تداري ندبة عنقها..
لكنها اليوم لا تهتم!
فليرها قبيحة!
فليرها أقبح امرأة في الدنيا!
لا تريد هذه الزيجة أبداَ..!

هاتفها يرن فتشهق شهقة خافتة وهي تتناوله لتميز اسم المتصل الذي سجلته باسم أنثوي كي لا يعرف أحد هويته..
تفتح باب غرفتها تتأكد أن لا أحد قريب..
ثم تعاود إغلاقه لتفتح الاتصال هامسة بلهفة :
_وليد.. كيف حالك؟!
_تسألين حقاَ عن حالي؟!.. كيف تتوقعين حالي وأنتِ تتهيئين لمقابلة ذاك الرجل؟!

صوته الحانق والمختنق بغيرته يخز قلبها فتتنهد هامسة :
_تعرف أن كل هذا يحدث رغماَ عني.. كنت قد ظننت ان أبي قد فقد أمله في زواجي من كثرة ما يفر الخاطبون مني.
_من ذا الذي يفر منكِ؟!.. ليتهم يرونك بعيوني!

همسه الذي لا يزال حانقاَ يمتزج بعاطفته ويصنع هذا المزيج الساحر الذي يعصف بقلبها..

تريد تصديق هذا الفيض من حبه رغم أنها في داخلها تعرف قدر نفسها..
هي تعرف ان بضاعتها في سوق الزواج راكدة..
بدانتها.. مرضها.. تربيتها مع إخوتها الذكور جعلت طبيعتها عنيفة كثيراَ..
بل إن صوتها في أذنيها تكاد تسمعه رجولياَ!
ميزتها الوحيدة في مال أبيها ونفوذه!
حقاَ.. يفر منها الخاطبون..
إن لم يكن زهداَ فيها.. فلأن موهبتها الوحيدة - لو كانت لديها موهبة - هي (تطفيشهم)!

وحده وليد يشعرها بقيمتها!
لكن (الحلو ما يكملش) كما يقولون!

تعود الدموع تتكدس في عينيها وهي تهمس محاولة مراضاته :


_لا تقلق.. سأبذل جهدي كل مرة كي يخرج ولا يرجع كمن سبقوه.
_لا أظن هذه المرة ستكون كسابقاتها.. أبوكِ يريد الزواج كما تعلمين في بيتكم.. وزوجته المنتظرة لا تريد ما ينغص عليها سعادتها ويشاركها في بيتها..

تدمع عيناها بقهر وهي تشعر بكلماته تضغط على وترها الحساس..
أبوها العزيز يزعم أنه يريد الاطمئنان عليها بسرعة بينما هي في الحقيقة مجرد حجر عثرة يقف في طريق زيجته الجديدة..
ربما كان هذا ما يجعله متحمساَ بمبالغة لزواجها من سيد..
ليس هذا فحسب بل..
يكمل لها وليد أفكارها :

_ كما أن عرض سيد القاضي للزواج منك جاءه في فترته الحرجة لأن أباكِ يطمع ان يعتمد عليه كثيراَ في كسب حملته الانتخابية في الصعيد.. عائلة القاضي هناك كبيرة جداَ تكاد تكون هي المسيطرة على الأصوات.. كما أنه معجب بشخصيته وطموحه وبينهما الكثير من الأصدقاء المشتركين في عالم الأعمال.. سيد القاضي هذا ليس سهلاً.. يعرف من أين تؤكل الكتف!

_فليأكلها ولتقف في حلقه بعيداَ عني!.. لو كان فيه خير لما ترك زوجته وأولاده!


_أبوك يقول إن المرأة هي التي أخطأت في حقه.. أصابها بعض الجنون بعدما فقدت طفلها.
_وبدلاً من ان يقف جوار زوجته.. يأتيني أنا كي أبتلى به؟!

تهمس بها باستنكار فيهتف بالمزيد من الحنق :

_شيما!.. تتحدثين وكأنني راضٍ عن كل هذا!!.. تعرفين كم أغار عليكِ!.. كم أريد الآن لو أختطفك وأهرب بك من كل هذا! أو حتى أدفن سيد ذاك في أعمق أرض فلا يعرف عنه أحد شيئاَ!.. لكنني مقيد مثلك! أبوكِ لو عرف ما بيننا فلن يرضى بأقل من رصاصة في منتصف رأسي!.. انا في عينيه رجل الأعمال القذرة الذي يخلصه من مشاكله كي يبقى هو في الجانب النظيف.. مجرم تحت الطلب!

ينقبض قلبها ككل مرة يتحدث عن هذا الجانب فيه..
والذي تحاول هي تجاهله!
لم تسأله أبداَ عن تفاصيل عمله مع أبيها..
لا تريد أن تتشوه الصورة في عينيها أكثر!
فليبق هو وليد.. وليد فحسب..
الوحيد الذي عشقها بجنون وأشعرها حقاَ بأنوثتها!

لهذا تطلق زفرة مشتعلة وهي تهمس له بحسم :
_لا تقلق.. سأبذل كل وسعي كي يهرب كمن سبقوه.. لن أكون إلا لك.

_أنتظركِ في الشقة الليلة؟!
يسألها وقد بدا بعض الارتياح في نبرته فتقول بتردد :
_ربما لن يمكنني الليلة.. لا أعرف متى سينصرف ذاك اللزج سيد.

تسمع زفرة سخطه تزامناَ مع صوت الخادمة تطرق الباب فتهمس بخفوت :
_يبدو انه وصل.. لا تحزن.. سأفعل كل ما بوسعي حتى نلتقي الليلة.

تغلق الاتصال بعدها مجبورة..
تتمالك نفسها بشهيق طويل قبل ان تفتح الباب لتخبرها الخادمة عن قدوم سيد بينما ترمقها بنظرة متعجبة من منظرها الغريب المفترض كعروس..
لكن شيما تتجاهلها وهي تتحرك بخطوات متحفزة نحو الطابق السفلي حيث يجلس سيد ينتظر حضورها مع أبيها..

رواية على خد الفجر

07 Dec, 21:30


سهرها خلف نافذة غرفتها تراقبه خلسة وهو يذاكر تدعو له بالنجاح..
حرقة قلبها عندما مات أبوه..
القهر الذي ذبحها عندما علمت بظلم عمه له..
نظراته التي عادت تهرب منها بعدها..
انهيارها الصامت الذي ما شهده أحد عندما دخل السجن..
لوعتها عندما ماتت أمه!
كم مرة فكرت في زيارته في السجن وقتها .. لكن جبنها - قبل خجلها - منعها!

كل هذا كان قبل أن تتأكد أنه حقاَ يحبها!
فكيف بها الآن وقد اعترف لها أنه كان شريكها في الحلم طوال تلك السنوات؟!!

هاهو ذا قد رحل آخذاً معه شطر عمرها.. وقلبها كله!

تتأوه بخفوت وهي تتمنى فقط لو يعود المجذوب زكي فيؤنسها..
يسليها كما يسلي الناس بصوته..
يحمل لها رائحة البعيد الغائب الذي ما بقي منه إلا هذا!
لكن حتى هذا صارت محرومة منه..
أمها أخافته آخر مرة.. لكن فيصل طمأنه!
فيصل!
هو الآخر تركها في محنتها!
رغم أن حبه لفجر كان وردتها المزهرة في حقل الصبار الذي رعى قصتها..
لكنه خذلها كالجميع!
تعرف أنه لن يظلمها كأمها.. لكن..

تنقطع أفكارها وهي تسمع رنين هاتفها باسمه لكنها لا تجرأ على الرد..
ماذا سيقول ؟!
كل الكلام الآن سيبدو سخيفاَ مكرراَ كعزاء بارد على قبر ميت!

لهذا تزيح هاتفها بعيداَ وهي تعاود التحديق عبر النافذة..

تسمع صوت طرقات هادئة على الباب يتلوها دخول فجر مع أساور التي تسألها عن حالها..
ينساب لسانها بجواب التصق به.. لم تسمعه ولم تدركه..
لا يهم.. لم يعد هناك ما يهم!

تغادر أساور وهي تدعو لها بالخير تساعد فجر على الوقوف جوار حنان ثم تتركهما معاَ..
فتمد فجر اناملها تضعها على كتفها بقولها :
_لن أسألك كيف حالك.. فأنا أعرف كيف تشعرين.
_لا تعرفين شيئاَ.. لا أحد يعرف.. أنتِ كنتِ أكثر حظاَ برجل دافع عنك امام الجميع.. لكنني لا أملك إلا الصمت والاستسلام.


_من قال هذا؟! أنتِ تملكين الكثير.. لكن ينبغي أن تحكمي عقلك مع قلبك.. تتأكدين حقاَ أنه اختيارك الصحيح.. سفره في هذا التوقيت ربما هو فرصتك لتقيمي مشاعرك.. هل تريدين حقاَ ان تكملي عمرك معه رغم كل تعقيدات حياته؟! هو الآخر يحتاج أن يبتعد عن مكان لم يحمل له سوى الذنب و الخيبة والخذلان.. يزرع نفسه في أرض جديدة تليق ببداية جديدة.. يراجع مشاعره نحوك ويختبر مدى عزمه على ان يكون جديراَ بك.. أنا لا أرى سفره نهاية الأمر.. بل بدايته.

تقولها فجر بسحر كلماتها الخاص الذي يمزج حنانها بتعقلها لكن حنان لا تسمع من كل هذا إلا صوت قلبها هي الباكي ينعي رحيله..

لهذا تهز رأسها باستسلام وكل ما تريده أن ترحل فجر الآن..
أن يتركوها وشأنها فلا أحد يشعر بما تكابده!

_لماذا لا تردين على فيصل؟!
تسألها فجر مشفقة فترد حنان باقتضاب بائس :
_سأفعل.

_أشعر أنك تريدين البقاء وحدك.. لن أثقل عليكِ.. لكن.. لو أردت الفضفضة فأنا جوارك.. في أي وقت.

تعاود حنان هز رأسها بنفس الاستسلام ثم تتحرك لتساعد فجر في مغادرة الغرفة لتستقبلهما أساور التي تخاطب حنان بقولها :
_لا تجلسي وحدك يا ابنتي.. ما رأيك لو نذهب إلى السوق؟!

تهم حنان بالرفض لكن خاطراَ ما يلمع في ذهنها ويجعلها تتراجع..
تزدرد ريقها بارتباك وهي تسأل :
_وهل توافق أمي؟!

_أنا أخذت منها الإذن.. سنخرج ثلاثتنا معاَ.. نشتري أغراض البيت.. خالتي تقول إنها لم تعد تريد أن تخرج للسوق.

تقولها ملاذ بصوتها المنكسر وهي تطرق برأسها تتقدم نحوهن..
فترمقها حنان بنظرة مشفقة وهي تشعر أنها لأول مرة لا تراها بنفس الغباء والاندفاع..
ربما هي الوجه الآخر منها..
عاشقة تريد أن تجد لسفينة قلبها مرسى!

ملاذ تغيرت كثيراَ في الأيام الأخيرة..
صارت تحبس نفسها في غرفتها مثلها وكأنها تؤنب نفسها على حماقاتها..

والآن تشكر لها أنها جعلت معالي تسمح لهن بالخروج..
هي وسيلتها الأخيرة لتحقيق غايتها!

وفي خلال ساعة واحدة كانت ثلاثتهن في السوق يشترين الأغراض..
بينما كانت حنان تبحث بعينيها عن زكي..
ليس هنا أيضاَ!
لكن..
غايتها هناك في محل الدجاج الذي كان يعمل فيه سراج!

تتعلق عيناها به وهي تخاطب أساور بقولها :
_نحتاج لشراء الدجاج.

ترمقها أساور بنظرة مشفقة لكنها لا تعترض وهي تخطو معهما نحو المحل..

صاحبة المحل ترمقهما بنظرة عدائية منطقية بعد شجار معالي الأخير معها..
لكنها تنهض من مكانها ترحب بهن بفتور امتزج باحترام حقيقي لأساور التي تحركت معها نحو زاوية المحل حيث عشش الدجاج لتختار معها ما تريده تتبعهما ملاذ..

هنا تستغل حنان فرصة ازحام المحل نسبيا لتنخرط في مغامرة غير محسوبة لكنها صارت وسيلتها الأخيرة كي تعرف رقمه وتتواصل معه..

تتسلل أناملها بحذر والعرق يتصبب من جبينها تفتح هاتف المرأة الموضوع على الطاولة..
تراقب الوضع حولها بتوتر قبل ان تنحني برأسها بسرعة لتبحث عن رقم سراج..
كي ترسله لنفسها لكن..!

تشعر بتلك اليد على كتفها فتشهق بذعر وهي ترفع عينيها نحو صاحبتهما.. !
=======











مصر.. القاهرة

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


_اسمعي ما لم أستطع قوله.. طوال تلك السنوات.. أنا أحبك.. أحبك يا أمينة.. منذ وعيت على هذه الدنيا.. وقد رأتكِ عيني أجمل ما فيها.. وأهم ما فيها.. كل ما فيها..

صرخة خافتة تشق شفتيها وهي تنحني نحوه تهم بأن تكتم شفتيه كي لا يتسرب المزيد من هذيانه!
عقلها يصرخ مهدداَ ماذا لو سمعه أحد؟!
وقلبها يبدو كسجين يتلصص بين القضبان يبحث عن المزيد من أصداء الصوت التي تصله من الخارج.. ثورة تنادي بحرية!!
أي حرية؟!
جنون!!
ما يحدث الآن جنون!!

دموعها تغرق وجهها وعيناها تغافلانها بنظرة طويلة لوجهه..
لا نظرة أخت لأخ..
بل نظرة امرأة لرجل!
تتفرس ملامحه كأنها تراه لأول مرة..
هو ذا فاروق!

الصبي الذي وعت عيناها عليه منذ كانت طفلة تشاركه الأكل أحيانا في نفس الطبق..
تكبر فتركض ويركض خلفها في طرقات الحي..
تكبر أكثر فيعلمها قيادة الدراجة.. يعلمها كيف تحسن خطها في واجبات المدرسة.. كيف تتجرأ فتضرب من يتعرض لها من بقية الصبيان بمعاكسة في الطريق!
تكبر أكثر فأكثر فيصير الرجل الذي يسير خلفها..
والذي توقن دوماَ انه هناك.. خلف ظهرها تماماَ..
لا تحتاج إلا لالتفاتة كي تراه!
وفي كل هذا بقي شيء واحد مشترك.. هو دوماَ رمز الأمان الذي يفرضه حضوره!

واحد؟!
لا.. صارا اثنين!!
اعترافه الأخير يجعلهما اثنين!
ليس (الأمان) فقط.. بل.. و(الحب)!

_أحبك يا أمينة.. أحبك..

هاهو ذا الباب الموصد قد انخلع!!
هاهي ذي الريح تزأر خلفه!!


_اسكت.. اسكت..

تتمتم بها بين شهقات دموعها وهي تكور كفيها حول شفتيها..
لكن البائس لا يزال يهذي :

_أقسمت أن.. أن أطرز ثوب زفافك بيدي.. لا أعرف هل سيطول العمر.. هل سيطول العمر حتى أشهد ذاك اليوم.. لكن ما معنى العمر.. لو لم أنتظرك؟!..

قلبها يخزها حتى تشعر أن نبضاتها صارت أشبه بطعنات النصال وهي تتذكر الثوب الذي رأته قد بدأ بتطريزه في المحل!
كان لها!!
لها هي!!

تزوغ عيناها بنظرة شاردة وهي تضبط نفسها متلبسة بتخيلها لنفسها وهي ترتدي الثوب!!
ويزيدها هذيانه جنوناَ..!

_أنتِ لبستِه!!.. كم يليق بكِ!.. جميلة.. جميلة يا أمينة.. أجمل عروس رأتها عيني.. أما قلبي.. فلم ير.. لم ير سواكِ عروسا.

تترنح مكانها فتتشبث بالحائط القريب وهي تشعر بالأرض تميد بها..
بينما يخفت هذيانه رويداَ رويداَ..

_اقتربي.. ما عادت لي طاقة على احتمال بُعدك.. تعالي.. تعالي.. تعالي..

يسكت بعدها.. لكن قلبها هي لا يسكت!!

يشتم.. يثور.. يستنكر.. يصرخ..
وأخيراَ..
يهدأ!
يهدأ باكيا بصمت خلف نفس القضبان..
لكن..
هل سكنت حقاَ كل تلك الأصوات التي تنادي بثورة وحرية..


_وجدته!
صوت زوجة عمها ينتزعها من شرودها فتنتفض مكانها وهي ترمق المرأة بوجهها الباكي الذي تناطحت فيه انفعالاته..

والتي تخطئ المرأة تأويلها وهي ترفع الدواء أمامها هاتفة تطمئنها :
_لا تخافي هكذا.. سأعطيه الدواء وسيكون بخير.

ترمقها أمينة بنظرة زائغة قبل أن تتحرك بخطوات شبه راكضة هاربة من الغرفة تتعلل بأنها ستتصل بالطبيب لأجله..
تشعر بارتباك عاصف وكأن الجميع مثلها سيرون الباب الموصد وقد انخلع مكانه فلن يغلقه بعد الآن أحد!
=======










العراق.. بغداد

يصلان لبيتهما أخيراَ بعد يوم شاق ولم يكد يغلق الباب خلفهما حتى تبادره بقولها وهي تناظر بفضول ما جلبه معه من سيارته و يخبئه الآن خلف ظهره :
_ما هذا؟!

_الأجوبة ليست مجانية هذه الليلة يا سيدتي!
يقولها بنسخته شديدة التهذيب التي تثير غيظها فتهتف بدلال :
_حتى الابتزاز عندك بشرائط فضية!

يضحك هذه الضحكة التي تذهب بعقلها..
فتتنهد بهيام وهي تقبل صدره.. فوق قلبه تماما تستقر شفتاها بهمسها الذي يمزج شقاوتها بعاطفتها :
_لنعتبر هذه رشوة لقلبك!.. عساه يعترف أولاَ.. هل نسيني طوال اليوم؟!

لكنه يثبت رأسها مكانه على صدره هامساَ بجدية :
_والله الذي رزقني حبك دون ميعاد.. لم تغادري قلبي ولا عقلي للحظة واحدة.. لم أعد أطمئن إلا وانتِ هكذا.. على صدري.

تقبل صدره من جديد ثم ترفع عينين ضاحكتين إليه بقولها :
_إذن أعتبر رشوتي قد قبلت؟!.. ستريني ما تخفيه؟!

يبتسم وهو يمنحها ما بيده لتفض غلافه المفضض..
تتسع عيناها وهي تميزه..
شفتاها ترتجفان بتأثر وهي تتمتم :
_صورتك القديمة!.. هل.. هل استعدتها من حواء؟!

يومئ برأسه وهو يرى عينيها تدمعان بينما تضم الصورة لصدرها تهتف بشرود :
_كيف أصف لك شعوري بهذه الصورة بالذات؟!.. قبل زواجنا.. عندما رأيتها لأول مرة وسط محتويات صندوقها في بيت الخال كرم.. شعرت وكأنها مست داخلي شيئاَ لا أفهمه.. لكنه كان طاغيا بما يكفي ليجعلني آخذها.. أخبئها..لعلها عرفت سري قبل الجميع.. حتى قبلي انا.. سر عشقي لك.. كنت أنام وأنا أحتضنها.. وأبدأ صباحي بمعانقتها مع الأقحوان.. كنت أشكو لها غيرتي لأن امرأة غيري سبقتني إليها.. كانت هذه وستبقى أكبر غصة في قلبي.. أنني كنت بعيدة عنك طوال تلك السنوات.. أنني ركبت العربة الأخيرة في قطارك..

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


وعندما أخبرتني أن حواء استعادتها شعرت أنها أخذت قطعة من قلبي.. هل تتصور الآن فرحتي بها؟!

كانت ملامحه تتلون بتأثره مع كل كلمة تنطقها..
والآن يحتضن وجنتيها براحتيه هامساَ بحرارة :


_ ربما لم أكن اعرف كل هذا.. لكنني فقط شعرت أنني أريدها أن تكون معك انتِ.. صورتي القديمة.. وصورتي الجديدة.. أنتِ الأحق بكل الصور.. انتِ لستِ راكبة العربة الأخيرة في القطار.. بل أنتِ وجهته.. مقصده.. أولى محطاته وآخرها.. ولو تكسرت تحته كل القضبان.. سيعرف كيف يصل إليكِ!



تسبل جفنيها بعمق تأثرها وهي تمرغ وجهها في صدره للحظات..
قبل أن تسأله بحذر :
_هل يمكنني أن أسأل.. كيف انتهت مواجهتك معها؟!

يهز رأسه بشارة مطمئنة مقتضبة فتتوهج ملامحها بالفضول للمزيد لكن رنين هاتفه يقاطعها..

ينقبض قلبها وهي تميز اسم المتصلة معه..
فقد كانت.. حواء!

ينعقد حاجباه بقلق وهو يفتح الاتصال بسرعة.. فيكاد يصم أذنيه صوت صرخاتها :
_إلياس.. أدركني.. داوود.. داوود.. خطفوا داوود!
=======
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


تقولها مجد دامعة العينين وهي تستخرج من جيبها جوربا صغيراَ.. لتهتف بحنان :
_قدماه صغيرتان جداَ.. دعنا نلبسه هذا.. كي لا يشعر بالبرد.. لتكن اول هداياه من اخته.

يعانقها يحيى بقوة قبل أن يستجيب لطلبها فتلتفت نحو طيف.. تندفع نحوها بكرسيها تسألها بلهفة :
_أنتِ بخير ؟!.. كنتِ تتألمين كثيراَ!

ورغم ألمها الحديث تجاهد طيف كي تقترب منها..
تضمها إليها بحنان جارف يناقض خشونة نبرتها الفطرية :
_دوماَ سأكون بخير لأجلك.. لأجلكما.

يتراجع إلياس مكانه وهو يرمق الجميع بنظرة راضية..
لكنه يعود لينظر في ساعته بقلق..
تأخرت ناي!

عندما اتصل بها يخبرها انه سيلغي اجتماعه ليلحق بيحيى في المشفى قالت له انها عرفت الخبر وأنها في طريقها بالفعل إلى هنا!

يبتسم أخيراَ بارتياح وهو يراها تظهر عند الباب أخيراَ..
ترتخي ملامحه وهو يراقبها تتقدم لتحيي الجميع.. تبارك لطيف.. وتقبل الرضيع..



عيناها تبحثان عنه قبل أن تركض خطواتها إليه..
ليستقر كفها في كفه..

_لماذا تأخرتِ ؟!

يسألها بقلق لتبتسم قائلة :
_كان الطريق مزدحماَ.

ينعقد حاجباه وهو يميز هذه النظرة المذنبة الغامضة في عينيها..
تماماَ كما يميز مرحها المصطنع بعدها وهي تنخرط مع طيف وشجون في حديث طويل عما جرى في غيابها..
لكنه يتجاهل هذا مؤقتاَ وهو يشعر بفرحة قدوم الرضيع في هذا الوقت بالذات كأنها هدية أخرى لقلبه..
========







مصر.. القاهرة

_دعه يسترح هنا.. أنا جهزت له الغرفة!

تقولها زوجة عمها بحفاوة مخاطبة زوجها الذي يسند فاروق بعد عودته من المشفى لبيت عمها.. فتتفحصه أمينة ببصرها وشعورها المستحدث به يرجها رجاَ..
يمزج الأمان بالخوف في خلطة مدهشة لا تليق إلا بوضع غريب كالذي تعيشه معه!

لا تزال مشوشة تتهم نفسها بالخرق لو صدقت ما يوحي به قلبها أن فاروق يحبها!
ما الذي يؤكد لها هذا؟!

كل ما فعله وما يفعله يمكن أن يستتر تحت مظلة حنان رجل يحفظ معروف أبيها ويراها هي أخته!
ليته حقاَ يكون كذلك!
ليته لا يضيف المزيد من التشتت لحياتها الفوضوية!

_انت ستبقى معنا هنا الليلة؟!

يصفق بها معاذ الصغير بفرحة وهو يتعلق بذراع فاروق السليم بعد استلقاء الأخير على الفراش.. لترد ليان بنفس الفرحة التي امتزجت بحنانها الطفولي:
_نعم.. هو دورنا أن نعتني به كما كان هو دوماَ يعتني بنا!

يربت فاروق على شعريهما بعاطفته المعهودة وهو يرفع عينيه نحو عم أمينة قائلاً بحرج :
_أنا استجبت لرغبتك في البقاء هنا بعد خروجي من المشفى.. لكن.. لتكن هذه الليلة فقط.
_ماذا تقول يا ابني؟!
تهتف بها زوجة العم باستنكار وهي تقترب منه مردفة :
_لو كنت غريباَ لما كفيناك حقك بعدما فعلته لأجل أمينة.. فما بالك وأنت أقرب من القريب؟!!.. كيف كنا سنتركك تبيت وحدك بعد خروجك من المشفى؟!

ثم تتنهد بحرقة مردفة :

_لو كانت الأمور تجري بطبيعتها لكنت خرجت على بيت الحاج خضر.. أم أمينة تكاد تجن من قلقها عليك بعدما علمت بما حدث.. لكنها لا تستطيع عصيان زوجها والمجيء إليك.. كم كررت رجاءها لي أن تبقى أنت معنا حتى تسترد عافيتك مادامت هي عاجزة عن أن تفعلها.. وكأنني أحتاج لتوصية!

_على عيني ورأسي يا (ام تغريد).. لكنني سأتدبر أمري في بيتي.. العم متولي سيكون معي.. كما أنني اعتدت العيش وحدي منذ زمن طويل.

يقولها فاروق بتعفف فيهتف العم باعتراض مشفق:
_ليس وأنت في هذا الحال.. ذراعك كسيرة.. والحادث تسبب في الكثير من الكدمات والرضوض..

تشعر أمينة بوخزة في قلبها وهي ترفع بصرها نحوه من جديد لتجده قد أطرق براسه مع جوابه بحمية لا يدعيها :
_لا بأس.. المهم أن (الست أمينة) بخير.

قلبها يهتز مع عبارته وهي تتذكر يوم قال لها (ستبقين بعيني ست النساء)
ألهذا صارت تتحسس من عبارة (الست أمينة)؟!
أم لأنها بمنتهى الواقعية تذكرها بالحاجز الضخم الذي يقف بينهما؟
أم لأنها بمنتهى السخرية تذكرها بحالها الجديد معه بعدما تخلى الجميع عنها لتصير تعمل عنده؟!
أم لأنها تذكرها بمقارنة بسيطة بين شعوره هو نحوها وشعور سيد؟!
أم لأنها بمقارنة أبسط تذكرها بشعورها هي الجديد نحوه ونحو طليقها؟!
بين الفخر والازدراء.. بين السكينة والخوف.. بين الأنس والتوجس؟!
تباَ لكل هذه الفوضى داخلها التي تكاد تصيبها بالجنون!

ليته يقول (أمينة)!
أمينة فحسب!
لعلها حينها ترتاح من كل هذه الفوضى!


تهرب من كل هذا بانسحابها نحو المطبخ فيلحق بها صغيراها..

_(روقة) البطل! أنقذك مرة أخرى!

تهتف بها ليان بفخر متحمس فتتنهد أمينة وهي تتذكر يوم تركها سيد فاقدة الوعي مع الصغيرين ليركض خلف فجر.. بينما هرع إليها فاروق ليحملها للمشفى!


سخونة طفيفة تحوم حول خديها وهي تشعر لتوها بالخجل!
هل حملها فاروق بين ذراعيه؟!
لماذا بدا لها الأمر ساعتها عادياَ لا يستحق التوقف عنده..
بينما تشعر الآن وكأن ذاكرتها تأبى أن تتجاوزه؟!

_هو دوماَ ينقذك.. بل إنه أعاد لك قلبك المفقود.

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


تقولها صغيرتها عفوياَ وهي تشير لسلسلة عنق أمينة فتجد أمينة نفسها تنهر الصغيرة بعنف غريب على طبيعتها :

_كفى!..اسكتي.. ما قلة الأدب هذه؟؟... لا تتدخلي بشئون الكبار!

تدمع عينا ليان بصدمة وهي تتراجع للخلف خطوة فتنخرط أمينة في البكاء فجأة وهي تنحني لتجذبها بين ذراعيها هاتفة بين دموعها :
_أنا آسفة.. لا تبكي.

_اذهبي لمعاذ يا ليان.. يناديكِ للعب.

تقولها تغريد التي كانت تراقب المشهد من البداية لتهتف ليان بتردد وهي تشعر بغرابة أمها :
_نذهب عند (روقة).

_بل اتركاه يستريح.. ماما ستعد له الطعام وبعدها ينام.
تقولها تغريد بابتسامة حنون فتغادر الصغيرة لتغلق تغريد الباب خلفها..
ثم تقترب من أمينة التي تمسح بقايا دموعها بينما يبقى جسدها على ارتجافته..
تحتضن كتفيها بكفيها لتسألها بعينين متفحصتين :
_ماذا بكِ ؟!

تهز أمينة رأسها بمعنى (لا شيء) لكن تغريد تضغط أكثر :


_إنها المرة الأولى التي أراك فيها تصرخين في وجه ابنتك هكذا!.. ما الذي ضايقك في ما قالته؟!.. ما الغريب فيه؟!

_ما الغريب؟! البنت تقول ببساطة فاروق أعاد لك قلبك المفقود!.. ماذا لو سمعها أحدهم؟! ماذا سيفهم ؟!

_بل.. ماذا تفهمين أنتِ؟!


تسأل تغريد بحذر يشوبه بعض المكر والإشفاق وهي ترى نظرات أمينة تتخبط بنبرتها التي تخفت حد الهمس:
_ماذا تقصدين؟!
لكن تغريد تلقيها واضحة مباشرة :
_فاروق يحبك!


تشهق أمينة وهي تجد نفسها تكمم فم تغريد التي تبتعد بابتسامة مردفة :
_لا حب الإخوة الذي نعرفه.. بل حب رجل لامرأة يتمناها من كل قلبه.

_اسكتي.. اسكتي..

لا تزال أمينة تحاول تكميم فمها والذعر يسكن ملامحها بهمسها المنفعل لكن تغريد لا تبالي وهي تقول بحسم :



_إلى متى سأسكت؟!.. ظننتكِ ستفهمين! ستدركين! سترحمين صبر هذا الرجل الذي يبدو وكأنه لا يرى من الدنيا كلها غيرك طوال هذه السنوات!

_ما هذا الكلام المختل؟!.. هو فقط يراني أخته.. يحفظ جميل أبي فيّ!

همسها المتحشرج يرتعش.. يتذبذب.. يفضح هذه الفوضى التي لا تزال هائجة في أعماقها..
بينما تمعن تغريد في طرقها للباب الموصد داخلها هي كأنها - وإن لم تفتحه- فستزعزع قفله الموصد في مكانه..

_لهذا بقي دون زواج حتى الآن؟!.. لهذا لا يشغل حياته الخالية منذ سنوات إلا أنتِ وعائلتك حتى قبل طلاقك ؟!.. هو من كان يذهب بليان للدروس.. هو من كان يصلح بينك وبين سيد.. هو أول من يركض إليكما لو وقعتما في مشكلة.. والآن هو من يقف ضد الجميع لأجلك أنت! وآخرها.. يضحي بنفسه ليقف أمام السيارة كي لا تصابي بأذى.. لو لم يكن هذا عشقاَ فماذا يكون؟!

تقولها تغريد بانفعال.. ومع كل عبارة كانت أمينة تهز رأسها نفياَ..
تتشبث بالوقوف خلف (الباب الموصد) داخلها..
تحميه من أن يُفتح!
يا ويلها لو انفتح!!
وبكل هذا الخوف داخلها يتلجلج همسها المستنكر :
_هأنتذا قلتها!.. لو كان يحبني كما تقولين لابتعد بعد زواجي.. لترك كل شيء خلفه وغادر ناقماَ على كل شيء.. لكنه بقي.. بقي..

_لأن فاروق ليس سيد يا أمينة!

تقولها تغريد بيقين وهي تربت على كتفها مردفة :



_لأن حبه ليس أنانياَ.. لأنه صنف نادر من الرجال لا يعرف إلا الإخلاص.. وأنا واثقة أنه حتى لو لم يطلقك سيد كان سيبقى على نفس الطريق.. يكتفي بأن يراكِ سعيدة من بعيد حتى لو لم تكوني له.

تتكدس الدموع في عيني أمينة من جديد والطرق يزداد فوق (الباب الموصد) لتجد نفسها تهتف بحدة قبل أن تهرب من المكان كله :
_مستحيل!.. أنا أخته.. أخته..
فتردد تغريد خلفها بحسم :
_لن تستطيعي تصديق هذا بعد الآن.. لن تستطيعي.
=======








مصر.. القاهرة

على فراشها تتقلب أمينة وهي تشعر بالأرق يهزمها شر هزيمة!
كأنما حياتها الطويلة تمر أمام عينيها شريطاَ سينمائياَ يعرض بسرعة فلا يتباطأ إلا عند مواقفها معه..
هو.. فاروق!

تريد البحث عن أي ثغرة تنفي بها كلام تغريد!
هو يحبها.. نعم.. لكن.. كأخته!!

كل الذكريات تتكدس.. تتقلص.. تتكثف.. لتتركز أخيراَ في مشهد وحيد..

مشهده ليلة زفافها على سيد وهو يأتيها محتقن الملامح.. أحمر العينين.. التعب المشوب بحزن يحفر أخاديده على وجهه..
لكنها كانت تفسر كل هذا بأنه فقط متعب من أثر مساعدة أبويها في تجهيزات الزفاف..
عيناه لا تنظران إليها.. تدوران حولها يميناَ ويساراَ في هروب بدا لها ساعتها غريباَ..
لكنها كانت تفسر كل هذا بحيائه المعهود..
لكن ما لم تستطع تفسيره هو ذاك الوعد الذي منحته لها كلماته.. بصوت بدا لها عميقاَ.. شديد العمق.. كأنه ينزف معه روحه..

_مبروك.. لم أستطع أن أحضر لكِ هدية تليق بكِ.. لكن.. لتكن هذه هديتي.. أن أعدكِ أن أكون لكِ ظهراَ وسنداَ إلى متى طال عمري.. دينٌ في رقبتي لا يحله إلا الموت.

تدمع عيناها بألم وهي تسترجع تلك النظرة في عينيه بعدها..
نظرة سجين يصرخ خلف قضبان غير مرئية ولا أمل له أن يطلقوا سراحه..

_لا.. لا.. أنا أتوهم.. عقلي يخدعني..

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


تهمس بها بصوت مسموع لعلها تهزم كل تلك الأصوات داخلها..
تخبط رأسها عدة مرات في الوسادة خلفها لكنها تخشى أن يستيقظ الصغيران النائمان جوارها فتطلق زفرة ساخطة وهي تتجاوزهما برفق لتغادر الفراش بل والغرفة كلها..

فلتذهب للشرفة.. للمطبخ.. لأي جحيم لا تطاردها فيه أفكارها المهلكة!!

ترفع حجابها على رأسها وهي تتوجه نحو المطبخ..
فلتعد بعض المخبوزات للصغيرين..
معجنات بالجبن لليان.. وبالبلح لمعاذ.. وبالقرفة والسمسم لفاروق!!

_فاروق!! مرة أخرى فاروق!!!

تهمس بها بسخط وهي تعدل عن فكرة المطبخ كلها..
تهرب للشرفة فتشعر بلسعة البرد تمنحها بعض الانتعاش..
أفكارها تجذبها لبعيد..
وجنتاها تحمران بشدة عندما تشعر بالبرد..
ليان ومعاذ ورثا منها هذا الطبع.. لا يحتملان البرد أبداَ..
فاروق لا يشعر بالبرد بسهولة.. يمكنه ارتداء قميص منتصف الكمين في عز الشتاء دون شكوى..

أمها كانت تعنفه كثيراَ لأجل هذا لكنه لم يكن يكترث لهذا.. بل كان يبتسم وهو يعطيها هي سترته كي تشعر بالمزيد من الدفء.. فتضحك وهي تشم في سترته رائحة الدفء.. تلك الرائحة التي بقيت تسكن أنفها مرادفة دوماَ لحضوره..

_اوف! اوف.. ماذا دهاكِ يا أمينة؟!.. كل أفكارك صارت تقود نحوه هو!!

تغادر الشرفة بخطوات سريعة وانعقاد حاجبيها يفضح غضباَ غير مفهوماَ!!
هل شعر أنها تهرب منه بعد الحادث؟!
لم تكلمه طوال اليوم..
لم تطمئن عليه إلا من زوجة عمها!
حبست نفسها في غرفتها مدعية التعب!!
لكنه بقي حولها..
في إطراء عمها وكلامه عنه..
في حديث زوجته التي ظلت تسألها عما يفضله من أطعمة كي تحضرها له..
والغريب أنها أدركت أنها تعرف عنه أكثر مما كانت تظن!!

_طبيعي!!.. إنه أخي.. أخي!!

تكاد تشعر شعرها انفعالاَ وهي تتجاوز الرواق الصغير الذي يحوي الغرفة التي ينام فيها شبه راكضة كأنها تخشى مجرد مرورها من أمامها..

لكن عينيها تصطدمان بالباب المفتوح الذي يندفع منه تيار شديد البرودة بصورة غريبة عن المألوف..!!
هل نسوا نافذة غرفته مفتوحة؟!
لا.. الأمر يبدو أكبر من هذا!!

تتردد قليلاً وهي تقترب من الغرفة بحذر لتشهق بضيق وهي تميز ريموت مكيف الهواء الملقى على الأرض..

_فعلتها مرة أخرى يا معاذ!!.. سامحك الله!!

تقولها وهي تدرك فعلة الصغير الذي يجد متعته مؤخراَ في اللعب بريموت المكيف!


لابد أنه فعلها بعد نوم الجميع ظناَ منه أنه بالعكس يدفئ الغرفة!!

تتناول الريموت بسرعة وهي تقف على باب الغرفة بخجل تتحاشى النظر لفاروق النائم..
تغلق المكيف بسرعة ثم تهم بالخروج لكن..

_أمينة..

تتجمد مكانها وهي تسمع نداءه باسمها لأول مرة دون ألقاب..!
هل تتوهم؟!

لكنه يكررها ثلاثاَ بنبرة خافتة فكأنها ثلاث سهام تنفذ نحو قلبها!!
ثلاث طرقات على (الباب الموصد) لا تكفي لفتحه لكنها ترجه مكانه!!

هل كانت تتمنى لو تسمعها منه كي تهدأ الفوضى داخلها!


عبيطة!
أي هدوء هذا؟!
أي هدوء؟!

_امينة..

بنفس النبرة الخافتة جدا.. ومع هذا تبدو لها شديدة الدوي كانفجار لغم في حضن جبل..!!


يكررها فتجبر نفسها على الالتفات لتكتم شهقة لوعتها وهي تتبين من حاله أنه يهذي في نومه!
ليس هذا فحسب!!
بل.. إنه يبدو محموماَ وجهه شديد الاحتقان وجسده يرتعد مكانه..

تهم بالاقتراب منه بقلق.. لكن الخوف والخجل يهزمان قلقها مؤقتاَ فتهرب من الغرفة نحو غرفة عمها تطرق بابها بأنامل مرتعشة لتخرج زوجة عمها فتشرح لها الوضع بسرعة..

تحوقل المرأة وهي تندفع معها نحو فاروق من جديد..
تتقدم المرأة لتتحسس جبينه فتشهق وهي تميز ارتفاع درجة حرارته حد الخطر.. تهتف بارتياع :
_يا قلبي يا ابني!

تدمع عينا أمينة بقلق يمتزج بشعور جارف داخلها وهي تراه لا يزال يهذي باسمها هي..

_أمينة.. أمينة..

_تسمعين ؟!.. يقول (أمينة)!!.. المسكين يبدو وكأنه لا يزال قلقاَ عليكِ بعد الحادث.. سأحضر له دواء خافضاَ للحرارة وكمادات ماء.. لو لم تنخفض الحرارة فسأوقظ عمك كي يطلب الطبيب.

تتركها المرأة وحدها فيرتجف جسدها وهي تشعر بأنها ممزقة بين شعورين..


أولهما أن تهرب من هنا.. لا تريد سماعه وهو يهمس باسمها بهذه الطريقة.. لا تريد المزيد من الطرقات على الباب الموصد..


لكن الآخر كان أقوى.. وهي تشعر بمزيج من خوفها وقلقها عليه..
لم تختبر هذا من قبل أبداَ!
كان هو دوماَ في (خانة المعطي) لا (الآخذ)!


رجل الظل الذي لا يظهر إلا عندما تحتاجه هي فيمنحها كل ما يستطيع قبل أن يختفي من جديد!!

_أمينة.. ابقي معي.. أخيراَ أمسكتِ يدي.. لا تتركيها.. .لا تتركي يدي.. أعرف أن كفي جاف لا يليق بنعومة كفك.. لكنه الكف الذي عاش صاحبه لا يتمنى إلا أنتِ.. اسمعيني..



تكتم شهقتها وهي ترفع كفيها أمام وجهها كأنها تريد التأكد أنه يهذي!

يحمر وجهها حتى تشعر أن سخونته تفوق سخونة ذاك الذي يرتعد جسده الآن أمامها على فراشه..
ولا تزال كلماته تطرق الباب الموصد..
تزلزله..
تكاد تخلعه من مكانه..

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


_لم أكذب عليك في شيء.. لم أخدعك في شيء.. لا في الماضي ولا الآن.. ما حدث في الماضي لم يكن ذنبي.. يشهد ربي أنني بقيت أتعذب بك طوال تلك السنوات.. أغلقت قلبي عليكِ ورفضت أن تدخله واحدة غيرك.. حتى عندما تزوجت ناي فعلتها لأنني كنت أرى فيها صورتك.. لكن القلوب لا سلطان لنا عليها.. منذ عودتك وأنا أعيش صراعي داخلي.. قلبي كان يخرج منكِ رويداَ رويداَ ليدخل عالماَ آخر.. سامحيني لو بدا كلامي قاسيا جارحاَ لكنني لن أعود لدوامة التردد هذه من جديد.. أنا.. أنا أحب ناي.. ولن أتزوج سواها.

تغمض عينيها بألم..
رغم كل شيء تهنئ قلبها على ذكاء حدسه!!
هاهو ذا كل شيء يتضح أمام عينيها!!
تتفسر الصورة المموهة!!
هو لم يعد نفس الفارس القديم..
تماما كما لم تعد هي عروس البرج العالي التي تنتظر من ينقذها من الأسر!
كيف ظنت أن الزمان قد يتوقف لمجرد رغبتها في ذلك؟!

_ومع هذا لن أتخلى عنكِ ولا عن ابني.. أقدم روحي فداءكما لو لزم الأمر!

يقولها مطمئنا وهو يميز الخوف الممتزج بالألم على ملامحها..
فتفتح عينيها ببطء تغمغم بسخرية مرة :
_لهذا تحبسنا هنا؟!.. حراسك لم يسمحوا لي بالخروج!

ينعقد حاجباه وهو يعيد ذراعيه جواره بقوله الصارم :

_ليس حبساَ يا حواء.. أنا أحميكِ من نفسك.. لن أخاطر بلحظة غضب منك تضعنا في كارثة.. أين كنتِ ستذهبين بالولد ؟!.. هه ؟!!.. ألم تتعرضي لتوك لإطلاق نار؟!.. ألم تفكري أن الأمر قد يتكرر وداوود معك هذه المرة؟!!.. أنا لا أقيد حريتك.. أنا أحميكِ وأحمي ابني.

تنهمر دموعها بصمت وهي تنكس رأسها بعجز أثار شفقته..
ليردف بنبرة لانت قليلاً وإن حافظ صوته على صرامته :


_أعرف أنك خسرت الكثير.. لكنني سأكون جوارك حتى تبني حياتك من جديد.. خذي مني كل ما تريدين حتى ترضي.. لكِ مني كل شيء.. إلا قلبي.

تعطيه ظهرها وهي تمسح دموعها بأنامل مرتعشة..
صوتها يستعيد بعض قوته :
_يبدو انه ليس لي خيار آخر.



_أنا أثق أنك ستبنين نفسك من جديد.. ستجدين طريقك الصحيح كما وجدت أنا طريقي.
يقولها داعماَ فتقول دون أن تنظر إليه :

_سأفعل.. لا تقلق.. أنت تعرف أنني لا أنهزم.. قديماَ كنت تحب هذه الصفة فيّ.

_أعرف.. لهذا أثق بك وأرجو ان تثقي بي أنت الأخرى.

تنظر إليه أخيراَ وهي تشعر أنها تقف أمام واحد لا تعرفه!
لا هو إلياس القديم بنبله وشهامته..
ولا هو إلياس الذي عاشت سنوات مع مقداد تكره غدره..
ولا هو إلياس الذي عادت لتجده ينتظرها..
ولا هو إلياس الذي اختار أن يكمل طريقه مع غيره!
مزيج من هذا كله!!
مزيج خطر يستنفر كل غضبها.. كل حزنها..
كل رغبتها فيه..
وكل نفورها منه!!

لكنها لا تكذب عندما تطلقها من فمها :
_أنا أثق بك.

يتنهد بارتياح وهو يهز لها رأسه راضياَ أن تنتهي مناقشتهما عند هذا الحد..
يتطلع للصندوق فيرى النيران قد انطفأت وقد صار ما فيها رماداَ يشبه قصتهما..

_تأذنين لي أن أستعيدها؟!

عبارته مزدوجة المعنى تلهب صدرها وهي تراه يتناول صورته القديمة فتهز رأسها ببطء يعني الإيجاب..

تلين ملامحه وهو يوصيها بالصغير :
_داوود قلق بشأنك.. اعتني بنفسك وبه.. ولا تخافي بشأن أي شيء.

تنكس رأسها المهزوم فيرمقها بنظرة مشفقة.. وهو يدعوها للخروج من الغرفة..

_لا تبقي وحدك هنا.. هذه الغرفة ضيقة ليس فيها إلا رماد.. اخرجي بنفسك نحو السعة.

ترفع عينيها إليه وعبارته (مزدوجة المعنى) تحمل لها رسالة أخرى..

يغادر الغرفة قبلها فتتبعه لتلقي نظرة أخيرة على الصندوق الذي احتضن رفات قصتهما رمادا..
قبل أن تغلق الباب خلفها بقوة شاعرة أنها تغلق في قلبها بابا يشبهه!
======







العراق.. بغداد

_ابني!

تتمتم بها طيف عبر صوتها المنهك وهي تحمل الرضيع على صدرها!
رغم صعوبة حالتها رفضت تماماَ أن يعطوها مخدراَ كليا..
كانت تريد أن تكون واعية وهي تتابع رحلة خروجه للحياة من أولها..
صرخته وهو يستقبل العالم كانت توازي ضحكة عالية لم تطلقها روحها من قبل بهذا الصفاء!

يضمها يحيى إليه بإشفاق وهو يقبل رأسها :
_حمداَ لله على سلامتك.. قلبي كاد يتوقف خوفاَ عليكِ! كانت ولادة صعبة!

_وماذا في حياتي كان سهلاَ.!

تقولها بمرارة ساخرة وهي تستعيد شريط حياتها كاملاً أمام ناظريها..
منذ كانت طفلة صغيرة تشقى مع أمها في العمل في البيوت..
ومروراَ بكل ما عاشته..
حتى قصة حبها وزواجها كانت مختلفة!
القدر كان يضع لها دوماَ أصعب الاختيارات..
لكن كرم الله لا يزال يحيطها في النهاية!

_كسبتِ الرهان!

يقولها مشاكساَ وهو يتذكر كيف تراهنا أول الحمل..
هو كان يريد أختاَ لمجد.. بينما كانت هي تريد ولداَ!

تبتسم ابتسامة خاصة جداَ غادرت شفتيها مع تنهيدة وهي تضم الرضيع لصدرها بقوة حانية كأنما تحميه من الدنيا كلها..

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


_لن يشقى مثلي.. لن ينتقصه أحد.. ولن يعيره أحد..ستكون له عائلة تحبه.. يقول (أبي) دون خوف.. ويقول (أمي) دون حزن.. ويرفع رأسه دون أن يخشى أن تناله الصفعات.. سأكون سنده ويكون سندي.. يتكئ على كتفي وأتكئ على قلبه.

تبكي دون أن تشعر مع كل كلمة تقولها فيشدد ضمته الحانية لها مدركاَ ما تعانيه..
خاصة وهي تهتف فجأة بين شهقات دموعها بينما تنظر للرضيع الغافي :
_صار عندي عائلة.. اكتملت عائلتي يا يحيى..

قبلته تزين جبينها وهو يهز رأسه هامساَ أمام عينيها بحب :
_وستكبر عائلتنا يوماَ بعد يوم.. من تليق بها الأمومة سواكِ؟!

تتنهد بعمق وهي تنحني لتقبل وجنة الصغير برهبة كأنها تخاف أن تؤذيه..
قبل أن تغلبها طبيعتها الساخرة الفظة فتهتف :
_ما باله ضئيلاً هكذا! كل هذا العناء من أجل اثنين ونصف من الكيلوجرامات! هذا (الجحش) كان يجعلني آكل كفرس النهر طوال فترة الحمل والآن يأتي بهذا الحجم المخزي! هكذا هم الرجال دوماَ.. (كالقطط تأكل وتنكر)!

فيقهقه ضاحكاَ قبل ان يهتف باستنكار :
_هل ستمارسين هوايتك ك(عدوة الرجل) على ابنك كذلك؟!

تهز كتفيها بضحكة رائقة وهي تعاود ضم الولد لصدرها.. فيسألها وهو يداعب وجنة الصغير الناعمة :
_ماذا سنسميه ؟!

_لازلت أفكر!

تقولها باقتضاب لكنه يداعب شعرها مشاكساَ بقوله الماكر :
_تفكرين أم تنتظرين من يختار اسمه؟!.. . لا تقلقي.. أنا اتصلت به ولا أظنه سيتأخر في الحضور!

ترمقه بنظرة ممتنة وهي تراه كعهده يقرأ بواطنها كعهده..
لم تخبر أحداَ..
لكنها حقاَ تنتظر حضور عاصي..!

تريد رؤيته وهو يحمل ابنها..
تريد أن ترى هذه النظرة في عينيه وهو يضمها مع صغيرها..
تريده هو ان يختار اسمه..
لعل كل هذا يعوض شعورها القديم بالحرمان!

الطرقات القوية على باب الغرفة تشبه صاحبها..
فتتسع عيناها باشتياق عارم وهي تراه يطل أخيراَ بهيبته المعهودة :

_عاصي!

دموعها تغرق وجنتيها دون تحكم وهي ترى عجلته في الحضور..
اندفاعه الرصين نحوها وملامحه التي تمزج قلقه بلهفته..
لهفة نادرة الحضور على وجه رجل مثله..


_أنتِ بخير ؟!.. أتيت بأسرع ما استطعت.

ابتسامتها تملأ وجهها.. وقلبها!
ترفع ذراعيها بالرضيع إليه وهي تومئ برأسها..
فيتنهد براحة وهو يتناوله منها برفق..
يضم كليهما إليه في عناق واحد!

يغمض عينيه على فيض شعوره..
يتذكر تلك اللحظة الفارقة عندما كان فاقداَ لبصره.. وضم ولديه التوأم لصدره..
مشاعره تبدو صاخبة على وجهه رغم صمته المهيب الذي طغا على هالة حضوره..

_طيف تنتظرك كي تختار اسم الصغير!

يقولها يحيى مرحباَ وهو يعتبرها هدية أخرى لها!
في موضع آخر كان سيشعر بالغيرة التملكية..
لكنه يدرك خصوصية علاقة طيف بأخيها..

_من قال هذا؟!.. أنا قلت فقط أنني لا أزال أفكر!

تهتف بها طيف بمكابرة عنيدة تناسب طبعها..
فيبتسم عاصي برصانة وعيناه تقرآن خبيئة روحها ببساطة..
بينما تهتف هي بتهكمها الساخر :

_مجنونة أنا كي أتركه يختار اسماَ لابني!.. واحد يسمي أبناءه (ضياء ونور وشمس).. أسلم له ابني أنا كي يسميه (نجم أو مصباح أو شمعة او ربما لمبة نيون)؟!!

يضحك يحيى ببعض الحرج بينما تتسع ابتسامة عاصي المهيبة..
يعيد لها الصغير برفق وهو يتناول هاتفه قائلاً بتهديد ماكر :
_ضياء ونور وشمس مع ماسة ينتظرون مكالمة مرئية كي يطمئنوا عليكِ وعلى الصغير.. هل أخبرهم برأيك في اسمائهم!.. بالذات ضياء.. هل تحتملين النتائج لو عرف؟!

تضحك ضحكة صافية وهي تحك مؤخرة رأسها قائلة :
_إلا ضياء! عقلة الإصبع هذا! لو عرف فلن ينساها.. قلبه أسود ولسانه أطول من برج إيفل!

_غريب! ممن ورث هذا يا ترى؟!
يتمتم بها يحيي مشاكساَ فتضحك وهي ترى عاصي قد بدأ المكالمة المرئية بالفعل..
تتوهج ملامحها بالفرحة وهي ترى ماسة بلهفتها القلقة تهنئها على المولود الجديد..
وحولها أولادها..
تضم الرضيع إليها بفرحة غامرة وهي تنثر تحياتها العاطفية على ثلاثتهم..
فيسألها ضياء..
_لماذا هو صغير هكذا؟!
_كلهم يكونون كذلك.. ألا تذكر شمس؟!
تهتف بها نور بذكاء بينما تكتفي شمس الصغيرة بقبلة طائرة في الهواء ترسلها لهم..

_ما هو اسمه؟!
يسأل ضياء من جديد.. فتلتفت طيف نحو عاصي كأنها تناشده الجواب بصمت..



ليقول بنبرته الرصينة التي تسربت عبرها خيوط عاطفته :
_فخر.

ينبض قلب طيف بقوة بينما يبتسم يحيى باستحسان وهو يسمع عاصي يردف باعتزاز :
_نسميه (فخر).. يليق به الاسم.. وبكما.

تمسح طيف دمعة طفرت من عينيها وهي تدرك أن عاصي الأريب كعهده يدرك مواطن ضعفها!
اختار لها الاسم الذي عاشت عمرها كلها تسعى إليه!
وكأنه يخبرها دون كلمات أنه هو..
هو الرجل الذي رفض لسنوات أن يمنحها حقها في اسم أبيها كي لا يدنسه العار..
هو نفسه من يسمي ابنها (فخر)!
كعهده عاصي الرفاعي.. يدرك جيداَ موطن الجرح وشفاءه!

_فخر يحيى الأمين!.. أحببته كثيراَ!
يقولها يحيى ببطء كأنه يستطعم الاسم فتبتسم طيف وهي تشيح بوجهها في إشارة صامتة للرضا..

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


يغلق عاصي الاتصال ثم يقترب منها أكثر ليضمها إليه بحنان..
(غابات الزيتون) في عينيه تتألق بوهج خاص مع قوله وهو يتفرس في ملامحها :
_كوني دوماَ سعيدة هكذا.. يا (أم فخر).

_مبروك يا (سيدة عنكبوت)!.. سمعنا أنك قمتِ بالواجب وفضحتِ الجميع!

هتاف نزار الساخر يضيف المرح للجو وهو يدخل من الباب مع حسناء التي تهتف بطيبتها المعهودة وهي تندفع نحو طيف :
_أنتِ بخير ؟!.. أردت المشاركة معهم في العملية أو حتى التواجد لكنهم لم يسمحوا لي.

_مبروك يا صاحبي!
يهتف بها نزار بعاطفة حقيقية وهو يقترب معانقاَ يحيى الذي يهتف به بسعادة :
_العقبى لك!
_قريباَ جداَ بإذن الله.. ويكون توأم.. حسناء لها تاريخ عائلي في موضوع التوائم هذا!

تختلس حسناء نظرة مغتاظة نحوهما وهي تتعمد تجاهل العبارة.. بينما يغمزها نزار بخفة.. قبل ان يتقدم ليصافح
عاصي قائلاً بمرح :
_بعد (حمداَ لله على سلامتك) طبعاَ.. اريد ان اعترف.. حضورك يربكني دوماَ يا سيد عاصي!.. وجود واحد مثلي مع واحد مثلك في مكان واحد يجعل المشهد عبثياَ.. أشعر دوماَ وأنا أمامك أنني محاصر.. أي كلمة قد تعرضني لإطلاق نار.. وأنا بصراحة (هلاس) وجو الهيبة هذا يصيبني بالقشعريرة!

يبتسم عاصي برصانة فيما تهتف طيف بفظاظتها المعهودة :
_وما ذنب أخي إن كنت انت (فرقع لوز).. وجودك وحده كافٍ ليجعل المشهد عبثياَ دون إضافات أو مقارنات!

_مجاملة لطيفة منك يا (سيدة عنكبوت)!
يقولها نزار عبر ابتسامة متصنعة ببرود مغيظ وهو يتقدم نحو الرضيع..
تتردد طيف في إعطائه إياه لكن يحيى يفعلها وهو يناوله له..
فتكتسي ابتسامة نزار بعاطفته وهو يتفرس ملامح الصغير..
دمعة كبيرة تغزو عينيه وهو يرفعهما أخيراَ نحو يحيى..

يستغل انشغال طيف وحسناء بالحديث ليخاطب صاحبه بقوله :
_آآآه!.. من كان يصدق انه يأتي اليوم الذي أحمل فيه طفلك يا صاحبي؟!.. يحيى عدو المرأة صار عاشقا وزوجا وأباَ.

يبتسم عاصي مكانه وقد آثر عدم المشاركة في الحديث مكتفياَ بمراقبة مشاعر الجميع الصاخبة والتي وجد في صدره صداها..


عجباَ للزمان عندما تدفعنا أياديه لطرق غير طرقنا.. تتعثر فيها الخطى قليلاً قبل ان يستقر المسير..
فنجد في نهايتها هدية القدر ونشكر له تبدل المصير!



_أين مجد؟!
يهتف بها نزار بلهفة فيرد يحيى :
_أرسلت السائق ليحضرها.. تتحرق شوقاَ لرؤية الصغير!

_انا التي أتحرق شوقاَ لرؤية رد فعلها عندما تراه.. لماذا تأخرا هكذا ؟! اتصل كي..
تهتف بها طيف بلهفة مشابهة لكنها تقطع عبارتها وهي ترى الظلام يسود المكان فجأة!

_ماذا يحدث؟!

يسأل يحيي بقلق لتدخل إحدى الممرضات فيشغل الجميع كشافات هواتفهم بينما تهتف الممرضة بحرج :
_نعتذر!.. انقطع التيار الكهربي.. وفي سابقة أولى من نوعها.. المولد أصابه عطب غريب.. لكننا سنحل الأمر بسرعة.. بضع دقائق فقط.

ضحكات نزار الشامتة تدوي في المكان فترمقه طيف بنظرة زاجرة وهي تكاد تخمن ما سيهتف به :


_بومة تزوجت قنفذ!! ماذا سننتظر؟!.. ليلة زفافهما انقلب بهما القارب في النهر.. وليلة مولد ابنهما ينقطع التيار في المشفى! العالم يبذل ما بوسعه كي يرسل لكما الإشارات أن زيجة كهذه ستنتهي بكارثة كونية!

يلكمه يحيى في كتفه رغم عدم قدرته على كتمان ضحكاته وكذلك حسناء التي غطت فمها بكفها كي لا تكتشف طيف أنها تضحك!

يعود التيار الكهربي بعد دقائق تزامناَ مع دخول إلياس بهتافه :
_الجميع بخير؟!

ينتبه لوجود عاصي فيتقدم نحوه مصافحاَ بقوله :
_العراق زادت نوراَ.. لم نلتقِ منذ زمن طويل.
يقف عاصي بدوره مصافحاَ باعتزاز :
_رؤيتك تسعدني دوماَ.. كنت أول من تشرفت به من عائلة الأمين.. ولا تزال مكانتك عندي مختلفة.

يهز له إلياس رأسه بتقدير بينما
يضحك يحيى وهو يندفع نحوه هاتفاَ :
_لديك غرامة تأخير!.. كيف يفوتك حدث كهذا من أوله.. وأنت عم الولد وجده في نفس الوقت!

يبتسم إلياس بعاطفة بزغت كالشمس في عينيه وهو يتناول الصغير بين ذراعيه..

يعتذر بانشغاله في اجتماع مهم لكن عينيه تبقى معلقتين بالرضيع الذي يفتح عينيه.. فيتمتم مبهوراَ :


_يالله!.. وكأنني أحملك بين ذراعي من جديد يا يحيى.. هكذا كان شكلك بالضبط عندما جعلوني أحملك وأنا طفل لا أفهم.. كيف يكون هذا ابن أخي؟!.. بضع سنوات فقط وكنت تركض معي.. سبحان ربي! كم يشبهك!

_ليس بالضبط!.. أخذ من ملامح امه للأسف!

تهتف بها شجون التي حضرت لتوها مع مجد بمشاكسة وهي تمد رأسها من خلف ظهر إلياس..
فتهتف طيف بتحفز :


_وما لها ملامح امه؟!.. هه ؟!.. تظنينني نفساء ولن أجد طاقة للشجار؟! تعالي هنا.. تعالي وارفعي صوتك بما تريدين قوله!

تعلو ضحكاتهم جميعاَ بينما يضع يحيى الرضيع بين ذراعي مجد بحرص قائلاً بحنان :
_ها قد أتى شقيقك.. أسميناه (فخر).. ما رأيك؟!

_أحببته!.. أحببت كليهما.

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


عبارتها تجعل كرم ينتبه لإصابة نزار.. فيهتف بجزع :
_ماذا جرى لك؟!

تشرح له حسناء ما حدث.. فينعقد حاجباه بحزن حقيقي متمتماَ :
_كنت أربي الأفعى في حجري.. لا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم يرفع عينيه نحو نزار مردفاَ برجاء حان :
_عرفت لماذا كنت أحتاجك؟!!

يطلق نزار زفرة حارة.. بينما يمسك كرم كف حسناء.. نبرته حانية تمتزج باعتذاره :


_انا آسف يا ابنتي.. انتِ تعبتِ معنا كثيراَ دون ذنب.

ثم يلتفت نحو نزار بقوله :
_أصيلة يا ابني.. لم تتركني في غيابك حتى بعد ما فعلته أنت بها.. حقاَ.. أنت أحسنت الاختيار.. كم أنا سعيد بعودتكما معاَ.

يرمقها نزار بنظرة عاطفية حارة.. لكنها تمط شفتيها وهي تهتف :
_نحن لن..
يسبقها نزار ليقف بسرعة مكمماَ فمها مقاطعاَ بقية كلماتها ليقول هو :
_نحن لن نستغني عن حبنا أبداَ.

يضحك كرم مع نظرة عدم الرضا التي بدت واضحة تماماَ في عين حسناء..
لكنه معها كان يميز عاطفتها الصادقة نحو ابن أخته..
يبدو أنها ستعيد تربيته من جديد!
لكنها لن تتخلى عنه!
هكذا يشعر!

_حرامٌ عليكِ!.. الرجل أفاق لتوه من غيبوبته وأنتِ تريدين أن تحزنيه بكلامك!.. ألا ترين فرحته برؤيتنا معاَ؟!.. تظاهري الآن أننا سعداء!

يهمس بها نزار في أذنها بخفة سريعة.. فتزيح أصابعه عن فمها وهي تطلق زفرة قصيرة..
رغم كل شيء هو محق!
لن تكدر صفو العجوز الآن!!

_نعم.. عدنا لبعضنا..

تقولها بابتسامة صفراء كأنها تطحن حروفها فيسألها العجوز بابتسامة ماكرة :
_سامحتِه!

يضغط نزار كفها في راحته فتتسع ابتسامتها الصفراء وهي ترد بنفس النبرة بينما تومئ برأسها :



_ماذا سأفعل ؟!.. هو أحمق مخادع يلعب بالبيضة والحجر..

يعتصر نزار كفها أكثر فتردف :
_لكنه طيب وابن حلال.. كما أنني لن أشمت بي الناس ويقولون متى تزوجت ومتى تطلقت!..قلت لنفسي : (حضن كلب ولا وجع قلب)!



يقهقه كرم ضاحكاَ حتى يسعل فيمد كفه ليحضر كوب الماء القريب..
بينما يعتصر نزار معصمها حد الألم ثم يميل على أذنها هامسا بينما يقلب شفتيه بامتعاض :
_ أعوذ بالله! لسان هذا أم مبرد؟!!.. هل هذه فكرتك عن التظاهر بالسعادة؟!.. لا بأس.. ستدفعين ثمن كل هذا!

يدعوهما العجوز للجلوس على طرفي فراشه فيفعلان..
يبتسم وهو يجد نفسه يستعيد مع نزار بعضاً من ذكريات طفولته.. فيتجاوب معه نزار بحنين شاعراَ أنه ينفض عن كاهله المزيد والمزيد من تراكمات حقده..
فلا يبقى له سوى الحب!
الحب فقط!!

_هل تذكر يا نزار؟!..كنت تحب حفظ أشعار الغزل في طفولتك..

يقولها كرم متندراَ فتطلق حسناء ضحكة مستهزئة مكتومة يردها لها نزار بنظرة متحدية..
بينما يردف العجوز بتحمس وهو يستزيد من الذكريات :
_كان هناك بيت شعر أتيتني في طفولتك تسألني عن معناه.. وقد وبخك معلمك يومها لأنك لم تفهمه.. ساعتها شرحته لك.. ودعوت لك أن تجد من تحبها فتقوله لها.. تذكره ؟!

يساله كرم بتحمس وقد بدا سعيداَ باجترار المزيد من الذكريات بينهما..

فيرد نزار وهو ينظر إليها بمزيج من غيظ وحب :

_(لو كان حظي باتساع عيونها لحكمت من نجد إلى بغداد).. لكن يبدو أنني سأغيره.. (لو كان حظي بطول لسانها لحكمت من نجد إلى بغداد)!!

يقهقه العجوز من جديد بينما ترمقه حسناء بنظرة متحدية وهي تهم بردّ لاذع لكنها تؤجله.. مؤقتاَ!!

_أين يحيى؟! هو الآخر لم يتركني في غيابك.. أريد رؤيته.

يقولها كرم بود فيتناول نزار قائلاً بتعجب :
_لا أعرف.. اتصلت به كثيراَ منذ عرفت الخبر المفرح لكنه لا يرد.. أجرب مرة أخرى.

يهم بإعادة الاتصال من جديد لكن صوت جلبة كبيرة من الخارج يأتيهما مع أصوات صراخ وسباب..

تدخل الممرضة ممتقعة الوجه إليهما فيسألها نزار باستنكار :
_ما الذي يحدث؟!
فتهتف الممرضة بامتعاض:
_امرأة سليطة اللسان.. وصلت منذ قليل في حالة ولادة مفاجئة متعسرة.. ومنذ وصولها وهي تشتم الطاقم الطبي كله!.. ليس الأطباء والممرضون فقط بل والعمال والموظفون والحوائط والحجر والشجر! يالله! في حياتي لم أرَ سلاطة لسان كهذه!

يبتسم نزار بلامبالاة وهو ينظر لهاتفه يعيد الاتصال هاتفاَ :
_أين انت يا يحيى؟!

يلتفت فجأة لحسناء والخاطر نفسه يرد في ذهنيهما في ذات اللحظة..
ليسأل كلاهما معاَ دون ترتيب :
_تلك المرأة سليطة اللسان ما اسمها؟!

والجواب الذي فكرا فيه كان صحيحاَ تماماَ..
(طيف)!
=======









العراق.. بغداد

_بابا.

يهتف بها داوود بلهفة مرحبة وهو يركض نحو إلياس الذي يعانقه بحرارة امتزجت بشعوره بالذنب نحوه..
هو أكثر من صار يشعر بالذنب نحوه..
لو كان هو أخطأ مع حواء منذ سنوات بإرادتيهما.. فهو كان ثمرة خطيئة بلا ذنب منه هو!

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


الشعاع الحادي والثلاثون
=======
العراق.. بغداد

_متى اشتريت كل هذا؟!

تهتف بها ناي بدهشة تتلون بضحكتها الساحرة وهي تفتح خزانة ملابسها في غرفته هو كي تختار ثوبا للخروج..


تلاحظ كل هذه الثياب التي تعددت ألوانها.. وأغراضها!
بين بيتية مريحة وأخرى تناسب المناسبات.. وهذه الناعمة جداَ.. الأنثوية جداَ.. والفاضحة جداَ!!
والتي تجعل وجنتيها تحمران بسخونة وهي تكرر سؤالها بنبرة أكثر خفوتاَ..

فيضمها إليه و (نسخته العاشقة) تتولى الرد :



_في غيابك.. كلما كنت أشتاق إليكِ كنت أشتري بعضاَ منها.. أصبّر نفسي أنك يوماَ ما ستعودين فترتدينها لي.

_ماذا لو لم أعد؟!

تتمتم بها بدلال ينتهي بآهة حقيقية وهي تشعر به يعتصرها بين ضلوعه..



_صدقيني لم يكن هذا خياراَ مطروحاَ.. كنت سأقلب الدنيا حتى أجدكِ!

تبتسم وهي ترفع وجهها إليه.. فيردف بضيق تسرب عبر فيوض عاطفته :
_تعرفين أن هذا أكثر ما يثير ضيقي منكِ.. عندما تهربين! عندما تهربين في أي موقف!


ترتجف شفتاها بوهن رغماَ عنها وعيناها تشردان :
_حتى أنا أبدو لي غريبة عندما أفعلها.. غريبة عن طبيعتي القوية التي أعرفها..لكنه يحدث رغماَ عني.. في تلك المرات التي أهرب فيها أشعر وكأنني عدت نفس الطفلة الخائفة التي تختبئ في ركن سيارة تنقلب بها!

لكنه يشدد ضمته لها يجبرها على النظر في عمق عينيه :


_وما الذي يكفي تلك الطفلة الخائفة كي تشعر بالأمان فلا تهرب أبداَ؟!

يشعر بارتباكها مع ازدياد رجفة شفتيها.. فيردف :
_حبي لا يكفي؟!

تسبل جفنيها دون رد وهي تخشى مواجهته بمخاوفها..

_ناي!.. أنتِ الآن تهربين مرة أخرى؟!
يهمس بها عاتباَ.. فتهتف بانفعال ارتفع معه صوتها دون وعي كعادتها :

_الكلام سهل.. الوعود قوية.. الحب رائع ويكفي لمنحي الأمان..كل هذا ممكن مادمنا معاَ وحدنا تحيطنا اربعة جدران.. لكن ماذا سيحدث عندما نغادر؟!.. الآن سنخرج.. كل منا سيذهب لوجهة مختلفة.. أنا لعائلتي.. وأنت ل..



تقطع سيل عباراتها العصبي بزفرة مشتعلة وهي تبتعد عنه..
تمسح وجهها بكفيها تتمتم بصوت مختنق حاولت صبغته ببعض المرح :
_آسفة! صوتي علا من جديد.. أضف هذا لقائمة ملحوظاتك!



فيعاود الاقتراب منها ليحتضن وجنتها براحتيه..
الضيق يكسو ملامحه للحظات قبل أن تروضه فيوض عشقه وهو يقرب وجهها منه حتى تمتزج أنفاسهما قائلاً بعتاب رفيق :
_لا أعرف كيف حالي لديكِ.. لكنني أعرف نفسي.. أنا أحملكِ في قلبي أين ما رحلت.. ومع من التقيت..أربعة جدران لا تختلف كثيراَ عن عالم بأسره مادامت المسألة أنتِ!


تغمض عينيها بتأثر وأناملها الرقيقة تتشبث به بقوة.. تحاول البحث عن جرأة كي تواجهه بمخاوفها :
_أنا الأضعف في هذه المعركة.. أعترف.. لا أشك في حبك لكن أخاف من طوفان أقوى منك ومني.

_تخافين من حواء؟!


يستدرجها للبوح أكثر.. فيتقلص قلبها وهي تجد نفسها تهتف بعفوية عصبية وهي تغمض عينيها بقوة تلوح بكفيها جوار وجهها :
_كيف لا أخاف؟!.. واحدة استطاعت طوال هذه السنوات أن تحتكر قلبك في غيابها.. ما يدريني أي أثر سيطغى به حضورها؟!.. واحدة استطاعت برسالة واحدة أن تبقيك أسير شعورك بالذنب طوال هذه السنوات؟!.. الآن تهددك بالرحيل مع ابنكما تحت خطر يهددهما معاَ!!.. لو كنت أعرفك مثقال ذرة فأنا أوقن أين سينتهي هذا.. دوماَ ستكون إحدى قدميك على طريقي والأخرى على طريقها.. ولا أعرف أي قدم ستنتصر لتسحب الأخرى كي تكمل الطريق.. والأهم من كل هذا داوود.. أنا جربت.. أنا.. انا عشت شعور الطفل الذي يحرم من أبيه.. كيف أرضى أن يذوق هو مثله؟!..حواء لو صدق ظني فيها لن ترضى أن تكون طرفاَ زائداَ في المعادلة.. لن تقبل أن تكون مجرد أم لابنك.. ستضغط بكل قوتها لتكسب كل شيء أو تخسر كل شيء.. وسط كل هذا.. هل سيصمد حبك لي؟!

فيشدها إليه ليحتوي ارتجافة جسدها على صدره.. يقبل رأسها قائلاً :
_لو كنتِ تعرفينني مثقال ذرة..ستدركين مقامك عندي.. الرجل الذي اهتزت الأرض تحت قدميه في غيابك لا يبدلك الآن بكل ما عليها ومن عليها!


تنهيدتها الوجلة تكاد تحرق صدره.. فيرفع ذقنها نحوه مردفاَ ب(نسخته الصارمة) :

_سأذهب الآن لحواء.. كي نضع النقاط على الحروف.. أعترف أنني أخطأت عندما تأخرت في مصارحتها بحقيقة حبي لكِ.. لكنني لن أضيع المزيد من الوقت.. لن أظلم أحداَ.. لكنني لن أتركها تضيع نفسها ومعها ابني من جديد.



_ماذا ستفعل؟!
تسأله بقلق لا يزال يحكم قبضته على ملامحها.. فيرد بحزم مقتضب:
_ستبقى تحت حراستي حتى ينتهي هذا الخطر.. لن أسمح لها بالرحيل.
_ستجبرها ؟!
تسأله بالمزيد من القلق فيرد بصرامة أكبر :
_لو توجب الأمر أفعلها.. حياتها وحياة ابني ليست للمراهنة.

_لكن.. هي.. هل.. ؟!

يقاطع سؤالها بمسة سبابته لشفتيها و(نسخته العاشقة) تتولى الدفة :
_لا تقلقي أكثر.. فكري من الآن في طريقة تروين بها شوقي إليكِ عندما نلتقي من جديد.. أكاد أفتقدكِ من الآن!

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


تبتسم رغماَ عنها مع شعورها بانقباض قلبها..
قلبها الذي يتوجس من نتيجة لقائه مع حواء!

_هل ترحبين بملحوظة جديدة؟!

يرفع بها حاجبه و(نسخته الماكرة) تجيد تبديل مزاجها..
تعرف أنه يفعلها عامداَ كي يغير مجرى الحديث لكنها تمتثل لرغبته..
فتتسع ابتسامتها وهي تحاول تجاوز قلقها :
_أرحب بكل ملحوظاتك في كل وقت.

عيناه تمشطان ملامحها بنظرة طويلة متفحصة.. تسبق قوله :
_حاجباكِ!

_ما لهما؟!

ينعقد بها حاجباها بتوجس وهي تحاول ترتيب شعيراتهما بأصابعها.. لكنه يحتكر كفيها بكفيه خلف ظهرها يلصق صدرها بصدره هامساَ بعينين ملتمعتين :
_يستفزني رسمهما الطبيعي كأنهما منعقدان دوماَ.. متحديان دوماَ.. كأنني في كل مرة كنت أنظر إليهما يراهنناني أنني لن أستطيع تقبيل عينيكِ.. وحتى الآن كانا يكسبان الرهان.. أظنه آن اوان الثأر!



ضحكتها الرنانة تجلجل في أذنه.. وتستفز (نسخته الجامحة) فيغرق وجهها بقبلاته بادئاَ بعينيها ومنتهياَ عند شفتيها..!

_قصة (الملحوظات) هذه صارت تعجبني!
تهمس بها أخيراَ بدلال وهي تريح رأسها المثقل على صدره..
فيربت على وجنتها هامساَ بين مكره وعاطفته :
_عظيم! .. لدي الكثير!

يقولها ثم ينظر في ساعته ليضحك وهو يهز رأسه :
_ساعة كاملة نحتاجها لارتداء ثياب الخروج! سأضع هذا في الحسبان وانا ارتب جدول أعمالي.

فتضحك بدورها مندهشة وهي ترفع ذراعه لتنظر في ساعته تتأكد :
_ساعة كاملة! نحن نقف هكذا منذ ساعة كاملة!



فينعقد حاجباه وهو يتفرس ملامحها بعشق جارف ليغمغم بشغف جارف وهو يضمها إليه :
_هل يضيرنا قليلاً لو صارتا ساعتين؟!!

تضحك بدلال وهي تدفعه برفق قائلة :
_بهذه الوتيرة لن نغادر البيت أبداَ.

_لا نغادر.
يقولها لا مبالياَ وهو يعاود محاصرتها لكنها تهتف بانفعال:
_أنا اشتقت لجدتي وشقيقيّ..

ثم تردف من بين أسنانها في نبرة خاصة وكأن حروفها تخرج من تحت الضرس :
_وأنت تحتاج أن تضع نقاطا على حروف!

بطئها الساخر بنزقه يستجلب ضحكة قصيرة منه وهو يشم غيرتها في كلامها..
فيقرص وجنتها مداعباَ قبل أن يميل على أذنها ب(نسخته العابثة) :
_وما يعنيكِ انتِ من النقاط والحروف؟!.. مادمتِ تجددين لي أبجديتي كل ليلة أبيت فيها بين ذراعيكِ؟!

_أوف!
زفرتها تمزج دلالها بعشقها وهي تمرغ وجهها في صدره هامسة :



_نسخك المتعددة هذه ستصيبني بالجنون يوماَ ما وذنبي في رقبتك!

صدى ضحكته الرائقة يبقى يتردد في أذنيها بعدها طوال طريقهما إلى بيت جدتها..
يودعها أخيراَ بقوله الحاسم :
_لا تغادري حتى أمر أنا وآخذكِ.

فتهز رأسها بطاعة وهي تعانق كفها بكفه وقد بدا التوتر واضحاَ في عينيها .. فيغمزها بخفة هامساَ :
_كلما لعب الشيطان في عقلك ليثير قلقك وغيرتك.. تذكري كلمة السر :(أبجدية)!

تضحك رغماَ عنها وهي تشد بكفها على كفه قبل ان تترجل من السيارة..
تراه ينتظر دخولها فتلوح له بكفها ليبدأ في التحرك في السيارة تلاحقه عيناها المتوترتان..
تراقب كيف تتحول ملامحه من الابتسامة للجدية المتوترة بدوره وهو موشك على واحدة من أقوى مواجهات حياته فتشعر بقلبها ينقبض..
لماذا تشعر انهما سيعودان للقاء بوجهين آخرين غير هذين الضاحكين؟!
ليت ظنها يخيب!!
========






العراق.. بغداد

_خالي!

تراقبه حسناء وهو يهمس بها بعمق عاطفة ما عاد يخفيها بينما ينحني ليقبل كف العجوز الذي يبتسم عبر ملامحه المرهقة.. عتابه يشبه حزنه كلاهما حنون :
_كنت أعرف أنك ستعود.. كان كل خوفي فقط ألا تجدني.

يبكي!
يبكي نزار كما لم تره هي يفعل من قبل!!

فيربت العجوز على ظهره متمتماَ بتأثر :
_عندما استعدت وعيي كنت انت أول من سألت عنه.. فرحت عندما أخبروني أنك تأتي دوماَ هنا..

_سامحني..

يقولها نزار دون أن يرفع وجهه ولا يزال منكباَ على كف الرجل.. ينهل من رائحته التي تحمل له رائحة أمان نادر من طفولته..
رغم ما يشوبها من خذلان!!

_بل أنت سامحني يا ابني.. أعرف أن ما مررت به لم يكن سهلاً.. لكن يشهد ربي أنني كنت أعيش عمري فقط كي أجدك وأعوضك.

يرفع نزار وجهه أخيراَ وهو يمسح بقايا دموعه..
فيهتف العجوز بغلظة امتزجت بالمرح :
_الرجال لا يبكون.. وأنت بالذات وجهك يبدو كورقة مكرمشة عندما تبكي!

يضحك نزار وسط دموعه فتتعجب حسناء لأول وهلة قبل أن تسمعه يهز رأسه بقوله الشارد :
_هكذا كنت تقولها لي في طفولتي عندما كنت أبكي.. فأتوقف فوراَ عن البكاء!

_كيف نسيت كل هذا؟!

يسأله كرم بعتاب مشوب بالحب فيهتف نزار بانفعال مدافعاَ :

_لم أنسَ!.. المصيبة أنني لم أنسَ!.. كل هذا الثقل من الذكريات بحلوها ومرها كنت أمشي وأنا أحمله على ظهري.. لكن.. كل ذكرى حلوة تركتها أنت بقيت ملطخة بقسوة خذلانك.. حتى صرت لا أعرف هل اريد ان أتذكرها لأتقوّى بها على مشقة الطريق.. أم أنساها كي لا يزيد الثقل على ظهري!

هنا تتحرك حسناء لتربت على كتفه.. وببساطة لهجتها تقول :
_(العايط على الفايت نقصان عقل).. حمداَ لله على سلامتكما معاَ.

رواية على خد الفجر

23 Nov, 21:42


لهذا يغرق وجه الصبي بقبلاته وهو يتفرس في ملامحه يسأله عن حاله.. فيرد الصبي بالعربية :
_بخير حال.. بدأت أحب هذا البلد.. لكن.. ابذل انت معي المزيد من المجهود.. أريد التنزه ورؤية أجمل الأماكن هنا.. ماما كانت قد أخبرتني أنك تعد لي مفاجأة وجعلتني أرتدي أفخر ثيابي لكنك لم تأتِ ساعتها.. أظنها غاضبة منك.

يرتفع حاجبا إلياس مفكراَ للحظات..
أي مفاجأة كانت تظنه يعدها لها؟!
لاريب أنها كانت تعد نفسها للزواج!
الان سيلتقي بأسوأ وجوهها!

_لك كل ما تريد.

يقولها للصبي بابتسامة حانية وهو يربت على رأسه قبل ان يسأله عن أمه فيشير الصبي نحو الخارج :
_في تلك الغرفة الصغيرة في حديقة البيت.. كانت قد جمعت كل ثيابنا.. ظننت أننا سنسافر من جديد.. لكنها عادت بعد قليل غاضبة محمرة الوجه وقالت إننا سنبقى.

ينعقد حاجبا إلياس وهو يطرق برأسه مفكراَ..
كانت ستنفذ تهديدها وترحل بالولد لكن الحراس منعوها..
أخبروه عند عودته الآن!

_لا تدع (ماما) تحزن.. حزنها يذكرني بتلك الأيام في بيت أبي.. عندما كانت تغلق غرفتها على نفسها ولا تفتح لي.. لكنني كنت اعرف أنها تبكي.. ماما جميلة جداَ وجهها منير لكنه ينطفئ عندما تحزن.. لا أريده أن ينطفئ أبداَ.

يزفر إلياس بتأثر وهو يعاود ضم الولد إليه..
كلماته تعاود قصفه بنيران شعوره بالذنب نحو كليهما..
ابنه وحواء!
لكنه لن يسمح أن يتوه في هذه الدوامة من جديد!
لن يقدم قلبه قرباناَ لشعوره بالذنب.

لهذا يقبل رأس الولد بحنان ثم ينظر في عمق عينيه قائلاً :
_لا تحمل هم شيء.. أي شيء.. كن سعيداَ فقط.. سأفعل كل ما بوسعي كي تكون كذلك.

يبتسم له الولد بارتياح ثم يعانقه من جديد بقوة فيربت إلياس على ظهره ثم يطلب منه العودة لغرفته..

_هذه المرأة مجنونة حقاَ! هل ستبقيها معنا هنا؟! أخشى ان تحرق البيت بالجميع!

تغمغم بها شجون بقلق وهي تتقدم نحو إلياس الذي خطا بضع خطوات في حديقة البيت في طريقه لحواء..
يمشط شعره بأنامله للخلف مع زفرة مشتعلة وهو ينظر للغرفة الصغيرة هناك حيث يفترض أن تكون حواء..
بينما تردف شجون وهي تلوح بذراعيها :

_تارة تبكي.. تبكي.. تبكي حتى تظن أنها ستموت كمداَ.. فأشعر بالشفقة عليها.. وتارة أخرى تصرخ.. تصرخ.. تصرخ حتى تظن انها ستهد الدنيا فوق رؤوس الجميع.. فأشعر بالخوف منها.. أنا أقدر مشاعرها.. أعرف.. أعرف كيف يكون شعور المرأة عندما تفقد الرجل الذي تحبه.. عندما تشعر أن في قلبه أخرى غيرها..

يتحشرج صوتها في عبارتها الأخيرة وكأنها تذكرت مأساتها الخاصة لغيث مع إستبرق..

فتتغضن ملامحه هو بتأثر لكنها تتمالك نفسها لتردف بنبرة عاد لها نزقها :
_اذهب وتكلم معها.. أنت وحدك من يمكنه السيطرة على فرامل مشاعرها السائبة هذه!

وأخيراَ تحمله خطواته إليها..
يشم رائحة شيئ ما يحترق من داخل الغرفة فيركض بسرعة والخوف المترقب يخنق نبضاته..

يفتح الباب بعنف لتتسع عيناه بصدمة وهو يراها أمامه تعطيه ظهرها..
تقف أمام صندوق كبير أشعلت بعض النيران داخله وشرعت تلقي فيه ما تلقي..

_حواء.. ماذا تفعلين؟!

يهتف بها بجزع وهو يرى صندوق ذكرياتها هي الخاص جوارها..
ذاك الذي وجدته ناي ذات يوم في حديقة بيت كرم..
هذا الذي تفرغ هي الآن محتوياته واحدة واحدة لتضعها في النار!!

لم تلتفت!
وكأنها ما عادت تجد جدوى للنظر إليه!!

نبرتها ميتة تماماَ :
_لماذا أخرجته من بيت أبي واحتفظت به مادمت ستجعلني أحرقه في النهاية؟!

_حواء!

يناديها منفعلاً وهو يمسك معصمها يمنعها مما تفعله وقد خشي ان تؤذي نفسها..
لكن يدها العنيدة تقاومه وهي مستمرة فيما تفعله..
ولا تزال نبرتها الميتة تكوي حروفها :

_لماذا رفعتني فوق السماء مادمت ستلقيني من هناك من جديد؟!.. لماذا جعلتني أصدق أنك لا تزال تحبني مادمت ستتخلى عني مرة أخرى؟!.. لماذا جعلتني أعود لأؤمن بالحياة مادمت ستقتلني للمرة الثانية؟!!

قلبه يخزه مع كل كلمة تقولها وهو يرى المزيد من ذكرياتهما تحترق أمامه..
خطاباتهما القديمة ..
كعب حذائها المكسور..
مشط شعرها..
قلادتها..
(لو بيا يندار العمر مو مرة أحبنك عشر)
صدئة قديمة قبيحة الشكل.. الآن تأكلها النار!!

وأخيراَ.. صورته!
صورته المؤطرة القديمة التي كانت ناي تحتضنها كل صباح..
والتي وجد نفسه يجذبها بقوة من يدها في آخر لحظة..
فقط لأنها صارت تحمل رائحة ناي!

يضعها جانباَ بسرعة قبل أن يحيط كتفي حواء بقبضتيه يديرها نحوه قائلاَ بحسم :
_اسمعيني جيداَ.

حسمه يبدو لها غريباَ عن نظراته المترددة التي بقيت حبيستها منذ عودتها الأخيرة له..
ترفع إليه عينين ذابلتين فيردف وهو يغرس نظراته في حدقتيها :

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


_لن تعلميني انتِ كيف أهتم بأولادي! أنا مشغول بترتيبات زواجي.. سأزورهما عندما أجد وقتاَ.. وتذكّري أنك انت.. انت بجنونك من خربتِ البيت وهدمتِ سعادة أولادك.. تذكّري هذا قبل ان تحاسبيني!

يهتف بها بصوت مرتعش من فرط الغضب.. واليأس!
فلا يجد رداَ إلا الصوت الرتيب بعد غلق الاتصال!

زمجرة غاضبة يطلقها وهو يشعر من فرط اللوعة أن كل ما فيه يحترق..
لكنه يزم شفتيه وهو يبحث في هاتفه عن رقم زوجته المنتظرة..
هي وحدها من ستتوقف عداد خساراته الذي لا يكف عن الدوران..
هي.. بنفوذ أبيها وسلطاته من ستعيد كل شيء لنصابه..
وأولها.. محل فجر!
هي.. شيماء مدحت السمري بطلة قصته القادمة.
=======





مصر.. القاهرة


في مكانه كان فاروق يراقبها خلسة من أعلى الدرج وقد استمع رغماَ عنه لمكالمتها مع سيد..
كان هابطاَ للأسفل في موعده مع العم متولي لكنه لم يستطع منع نفسه عندما عرف أنها تتكلم مع سيد فتخفّى عامداَ يستمع للمكالمة شاكراَ للظروف خلو المحل من الزبائن في هذه الفترة..

لا ينكر أن قلبه وقع في قدميه أول المكالمة عندما عرف أنها عادت تكلمه..
لكن بقية المكالمة بردت بعض ناره.. ولا يزال بعضها متأججاً يحترق به..!

يراها من مكانه وهي تحاول التشاغل في عملها على الحاسوب.. لكن دموعها تخونها فتمسحها بسرعة ثم تستأنف ما تفعله..
كانت قد طلبت منه قاعدة بيانات جديدة وحصر لأسماء التجار الذين يتعامل معهم..
يثق انها ستؤدي عملها هنا بأفضل مما كان يتصور..
لكن.. هل سيكفي هذا كي تتجاوز كل ما بها من جروح؟!

يراها أخيراَ تتوقف عما تفعله لتدفن رأسها على ساعدها فوق المكتب.. لا يسمع شهقات بكائها لكن اهتزاز جسدها يفضحها!

هنا لا يملك نفسه وهو يهبط الدرج نحوها ولم تكد تشعر به حتى انتفضت من مكانها لتمسح وجهها بسرعة هاتفة بنبرة عملية وهي تهرب من عينيه :
_آسفة.. أعرف أنه لا ينبغي ان أبكي هكذا هنا.. قد يدخل أحدهم في اي وقت.. سأغسل وجهي وأعود لعملي.

تقولها ثم تتجاوزه نحو الحوض الصغير في زاوية المحل البعيدة.. فيلحق بها صامتاَ لتجد نفسها دون وعي تستدير نحوه هاتفة بانفعال :
_ماذا تريد؟! ألم نتفق أن تعاملني هنا في حدود أنني أعمل في محلك ؟! لو كنت منصفاَ لزجرتني على بكائي هكذا في وسط المحل.. هذا لو لم تطردني كأي واحد مكانك!

لكنه يتجاهل حدتها مع يقينه في ما يختفي خلفها من جرحها.. ليسألها بحنان قلق :
_لماذا كلمتِه ؟! ما الذي جعلكِ تتنازلين هكذا ؟!

_أنت سمعت؟!
تشحب بها ملامحها وهي تجد نفسها تهتف مدافعة وقد شعرت بجرح كبريائها ينزف :
_لم أكلمه كي ارجع له.. أنا لا أريد العودة..
لكنه يقاطع لهاثها المنفعل مطمئناَ بقوله :
_أعرف.. أعرف.. لهذا أسألك لماذا فعلتِها؟! ما الذي ضغط عليكِ إلى هذا الحد؟!

زفرة مختنقة تهرب من بين شفتيها وهي تمسد جانبي رأسها الذي يكاد ينفلق بصداعه..
قبل أن تحكي له عن معاذ وحادث الصباح..
فينعقد حاجباه وهو يهتف بجزع :
_أنا أيضاَ قصرت معهما.. لم أزرهما منذ بضعة أيام.
_وما ذنبك يا فاروق؟! إذا كان أبوهما قد رماهما.. هل ستحمل هم هذه أيضاَ؟!

يهم بقول شيء ما لكن دخول سندس العاصف يقاطعه..

_عم متولي يريدك .. تبعني في طريقي إلى هنا..
_آه! .. أنا على موعد معه.
يقولها فاروق باستدراك.. قبل أن يدخل العم متولي للمحل حاملاً شفيقة..
ولم يكد يلمح أمينة حتى هتف بها بعاطفة حانية :
_أنتِ هنا ؟!.. افتقدتك يا ذات الوجه السمح!

تبتسم أمينة ابتسامة حقيقية كعهدها كلما رأته لتتقدم نحوه تلاعب شفيقة التي يعلو صوت موائها..
_وأنا أيضاَ افتقدتك.. أسأل عنك فاروق كثيراَ.. أين تذهبان ؟!

تتلون ملامح الرجل بحزن مفاجئ وهو يرد بشرود :
_زوجتي! .. أزور قبرها كل شهر .. فاروق - كثر الله خيره - يصحبني كل مرة.
يختلج قلبها بشعور غامر بالحسرة وهي تغمض عينيها على وجعها..
كل هذا الإخلاص لامرأة واراها تحت التراب..
بينما هي من تخلى عنها زوجها راكضاَ خلف أطماع غروره وهي لا تزال على قيد الحياة!
سبحان الله!
لعل زيارة العم متولي إشارة لها في هذه اللحظة بالذات.. أن تثبت على موقفها ولا تتزعزع!

_تمانع أن آتي معكما؟!
تسأل وهي تدير بصرها بحرج بين العم متولي وفاروق.. فيهتف الأول مرحباَ وهو يربت على رأس قطته :
_لا مانع طبعاَ!.. تأتين معنا وتدعين لها.. اطمئني.. هي تعرفك.. أنا كلمتها عنك عندما زرتها آخر مرة.

ينعقد حاجبا سندس وهي تشير بأصابعها حول صدغها في وضع دائري إشارة لجنون الرجل دون أن يراها .. فيحدجها فاروق بنظرة صارمة زاجرة تجعلها تعيد ذراعها جوارها..
تحاول تصحيح الموقف بقولها مخاطبة أمينة :
_اذهبي معهما كما تشائين.. وأنا سأعتني بالمحل هنا.. لو استدعى الأمر أبقى انا لساعات إضافية.. لا مشكلة!

تبتسم لها أمينة بامتنان وكذلك فاروق قبل أن يتحرك ثلاثتهم ليغادروا المحل..
=======



مصر.. القاهرة

_نسينا الزهور البيضاء يا فاروق!

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


وقد جذبتها نضرتها اليانعة..
ودون تحفظ تجد نفسها تميل على كل واحدة تتشممها بأنفها..
تسمح للعبير الطازج أن يتخلل أنفاسها..
منذ متى لم تشم زهوراَ طبيعية؟!
لا تعرف..!
يبدو أن آخر زهرة طبيعية شمتها حقاَ كانت ليلة زفافها على سيد.. باقة زهور حمراء أهداها إياها..
ليلتها ظنت أن عبيرها سيبقى في أنفها أبداَ ما عاشت!
لكن عبيرها راح.. ضاعت رائحته.. تشوشت مع سحب الدخان التي كانت تغشاهما كل ليلة..

تنقطع أفكارها وهي تشعر بفاروق خلفها..
تلتفت لتبتسم تلقائياَ وهي تميز باقة من (زهور الريحان) في يده مع الزهور البيضاء التي اشتراها للعم متولي..

_هذه ؟! لي؟!
تسأل عنها وكأنها لا تعرف الجواب!
تتذكر ذاك اليوم الذي كانت تبكي فيه بعدما كاد سيد يتزوج فجر لتأتيها ابنتها ومعها عصير القصب وحلوى العسلية وبعض زهور الريحان.. سألتها بعدها كيف عرفت انها تحب هذه الأشياء والجواب دوماَ واحد..
فاروق!
ساعتها تعجبت أن يكون هذا في باله طوال ذلك الوقت..
لكنها الآن شبه موقنة..
لو كان هناك واحد فقط في هذا العالم يحفظ تفاصيلها..
فلا ريب أنه هو!

يهز رأسه في جواب بالتأكيد فتتأرجح نظراتها المرتبكة بين امتنان وارتياح.. وخوف!

خوف لا يزال يحكم سيطرته على جوارحها أن تصدق كل هذه الإشارات التي تومض في بالها كالبرق!!
خوف يجعلها تشعر بالندم لأنها في رغبة حمقاء لتتبع العم متولي ورؤية مظاهر إخلاصه لحبه بقيت هي جوار فاروق..
بهذا القرب!
هذا القرب المهلك الذي يستنزف حواسها بغرابة لا تفهمها..
ولا تريد أن تفهمها!
تخاف أن تفهمها!
أن تفتح هذا الباب الذي تقبع خلفه حرب لن يقوى كلاهما على خوضها.. وبالذات هو!!
هو من سيكون الخاسر الأكبر.. والملام الأكبر!
لهذا تتلاحق أنفاسها وهي تتردد في اخذها منه لكنها تفعلها أخيراَ لتهتف بارتباك :
_تأخرنا عليه.. هيا.

وفي سيارته كان سيد يتخذ طريقه لتناول الغداء مع نسيبه مدحت السمري وابنته.. زوجته المنتظرة..
شيماء!
أو (شيما) كما يدللونها!
في منتصف العشرينات.. ليست على قدر كبير من الجمال.. وإن وجد فهو مخفيّ خلف بدانة فوق المتوسطة.. لكن هذا لا يعنيه أبداَ..
وماذا كانت أمينة قبل أن يتزوجها؟!

عمليات التجميل وكورسات التنحيف تجعل هذا أهون شيء يشغل باله..
ما كان يعنيه حقاَ أنها آنسة! لم يسبق لها الزواج من قبل..
ولا حتى الخطبة!
رغم نفوذ أبيها وغناه.. بقيت هي وكأنها مكافأة القدر التي تنتظره!

يختلس نظرة نحو المقعد الخلفي حيث الهدية الفخمة والشيكولاتة الفاخرة وباقة الزهور الزاهية..
الزهور ؟!


الزهور!!
عيناه تتسعان حتى تكادان تخرجان من محجريهما وهو يرى أمينة تحمل الزهور وتخرج من المحل مع فاروق الذي يحمل هو الآخر باقة منها!!
ماذا يفعلان هنا؟!

يبطئ سير سيارته فيسمع نفير السيارات خلفه مع بعض هتافات التوبيخ لكنه يتجاهلها وهو يغير مساره ليركن سيارته بصورة مخالفة في اول مكان رآه غير مكترث بالعاقبة!

يتعقبهما من بعيد وهو يشعر بخفقات قلبه تتعالى بجنون هادر..
ماذا يفعلان في هذا المكان وبتلك الزهور اللعينة في أيديهما؟!

_يزوران مريضاَ! أحد أقربائهما!

كان هذا هو التفسير الوحيد الذي حشره عقله حشراَ داخله كي يبرر سيرهما معاَ هكذا..
لكن هذا لم يمنعه من السير خلفهما مترصداَ كل حركة منهما..

_ماذا بكِ ؟!
يسألها فاروق بقلق ملاحظاَ خطواتها السريعة شبه الطائشة كأنها تهرب من شيء ما..
فلا ترد..
وكيف ترد؟!
ذهنها بأكمله كان مغيباَ في دوامة من أفكار تبتلعها..
فوضى كاملة من مشاعر متباينة بين الماضي والحاضر والمستقبل..
بين إحساسها بالظلم.. وخوفها من الغد..
أبواها ظلماها.. فهل تفعل هي الأخرى الآن المثل؟!
هل تظلم ولديها بانفصالها عن أبيهما؟!
والأقسى.. خوفها من أن تخسره هو!! فاروق!!
تخسره بهذا الشكل الذي اعتادت وجوده!!
تخسره لو استمرت في تصديق هذا الشعور المستحدث الذي يطفو بينهما!!

_توقفي!

شهقة عالية تطلقها وهي ترى فاروق يناديها بصوت عال ثم يدفعها بعيداَ ببعض العنف فتلتفت نحوه باستنكار قبل أن تطلق صرخة عالية وهي تميز سبب فعلته..
هذه السيارة التي كادت تصدمها بسبب شرودها لولا تدخله في الوقت المناسب ليفديها بجسده دون تردد فيتلقى هو أثر الصدمة!

صرخة خلف صرخة تطلقها وهي تراه طريح الأرض فتنحني نحوه لتجلس على ركبتيها أمامه وقد بدأ الناس في التجمع حولهما..

_أنتِ بخير ؟!

هو من يسأل!!
هو الذي سال الدم من جرح في رأسه وقد بدا من حال ذراعه أنه قد كسر!!

ومع هذا يتحامل على نفسه ليرتفع بجذعه نحوها كاتماَ ألما تفضحه أنفاسه اللاهثة :
_قومي.. قفي.. لا تجلسي هكذا أبداَ.. لا تبكي.

وخلف دموع خوفها تبزغ هذه النظرة التي تحلق بينهما كطائر لا يعرف من براح السماء إلا موضعين..
وطنيْن.. عينه وعينها!!

نظرة سكبت مشاعره التي طال كتمانها وتلقفتها عيناها واضحة كألِف.. باء!

نظرة لم تكن هي وحدها من فهمت مغزاها بل كل من شهد الموقف..

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


وبينهم ذاك الذي بقي متخفياَ مكانه يراقبهما وهو يكاد يحترق بغيرته والإدراك يحترق قلبه كسيخ من نار..
فاروق يحبها!
ليس حب الأخ الذي يعرفه الجميع..
إنما حب رجل لامرأة!
يحبها!!
يحبها!!!
========
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


يهتف بها العم متولي بجزع وهو يترجل من سيارة فاروق الصغيرة أمام المقابر..
فيترجل فاروق منها قائلاً :
_لا بأس.. محل الزهور قريب من هنا.. نذهب ونحضرها.
_اذهبا معاَ.. أنا تأخرت عليها.. سأخبرها أنك ستأتي بالزهور قريباَ.. هي تعودت أن احضرها لها معي كل مرة.. أنت تعرف كم تحبها.
يهتف بها العجوز بعجلة وهو يتقدم نحو الداخل تاركاَ إياهما خلفه..
فترمقه أمينة بنظرة مشفقة وهي تترجل من السيارة بدورها قائلة :
_مسكين! يتكلم عنها وكأنها حقاَ معه!
_ولماذا يكون مسكيناَ؟!.. هو وجد الطريقة التي يصمد بها في غيابها.. يصبّر بها قلبه على فراقها.. المسكين حقاَ هو من لا يمكنه فعل هذا..المسكين هو من لم يعرف الحب.. أو عرفه ولم يحافظ عليه.. أو فقده ففقد نفسه خلفه!

_وهل عرفت انت الحب؟!
تشتم نفسها سراَ على سرعة سؤالها العفوي الذي جرى على لسانها دون تفكير..
تطرق برأسها خشية النظر في عينيه..
لماذا صارت تخاف عينيه إلى هذا الحد؟!
صارت تخشى حديثاَ لن يجد أذناَ تسمعه.. ولا قلباَ يعيه!
لكن.. ألا يحتمل أن تكون مخطئة؟!
أن يكون شعورها المستحدث به مجرد وهم؟!

لهذا ترفع كفها في إشارة لاعتذار سريع ناسب تلعثم كلماته ولا تزال تحيد بنظراتها شرقاَ وغرباَ هرباَ من عينيه :
_آسفة! سؤال غريب.. لا أعرف ماذا جرى لي اليوم؟! سخافاتي صارت أكثر من ان تحتمل!

يغمض عينيه بقوة كأنه يخاف أن يفرّ العشق المحبوس فيهما ويخونه ولو بنظرة!!
يعذر خجلها الفطري وارتباكها بعد سؤال كهذا.. ود لو لا تسأله أبداَ..
لو لا تحتاج للسؤال عنه أبداَ!
هل تُسأل الشمس أين تشرق؟!
هل يُسأل النهر أين يفيض؟!
هل يُسأل الجبل أين يثبت؟!
هل يُسأل هو إن كان يعشقها؟!!

_محل الزهور قريب من هنا؟!
لا تزال تهرب من صمت صاخب يزلزل الأرض تحتهما فيجيب بصوته الهادئ الذي يجيد إخفاء لوعته :
_خمس دقائق سيراَ على الأقدام.. انتظريني هنا في السيارة.

_لا..دعني آتي معك.. بصراحة.. خائفة!

يلتفت نحوها لتلتقي عيناهما في نظرة لم يتعمدها أحدهما ولم يهرب منها!
عفوية عبارتها جعلته يراها كما كان يراها في طفولتهما..
وهي كذلك..
كم بدا لها الأمر وكأن الأيام لم تمر.. وكأنه نفس الصبي الذي كان يحتوي خوف الطفلة داخلها منذ صغرهما!

الأمان نظرة!
ليست أي نظرة!!
نظرته هو بالذات لم يتغير عهدها مهما تغير كل شيء..
مهما تغيرت المسميات..
بقي حضوره دوماَ مرادفاَ للأمان الذي يهدهد خوفها!!

صوت نباح كلب قريب يجعلها تشهق وهي تقترب منه عفوياَ لكنه يبتعد محافظاَ على مسافة بينهما قائلاً بابتسامة :
_معك حق.. ستخافين هنا وحدك أمام المقابر.. تعالي معي.

تأخذ نفساَ عميقاَ وهي تسير جواره في الطريق غير الممهد أمام المقابر سعياَ خلف المحل القريب الذي بدأ يتضح لها من بعد..
رأسها يكاد يضج بأفكاره.. قلبها يكاد يتفتت بأحزانه.. قدماها ثقيلتان جداَ كأنها تجر مع كل خطوة ألف حجر..
ومع هذا تجد نفسها تقول بشرود :
_منذ متى لم نسر معاَ هكذا؟!

_منذ يوم نجاحك في الشهادة الاعدادية.

تبهرها سرعة الرد وكأنه يحفظ كل تاريخهما فلا يحتاج وقتاَ للتفكير!!
تتسع ابتسامتها الشاردة والذكرى تلفها طازجة معطرة بالشجن مع كلماتها :
_أبي ارسلك لتحضر النتيجة من المدرسة.. لم يكن يعرف أنني تسللت خارج البيت كي أعرفها قبل الجميع من شدة قلقي..
_قابلتك هناك وكنتِ تبكين لأن درجاتك لم تكن تعجبك.
_وأنا ركضت إليك ورجوتك الا تخبر أبي.. لكنك فاجأتني بدخولك لمبنى إدارة المدرسة.. عدت مبتسماَ والورقة في يدك.. لأكتشف أنني من لهفتي قرأت درجات واحدة غيري.. يالله! كم كنت حمقاء!

تقولها وقد تحولت ابتسامتها لضحكة انتهت بدمعة خفية في طرف عينها.. ليقول وقد شعر بما تعانيه :
_لستِ حمقاء.. بل عاطفية..مشاعرك تسبقك.

يقولها بنبرة جاهد قدر استطاعته أن تكون محايدة فترفع عينيها إليه بقولها الساخر بمرارة :
_وهؤلاء يخسرون كثيراَ في هذه الأيام.
_بل يدخرهم الزمان لأشباههم.. ويستخسرهم في أضدادهم.. صدقيني.

يقولها بدفء عذب طوق قلبها فتتنهد قائلة بحزن :
_لم أعد أهتم بنفسي! لا يعنيني أن أخسر او أكسب.. سيد يظن أنني أترقبه.. أفرح لخسارته وأحزن لزواجه.. الغافل لا يفهم أنني لم أعد أفكر إلا في اولادي.. لم يعد يعنيني إلا أن أنجو بهم من سوء اختياري.

_ستفعلين! انا أثق بكِ.
يقولها بحسم فتلتفت لتبتسم له بارتياح..
ابتسامتها تبدو مرتاحة حقاَ وهي تحلق بين عينيهما!
كأنه كان يكفيها ان يقولها هو لتستمر هي في تصديق نفسها!!

يدخلان معاً أخيراَ لمحل الزهور فتتركه يشتري الزهور البيضاء بينما تشرد هي في بقية الزهور المعروضة..

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


تثرثر سندس كعهدها وهي تضع أربعة أكواب بلاستيكية من العصير على الطاولة القريبة.. اثنان من القصب واثنان من الأفوكادو..
تغمس نبرتها بدلال يبدو مضحكاَ مع طبيعتها الفطرية وهي ترمش بجفنيها عدة مرات مخاطبة فاروق وقد تعمدت ترقيق صوتها :
_تشرب (الأفوكادو) معي؟!

تتسع عينا أمينة بتفحص وقرون استشعارها الأنثوية لا تخطئ تمييز نظرات الإعجاب في عيني سندس..
لكن فاروق يبدو غافلاً عن كل هذا وهو يتراجع للخلف منكساَ رأسه في طريقه للدور العلوي يقول إنه لا شهية له.

_فاروق!

نداءها يفاجئها قبله!
لم تعرف لماذا شعرت بحاجة ملحة أن تناديه في هذه اللحظة!
أن تستبقيه جوارها!
كل الأمان الذي يمكنها الشعور به ينسحب عنها في غيابه!
ألم تكن هي هي من تريد الهروب منه؟!!
آآه يا أمينة آه! ماذا جرى لك؟!!
عقلها العنيد يتشبث بتبريره أنها لا تريد تركه وحده في هذه الحال بعد إهانة أبيها له!

كفها المرتجف يتناول كوب عصير القصب.. لكنها لسبب لم تعلمه.. تجد نفسها تمسك كوب عصير الأفوكادو كذلك.. تتقدم بهما كليهما نحوه.. تقول بارتباك طفيف :
_اختر واحداَ منهما.. اشربه ولا تكسر خاطر سندس.


تبتسم لها سندس بامتنان ساذج وهي ترفع كوبها لشفتيها تشربه متصنعة الخجل..
بينما لا يتردد فاروق لحظة وهو يتناول من أمينة كوب عصير القصب متمتماَ :
_أحب القصب مثلك.. لا أحب التجارب الجديدة.



ومن جديد يمتزج الخوف الوليد برضا أنثوي مكبوت في نفس أمينة التي ترفع عينيها المرتبكتين نحوه كأنها تراه من جديد لأول مرة..
كعهده يغض بصره عنها لكنها في هذه اللحظة كانت تشعر وكأن جسده كله - عدا عينيه- تحول لعيون تحدق فيها!

_خذي كوبك.


تهتف بها سندس وهي تناولها كوب العصير خاصتها فترفعه أمينة لشفتيها وهي تفكر..
هو كان قد اوصى سندس قبل حضورها هي أن تأتي لها بعصير القصب الذي تحبه في منتصف اليوم!
لماذا لا تتعجب؟!
وكيف واهتمامه الغامر بها يبدو لها دوماَ كأنه خلفية الصورة الكبيرة التي تجمعهما..


في اي زمان.. في أي مكان..
هو دوما كسحابة خبيرة تتبعها أينما سارت تعرف متى تحتاج هي المطر فتمطر ومتى تحتاج الظل فتُظلّ!



ماذا دهاكِ يا أمينة؟!
هل هو شيطانك يسول لكِ أن تترجمي أفعاله بما يرضي كبرياءك كامرأة هجرها زوجها؟!
هل هكذا تنتصرين لأنوثتك المهيضة ؟!
دعي عنكِ هذا الهراء وإلا ستصيرين حقاَ كما يقول سيد..
(مجنونة)!

والخاطر الأخير يدفعها لأن تسأل فاروق بنبرة جادة وهي ترفع عينيها في وجهه بثبات خادع وقد استغلت خروج سندس لترمي الأكواب الفارغة..



_دعنا نتجاوز كل ما حدث اليوم.. لن ننهزم من أول جولة.. أنا أحتاج العمل هنا.
فيكمل بسرعة وقد خشي أن تعود لاستسلامها :
_وأنا أحتاجك للعمل معي.. سندس كما رأيتِها خفيفة العقل.. والفتاة التي كانت تعمل قبلها لم تكن على قدر كبير من الأمانة.. وأنا أحتاج لمن يمسك الحسابات ويتابع العمل.


_طيب.. لكن.. ليكن اتفاقنا واضحاَ.. علاقتنا هنا علاقة موظفة وصاحب محل.. لا مجاملات.. ولا محاباة.. من ناحيتك.. ولا تقصير من ناحيتي.
_موافق.
_عدد ساعات العمل؟
_كما تريدين.
_من أولها هكذا؟!
تهتف بها عاتبة فيتنهد قائلاً :
_ست ساعات من التاسعة للثالثة.
_ممتاز.. والراتب؟!
_كما..
يقطع عبارته فجأة مع نظرتها العاتبة تذكره بما كانت تقوله.. ليبتسم مغيراَ مسارها :
_كما كانت من تعمل هنا قبلك.
يقولها وهو يذكر لها الرقم فتبتسم بدورها قائلة :
_اتفقنا.

يهز رأسه برضا وهو يعطيها ظهره كي يغادر من جديد..
ليصله صوتها من خلفه :
_أستحلفك بالله.. لا تفكر في كلام أبي.. لا تدعه يضايقك.. أنت تعرف كم يحبك.. تعرف أنه قال كل هذا من وراء قلبه.. هو فقط غاضب.. غاضب مني أنا.. لكن.. أنت لا تستحق إلا كل تقدير.. عدني ألا تضايق نفسك باسترجاع كلامه.

فيلتفت لها برأسه قائلاً :
_مهما فعل هو أبي.. لا أنسى فضله أبداَ.. لا تقلقي أنتِ.

يقولها ليغادر أخيراَ صاعداَ نحو (مخبئه) كما تسميه سندس.. فتتنهد أمينة بحرارة وهي تجلس على المكتب في أول المحل.. تفتح الحاسوب وهي تحاول ترتيب ذهنها..
كانت قد ساعدت أباها لفترة في تولي حسابات واحد من محلاته قبل زواجها من سيد..
وقتها كان الأمر يدوياَ بسيطاَ..
ومنذ سنتين تقريباَ كانت قد أخذت دورة الكترونية في هذا الشأن وقد كانت تنتوي مساعدة سيد في عمله..
لكن يبدو ان القدر كان يدخرها لهنا..

تتوهج ملامحها بتحدّ يبذر القوة في ملامحها واناملها تضغط الأزرار بحماس..
لن يكون وجودها هنا مجرد تحصيل حاصل..ستترك بصمتها وستنجح!
======




مصر.. الفيوم

_وصلتك هديتي؟! ليتها تكون قد أعجبتك.. ولو أنني أظن أنك لم تقدري على استخدامها بعد..

تقولها طيف عبر مكالمة مرئية فتبتسم فجر أمام شاشة حاسوبها المحمول وهي تنكس رأسها بتنهيدة حارقة..
طيف أهدتها هدية ليلة زفافها لكنها لم تستطع استخدامها أبداَ!
أهدتها (عوداَ)!

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


_لم أقصد مضايقتك لكنني امرأة تعلمت بالطريقة الصعبة أن المواجهة أفضل من الهروب.. أنا أتتبع أخبارك من ديمة.. وأعرف كم تتقدمين بتعسر في طريقك الشاق.. وأكاد أجزم أن آخر خطواتك ستكون يوم تكونين قادرة على العزف على العود من جديد!

تقولها طيف بنبرتها القوية كالعادة.. فتتنهد فجر وهي ترفع رأسها :
_لهذا كلمتك اليوم.. لا أريد فضح أمور شخصية لكنني في مأزق.. فيصل لم يعد وحده من يعاني بسببي.. أشعر وكأنني كالعادة جلبت المصائب لكل من يقترب من طريقي.

_وما يدريكِ ان العكس ليس الصحيح؟!
تقولها طيف بفطنة فينعقد حاجبا فجر وهي تسمعها تردف ببصيرة لا تنقصها :
_لا أعرف ما يحدث عندك لكن يمكنني استنتاج بعض الأمور مما سمعته.. لا أخفيكِ قولاَ.. عندما سمعت عن زيجتك منه.. قلت لنفسي أنك أمامك حلان لا ثالث لهما.. إما أن تنخرطي في دور الضحية التي تمص دم منقذها حتى النهاية.. وإما أن القدر يدخر لكِ أنت دور المنقذ أخيراَ.. تنقذي نفسك.. والجميع حولك!

تسكت فجر للحظات وكأنما تعيد ترتيب الكلمات في خاطرها..
كلمات طيف تجد صداها في صدرها حقاَ لكنها كانت تخاف أن تكون تثقل الحمل على فيصل من حيث تظن انها تخففه!

_باختصار.. كان أمامك طريقان.. وانت اخترت الأنبل الذي يليق بكِ.. فأكمليه لآخره..لا تترددي.

تقولها طيف بحسم فتبتسم لها شاكرة لكن طيف تردف بنبرة أقوى:
_لا تشكريني بالكلمات.. سيصلني شكرك حقا في اول لحن تعزفينه على العود الذي أرسلته لك.. سيكون هذا شكري.. وشفاءك.

تتنهد فجر بمزيج غريب من قلق وارتياح وأناملها تمتد لتتحسس الحاسوب كي تغلقه بعد انتهاء الاتصال..
من يدري؟!
ربما يوماَ قريباَ تتمكن من تجاوز هذا السد كذلك!
ربما يوماَ ما تصالح ألحان العود!
ربما.. عندما تشعر أنها عادت (فجر القاضي) القديمة..
بكل عنفوانها وقوتها التي تدفعها للطريق الصحيح.. لا الخطا كالمرة السابقة!

تسمع صوت زجاج يتكسر.. فتنتفض مكانها وهي تنادي فيصل عفوياَ..
لكنها تدرك أنه قد يكون في الشرفة البعيدة لن يسمعها..
تنهض من مكانها ثم تخلع نعليها كي يمكنها تحسس الأرض وتتبع خطواتها بطريقتها التي تعلمتها..
تتحسس ملمس السجادة الصوفية..
تعد خطواتها كما حفظت وهي تفرد ذراعيها أمامها.. لتتوجه نحو الشرفة..
هناك حيث بقي هو من أول الليلة بعد مواجهته مع أمه وحنان..!

تصل أخيراَ لمدخل الشرفة تهم بالتقدم أكثر لكن هتافه يصلها :
_توقفي.

تشعر بصوته المستنزف رغم الحنان المعهود في نبرته..
تحس به يقترب.. يمسك كفها في كفه وهو يتحرك بها مبتعداَ :
_هنا الكثير من الزجاج المكسور.. تعالي نذهب لغرفتنا.. سأطلب من ميسرة ان تتولى الأمر هنا.




هو سمح لميسرة بالبقاء هنا بعد الحادث الأخير الذي اتهموها فيه أنها هي من دبرت مع سيد تلك المكيدة للإيقاع بينها وبين فيصل..

لم يكلمها هي في الأمر لكنها تعرف أنه يثق بميسرة كما تثق فيها هي وحسام..
هذا يعني أن شخصاً آخر هو من دبر تلك المكيدة!
شخصاَ تكاد تجزم أنه.. ملاذ..
لكن.. ما الدليل؟!



_كيف عرفتِ إنني هنا؟!

صوته المرهق يتسرب بائساَ لأذنيها فتقول دون تفكير :
_صرت أهتدي بأنفاسك.

لم ترَ ابتسامته لكنها شعرت به في تنهيدة حارة كادت تخرق أذنيها وهي تحس بهما أخيراَ يصلان لغرفتهما من جديد..
تسمع صوت إغلاق الباب فتسأله بوجل :
_ماذا حدث؟!.. أي زجاج قد انكسر؟!.. أنت من كسرته؟!

زفرة مشتعلة تفر من بين شفتيه بما يشبه اعترافاَ ضمنياَ..
لم يحدث له أبداَ من قبل ان تملك منه غضبه إلى هذا الحد!


لم يشعر بنفسه مع كل هذه الضغوط التي واجهها مؤخراَ إلا وهو يوجه قبضته نحو زجاج نافذة الشرفة فيكسره!!

يطبق فكيه بقوة كاتماَ ألمه وهو يراها تتحسس كفه الحر الذي لم يمسك به يدها كأنما أنبأها قلبها..
لتشهق وهي تشعر بالملمس الزلق للدم :
_انت تنزف؟!


_لا عليكِ.. جرح بسيط!.. سأقوم بتضميده حالاً.

تشعر به يبتعد ساحباَ أنفاسها معه..
ولأول وهلة تشعر بالخوف يضربها من جديد..
يحمل لها ذكرى بملمس الدم أيضاَ على راحتيها!
فهمي!
دوامة عنيفة تكاد تجتذبها قسراَ من جديد لكنها صارت تملك من القوة ما يمكنها من مقاومتها..



_فيصل!

يلتفت مع ندائها فيراها تتحسس خطواتها لتعاود الاقتراب منه بقولها :
_دعني أنا أضمد جرحك.

تنفرج شفتاه بدهشة كان محقاَ فيها وهو يهم بسؤال منعه خشية أن تسيئ تأويله..!!

لكنها تصل إليه أخيراَ.. ترفع كفها نحوه قائلة بابتسامة واهنة :
_لا تتعجب.. كما عرفت مكانك وحدي.. كما سرت إليك الآن وحدي.. يمكنني كذلك تضميد جرحك..

ورغم كل شيء يجد لابتسامتها صدى على شفتيه في ابتسامة تشبهها..
يتحرك ليحضر الأدوات من خزانة قريبة ثم يعود بها إليها..
ليضعها فوق المائدة ثم يجلسها هي قائلاً بامتنان تشارك مع الجرح في صوته :
_ومن مثلك قادر على تضميد جرحي؟!

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


الشعاع الثلاثون
======

مصر.. القاهرة

_لأنني..!
_لأنك أخي!

تقاطع بها أمينة عبارته قبل أن يكملها وعيناها الدامعتان مع لهاث أنفاسها يكتمان خوفاَ بلا حدود ينهش روحها الآن!!
لم تكن واثقة كيف سيكمل عبارته..
لكن هذا الشعور المستحدث داخلها يصيبها بذعر قاهر!!
عبث!!
كل ما يجول في خاطرها هذا عبث!!
هو أخوها.. لا يمكنها ان تتصور ان يضعها في خانة أخرى..
وهي؟!
هي الأخرى لا يمكنها وضعه في خانة أخرى..


خاصة مع هذه الفوضى العارمة التي تزعزع دواخلها في هذه الفترة!!

كلماتها متلعثمة.. متخبطة.. وعيناها تهربان من عينيه يميناَ ويساراَ.. كأنها تقنع نفسها :


_لم يكن ينبغي ان أسأل سؤالاً كهذا وأنا أعرف إجابته.. أنت أخي.. أوسع ارزاقي من القلوب الطيبة.. الركن الحصين الذي أثق أنه سيؤويني ولو انهدمت جدران عالمي كلها!

لم ترَ النظرة الملتاعة في عينيه وإن شعرت بوخز قوي في قلبها لم تفهم مصدره..
لم ترَ زمة شفتيه القوية كأنه يمنع قلبه أن يغافله باعتراف عشقه!
يأخذ نفساَ عميقاَ وهو يشعر أن كل ما فيه الآن يوجعه..
أهونها صفعة خده من أبيها..
وأوسطها ما ناله من إهاناته..
وأقساها شعوره بالعجز أمام الخوف النابض في عينيها والذي لا يعرف كيف يداويه وبينهما كل تلك الأسوار!

ومع هذا يشكر لها مقاطعتها لاعترافه!
الآن يقف له عقله بالمرصاد مدركاَ كم كان سيخسرها لو فعل!!
لم تكن ستصدقه..
ولو صدقت لم تكن ستقبل..
ولو قبلت لم تكن ستكمل..
إلا مجبورة بحاجة!
كيف كان سيفعل بها هذا؟!!

رنين هاتفها يقاطع أفكارهما الصاخبة الآن فتتناوله لتميز رقم عمها..
تفتح الاتصال لينساب صوت ليان المرح :
_كيف حالك في العمل؟! نجحتِ؟!

تبتسم وهي تمسح بقايا دموعها.. تختلس نظرة مقتضبة نحو فاروق الذي كان يسمع المكالمة من مكانه..
تحاول التكلم لكن غصة حلقها تمنعها فيشير هو لها أن تعطيه الهاتف..

_أمكِ لا تفشل أبداَ..
يقولها وقد تمالك نفسه بسرعة تليق بخبير في الصبر مثله..
فتضحك ليان هاتفة بمرح :
_تعني أنها نجحت؟! تعطيها خمس نجمات؟!
_أعطيها النجوم كلها بسمائها وقمرها!

ترفع أمينة إليه عينيها في تلك اللحظة مع عبارته التي خرجت سريعة عفوية..
وهي تتذكر أنها ليست المرة الأولى التي تسمعها منه..
كلاهما في نفس اللحظة يستعيد تلك الذكرى التي تطفو طازجة من طفولتها..

ذاك اليوم الذي اتت فيه باكية من مدرستها لأن المعلمة أعطتها ثلاث نجمات فقط من خمسة بسبب سوء خطها..
جلست على سلم البيت تبكي وعندما رآها اندفع إليها كعهده يسألها عن سبب بكائها فأخبرته..
طلب منها ان تستخرج كراسة الواجب من حقيبتها.. نظر فيها قليلاً لتعبس ملامحه :
_دعيني أعلمك كيف تحسنين خطك.

ساعة كاملة وربما أكثر قضاها حينها جوارها على السلم صابراَ.. تخطئ فيصحح لها خطأها.. حتى كتبت أخيراَ بخط جيد..

انفرجت أساريرها وهي تقف فجأة رافعة كراستها بصيحة انتصار طفولية.. فضحك وهو يقف بدوره يصفق لها..
ثم سألها باهتمام (جعتِ؟!) فرمقته بنظرة مذنبة وهي تفتح حقيبتها لتستخرج كيس شطائرها كاملاً لم يمس..
هزة رأسه العاتبة حينها ناقضت حناناَ فطريا استوطن خشونة كلماته:
(كعادتك.. تحزنين فلا تأكلين.. ما ذنب بطنك؟!)
ضحكتها الطفولية كانت تشبه اعتذاراَ حلواَ فاستخرج من جيبه قطعة من حلوى (العسلية) رفعها في وجهها :
_كلي شطائرك كلها كي لا تغضب أمي.. كليها وخذي هذه كمكافأة.
فدمعت عيناها وقد أدركت حتى في هذه السن الصغيرة كم يحرم هو نفسه كي يحضر لها الحلوى..
مصروفه ليس كبيراَ مثلها.. وربما لا يأخذه من أبيها بانتظام.. لكنه يدخره لمناسبات كهذه!
ضمته ساعتها بخفة طفولية فربت على شعرها ثم انتظرها صابراَ حتى انتهت من طعامها..
رفعت كراستها أخيراَ لتسأله بلهفة :
_هل سترضى عني المعلمة غداَ؟!
هز رأسه مشجعاَ بثقة فسألته بضحكة بريئة :
_لو كنت انت مكانها ستعطيني الخمس نجمات؟!
_أعطيكِ النجوم كلها بسمائها وقمرها!


سخونة الدمع الذي سال على وجنتيها الآن تنتزعها من شجن الذكرى..
تغلق الاتصال مع ابنتها بكلمات شاردة لم تتبينها وهي تشعر أنها تقف على ساقين من هلام!

قلبها يتخبط بين ضلوعها ككرة طائشة في يد لاعب مجنون!
من أين نبتت ذكرى كهذه وشبيهاتها الآن؟!
وقد بقيت طوال تلك السنوات مطمورة تحت تراب ثقيل؟!!
لماذا يتآمر عليها قلبها الآن فيستحضر المزيد من ذكريات كهذه؟!
ما الجديد؟!
هو ذا فاروق الذي عرفته أخاَ عمرها كله!!
ما الجديد؟!
ما الجديد؟!!

تكاد تصرخ بعبارتها الأخيرة دون وعي لكن دخول سندس ينقذها..

_العصير! لا أحب عصير القصب.. لي معه ذكريات سيئة.. بصراحة يذكرني بأيام العوز والحاجة.. الآن أحب عصير (الأفوكادو).. يسرا عودتني عليه.. فاروق كان قد أوصاني قبل حضورك أن آتيكِ بعصير القصب طازجاً في منتصف اليوم.. لكنني أرى التوقيت الآن مناسباَ..

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


ينتظرها صابراَ وهو يراها تمد أناملها تتحسس الأدوات.. تعرف بعضها بسهولة.. وتخمن الآخر فتسأله ليصحح لها..
تطلب منه أن يفتح كفه..
وبأنامل مرتعشة تتحسسه حتى تصل لموضع الجرح..
يشعر بانتفاضة جسدها المكتومة فيدرك أي ذكرى قاسية تنتابها الآن..
ليغمغم بنفس الصوت المرهق الذي لم تغادره عاطفته :
_لا تقسي على نفسك.. أنا أعرف ماذا تعانين الآن.

لكنها تغتصب ابتسامة وهي تحاول كسوة صوتها المرتعش ببعض المرح :
_خائف أن أؤذيك أكثر؟!

_لا تؤذيني أبداَ.. كل نفَس اتشاركه معك راحة وشفاء.

الصدق يصبغ حروفه ويجعل ابتسامتها تتسع أكثر وهي تجتهد فيما تفعله..
يساعدها قدر استطاعته تاركاَ لها أغلب المهمة وقد شعر بحدسه أنها تحتاج فعل شيء كهذا..

تنتهي من لف كفه أخيراَ بالشاش فيشاركها محاولة لصقه لتهتف بابتسامة واسعة :
_هه؟!.. أتممتُ المهمة؟!
_على أكمل وجه.
الاعتزاز في نبرته لا يهزم الشرود الذي ابتلعه لدقائق بعدها..
والذي آثرت هي الا تتدخل فيه مؤقتاَ حتى سمعته يقول برقة حانية :
_سهرتِ كثيراَ الليلة.. هيا كي تنامي.

_هل تهرب مني؟!


تسأله بشجاعة وهي تمد كفها باحثة عن كفه الذي تضغطه بنعومة.. فيتنهد قائلاً بانفعال :
_انتِ التي أهرب إليها.. ولا أهرب منها أبداَ.
_إذن.. هل تشعر بالحرج نحوي بعدما قالته حنان عني؟!

ينخفض بها صوتها رغماَ عنها.. فيعلو صوته بالمقابل محاولاً التنفيس عن غضبه المكتوم :


_هي لم تقصد إهانتك..هي كانت تحاول البحث عن جدار تتوارى خلفه من خطئها.
_لكنها لم تخطئ.. هي أحبت!
_أحبت الشخص الخطأ.
_ومن يحكم فيها هذه؟!!.. وأي عين ترى الصواب من الخطأ؟! هل تعرف ذاك الرجل؟!

رقتها تكسو عتابها فيزفر قائلاَ بضيق :


_هذا ما كنت أنتوي البحث بشأنه غداَ.. أن اعرف كل صغيرة وكبيرة عنه.
_كنت واثقة أنك ستفعل..
تقولها بإكبار وكفها الآخر يلحق بصاحبه في ضمته القوية ليده السليمة :
_مهما كان غضبك.. مهما كانت صدمتك.. لن يجعلك هذا تظلم شقيقتك أبداَ.


آهة قوية تغادر شفتيه وهو ينحني بجذعه نحوها.. مجرد قربها منه هكذا يمنحه بعض الراحة..
صوته يتأرجح بين غضبه وضيقه :
_الأمر ليس بهذه السهولة.. أمي لم تعد تضغط علينا بصرامتها وقوتها.. بل بضعفها! بخوفنا عليها!.. خاصة بعد سقوطها الأخير.. أشعر وكأنني صرت فجأة أحمل ذنوب العالم كلها فوق كتفي.. أمي.. ملاذ.. وقبلها خالتي.. والآن حنان كذلك! لماذا يبدو الثمن باهظاَ هكذا؟! كل ما اردته أن أختار المرأة التي اريد أن أكمل معها عمري.


_وحنان كذلك! هي ترى من وجهة نظرها أنها اختارت الرجل الذي تريد أن تكمل عمرها معه.. لماذا تحلل لنفسك ما تحرمه عليها؟!
تقولها بصبر متفهمة غضبه الذي يحرق حروفه :
_لستما سواء!.. هل تساوين نفسك بهذا اللص؟!
فتهتف عاتبة :
_لازلت لم تعرف عنه شيئاَ.. لازلت تنظر إليه بنفس المرآة التي ينظر بها الناس إليّ!
_لا يا فجر.. لا..

يهتف بها بانفعال وهو يهب واقفاَ.. فتقف بدورها تتحسس ظهره حتى تصل لكتفيه فتقبض عليهما بقوة قائلة :




_بل نعم.. كل ما في الأمر أنك تراني بنظرة (عاشق).. وتراه هو بنظرة (اخ).. العاشق تدفعه عاطفته نحو حبيبته.. والأخ يسوقه خوفه على اخته... خوفٌ لا ألومك عليه لكنني أرجوك فقط أن تروضه.. أن تصبر حتى تتضح الأمر أكثر.. ربما.. ربما يكون باطن الأمر أعمق كثيراَ من ظاهره.. حنان بدت لي بائسة.. أعرف شعورها هذا.. لا تتركها لظلماته.. لا تجعلها تشعر أنها تحارب وحدها.. حتى لو قررت في النهاية أن ترفض وجود ذاك الرجل في حياتها.. لا تجعلها على الضفة الأخرى من نهر عناد بينكما.

يتنهد مفكراَ وهو يستدير نحوها بجسده..
يربت على شعرها برفق قائلاً :
_معك حق.. سأصبر حتى أعرف كل شيء عن ذاك الرجل.. وبالطبع لن أوافق أمي على رغبتها في تزويجها الآن أبداَ.

_شكراَ.


تهمس بها مبتسمة وهي ترفع أناملها تتحسس ملامح وجهه مردفة :
_اراك الآن في أجمل صورك.. شكراَ لأنك لم تخذلني.. شكراَ لأنك سمحت لي أن أضمد جرحك.. شكراَ لأنك جعلتني أفعل شيئاَ.. أي شيء.. يشعرني بهذه الراحة التي تملأني الآن.

يخفق قلبه بجنون وهو يشعر أنه يبذل مجهوداَ خرافياَ كي لا يحتوي شفتيها الجميلتين بما يليق..
لكنه يضمها لصدره بكل قوة عاطفته هامساَ جوار أذنها بحروف تقطر عشقاَ :
_بل أنا من أشكرك.. وجودك جواري يسندني.. يمنحني القوة لأكمل الطريق حتى لو لم أكن ارى آخره.

تتسع ابتسامتها لأول وهلة قبل أن تشعر بعناقه يزداد حرارة.. وخطورة!


ينتقل بها لتلك المنطقة الوعرة التي تخشى ولوجها..
يدغدغ أنوثتها ملوحاَ بهذا اللهب الخطر الذي صار محرماَ على كهوفها المظلمة..
رجفة خافتة لكنها بدت شديدة الدوي في بلاط قصرها الخالي!!


فتتلاحق أنفاسها وهي تدفعه برفق هاتفة بارتباك :
_أشعر بالنعاس.. انت أيضاَ تحتاج لأن تنام مبكراَ.. كي تتابع ما يشغلك بالغد.

تحتقن ملامحه بحرمان فطري لكنه يتمالك نفسه بصبر وهو يتحرك معها نحو فراشيهما المنفصلين..

_تصبحين على خير..

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


كم مر على عملها هنا؟! يومان؟! ثلاثة؟! أكثر؟! لم تعد تحسب!
سيد سيتزوج!
لا يعنيها الخبر!
العجيب أن الخبر حقاَ لا يعنيها!
هو كان سيتزوج فجر.. ماذا لو استبدلها بغيرها؟!
ما سر هذا الحزن الذي يملأ قلبها إذن؟!
ربما هو شعورها بالظلم!
لا يزال أبواها يضغطان عليها بكل الطرق كي تعتذر له لعله يرجع عن هذه الزيجة!
لا يزال هو عازفاَ عن رؤية أولاده أو حتى التحدث إليهما عبر الهاتف كأنه هو الآخر يضغط عليها باشتياقهما الفطري الطفولي نحو أبيهما!
وبالذات معاذ الذي كان مرتبطاَ به أكثر من ليان!
يسألها عنه كثيراَ ويبكي.. واليوم صباحاَ فوجئت بتلك البقعة الكبيرة المبللة على فراشه عندما استيقظ!
عندما اكتشف الصغير ما حدث دفن وجهه في صدرها خزياَ وقال إنه لم يتعمد ما حدث!
قلبها يبكي دماَ بين ضلوعها وأخشى ما تخشاه أن تكون حقاَ تضيع أولادها بموقفها هذا!

وأخيراَ..
يهزم قلب (الأم) كبرياء (الأنثى)!
فتجد نفسها تتناول هاتفها بأنامل مرتجفة تضغط زر الاتصال به!

وفي مكانه كان سيد في اجتماع عمل مع أحد شركائه ذوي الأهمية الخاصة..
لكنه ما كاد يرى اسمها على الشاشة حتى شعر وكأن قلبه انتفض بمس كهربائي قذفه من مكانه!
يعتذر من الرجل بكلمات مبهمة لم يتبينها وهو يجد نفسه يهرول نحو أقرب مكان يمكنه فيه التحدث بحرية..
يأخذ نفساَ عميقاَ محاولاً تمالك لهفته ثم يفتح الاتصال..
لكن صوته يخرج عنه رغماَ عنه مبحوحاَ متحشرجاَ :
_أمينة.

يغمض عينيه بقوة وهو يشعر بمزيج هائل من مشاعر يكتسحه!!
حنين.. لهفة.. غضب.. وعيد.. وحب يغلف هذا كله!!
يوماَ ما كانت مكالمتها هذه (عادية)!
تتكرر على مدار اليوم كدواء مضبوط الجرعة يكفيه كي يبقى قلبه على نمط إيقاعه المعهود!
لكنه الآن يشعر وكأنها (معجزة) !
سحابة عاقر قررت فجأة أن تمطر فوق صحرائه!!

_ماذا تريدين؟!
صوته يكتسب بعض الصلابة محاولاً السيطرة على خفقات قلبه الهادرة..
ليصله صوتها قوياَ واثقاَ لكن غارقاَ في حزنه :
_أما أنا فلم أعد أريد منك شيئاَ.. أنا أكلمك لأجل الصغيرين.
_ما لهما؟!
يسأل بقلق حقيقي فيكتسي صوتها ببعض السخرية المرة :
_ربما لا يمكنك فهم شيء كهذا.. لكنهما يفتقدانك.. يفتقدانك وإن كنت لا تفعل!

ينعقد حاجباه بوهن فطري وهو يشعر باشتياقه لحياته القديمة يستنزفه!
لها.. لطفليهما.. للبيت الدافئ الذي يفتح له ذراعيه آخر اليوم!
لكن غروره يدفعه للرد ببرود :
_تصرّفي! ألستِ انتِ السبب في حرمانهما من أبيهما؟!

تدمع عيناها بقهر مع هذه الابتسامة الباردة التي ذبحت شفتيها!
لماذا؟!
لأن هذا الرد بالضبط هو ما كانت تتوقعه تماماَ!!


نجحت في (اختبار) فهمها له.. وفشلت في (اختيار) عشقها له!
نجحت في الاختبار.. وكانت قد فشلت في الاختيار!!



يطول صمتها وهي عاجزة عن إيجاد كلمات!
حتى (قلب الأم) لم يستطع الصمود أمام طغيان غروره!

ولما استبطأ ردها وجد نفسه يغمغم بصوت مرتجف.. رجاءه الخفي يمتزج بغطرسته في مزيج مدهش لا يليق إلا برجل مثله :
_ماذا تريدين من هذه المكالمة؟! تريدين أن تعتذري؟! أن تطلبي مني أن أردك لعصمتي؟!

يطول صمتها أكثر فينتعش بعض الأمل في قلبه.. لكنها تقول أخيراَ :
_(انت تعرف ما بقلبي) !

يكاد يبكي!
حقاَ يكاد يبكي اشتياقاَ في لحظة كهذه وهو يقسم أنها لو كانت أمامه الآن لما تركها إلا أسيرة ذراعيه!!

(أنت تعرف ما بقلبي)!


عجباَ لها من كلمات كانت يوماَ ما ترفعه فوق أعلى غمام العشق..
والآن تخسف به سابع أرض!!
يتهلل قلبه فرحاَ لأول وهلة وهو يتذكر كل مرة كانت تقولها في الماضي..
قبل أن يغور بين ضلوعه مدحوراَ وهو يتبين مقصدها الآن..!!

لم تكن تحتاج أن تكمل عبارتها لكنها تفعلها :
_جثة!.. الحالة الوحيدة التي سأسمح لنفسي فيها ان تعود إليك هي أن أصير جثة.. لكن مادام في قلبي نفَسٌ ينبض لن أعود لك على قدميّ أبداَ.

صرخة غضب عارمة يطلقها دون تحكم وهو يجد نفسه يضرب الجدار المجاور بقبضته غير مكترث بألم..
ولا مكان.. ولا زمان.. ولا ظروف..
وحده غروره يحكم سيطرته على كلماته :
_أنا الذي لن أعود إليكِ.. من تظنين نفسك؟! قريباَ أتزوج من هي خير منك مالاً ونسباَ وأدباَ.. وأنتِ ستعضين أصابعك ندماَ على ما ضيعته من يدك!

_أنا رأيت حقاَ من يعض الآن أصابعه ندماَ.. ليس على خسارتي فحسب.. بل على خسارة كل شيء.. أنا.. الأولاد.. البيت.. فجر.. وقريباَ المحل!

تقولها وقد عجزت عن كتمان ردها ليهتف بجنون فقد معه المزيد من أعصابه :
_لهذا بالضبط سترين من سيضحك أخيراَ! سترين كيف سأقلب الموازين كلها بزيجتي القادمة.. شاهدي وتمتعي بالعرض!

تنهيدة يأس تفر من حلقها تناسب قولها :
_سيد!.. أنا لم أعد مهتمة بالمشاهدة ولا بالعرض.. ما بيننا صار فقط طفلان بريئان لا ذنب لهما أنك طلقت أمهما ولا ينبغي أن تطلقهما معها.

رواية على خد الفجر

09 Nov, 21:10


يقولها بخفوت وهو يستلقي على فراشه يملأ عينيه من ملامحها..
فتردها له وهي تعطيه ظهرها لترفع عليها غطاءها شاعرة بالمزيد من الارتباك..

الارتباك الذي منعها من النوم لساعة كاملة بعدها وهي تنقلب على جنبيها ذات اليمين وذات اليسار..
تشعر بوجهها شديد السخونة وهي تتذكر عناقه الأخير..
ماذا دهاها هذه الليلة؟!
لم تكن أول مرة يعانقها هكذا فلماذا تشعر بهذا الأثر الآن ؟!
ربما.. الأثر من داخلها هي!!
ربما لأنها أول مرة تشعر أنها ذات فائدة!!
أن كفها ليست خالية كما كانت تظن!!
ابتسامتها تتوج ثغرها وهي تتذكر نجاحها في تضميد جرحه..
نجاح بسيط.. لكنه يعني لها الكثير!!
ليس جرحه فحسب..
بل رأيها في قصة شقيقته!!

تنقطع أفكارها وهي تسمع صوته يهذي في نومه فينعقد حاجباها بألم..
لم تسمعه من قبل يفعلها!
تدمع عيناها وهي تسمع تمتمته فتدرك أنه يواجه كابوساَ..
تغادر فراشها قدر ما استطاعت من سرعة لتتحسس طريقها نحو فراشه..
تجلس على طرفه لتتلمس صدره حتى تصل لكتفه فتهزه برفق هاتفة :
_فيصل.. استيقظ..

يبقى على تمتمته الهاذية لثوانٍ مرت عليها كسنوات.. قبل أن يشهق فجأة وهي تشعر به ينهض من نومته..

_أنا هنا.. اهدأ..

أناملها تتلمس طريقها لوجهه ولم تكد تفعل حتى تضم رأسه لصدرها.. لا تختار كلماتها.. تطلقها حرة عفوية دافئة :


_أنا جوارك.. لا تخف.. عيني لا تراك لكنها تدخر صورتك.. خدي صار يحفظ أثرك فلا تلمع غمازته إلا بابتسامة تخصك.. كفي دونك ضال لهذا لا يترك كفك.. وقلبي..

تقطع عبارتها فجأة فتتلاحق أنفاسه وهو يشعر انه لا يزال يحلم..
هي هنا.. جواره.. على فراشه..


تضم رأسه لصدرها بهذه الكلمات التي ما أراد سماع أكثر منها..
بل أراد!!
لو لم يكن الطمع في شأن كهذا.. ففيما يكون ؟!

يهز رأسه برفق كأنه ينفض عنه أثر كوابيسه دون ان يتخلى عن احتضان أناملها هي له..
يمد ذراعه يضمها إليه برفق.. هامساَ بصوت متحشرج لم يفارقه أثر النوم..
يستزيدها من البوح :

_وقلبك؟!

تزم شفتيها المرتجفتين بقوة وهي تشعر بخفقاتها تتعالى.. فتجف كلماتها فجأة كأنها أضاعت كل الحروف..
تشعر به يرفع رأسه قليلاً فتغمض عينيها لتشعر به يقبل عينيها هامساَ :
_قبلتان لعينيك اللتان تدخران صورتي..



ثم ينخفض أكثر.. .

_وقبلة لخدك الذي لا تلمع غمازته إلا بابتسامة تخصني..

يزداد صخبها دوياَ وهي تشعر به يتناول كفها يقبله بهمسه :
_وقبلة لكفك الذي لا يترك كفي..



ثم تنكتم أنفاسها تماماَ وهي تشعر بشفتيه تحطان على موضع خافقها بقبلة ما شعرت بأرق منها.. ومعها همسه الأكثر دفئاَ :
_وألف قبلة لقلبك حتى يطمئن.. فيبوح.. ولا يتركني هكذا معلقاَ في انتظار كلماته!

آهة خافتة تفر من شفتيها وهي تفكر في العودة لفراشها الآمن..


لكنها تتذكر معاناته في كابوسه فتتمتم بصوت متحشرج وأناملها تربت على رأسه :
_عد لنومك.. ولا تخف.. أنا معك.

_وتبقين جواري ؟!
همسه العاطفي يمزج رجاءه بمكره.. فلا ترد للحظات.. بينما يردف بنفس النبرة :
_في العادة لا أحب انتهاز الفرص.. لكن.. بالله عليكِ هل هذه فرصة تُضيع؟!

يشعر ببعض الشفقة على ملامحها التي احتقنت بخجل شديد زاد توردها..
لكنه لا يتركها للمزيد من التردد وهو يعاود النزول برأسه للخلف جاذباَ إياها معه..
_أنتِ أكرم من أن تتركيني في وسط الطريق.

يتشنج جسدها للحظات وهي تشعر أنها تخوض حرباَ ضارية في هذه اللحظة..


لكنها تأخذ نفساَ عميقاَ تلو الآخر وهي تحاول السيطرة على نفسها..
فيرمقها بنظرة حارة تقلبت فيها كل انفعالاته..
كل ما فيه يشتهيها لكنه لا يزال يدرك أنها ليست مستعدة بعد..
يدرك كم تحارب..
كم تقاوم..
كم تجاهد كي تقهر هذا الطغيان الغاشم للماضي داخلها..
ربما لهذا يدرك أن عليه أن يصبر أكثر!!

يكتفي بأن يسند رأسه على صدرها النابض بجنون يضمها إليه هامساَ :
_أي نعيم بقى في الدنيا بعدما توسدت قلبك؟!

تحرر أنفاسها ببطء وهي تشعر بالخوف يتسرب بعيداَ رويداَ رويداَ مع انتظام أنفاسه..



تضبط نفسها أخيراَ متلبسة بابتسامة عاطفية خجول وهي تستعيد آخر عبارة نطقها..
هل نام؟!

تمد أناملها ببطء تتحسس وجنته برفق.. أنفاسه الدافئة تداعب أناملها معلنة بانتظامها استسلامه من جديد للنوم..

استسلام لم يهنأ به طويلاً وكلاهما ينتفض من مكانه مع صراخ المجذوب زكي الذي بدا وكانه فقد عقله تماماَ بينما يطرق على نافذة حنان من الخارج صارخاَ :
_أعيدوا لي صاحبي.. صاحبي غادر.. أنتِ طيبة مثله.. اجعليه يعود..هو يسمع كلامك.. أعيدوا لي صاحبي.. ليس لي سواه.. أعيدوه.. أعيدوه.
========




مصر.. القاهرة

في المحل تجلس أمينة على مكتبها شاردة وهي تشعر بحمل ثقيل يجثم على صدرها..

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


تطرق برأسها وهي تبسط راحتها على صدرها..
اجل..
ليست المرة الأولى التي يقولها لها..
لكنه في كل مرة يقولها يزداد طرقاَ على هذا الباب الموصد داخلها..
موصد ؟!
لماذا تشعر أنه لم يعد موصداَ بما يكفي؟!
يالله!
ما هذا العبث؟!
هل فقدت عقلها حقاَ كما يقول سيد؟!

ترتجف شفتاها وهي تتحاشى النظر نحوه لتقول بارتباك :
_طيب.. طيب.. لا تغضب.. لكن.. كُفّ عن قولها.

_حتى لو لم أقلها بلساني.. عيني تراك دوماَ (الست أمينة).. ست النساء.

في موقف آخر كانت لتمررها كعبارة ودود مما اعتاد غمرها به..
لكن.. الآن..
لماذا يتلقفها قلبها بمعنى آخر؟!
معنى لا يمكنها تصديقه أو حتى تصوره!!
مستحيل!

_أين ذاك الوغد؟! ناكر الجميل؟!

تشهق أمينة والهتاف الأخير يشق سمعها من أسفل تميز فيه صوت أبيها.. فتركض بسرعة نحو الأسفل..
لكن فاروق يسبقها ليكون هو في المواجهة..
=======





_اهدأ يا أبي الحاج..
يهتف بها فاروق وهو يندفع نحو الرجل الذي يتقدم نحوه هاتفاَ بحدة :
_لا تقل أبي يا خسيس! هل كنت ألتقطك من الشوارع وأفتح لك بيتي وانت طفل.. كي تكبر الآن وتخرب بيت ابنتي؟!!

صفعته تهوي على وجه فاروق فتصرخ أمينة من خلفه بحدة :
_لماذا تضربه؟! لو كنت أنا سبب المشكلة اضربني انا!

يقترب أبوها وقد هم بصفعها هي الأخرى لكن فاروق يقف بينهما وقد احتقنت ملامح وجهه بانفعال يكتمه..

_تفضحينني؟! ماذا يقول الناس؟! ابنة الحاج خضر تقف لتعمل في الشوارع؟!
_وهل فتحت انت لها بيتك وهي رفضت؟!

كان هذا (ربيع) الذي اندفع داخل المحل عندما رأى خضر يدخل والشرر في عينيه فاستنتج نيته!
يقف أمام الرجل الذي يلتفت نحوه بحدة فيردف بهدوئه المتعقل :

_أنا دخلت بيتك وتوسطت لك كي تفهم ابنتك.. ابنتك الوحيدة التي لم يكتب الله لك سواها.. ماذا فعلت؟! أخذتك العزة بالإثم!! تريد أن تعيدها لطليقها قسراَ!! تضغط عليها بكل طريقة.. تحرمها واولادها من عطفك وخيرك! والآن تلوم فاروق لأنه فعل ما كان ينبغي عليك انت فعله!!

_انا استأذنتك! أخبرتك أنها تريد العمل معي.
يقولها فاروق مخاطباَ الرجل كذلك..
مبرراً بتهذيب لعله يمتص غضبه لكنه يهتف به :
_وانا رفضت!
_وأنا لم أكن لأتركها تعاني وحدها.


_انا الأدرى ببنتي ومصلحتها! واجب عليّ ان أردها لعقلها مادامت قد جُنّت!

هنا تتقدم أمينة لتهتف بحرقة عبر دموعها المقهورة :
_انا لم أجن! انا استعدت عقلي! لماذا لا تفهم يا أبي؟!! لن ارجع لسيد.. لن أفعلها ولو كانت السكين على رقبتي!

_وكأنه هو يتمنى الرجوع إليكِ! لقد هاتفني منذ قليل.. سيتزوج! قال لي إنه سيتزوج الشهر القادم ويريد تصفية الأعمال التي بيننا!! سعيدة أنتِ الآن بخراب بيتك؟!! بفضيحتي وسط التجار أنني لم أجد تربية ابنتي وأنني لا كلمة لي عليها؟!!

يصرخ بها الرجل بغضب عارم.. قبل أن يتقدم ليشدها من ذراعها بقوة آلمتها مردفاَ :


_ستذهبين معي الآن.. تعتذرين له وتعودين لحياتك التي كانت الدنيا كلها تحسدك عليها! كفاكِ جنوناَ!! إن لم يكن لأجل خاطرك فلأجل اولادك!!

_لن تذهب! ولو أرادت هي الرجوع أنا لن أسمح!

يقولها فاروق بحسم وهو يتصدى لأبيها الذي يهتف به بثورة عارمة :


_تسمح ؟! ومن انت كي تسمح أو لا تسمح؟! ما صفتك؟!

عباراته تبدو مهينة حقاَ لفاروق الذي تزداد ملامحه احتقانا بما يثير إشفاق سندس التي تراقب الموقف بفضول وإعجابها به يزداد..
خاصة وهو يرد بثبات لا يشي بما يجيش داخل صدره :


_أي صفة تحميها انا راضٍ بها.

_لا صفة لك مع ابنتي! فاهم؟!

يصرخ بها الرجل بثورة فيهتف ربيع محاولاَ تهدئته :
_وحد الله يا حاج.. أمينة ابنتك وفاروق كذلك.. لا تخسر أولادك في لحظة شيطان!

لكن الرجل يصرخ بنفس الثورة مشيراَ بسبابته نحو فاروق :
_هاهي ذي نيته قد بانت! يريد إذلالها! يريدها أن تعمل عنده كي يداوي النقص الذي كبر به طوال السنوات! يريد ان يتحدث الناس ان الزمان دار دورته وان أمينة بنت الحاج خضر صارت تعمل عنده!!!

_إذن أكتب انا المحل باسمها.. لكن دعها تتنفس بعيداَ عن كل هذا الظلم!!


يهتف بها فاروق بحمية وهو يتجاهل إهانات الرجل الذي يصرخ فيه وهو يشده من قميصه :
_هل صدقت نفسك؟! تريد ان تمن على ابنتي؟!

_لا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا تغلق الأبواب كلها يا حاج؟! اهدأ وخذ ابنتك تحت جناحك مادمت ترفض تدخّل فاروق!!



يهتف بها ربيع مهدئاَ ونظرته الخبيرة تفضح شعور فاروق الحقيقي نحو أمينة!


كعهده (مستر ربيع فاهم كل المواضيع)!
حتى لو كان الجميع يرونه أخاها!
هو صار شبه موقن أن الرجل يحبها!!



_لا ترجع بيتي حتى تنفذ كلمتي وترفع رأسي الذي خفضته! هذا آخر ما عندي.. وإلا تنسى أن لها اهلاَ وتدع ذاك اللقيط ينفعها!

يهتف بها الرجل بغلظة بينما تظهر أم امينة عند باب المحل وقد أخبرها بعضهم بالشجار الدائر..
فتتوجه نحو أمينة هاتفة برجاء بين دموعها :


_اخزي الشيطان يا ابنتي.. ماذا جرى لك؟! منذ متى تعاندين هكذا؟!

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


لكن زوجها يناديها وهو يغادر المحل هاتفاَ :
_لم يعد هناك كلام يقال.. هيا!

تتلكأ المرأة قليلاً وهي ترى الرفض العاتب في عيني ابنتها..
ثم ترفع كفها لتربت على وجنة فاروق تتمتم بحزن :


_لست غاضبة منك.. حلالٌ فيك كل لحظة اعتبرتك فيها ابني.. كن جوار أمينة.. رضي الله عنك.. اجعلها ترجع لبيتها وزوجها.
_سأكون جوارها يا أمي.. لكنني لن أجبرها على فعل ما تكرهه.

يقولها فاروق وهو يبتسم لها ببؤس فتغادر المرأة المحل وهي تبكي كمداَ..

هنا تطلق سندس أنفاسها التي انكتمت طوال الموقف لتهتف وهي تقترب منهم..
_سأحضر لنا شيئاَ نشربه.. ريقنا نشف!

تغادر المحل هي الأخرى بينما يقترب ربيع من فاروق ليربت على كتفه قائلاً بحزمه الحاني:
_موقفك صعب.. لكن الله لا يضع وزراً أثقل من كتف صاحبه.. اثبت ولا تدع شيئاَ يضايقك.. أنت ابننا كلنا ولا ينقص من قدرك أي كلام يقال.

يبتسم له فاروق وهو يشيح بوجهه بتنهيدة حارة..
بينما يتوجه ربيع ببصره نحو أمينة مردفاَ :
_لا تعقّي أبويكِ.. العقوق كبيرة لا يستهان بها.

تنفرج شفتاها بنظرة حائرة وهي تسيئ فهم عبارته لكنه يبتسم لها بقوله :


_لكن برهما لا يعني أن تفسدي حياتك.. حاولي استرضاءهما قدر استطاعتك لكن لا ترضخي للظلم.. اختاري الطريق الذي تريدين السير فيه.. وتشبثي به..

تبتسم له أمينة بما يشبه الامتنان..
فيردف وهو يتطلع لعيني فاروق تؤكدان له ظنه السابق :
_وهو معك.

تهز له أمينة رأسها بما يشبه الوعد فيغادرهما بدعوات صادقة أن يصلح الله الأحوال..
ولم يكد يفعل حتى تجد فاروق يعطيها ظهره ليصعد للأعلى من جديد..
رأسه منكس كما لم تره من قبل!
لا تلومه لو قرر الآن أن يتخلى عنها!!

_فاروق.

تناديه وهي تندفع نحوه شبه راكضة لتهتف بنبرة باكية وهي تلوح بذراعيها بعجز..

لم تشعر بذراعيها قصيرتين كما هما الآن :
_لهذا السبب كنت ارفض أن تساعدني.. أنا آسفة! آسفة على كل ما تعرضت له أنت بسببي.

ابتسامته كسيرة ومع هذا بدت لها وكأنها تحمل نصف قوة الدنيا.. (نصف) قوتها و (كل) حنانها :



_انا الآسف عوضاَ عن كل من آذاكِ.. أنا الآسف لأنه ليس بوسعي ما هو اكثر.

دموعها تبحر خارج عينيها وهي تتلفت حولها كأنها تبحث عن شيء لا تعرفه.. لتقول أخيراَ :
_أبي لن يتركك وشأنك.. سأعود لبيت عمي.. سأجد طريقة حتماَ بعيداَ عنك.



_إياكِ.
يهتف بها بجزع كأنها تهدده بأخذ روحه نفسها..
يندفع نحوها لاهثاَ وهو يرفع ذراعيه حولها دون أن يمسها كأنه يعانقها دون عناق..


تلتقي عيونهما لثوانٍ فتلمح فيهما هذا الوميض الأخاذ الذي يثير خوفها..



أجل.. رغم كل الأمان الذي يبذره حضوره لكن شعورا مستحدثاَ بالخوف صار ينتابها مع هذا الخاطر الغريب الذي يجتاحها..


_لماذا تفعل هذا؟! لماذا تتمسك بمساعدتي إلى هذا الحد؟!


بالكاد تجد حروفها لتتمتم بها وهي تبحث في عينيه عن جواب يمحو هذا الخوف الغريب الذي ينمو داخلها..
ليس وحده..
شعور آخر ينمو معه..
لا..
(ينمو) ليس اللفظ الصحيح!
لعل (يطفو) هو اللفظ الأصح!!

ربما لأنه كان مغموراَ داخلها منذ سنوات والآن ينزاح عنه الركام رويداَ رويداَ.. كي يظهر للسطح!
فاروق؟!!
معقول؟!!

تهز رأسها رفضاَ ولا تزال تحاول البحث عن جواب في عينيه..
فيأخذ نفساَ عميقاَ وهو يحاول تحريرها من قلبه وشفتيه :
_لأنني..!
=====
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


الشعاع التاسع والعشرين
=======
العراق.. بغداد

_خرب عقلك!

تتمتم بها حسناء بدهشة ممتزجة باستنكارها وهي تستيقظ لتجده قد ترك فراشه واستلقى جوارها على الفراش الجانبي لغرفته في المشفى.. يكاد يحشرها حشراَ بينه وبين الجدار!


تزيح ذراعه عن خصرها ببعض العنف الذي يشعرها بالندم مؤقتاَ وهي تلمح ضمادة كتفه..

فترفع عينيها لملامحه النائمة بوداعة أبعد ما تكون عن صورته في عينيها الآن مردفة من بين أسنانها :




_ما الذي تفعله على فراشي يا متخلف؟! هل كنت تخلصت من تحرشاتك بي وأنت مستيقظ كي تبليني بها وأنت نائم؟!

تطلق زفرة ساخطة وهي تتذكر محاولاته طوال الأيام السابقة التي بقيت فيها هنا معه في استرضائها..
لكنها لن ترضخ لهذا الابتزاز العاطفي أبداَ..!



هي هنا لمهمة واحدة.. رد صنيعه بمساعدتها في التخلص من ورطتها بالسجن!
عندما يغادر هو المشفى فستغادر هي حياته!
نقطة وانتهى السطر!!

تزم شفتيها بعدها بتصميم كأنما منحها خاطرها الأخير بعض القوة..



تشيح بوجهها عنه للحظات لكنها تسمع تمتمته في نومه بما يشبه الهذيان :

_بردان!

فينعقد حاجباها وهي تلتفت نحوه..
بقلبها قبل عينيها..
تتذكر المواقف التي كان يقول فيها هذه الكلمة..
(بردان) عندما يهمس بها بتلك الطريقة التي تشعرها أنه لم يذق قبلها دفء أبداَ!

يوم أنقذت ذاك الطفل المتسول من الرجل المتسلط عليه في الشارع..
وليلة زفافهما عندما فوجئ بوجود خاله كرم لتضبطه هي متلبساَ بشروده الغريب..

والآن!


الآن يتمتم بها في نومه ورأسه المتعرق يتلوى ببطء يميناَ ويسارا..

_خالي.. لا ترحل.. حسناء.. لا ترحلي.. بردان.. بردان..

تدمع عيناها رغماَ عنها بتأثر وقلبها يراه ب(عين أمومته)!


تجذب منشفة صغيرة من الجوار تمسح بها عرق وجهه ببطء وهي تعاود الاستلقاء برأسها جوار رأسه حتى تعود أنفاسه المضطربة لانتظامها..

في أيام زواجهما الأولى لم تكن تفهم سبب كوابيسه هذه التي كانت تتكرر..
الأن تفهم!
تماماَ كما تفهم تلك الذكرى لها معه بعدها..



_تعرفين؟! لم يستيقظ أحد معي على نفس الوسادة من قبل إلا أنت! اعترف مذنباَ أن كان لي الكثير من العلاقات تعرفين انتِ عنها لكن لم يتطور الأمر لمثل هذا أبداَ.. كانت مجرد علاقة تنتهي بفراغ سببها.. وبقيت وسادتي خالية إلا من رأسي وحدي طوال تلك السنوات.

_بعد الآن لن تسع وسادتك مع رأسك إلا رأسي..لم يملأ فراغها امرأة قبلي ولا بعدي.

_اطمئني.. لا امرأة بعدك.. لا أظن الأثر الذي تركته انتِ تمحوه أي امرأة بعدك أو حتى يدع مجالاً لها كي تحاول.

هاهي ذي من جديد تجد رأسها معه على نفس الوسادة!

كيف يمكنها أن تتخذ قراراَ بشأنه وشعورها به يتبدل إلى هذا الحد؟!


عقلها يراه عدوها الذي خان ثقتها وضربها في ظهرها في أشد المواضع أماناَ!
ضميرها يراه مجرد ضحية للظروف.. طفلاً لا زال مختنقاَ بغصة حرمانه!
وقلبها؟!
قلبها الأحمق لا يزال يرتجيه (فرخ الحمام) الشارد الذي سيعود به ل(الغيّة)!


أناملها تغافلها بربتات متتابعة على وجنته كأنها تريد محو كل عذابات عمره التي لاقاها قبلها..
لكن..!!


_(مهزأة!).. (مهزأة) حقاَ كما قالت طيف! يا ويلي منك يا حسناء!!

تتمتم بها لنفسها بغيظ وهي تشعر بوهن طبيعي نحوه تنهر نفسها عنه وهي تنهض من جديد..

لتلكزه في كتفه السليم هاتفة بحدة فجرتها انفعالاتها المتناقضة :
_انت!! انت!! (اتنيل اصحى).

ينتفض بفزع على عبارتها ليرمقها بنظرة مصدومة للحظات فتندفع كلماتها كطلقات مدفع متتابعة :
_ما الذي تفعله هنا جواري؟! ألا يكفي أنك تضيق عليّ حياتي في صحوي فتضيقها في نومي كذلك؟!



لا يزال يرمقها بنظرات غير مستوعبة فتدفعه بكفها هاتفة :
_(اتنيل قوم)!

يضحك ضحكة قصيرة تستفزها أكثر وهو يتشبث بمكانه .. لا يرفع رأسه حتى من على الوسادة وهو يقترب منها أكثر فيزداد حشراَ لها بينه وبين الجدار..
يبسط ذراعه حولها يضمها بقوة قائلاً بمرح ساخر :



_(اتنيل كل.. اتنيل اصحى.. اتنيل قوم).. حسناء حبيبتي.. أنا (تنيلت) بما يكفي لعشر سنين إضافية..كفى!! ارحميني!

تتأفف بضجر وهي تحاول التخلص منه كي تغادر الفراش هاتفة بسخط:
_لماذا تنام جواري؟! الفراش أساساَ ضيق!



فينهض متأوهاَ بألم حقيقي ليواجه عينيها بعينيه هامساَ بعاطفة حقيقية بعيدة عن مزاحه المعهود :
_تصدقينني لو قلت لك (لا مكان - جوارك- ضيق)؟!

تتوه في عينيه للحظات وهي تخشى الانجراف خلف قلبها من جديد..
صوتها يرتجف بعاطفتها رغم جفاف نبرتها :
_لن تخدعني بكلامك هذا من جديد.. أنت تعرف جيداَ أنه لو كان هناك سبب لبقائي معك حتى الآن فهو مجرد واجب ثقيل أوديه على مضض.

لكنه يهز رأسه نفياَ وهو يشدد ضغط ساعده حول خصرها..
أنامله الحرة تداعب شعرها ترتب شعثه الطبيعي وهو يهمس بصدق ود لو يمس قلبها :


_أنا لا أعرف الآن إلا شيء واحد.. أنني أنتمي إليكِ وأنتِ تنتمين إليّ!

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


تتعالى خفقاتها بجنون وهي تشعر بالصراع داخلها يزداد..
حتى تدمع عيناها عجزاَ..
يقترب أكثر كي يقبل عينيها لكنها تفاجئه بدفعتها فتطرف سبابتها عينه!

_آآآه! عيني!


يهتف بها بألم ضاحكاَ لكنها تنجح في تجاوز جسده لتبتعد عن الفراش هاتفة بغيظ:
_تستأهل!

تقولها ثم تعدل وضع ثيابها مردفة بغلظة:
_نومة السجن كانت أرحم والله!




تكتسي ملامحه بهم مفاجئ مع عبارتها..
الذنب ينهش نظراته نهشاَ وهو يغادر الفراش ليقترب منها بهمسه النادم :
_أي ثمن يجب أن أدفعه كي تنسي وجعاَ كهذا؟!

تشيح بوجهها دون رد وهي تشعر بعذابه الصادق..
فيردف بحرارة وهو يقبض على كتفيها بكفيه مغالباَ ألم إصابته :
_والله لو يكون عمري الثمن.. أدفعه كله ولا أعترض!
ترفع عينيها إليه ببطء فترتجف شفتاه بهمسه الراجي :
_(أريد أشبكك).

يتبع قوله بفعله دون انتظار ردها وهو يضمها إليه بقوة هامساَ بحرارة كادت تذيبها :



_تعرفين أن العراقيين يسمون الحضن (الشبكة).. يقولون إن الشبكة في اللغة تعني شدة امتلاء الشيء.. وأنا أريد أن أشعر أنني ممتلئ بك.. كل هذا الفراغ داخلي لا يملأه إلا أنتِ.

تكتم آهة تأثرها بهذا الصدق الذي يشع من كلماته..
ترفع كفيها ببطء خلف ظهره كأنها تهم بمبادلته عناقه..
ب(الامتلاء به) كما امتلأ بها..
لكنها تتوقف في اللحظة الأخيرة!



تعيد كفيها جوارها ثم تدفعه بهما قائلة بخشونة تناقض استنزاف مشاعرها :
_لا تتعب نفسك.. مهما تكلمت انت أذني انا صارت صماء.
_لكن قلبك يسمع..
يهتف بها بانفعال وهو يبسط كفه على موضع قلبها مردفاَ :
_يسمع.. ويفهم.. ويصدق.. مهما أنكرتِ!


_يدك يا (بابا)!
تهتف بها بغلظة وهي تزيح كفه عن صدرها متراجعة للخلف بقولها :
_أريد الذهاب للحمّام بعد إذن (سي روميو).

تقولها وهي تركض بخطوات هاربة نحو حمام الغرفة تغلق بابه خلفها بالمفتاح فيطلق زفرة ساخطة متمتماَ :


_أنا أعرف أنها ستكفر ذنوبي كلها قبل أن تبل ريقي بكلمة سماح!

لم يكد يتم عبارته حتى يصل إشعار من هاتفها بوصول رسالة..

يتوجه نحوه ليفتحه فيجد عدة رسائل متتابعة من أحدهم..



(كيف حالك؟!
ترددت كثيراَ قبل أن أكلمك
خشيت أن تسيئي فهمي،لكنني قررت أن أخبرك،
أنت تعرفين.... مكانتك عندي
كلميني في أقرب وقت)

تتسع عيناه بذهول وهو يحاول (تصفية نيته) بكل الصور لكنه عجز!!
ذهول يتحول لغضب فجرته غيرته وهو يعيد قراءة الرسائل من جديد..

بينما تغادر هي الحمام لتقترب منه هاتفة بحدة :
_لماذا تمسك هاتفي؟!

تكاد تنتزع الهاتف منه لكنه يهتف بها بغضب وقد احتقن وجهه :
_من عمرو هذا؟!

_عمرو!!


تتمتم بها بحيرة ممتزجة بالقلق وهي تقرأ الرسائل بتوتر يسيء هو تأويله فيهتف بها بغيرة واضحة :
_من هذا؟!

_هل تشك فيّ؟!
تهتف بها بحدة غاضبة فيعتصر ساعدها بقوة هاتفاً :
_لا تخلطي الأمور.. أخبرتك من قبل أنني أشك في نفسي ولا أشك فيكِ.. يمكنني بنظرة واحدة لإحداهن أن اعرف إن كان قد غيثها قد سقى أرضاَ قبلي!

فتدمع عيناها وهي تتذكر ذاك الموقف بينهما لتهتف بصوت مرتعش :
_جيد أنك تذكر! ألا تذكر ما قلته أنا لك بعدها:(تعدني لو أمطرت سحبي ألا تجعلني أندم أنها سقت أرض بور؟!) .. وأنت جعلتني أندم ألف مرة.. لا مرة واحدة!!




يضغط فكيه بقوة شاعراَ بارتفاع حرارة جسده كله.. من بين أسنانه يفر هتافه :
_من هو؟!
فتحرر ساعدها منه هاتفة بانفعال:
_جارنا في بيت أمي.. أعرفه منذ طفولتي.
_وهل يبرر هذا رسائله؟!
يهتف بها باستنكار ساخر لينتزع منها هاتفها مشيراَ للرسائل بقوله :



_كتب (انتِ تعرفين مكانتك عندي).. ثم كتب أربع نقاط! أنا رجل وأعرف كيف يفكر الرجال!! أربع نقاط! ليست واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثة!! أربع نقاط يا (هانم)! ماذا تعني أربع نقاط؟!!


_أنت مخبول يا ابني؟!! هل ستحاسب الرجل على عدد النقط؟!


تهتف بها باستنكار وهي تنتزع الهاتف منه.. لكنه يعاود اختطافه منها هاتفاَ بالمزيد من الحدة الغريبة على طبعه العابث:
_ماذا يعني بمكانتك عنده؟! أظنكِ ستقولين إنك تعتبرينه كأخيك وهو يعتبرك أخته؟!!

تنفرج شفتاها وكأنها على وشك قول ما لكنها تستبدله بآخر..
رغبة شريرة تنتابها في هذه اللحظة أن توجعه كما اوجعها!!


وبمنتهى الحماقة التي لا تنقصها تجد نفسها تهتف في وجهه :



_لا! لم اعتبره يوماَ أخي! أزيدك من الشعر بيتاَ؟!!.. كنت معجبة به.. وهو كان يفكر في خطبتي قبل ان أُبتلى بك لكن أمه رفضت.. ما شأنك انت بكل هذا؟! ألم يكن من المفترض أن أكون طليقتك الأن لو كنت أنا استجبت لرغبة سيادتك وتواصلت مع المحامي في الوقت المناسب؟!..طيب.. اعتبر أنك..

تنقطع كلماتها فجأة بين شفتيه وتنكتم معها شهقة لم تستطع إطلاقها مع قبلته التي اكتسحتها فجأة دون مقدمات!

طنين غريب يدوي في أذنيها مع عناقه المعتصر لها غير مكترث بإصابة كتفه ولا بألم جسدها..

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


ينتفض مكانه بخوف وهو يتحرك نحوها غير آبه بتحذيراتها..
لكنها تسبقه بلهفة لتفتح الاتصال..
تستمع قليلاً قبل ان تنفرج أساريرها بفرحة الخبر:
_أفاق أخيراً! فتح عينيه ويريد رؤيتنا.
=======







العراق.. بغداد

يفتح إلياس عينيه صباحاَ بعد ليلة عاطفية صاخبة فلا يجدها جواره..
ينقبض قلبه بخوف وهو يفكر لأول وهلة!
هل كان حلماَ؟!


يهز رأسه نفياَ وهو يستعيد حرارة ساعاته السابقة معها قبل أن يغادر الفراش بسرعة باحثاَ عنها..

تنهيدة راحة يطلقها أخيراَ وهو يراها واقفة في المطبخ تعد الإفطار..
تعطيه ظهرها الذي يتلقفه صدره بلوعة عاطفية حارة مع همسه:
_لا تفعليها ثانية أبداَ.



تبتسم وهي تلتفت نحوه بنظرة متسائلة فيدير جسدها ليغمرها بين ذراعيه مردفاَ ب(نسخة عاشقة) تخصها هي وحدها:

_لا اريد أن أستيقظ دون أن اراكِ جانبي.. أنام وأصحو ولا تحضن جفوني إلا صورتك.

تتسع ابتسامتها وهي تميل رأسها هامسة بدلالها الآسر :
_ولن تمل ؟!


فيحيط وجنتيها براحتيه و(نسخته الجامحة) تهديها أروع عطايا شفتيه :
_لن أمل.. وكيف امل؟! وداخلي شوق يكفيكِ بعد العمر عمراَ!

ضحكاتها التي تمزج خجلها بعنفوان دلالها تزيد جنونه..
لكنها تتفلت من بين ذراعيه هاتفة :


_نتناول إفطارنا أولاً.. لا تعرف كم حلمت دوماَ بهذا.. أن تبدأ صباحك بتناول طعام أعده لك بيدي.

_وماذا كان يمنعك؟! لا أظنني يوماَ قد فعلت!

يسأل بابتسامة عاد لها هدوءها وهو يتخذ مجلسه على المنضدة فتضع آخر الأطباق عليها لتجلس أمامه على الطرف الآخر منها قائلة بشرود عبر ابتسامتها الشاردة :

_كنت أنت دوماَ حلمي الموجع.. الأمل الذي يستقر على كتفي كفراشة أخاف لو لمستها ان تطير.. لا أعرف متى ولا كيف أحببتك كل هذا الحب.. حتى أنني أظن من فرط ما يحمله قلبي لك أنني قد ولدت أحبك!

يغمض عينيه بتأثر قبل أن يعاود فتحهما بلمعة خاصة تكاد تميزهما في حضرتها فحسب..


بينما تشير هي بعينيها نحو سوار معصمه الذي صنعته له يوماَ

لتكمل بنفس النبرة الرائقة التي لم تزين صوتها من قبل بهذا الرضا :

_كان هذا أول ما بحثت عنه ساعة وجدتني في الجبل! لم أخبرك لكنه كان أول ما جرت عليه عيناي عندما رأيتك من جديد.. عندما وجدتك ترتديه.. لم تخلعه.. تمنيت لو لم يكن لي قلبا واحدا.. لو كان لي قلوب بعدد حباته.. أهديك إياها واحدا واحدا.. أعشقك مع كل واحد منها مرة أخرى.. ومع هذا لا يكفيك!


فتتسع ابتسامته وهو يتحسس سوارها في معصمه.. (نسخته الوقورة) تعاود فرض نفسها :




_لم أتصور يوماَ ان ارتدي شيئاَ كهذا! تماماَ كما لم أتصور أن تعيدي أنت (تدوير) عمري كله! تزيلين الغبار عن كل هذه المشاعر التي صدأت داخلي.. تعيدين لها بريقاَ يشبهك.. كيف بعد كل هذا أخلعه؟!

تزم شفتيها وفي عينيها نظرة مترددة انفضحت له بسهولة..
فتمنحها (نسخته الحنون) نظرة مشجعة تطمئنها لتتمتم بخفوت غريب على صوتها ذي النبرة العالية :

_كنت.. كنت أريد أن أسألك.. عندما وجدتني بالأمس لمحت لهفتك في عينيك.. لهفة لا يمكنني تكذيبها أو نكرانها.. هل.. هل كانت هذه اللهفة أيضاَ في عينيك عندما رأيت حواء من جديد؟! كيف كان شعورك عندما رأيتها أول مرة بعد عودتها ؟!



_لا تسألي.

والجواب تمنحه (نسخته الصارمة) فتدمع عيناها وهي تجد نفسها مجبورة على تجاهل الكثير من الأسئلة داخلها..

تغتصب ابتسامة تبدو له شديدة التصنع وهي تدعوه لتناول الطعام..
كعادته يرتشف الشاي قبلها مختبراً حرارته قبل أن يناولها إياه فتلتزم بصمت شارد لدقائق طالت بينهما..


قبل أن تتنحنح قائلة :
_كانت لك صورة قديمة.. أظنك تعرفها..
_تلك التي كنتِ تحتضنينها ليلة ضبطتك متلبسة بالنوم في فراشي؟!
يرفع بها حاجبه و(نسخته الماكرة) تتولى الرد فتتورد وجنتاها وهي تطرق برأسها بجواب صامت بالإيجاب قبل أن تردف :


_انت لا تعرف لكنني كنت أبداَ صباحي دوماَ بمعانقتها مع الأقحوان.. بحثت عنها اليوم اول ما استيقظت لكنني لم أجدها في غرفتي.

صمت قصير يحلق بينهما قبل أن تجيب (نسخته المقتضبة) :
_حواء أخذتها عندما رأتها.



تتلاحق أنفاسها للحظات واشية بانفعال هادر تكتمه..
يشحب صوتها كملامحها :
_هي كانت تأتي هنا؟!

_مرة واحدة.. فاجأتني بها.

يجيبها بهدوء دون أن تترك عيناه عينيها فتغتصب من جديد ابتسامة واسعة وهي تشبك كفيها تحت ذقنها.. لتقول بمزيج غريب يميزها من عنفوان ورجاء :


_إلياس! عندما ذهبت بي لذاك المصعد الزجاجي قلت لي أنك تريد الوقوف على أرض ثابتة.. وأنا الآن مثلك.. أريد أن أعرف منك بالضبط ما هو شعورك نحوها.. هل تذكر أننا اتفقنا ان نكون صديقين؟!.. اعتبرني الآن صديقتك.. بُح لي بكل ما يجول داخلك ولا تخش شيئاَ..أعدكِ أنني لن أغار.

يهز رأسه بتفهم.. ليقول بهدوء :
_تريدين أن أحدثكِ عن شعوري بحواء؟! ولن تغاري؟!!

تزداد أنفاسها تلاحقاَ وهي تشعر بعجزها عن مواجهة عينيه في هذه اللحظة.. لكنها تومئ برأسها مؤكدة!

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


تقوم لتحضر له القهوة.. تضعها على الموقد لتجد نفسها تهتف فجأة وصوتها العالي يخذلها :


_لماذا تنطق اسمها بهذه الطريقة؟!

تضيق عيناه بنظرة متسائلة فتعود للجلوس مكانها ليعلو صوتها أكثر لا إراديا وهي تلوح بذراعيها :
_تتباطأ في نطق حروفه!!!..اسمها حواء! تنطق هكذا بسرعة! لا تحتاج نصف ساعة كي تقوله!!

يرتفع حاجباه لثوان وهو يشبك كفيه أمام وجهه.. و(النسخة الماكرة) تستلم الدفة :

_ تقصدين أنني أتباطأ في نطقه عامداَ كي اتلذذ بحروفه مثلاً؟!

تزداد أنفاسها تلاحقاَ وهي تسمعه يردف بنفس النبرة :
_كي أعوض صبر السنوات التي قضيتها بعيداَ عنها مثلاً؟! .. كي أشعر أنها لا تزال معي حتى وهي بعيدة مثلاً؟!! .



تدمع عيناها مع احتقان وجهها بغيرة قوية كانت تنهش قلبها في هذه اللحظة.. تتمتم بين شفتين مرتجفتين :
_هل قصدت هذا حقاَ؟!

_رائع! أقنعتني فعلاً بدور الصديقة! لا ترتدي ثوباَ أكبر من حجمك مرة أخرى!



و(النسخة المرحة) تنجح في تبديد بعض توترها مع تصفيقته البطيئة التي منحها كفاه..

فتبتسم وهي تزيح خصلة من شعرها خلف أذنها هاتفة بارتباك :
_طيب.. طيب.. سأتمالك نفسي أكثر! لكن.. صارحني.. أرجوك!

فيتنهد وهو يشير لها بانامله قائلاً :
_اقتربي.

تقرب كرسيها حتى منتصف المسافة بينهما لتجلس عليه..
لكنه يشير من جديد..
_اقتربي أكثر.

تجاور كرسيه بكرسيها حتى يكادا يتلاصقا ثم تجلس لتلتمع عيناه ولا زالت انامله تناشدها..
_أكثر.

تتسع عيناها بارتباك ينتهي بشهقتها وهي تجد ذراعه يسحبها من خصرها ليجلسها فوق ساقيه..!!


نسخته (المجنونة) من جديد تكاد تذهب بعقلها وهي تشعر بين ذراعيه بنار تشبه الجنة.. وجنة تشبه النار!!

أنامله العابثة تجد طريقها بين خصلات شعرها وهو يضمها لصدره بقوة هامساَ في أذنها :


_هكذا! هكذا بالضبط! لا أرتضي بأقل من هذا قرباَ.. لا أرتضي بأكثر من هذا بُعدا.. لو كان الأمر بيدي لبنيت لك بيتاَ في ضلوعي لا تغادرينه أبداَ.

تنهيدتها الحارة تستريح على صدره وهي ترفع عينيها إليه هامسة :
_تعرف كم نسخة رأيت منك في لقاء واحد منذ الصباح؟!


فتداعب أنامله وجنتيها بهمسه :

_تعرفين أنتِ أن هذا أجمل ما فيكِ؟! أقابل الناس بنسخة واحدة.. وآتيكِ انتِ بكل ما تبقى من نسخي.. يرون مني وجهاَ واحداَ.. وترين أنتِ كل الوجوه.. لأجل هذا أدرك كم يعشقك قلبي..وكأنني كنت مسجوناَ داخل قالب واحد.. ووحدكِ أنتِ من حررتني.

_وحواء ؟!
تهمس بها بوجل وخفقات قلبها تفضح رهبة داخلها..
فيتنهد قائلاً بجدية هادئة :

_أظنكِ تعرفين أنني رجل يجيد الفصل بين عاطفته ومسئولياته.. لن أتخلى عنها وعن ابني بالطبع.. أحميهما بكل ما أستطيع وفوق ما أستطيع.. لكن قلبي اختار رفيقته لما بقي من العمر.. أنتِ.

لا يزال بعض الخوف يسكن حدقتيها.. فيقبل عينيها بعمق مردفاَ :

_تسألين عن لهفتي عندما رأيتها من جديد؟!.. لن أكذب فأدعي أنني لم أتأثر.. لكنني فهمت بعدها أنها لهفة لم تكن تخصها هي.. بل اشتياق لعمر قديم ظننتني سأحتضن بقاياه في عينيها.. وخاب ظني!.. تعرفين لماذا؟! لأنني في كل مرة كنت أحاول الانغماس معها في ذكرياتنا القديمة كنت أجدني مشدوداَ لذكرى تخصكِ انتِ !.. تتكلم هي فأسمعك أنتِ.. تقترب هي فتلتصقين أنتِ.. تتعمد أن تلمع هي فتبهت وتتوهجين أنتِ.. كانت تترنم بالماضي وكنتِ أنتِ تتغنين بالحاضر والمستقبل..

تدمع عيناها بتأثر وهي تشعر أن قلبها يكاد يضج من فرط خفقاته..

بينما يردف هو بنفس الصدق أمام عينيها :

_احترت.. احترت كثيراَ لا أنكر.. وبالذات عندما أصرت أن أعدها بالزواج.. وهددتني بالرحيل مع داوود..

تكتم شهقة ارتياعها مع تصريحه الأخير خشية أن يتوقف عن البوح.. بينما يستطرد هو براحة عفوية :

_عندما كنت أصرخ فوق الجبل تلك الليلة كنت أشعر أن بعضي يحارب بعضي.. لكنك كنت بوصلتي.. السهم الذي يشير دوماَ للاتجاه الصحيح.. فليقل ضميري ما يشاء.. وليقل عقلي ما يشاء.. وليقل قلبي :(ناي).. ناي فحسب!

ابتسامتها كانت تكبر مع كل كلمة يقولها لتستحيل لضحكة رائقة مع آخر كلمة قالها..
تحيط عنقه بذراعيها لتغرق وجهه بعطايا شفتيها الحارة..
لكنها تشهق مع صوت فوران القهوة فتهتف وهي تهب واقفة لتغلق الموقد :


_ياربي! فارت! كيف نسيتها؟!

ضحكته العالية تسلب عقلها كالعادة وهو يطوقها بذراعيه..
(نسخته الجامحة) تجيد السيطرة الآن بهمسه العابث في أذنها :
_صرت أستبشر بفوران القهوة! أظننا اكتشفنا طرق أكثر فعالية لضبط المزاج.. اكثر فعالية وحرارة!
======







مصر.. القاهرة

_أنتِ أمينة أخت فاروق؟!.. تفضلي!

تهتف بها سندس بنبرة مرحبة وهي تستقبل أمينة في محل فاروق الخاص بتأجير فساتين الزفاف..

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


لحظات تمر بهما عاصفة وهي تشعر أنها أول مرة تسمع منه (أحبك) دون كلام!!
(أغار عليكِ) دون تفسير!!
(انتِ لي) دون تكلف!!

بهذه الطريقة البدائية جداَ.. الوحشية جداَ.. الفطرية جداَ.. والصادقة جداَ جداَ..



كل ذرة في جسدها الخائن تتواطأ مع قلبها البادئ بالخيانة لكنها تحاول مقاومة كل هذا.. صدقاَ تحاول!!

وأخيراَ تشعر به يشد شعرها ببعض العنف.. يرفع وجهها إليه لتميز احمرار عينيه الغاضب كما لم تره من قبل..
على وجهه يتراقص ألف شيطان وهو يهمس من بين أسنانه :


_احمدي ربنا أنني أفهمك جيداَ وأعرف ما يدفعك لقول لشيء كهذا.. واحمديه أيضاَ لأنني أشعر بالذنب نحوك وأعرف أنني سبب شعورك هذا.. وإلا..!

يقطع عبارته بصيغة تهديد واضحة كانت لتخيفها في أي وقت آخر..
لكنها الآن تشعر ببعض الندم ليس خوفاَ منه..

وإنما إشفاقاً على مظهره الذي يبدو لها لأول مرة غاضباَ إلى هذا الحد..
خائفاَ إلى هذا الحد..
وعاشقاَ إلى هذا الحد!!

تكتم شهقتها وهي تراه يقذف الهاتف بعنف في الجدار ليكسره فتهم بالصراخ لكنه يجذبها من جديد نحوه.. يلصقها بصدره.. نظراته حارقة ومحترقة :



_أنتِ تنتمين لي وأنا أنتمي إليك.. كل هراء عدا هذا تنزعينه من رأسك تماماَ! تدللي كما تشائين..أدللك.. اهربي كما تشائين.. ألحق بكِ..تباعدي وتجافي كما تشائين.. أقترب وألتصق بكِ.. لكنني ابداَ أبداً لا أتركك ما بقي في القلب دقة تنبض!

حلقها يجف..
وقلبها يفيض!
وبينهما عيناها تدمعان بقوة وهي لا تعرف بماذا ترد..

لكنها تجد أخيراَ كلماتها لتهتف به بغضب مرتعش على حافة عاطفتها :
_كسرت الهاتف؟!! أي جنون هذا؟!! كيف سأعرف الآن ماذا كان يريد؟! ماذا لو كان يريد إخباري شيئاَ عن أمي أو إخوتي؟!! ماذا لو كان امراَ بخصوص البيت؟! هو لم يفعلها طوال هذه السنوات ويرسل رسالة كهذه! لابد أن امراً اضطرارياَ دفعه لفعلها!

يكتم تنهيدة ارتياح لم تنتبه لها وهو يراها في غمرة انفعالها لم تنكر ما كان يقوله!

يهتف بصرامة وهو يلكزها بسبابته في صدغها :
_انا سأتصل بالست حسنى وأطمئن عليهم.. وهو لو كان له كلام فليكن معي أنا!



فيعود لها عنادها بهتافها الحاد هي الأخرى:
_لماذا لا تفهم يا (ابن الناس)؟! حكايتنا انتهت.. لا تظن نفسك سترجعني إليك بهذا ال..

تقطع عبارتها وهي تنتبه لتلطخ ضمادة كتفه بالدم..
فتشهق هاتفة بارتياع :
_جرحك رجع ينزف!

يخفض بصره حيث تشير لينعقد حاجباه وهو يشعر بازدياد الألم هناك..
بينما تدفعه هي نحو فراشه هاتفة بتقريع حاد يفضح عاطفتها أكثر :
_هذه آخرة المرقعة! انفتحت الغرز! اجلس هنا.. اجلس كي أرى ماذا فعلت بنفسك!!

يكتم ابتسامة رضاه مع كل هذا الفيض من حنانها المناقض لحدة عباراتها وهي مستمرة في تقريعه..

بينما تنتزع عنه ضمادته لتستكشف الجرح قبل أن تطهره لتعيد تضميده من جديد..

_لا تغادر الفراش.. لا تتحرك.. لا تتعافَ على نفسك..


تهتف بها تباعاَ وسط خفقات قلب وجل وهي منهمكة فيما تفعله..


فيرد بخفوت مفاجئ وهو يسبل جفنيه على صورة لها.. كم يعشقها :
_حاضر.

ترفع إليه عينين متشككتين من نبرته المطيعة المفاجئة لتستقبلها زخات عشق في عينيه..
عشق يمتزج بهذه النظرة التي تجيد اقتناص قلبها..
نظرة طفل يشد كم قميصها يرجوها أن تعبر به الطريق!
يالله!


لو هزمت انجذابها الفطري له كرجل عاشق..
فكيف تهزم ضعفها نحو طفل محتاج؟!

حيرتها تفر في تنهيدة حارقة تطلقها ولا تزال تضمد جرحه.. كلماتها تخرج عفوية كأنها ملت التخفي خلف حواجز الصراع داخلها :


_غريبة! لم اكن أعرف هذا الوجه الغيور لك.. لم يكن يبدو عليك شيئاَ كهذا مع مظهر (فرقع لوز) الذي تصدره لنا دوماَ.

تقولها دون ان تنظر إليه متظاهرة بالانهماك في ما تفعله..
فيطول صمته حتى ترفع عينيها إليه.. فيهمس بحرارة جادة خالطها حزن خفي :



_أنا أيضاَ لم أعرفه إلا معكِ! لم أشعر بالغيرة أبداَ.. لا من أحد ولا على أحد.. الغيرة تستوجب شعوراَ بالأحقية.. وأنا لم أشعر يوماَ أنني أملك حقوقاَ! لكنني رضيت بكِ وحدك أن تكوني حقي من هذه الدنيا.. أسامح بكِ كل ما كان وما سيكون!

تتكدس الدموع في عينيها وهي تشعر أن قلبها يخوض أقسى معاركه..


تلهث كأنها تخوض سباقاَ لا قِبل لها به وهي تهتف :

_نزار!.. لا تصعب الأمر علينا أكثر.. لا تسئ فهم وجودي جوارك حتى الآن.. لا يمكنني منحك ثقتي من جديد.. لا يمكنني تجاوز كل ما فات كأنه لم يكن.. حتى لو وجدت لك ألف عذر.. ما ذنبي كي أكمل حياتي وأنا واضعة عيني في منتصف رأسي أخاف ان تأتيني منك ضربة أخرى لا أحتسبها؟!


ينعقد حاجباه وهو يهم بالجدال لكن رنين هاتفه يقاطعه..

يكاد يتحرك ليتناوله لكنها تمنعه مشيرة له بالراحة قبل ان تتناوله هي لينعقد حاجباها بتوجس وهي تقرأ اسم المتصل :
_المشفى الذي يعالج فيه الخال كرم.

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


تكاد سندس تنخرط في المزيد من الثرثرة لكن أمينة تنقذ نفسها وهي تقف قائلة بابتسامة :
_سأخبر فاروق انني أتيت.

يتزامن قولها مع دخول أول زبائن المحل لهذا اليوم فتهتف سندس وهي تصفق بكفيها :
_وها هو ذا أول (استفتاح).. يارب صبحنا وربحنا وبين عبيدك لا تفضحنا.



تضحك أمينة مستأنسة بلطف الفتاة رغم غرابة أطوارها قبل أن تتخذ طريقها لتصعد الدرج القصير المؤدي نحو الغرفة العلوية..

وفي مكانه هناك كان فاروق يقف أمام (المانيكان) الذي ألبسه فستان الزفاف..
فستان حلمه!
عندما أرسل في طلبه بالأمس ليصله شعر أنه لتوه بدأ في أن يمد نحو شمسه يداَ!


طلبه خصيصاَ بمقاسات تناسبها..
لكنه اشترط ألا يكون مطرزاَ..
سيطرزه بنفسه!
بمنتهى الصبر الذي لا ينقصه سيفعلها!
كل خيط.. كل خرزة..كل غرزة..
ستبدو وكأنها شاهدة على مشوار عشقه الطويل لها!
يعرف أنه يفرط في الأمل في شيئ كهذا..
لكن ماذا يساوي العمر دون أمل؟!
ماذا يساوي هو دون حلمه بها؟!

وأخيراَ يجلس على ركبتيه أمام الثوب المعلق ليبدأ في تطريزه كما تعلم.. بمنتهى الصبر..

_فاروق.

ينتفض فجأة واقفاَ مع هتافها المستئذن لتحتقن ملامحه بارتباك وهو يراها خلفه..
ابتسامتها طازجة دافئة كنور الصبح وهي تتقدم نحوه قائلة ببساطة :


_سندس قالت لي أنك لا تسمح لأحد بالطلوع هنا.. لكنني مضطرة لأنقذ نفسي من ثرثرتها ولو قليلاَ!

_وهل انتِ كأي أحد؟!


يقولها مطرقاَ براسه مخفياَ عنها فيوض عشق في نظراته..

لكن عينيه لا تزالان تدخران ابتسامتها وهو يسمعها تستطرد غافلة بنبرة رائقة اشتاقها في صوتها منذ زمن بعيد :


_البنت خفيفة الظل.. لا أنكر.. عفوية.. لذيذة.. لكنها تحتاج صمام أمان للسانها ذاك! لو جلست معها لبقية اليوم فلن ينتهي إلا وقد حكت لي هي قصة حياتها واستدرجتني لفعل المثل! هي..

تقطع كلامها فجأة وهي تنتبه للفستان المعلق الذي رأته راكعاَ أمامه عند دخولها..
لا تزال إبرة التطريز في يده..وقد بدا واضحاَ أنها قاطعت عمله..
تبتسم بدهشة وهي تقترب منه أكثر متسائلة :
_هل ستطرز انت هذا الثوب؟!

هزة رأسه تساوي جواباَ ب(نعم) فتسأل بالمزيد من الدهشة :

_ولماذا هذا الثوب بالذات؟!

لم يستطع أن يصدق.. ولا أن يكذب..
جوابه الموارب وهو يتلمس إبرة التطريز بين أنامله يمزج خشونة صوته الفطرية بلين عاطفة تجتاح قلبه :



_أحدهم قريب مني جداَ.. طلب مني فعلها لأجل امرأته.. وأنا لأجلهما رضيت.

_حبيبته ؟! أم زوجته ويريد تجديد العهد؟!
_هو لا يحب تسميتها هكذا ولا هكذا.. هو يدعوها (امرأته).. الحبيبة تتبدل والزوجة تتعدد.. لكن مادام هو (رجلاً) فستبقى هي وحدها في عينيه (امرأته)!



يغمغم بها بخفوت حار اخترق قلبها بصدقه ولا يزال يحجب عينيه عنها..
فتقترب أكثر قائلة بتأثر :
_يالله! هل بقي في الدنيا حب كهذا؟!
_حبه هو باقٍ ما بقيت الدنيا.



يهمس بها بخفوت.. ولا تزال هي غافلة عن خبايا قلبه..
تقترب لتميز الخرز المعد للتطريز فتهتف باستنكار :

_ما هذا يا فاروق؟!.. هل ستستخدم هذا في التطريز؟! هو شديد الصغر.. ستتضرر عيناك.. اختر خرزاَ أكبر!

لكنه يبتسم وهو ينحني ليلتقط العلبة التي حوت خرز التطريز يناظرها قائلاً بنفس النبرة :
_هو طلبه! منذ خفق قلبه لها وهو يسميها (سُكّر العمر).. عندما تخيلها بثوب الزفاف تمنى لو يشبه تطريزه السكر عندما تتناثر على صفحة بيضاء.

_سكر العمر؟! ما هذا التشبيه؟!
ترددها بتأثر.. فيكرر وهو يجرؤ أخيراً على رفع عينيه نحوها :
_سكر العمر المرّ الذي لا يحلو إلا بها.



تتسع عيناها للحظة وهي تشعر بقلبها يهتز!
هزة غريبة عن طول عهدها بنظرتها له!!
ذاك الخاطر المجنون الذي يعبث بروحها مؤخراَ يزداد خطورة!!
أفيقي يا أمينة!
إنه أخوكِ!!
سندس استقبلتك بها عند دخولك المحل..!!
هكذا يرى الجميع!!
هكذا ترين أنتِ!!
هكذا - كنتِ ترين - انتِ!!
كنتِ؟؟!!

نظرة مذعورة تطل من عينيها وهي تجد نفسها تتراجع للخلف عدة خطوات هاتفة بارتباك :
_لم تخبرني بعد.. كيف سيكون عملي هنا؟!

_انتِ بخير؟!
يسألها بحنانه المعهود الممتزج بقلقه..
لكن هذا يزيد ارتباكها وهي تتراجع للخلف أكثر كانها تهرب من أفكارها.. تلعثمها المرتبك يفضحها :
_بخير جداَ.. سأنزل لسندس..أظنني سمعتها تناديني!

تعطيه ظهرها لتغادر لكنها تسمع نداءه القلق خلفها :
_(ست أمينة)!

تتجمد مكانها للحظات..
تأخذ نفساَ عميقاَ تتمالك به نفسها قبل أن تستدير برأسها فقط نحوه بابتسامة ممتنة امتزجت بمرارتها :

_لا تعد تناديني هكذا! يبدو الأمر الآن مضحكاَ وأنا أعمل عندك.

_ماذا تقولين؟!
يهتف بها مستنكراَ وهو يتقدم نحوها..
غضب حقيقي يمتزج بحميته.. صوته يرتفع رغماَ عنه :


_كم مرة سأقولها لكِ؟! انتِ لا تعملين عندي.. كل ما لديّ ملكك.

رواية على خد الفجر

02 Nov, 21:41


تتقدم أمينة بوجل من تخشى الخطوة الأولى بينما تردف سندس بثرثرتها المعهودة وهي تسحب لها كرسياَ :
_أنا سندس..استلمت العمل هنا قريباَ.. كنت أفتح كشكاَ في آخر الحي لكنني أغلقته من فترة.. لا أدري إن كنتِ تعرفيني أم لا فزياراتك للحي قلت بعد زواجك.. لكنني أعرفك جيداَ.. وهل يخفى القمر ؟!

ترتجف ابتسامة أمينة وهي تشعر بالتردد يجتاحها من جديد..
هل كانت خطوة صائبة أن تقبل العمل مع فاروق في المحل في نفس الحي الذي كبرا فيه؟!
كان الأمر ميسوراَ نوعاَ ما عندما فعلتها في محل غريب وحي غريب وسط أناس لا يعرفونها..
لكن.. الآن..؟!!


_فاروق قال لي أعتبرك مكانه وكأنني يمكنني فعل العكس! كلنا نعرف مكانتك والحاج والدك عنده.. عسى الله أن يصلح الأحوال.. تعالي.. اجلسي.


تستجيب أمينة لدعوتها وهي تشعر بالمزيد من الحرج..
تجول بعينيها في المحل لترى الفساتين المتراصة ببريق يكاد يخطف الأبصار..
لكنه يبدو باهتاَ جداَ في عيون قلب كقلبها!

_أين فاروق؟!
تسألها بارتباك وقد بدا لها أن وجوده هو ما سينقذها من هذه الفوضى داخلها..
فتبتسم سندس وهي تشير للطابق العلوي :
_في المخبأ!
_المخبأ؟!


تكررها أمينة بدهشة فتضحك سندس بانطلاق وهي تجذب كرسياَ لتجلس جوارها قائلة بألفة :


_أنا أسميته كذلك! رغم إني استلمت العمل قريباَ لكنني حفظت عادات فاروق.. تعرفين أنه شديد الحياء والمحل كل زبائنه من النساء.. لهذا يترك للفتيات شئون التعامل مع الزبائن ويبقى هو بالأعلى.. في الغرفة العلوية يتابع بقية شئون المحل المتعلقة بالطلبيات والتسليم وهذه الأمور التي لا أفهم فيها.. وهو لا يسمح لي ولا لأي أحد ان يصعد هناك.

تبتسم أمينة بتفهم لكن سندس تميل عليها مردفة كأنها تبوح بسر خطير :
_بالأمس وصلته طلبية ما.. لم يدعني حتى أفتحها كي أعرف محتواها كالبقية.. لكنه كان شديد الاهتمام بها..كان يحتضنها كأنه يحمل واحداَ من عياله.. أنا لست فضولية.. لست فضولية إطلاقاَ.. على العكس.. عيبي أنني (على نياتي) ومطيعة لأبعد حد.. لكنني فقط أخبرك فأنتِ أخته وشأنه شأنك! هل تعرفين عنها شيئاَ؟!

تضحك أمينة بتسامح وقد أدركت بفطرتها طبيعة الفتاة الثرثارة التي مضت تشرح لها محتويات المحل بالتفصيل..
قبل أن تعاود الجلوس جوارها ،تربت على كتفها قائلة بود :


_نفطر سوياَ؟!.. يكون (عيش وملح)؟!

_شكراَ لكِ.. أفطرت مع الأولاد قبل حضوري.
_اعذريني في السؤال.. لكن.. هل ستكملين هذا الطريق لآخره حقاَ؟!

تسألها سندس بحيرة أقرب منها للاستنكار.. فتحدق فيها أمينة بتساؤل.. لتردف سندس بعفويتها المعهودة :


_أقول لك شيئاَ ولا تسيئي فهمي بالله عليكِ!

تبتسم لها أمينة ولا تزال تشعر بمزيج غريب من التوجس والألفة نحو الفتاة التي تردف بنفس العفوية :
_عندما قلت أنني أعرفك جيداَ كنت أعني ما أقول.. طالما تمنيت قصة مثل قصتك لنفسي.. سيد القاضي حلم الكثير من النساء.. مال.. عائلة.. أصل.. وسامة.. أخلاق.. هيبة.. عندما كنت اراه في المرات القليلة التي كنت أصادفه فيها هنا في الحي كنت أشعر أن الارض تهتز تحت وقع خطواته..

تسبل أمينة جفنيها دون رد.. ولا تزال سندس مستمرة في ثرثرتها :
_وحتى عندما أشيع خبر رغبته في الزواج الثاني من ابنة عمه لم أجد في ذلك مشكلة.. المرأة كما عرفنا لها ظروفها الصعبة وهو فقط يريد سترها.. صنيع معروف! هل يستحق هذا أن تخسري رجلاً مثله؟!


ترفع إليها أمينة عينين عاتبتين بقولها :
_لا تحكمي من الظاهر.. لا تزالين صغيرة.
فتهتف سندس بحماسها المعهود الذي امتزج بشفقتها :


_هذا ما قصدته بالضبط بسؤالي لك إن كنتِ تنتوين إكمال هذا الطريق لأخره حقاَ.. هل ستستطيعين المقاومة؟! واحدة مثلك اعتادت العيش في مستوى ما.. اعتادت الاستقرار والركون في مكان واحد.. هل سيمكنك الوقوف في وجه الجميع وأولهم عائلتك؟! هل ستحتملين نظرات أهل الحي لك بعد عودتك للعمل هنا في المحل؟!

_نعم.. سأحتمل..
تقولها أمينة بحسم وقد غادرت حلقها تنهيدة حارة.. لتلتفت نحو سندس باستطرادها :


_هم يظنون أنني ضعيفة كسيرة الجناح.. وأنا أرى نفسي قوية عندما اخترت قراري بالرحيل دون رجعة.. هم يظنونني مجنونة أضحي برجل مثل سيد القاضي لأجل أسباب يرونها تافهة.. وأنا أراني قد استعدت عقلي بقرار كهذا.. لن أعيب فيه فهو أبو اولادي على أي حال.. لكنني أجيب سؤالك بكل ثقة.. نعم سأكمل طريقي لآخره.. ولو وقفت في مواجهة الدنيا كلها.. ليس لأجلي فحسب.. لكن.. لأجل اولادي.. لأجل ألا يكون ابني صورة من ابيه ولئلا تكون ابنتي صورة من نفسي القديمة.

تبتسم لها سندس بفخر وهي تهز كتفيها :


_تتكلمين مثل يسرا.. يجب أن تتعرفي عليها.. امرأة قوية وطيبة مثلك.
_تقصدين يسرا الصباحي؟!
_تعرفينها؟!
_ليس جيداَ.. سمعت عنها من اهل الحي.. وبعدها عرفت أنها كانت متزوجة واحداَ من عائلة سيد.. طليقها حسام القاضي.. لكنه طلقها منذ زمن بعيد قبل ان أتزوج انا سيد.. لهذا لم أرها من قبل.. لكن يسعدني التعرف إليها.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


فيخلع سترته ليلقيها بعيداَ.. يفعل المثل بطرحتها وتاجها..
قبل أن يسدل شعرها الكثيف حراَ على كتفيها.. خصلة أمامية يلفها حول سبابته عدة مرات هامساَ بعينين مشتعلتين :
_لكِ خصلة شعر مستفزة! طالما كانت تثير جنوني وأنتِ تدارين بها نصف وجهك! لم أعترف يوماَ ولو لنفسي لكنني الآن أفعل.. كم تمنيت لو ألفها على سبابتي هكذا.. أشدها برفق هكذا.. أقرب بها وجهك مني هكذا.. فلا يفرق بيننا إلا رقص قبلاتي!

يتبع قوله بفعله فتكاد تذوب بين ذراعيه لكنها تبعد وجهها أخيراَ بدلال عنيد يشبهها مع قولها :
_هذه واحدة.. غيرها؟!..أنا أستمع بمنتهى الإنصات!
يبتسم بمكر وهو يلصقها به أكثر هامساَ في أذنها بحرارة :
_اطمئني.. سأحكي الليلة طويلاً طويلاً بمنتهى التفصيل.. بمنتهى الصبر.. بمنتهى الحب.
========




العراق.. بغداد

_ماما.. ماما.. استيقظي.. هل تحلمين؟ !

صوت داوود ينتزعها قسراَ من حلمها لتشهق حواء بانفعال وهي ترفع رأسها..

تضمه إليها بعينين زائغتين وهي تدور ببصرها حولها..
فيصلها صوته القلق:
_كنتِ تتكلمين في نومك.. تهزين رأسك.. من أحلام؟!

تدمع عيناها بالمزيد من الانفعال المكتوم وهي تضمه إليها أكثر..
أحلام!
لماذا تحلم بها اليوم بالذات؟!
لم ترها في حلمها منذ سنوات طويلة تقارب عمر زواجها من مقداد!
بالتحديد منذ دخلت بقدميها ذاك المستنقع القذر!
لكن لماذا العجب؟!
ماذا ستفعل (أحلام) بنقائها وطهارتها في أحلام عالمها المدنس؟!
لكن.. لماذا عادت تزورها الآن..
اليوم بالتحديد..
حيث تنتظر إلياس ليخبرها بقراره الذي توقن منه..
سيتزوجها!
ليس امامه حل آخر!

_من أحلام؟!
يكررها الولد باهتمام فترتجف شفتاها بابتسامة غريبة..
وكأنها عادت طفلة..
أحلام كانت شقيقتها الكبرى.. خمس أو ست اعوام لكنها كانت تكفي لترى فيها أما كبرت قبل الأوان.. أجمل هدية تركتها لها أمها قبل موتها.. طالما كانت تبدو لها كأنها احتكرت جمال العالم كله.. ليس جماله فحسب بل ونقاءه كذلك!
كانت مقعدة!
كرسيها المعدني كان رفيقها منذ استيقاظها للنوم.. وحتى استسلامها للنوم..
كانت النور الوحيد وسط ليل عالم أبيها الحالك!
كانت أول من حدثتها عن الجمال في هذه الدنيا.. عن العدل.. عن الصدق..
أول من تلت لها آيات من كتاب الله وحكت لها قصصاَ عن رسله..


اول من كلمتها عن الجنة والنار.. عن الثواب والعقاب.. عن الأبيض والأسود..
لكنها رحلت سريعاَ!
رحلت لأن هذا العالم لا يليق بنقاء (الأحلام)!
رحلت وكانت آخر كلماتها لها
(لا تبكي ولا تحزني لفراقي.. موعدنا الجنة!)

أي جنة؟!
هي لم تعرف في حياتها سوى الجحيم!
ولا تظن أفعالها ستقودها بعد الموت لما هو أفضل!

_من أحلام؟!
يكررها داوود بفضول فتبتسم له قائلة :
_خالتك.. لكنها رحلت عن عالمنا منذ زمن طويل.
_حلمتِ بها ؟! احكي لي الحلم.
يقولها بالمزيد من الفضول لكنها تتنهد وهي تشير لما يرتديه قائلة :


_ألم تبدل ثيابك بعد؟!.. أخبرتك أن بابا يعد لنا اليوم مفاجأة خاصة.. ارتدِ بدلتك الجديدة التي اشتراها لك.. وصفف شعرك جيداَ.
_أي مفاجأة؟!
يسألها فتغمزه هاتفة بفرحة :
_دعه يخبرك بنفسه.. ستكون أجمل شيء تسمعه!

يبتسم الولد مستبشراَ فتنهض من فراشها لتتوجه نحو باب غرفتها..


تفتحها لتجد يحيى يقف جوار مجد..
لم تكن أول مرة ترى الطفلة بطبيعة الحال لكن مشهد كرسيها يعيد لها ذكرى أحلام خاصة بعد حلمها بها الليلة..
فتجد نفسها تقترب منها.. تجلس على ركبتيها أمامها لتقول بحنان حقيقي:
_كيف حالك اليوم؟!
_بأفضل حال.

تقولها مجد برقتها المعهودة فتمسد حواء شعرها بشرود حانٍ ثم تقبل جبينها قائلة :
_كوني هكذا دوماَ.. كوني دوماَ بأفضل حال.

يرمقها يحيى بنظرة غامضة لم تنتبه إليها وهي تعاود الوقوف قائلة بابتسامة ودود :
_متى سيأتي إلياس؟!
يهز يحيى كتفيه بجهل قائلاَ :
_هاتفه مغلق.

ربما كان هذا ليقلقها في وقت آخر.. لكنها تثق كثيراَ أنه سيأتي اليوم..
ليس أمامه خيار آخر.. وبالذات بعد إطلاق النار الذي تعرضت له..
هي تعرف إلياس جيداَ..
لن يخاطر بحياتها ولا بحياة ابنه!
ابنه؟!
هل صدقت كذبتها؟!
نعم!
يجب أن تصدقها!!


لن تسمح أن ينهدم كل هذا فوق رأسها أبداَ!!

_لا داعي للقلق.. أظن هاتفه قد فرغ شحنه وهو مشغول بإعدادات اليوم.
تقولها بيقين فيسألها يحيى بحذر :
_هل وعدك بالتخطيط لشيء ما؟!
فتبتسم قائلة بيقين :


_دعه هو يفاجئكم بالخبر.. ولو أني اثق أنكم جميعاَ تتوقعون.

يرفع حاجبيه مع زمة شفتيه تسيئ هي تأويلها فتضحك قائلة بالمزيد من اليقين :
_بالضبط! ما جال في بالك بالضبط! لكننا لن نتعجل.. عدتي لم تنته كما تعلم.

يشيح بوجهه دون رد.. ليسمعها تقول بحماس:

_سأنتظر في غرفتي حتى يأتي..لا أظنه سيتأخر كثيراَ.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


يراقبها ببصره حتى تغلق باب غرفتها خلفها.. ولم تكد تفعل حتى يهبط هو الدرج، يتصل بقائد الحرس الذين أوقفهم على البوابة ليهمس له بصرامة :
_السيدة حواء لن تغادر البيت ابداَ مع ابنها مهما حدث.. طوعاَ أو قسراَ.



يقولها ليغلق الاتصال محدثاَ نفسه بتهكم :
_ثقتك في نفسك مبهرة يا حواء! أشفق عليكِ من مفاجأة قاسية تنتظرك.

وفي غرفتها كانت هي تقف أمام خزانة ملابسها..
أناملها تمتد للثوب الذي أرسلت في شرائه..
ثوب زفاف!


تعرف أنها بالغت كثيراَ في فعل هذا..
لكن إلياس سيحب هذا!
طالما أحب عنفوان أفعالها المبالغة!!
تعرف أن قدومه اليوم لا يعني زواجاَ حقيقياَ..
لكن وعده يكفيها حتى تنتهي عدتها ويتزوجها!
اليوم ستعود معه إلى بيته..
سيخبر عائلته أنها ستكون زوجته..
سيحميها هناك بأفضل مما يفعل يحيى هنا..
أخيراَ.. سيتحقق حلمها به!

ترتدي الثوب بسعادة لتقف أمام مرآتها تتفحص ملامحها باهتمام..
وكأن الأيام لم تمر!
هاهو ذا إلياس الأمين الذي حلمت به ليخلصها من بؤس عالمها..
الآن يفعلها!
متأخراَ سنوات كثيرة لكن لا بأس..

ستسامح العمر الأسود مادام قد انتهى بيوم بيضته فرحتها به!

ماذا سيكون شعوره عندما تفاجئه بلقياه في ثوب كهذا؟!
هل سيمنحها العناق الذي لم يمنحها إياه منذ عودتها ؟!
هل سيضع كفها على قلبه ليخبرها أن عمره الذي بدأ بها لن ينتهي بسواها؟!
سيفعل!
حتماَ سيفعل!

ورغماَ عنها تتذكر في هذه اللحظة حلمها بشقيقتها..

كانت تتحرك نحوها صحيحة الجسد تسير على قدميها كما لم ترها أبداَ في حياتها..
ترمقها بنظرة غاضبة وهي تجذبها من كفها نحو قمة ذاك الجبل..
تصعده أحلام بسهولة كأنها تطير بينما تسحبها هي خلفها فتتعثر وتدمي ركبتيها لكنها تعود للسير خلفها مجبورة..
حتى تصل لقمة ذاك الجبل..
وإذا بأسفله نهر يجري..
_اقفزي!
تأمرها أحلام فتهز رأسها رافضة بخوف طبيعي..
_اقفزي!
تكررها أحلام بالمزيد من الصرامة لكنها تعجز عن طاعتها كما كانت تفعل في طفولتها..
فتهتف بها أحلام :
_هو اختبارك يا حواء.. اقفزي من كل هذا الارتفاع وتحملي الألم لعلك تغتسلين في هذا النهر.. أو ابقي هنا مكانك حتى يتزلزل بك الجبل.. وفي النهاية أيضاَ ستسقطين لكنك ساعتها ستجدين النهر قد جف.

تطلق زفرة قصيرة وهي تمسد جانبي رأسها.. تحدث نفسها :
_أي حلم غريب هذا؟! ولماذا الآن بالذات؟! لماذا الآن بالذات أحلم بها؟! هل هي رغبة عقلي الباطن أن تكون شقيقتي معي الآن تفرح معي؟!.. لكن.. أي اختبار تقصد؟!


تتنهد بحرارة وهي تحاول التشاغل عن أفكارها بتصفيف شعرها..
هل تفرده ليصير كما يحبه إلياس؟!
ستفعل!
هو يحبه مفروداَ دون كسرة واحدة!

تتحرك نحو خزانة قريبة كي تحضر مكواة الشعر لكن رنين هاتفها يقاطعها..
فتهتف بلهفة:
_إلياس!

تركض نحو الهاتف لينعقد حاجباها بتحفز وهي تميز اسم جوليا..
ما الذي تريده الآن؟!

تفتح الاتصال لتهمس بخفوت خشية أن يسمعها أحد :
_أنا على اتفاقي معك.. إلياس سيأتي اليوم كي يخبرني بموعد الزواج.. ساعتها سأطلب منه تطليق ناي كشرط أساسي.


_أي شرط يا موهومة؟!.. ألم تري الصورة التي ارسلتها لك؟!

تصرخ بها جوليا بغضب مجنون فتزدرد حواء ريقها وهي تتمتم بقلق:
_ماذا حدث؟!
تقولها بينما تفتح الصورة التي وصلتها ليصلها صراخ جوليا الهادر كأنما ستموت كمداَ :



_إلياس وجد ناي! ولأن حبيبك العظيم شديد الرومنسية رفض العودة بها لبيته إلا وهي مرتدية فستان زفاف.. الرجل صاحب المحل لم يجد دعاية أفضل من هذه.. نشر الصورة وصار إلياس الأمين العاشق لزوجته أكبر (ترند) على مواقع التواصل!

تغيب بقية كلماتها عن أذنيها وهي ترفع الصورة أمام عينيها حتى تكاد تلصقها بوجهها..
إلياس!
هذا هو.. ناي هذه من جواره ترتدي فستان العرس؟!!
هل هذه هديته لها اليوم؟!
اليوم الذي يوافق ذكرى لقائهما الأولى؟!



لم تشعر بالدموع التي تلهب وجهها وهي ترفع عينيها من جديد نحو مرآتها لتصفعها صورتها بثوب زفافها..

_لا! لن تفعلها بي من جديد!! لن تقتلني مرتين يا إلياس!! لن تقتلني مرتين!!

تصرخ بها بحرقة وهي ترمي الهاتف لتكسر به مرآتها..
شاعرة أن ما بين ضلوعها قد تكسر أكثر!!
======
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


ابتسامتها بمذاق دموع فرحتها وهي تراه يشير لصبي المحل الذي يأتي ومعه هذا التاج المبهر..
تاج فضي تزينه زهور أقحوان نضرة!
هذا الذي يضعه فوق رأسها هامساَ :
_لا يليق الأقحوان بأجمل منكِ.

يخفق قلبها حد الجنون وهي تراه يستخرج قلادتها من جيبه..
لم تكن كعهدها السابق..
زاد بريقها حتى يكاد يخطف البصر وقد أضاف لها ماسة تتدلى من منتصفها كأنها تلفت النظر أكثر للعبارة المنقوشة..
(لو بيا يندار العمر.. مو مرة أحبنك عشر)

يهمس بها في أذنها بصوته الدافئ وهو يلبسها إياها فترفع إليه عينين غارقتين في الدموع ليردف بصدق مس قلبها :
_سأبقى ممتناَ حتى لكل صخرة تعثر بها قلبي حتى اهتدى إليكِ!

تسمع زغاريد فرح لا تعرف من أين تأتي..
من روحها.. من ضلوعها حيث يرقص قلبها.. أم من عقلها الذي يصدقه رغم كل ملابسات الماضي الذي جمعهما..
وبكل ما أوتيت من قوة عشق تجد نفسها تهمس هي الأخرى :
_لو بيا يندار العمر.. مو مرة أحبنك عشر.

يضمها إليه بقوة ثم يتناول كفها في راحته يهم بالخروج فتساله بخجل :
_هل سنخرج هكذا ؟!
فيبتسم وهو يشير إشارة خاصة لصاحب المحل الذي بدا شديد السعادة من أجلهما وهو يتقدم نحوهما قائلاً بمودة :


_إنها المرة الاولي التي يخرج فيها عروسان من عندي بهذه الصورة..بارك الله لكما.

تتسع ابتسامتها الهانئة بينما ترى إلياس يثني لها ذراعه لتتأبطه..
تغادر المكان وهي تشعر بأن الدنيا كلها تضحك معها..
يقابلها الناس في الطريق فيبتسمون لها بسعادة حتى تحس وكأن العراق كلها تحتفل معها بزفافها..

بعض الأطفال يقتربون منها يلمسون ثوبها..
بعض النساء يتطوعن بزغاريد قصيرة..
وأفضل ما حدث كان ذاك المحل القريب الذي لمح صاحبه تاجها فتطوع ليعطيها باقة من الأقحوان كي تكمل بها جمال المشهد..





_إلياس.. لو كان هذا حلماَ لا توقظني.. لا توقظني أبداَ.. قلبي يكاد يقف من شدة فرحته.

تهمس بها بصوت مرتعش من فرط انفعالها وهي تستقر جواره أخيراَ في سيارته..
فيهمس وهو يضمها إليه بذراعه :
_سلامة قلبك! دعيه يحلق فرحاَ كما شاء بنا معاَ.

تتاوه وهي تسند رأسها على كتفه حتى يصلا للبيت أخيراَ..
تترجل من السيارة وهي ترمق البيت بنظرة اشتياق عارمة كأنها تركته منذ عمر كامل..
تشهق بدهشة وهي تراه ينحني فجأة ليحملها بين ذراعيه فتتعلق عفوياَ بعنقه..

_هكذا يجب ان تدخلي بيتنا اليوم.

يهمس بها بقوة حانية وهو يغرس عشقه في عينيها فتسند رأسها على صدره وهي تثبت تاج الأقحوان على رأسها..

تضحك.. كل ما فيها يضحك..
شفتاها.. عيناها.. قلبها.. روحها..

_لا أذكر آخر مرة ضحكت فيها هكذا.. لكنني لن انسى هذه الضحكة ما حييت.

تهمس بها بامتنان وهي تشعر به يسير بها داخل الجنة..
فيهمس دون أن يزيح عينيه عن عينيها كأنه يخشى أن تبتعد من جديد :
_ضحكة كهذه تستحق ألا تنساها عين رأتها! أي عين!

تتنهد من أعماق روحها وهي تراه يتقدم بها أكثر..
يدخل البيت ليتوجه نحو السلم الداخلي الذي يؤدي لغرفته..
فتهتف به :
_هذا يكفي.. أنزلني هنا.. كي لا أثقل عليك.
_ليت ثقل الدنيا كله هكذا!

همسه يتباطأ بحرارة أذابتها وهي تشعر به يضمها إليه أكثر..
درجة درجة يصعدها بها فتشعر وكانه يحملها لأعلى سماء..
عيناه لا تبرحان عينيها..
حتى رمشة جفونه تبدو وكأنه يؤجلها قدر استطاعته كي لا يُحرم منها ولو مقدار غمضة عين!

يصل بها أخيراَ لغرفته فينزلها أمام مرآته..


يتوقف بها أمامها وقد لاصق ظهرها صدره وطوقت ذراعاه خصرها..
أنفاسه اللاهثة تسابق تلك النابضة بصدرها وهو يشير بعينيه لصورتهما في المرآة :
_هكذا.. هكذا بالضبط أريد أن أرى صورة مرآتي بعد الآن.. لا تفارقيني فيها أبداَ..

فتستدير نحوه لتعانق وجهه بكفيها هامسة :


_هكذا أشعر أنا الأخرى.. لكن..

يميل وجهه بتساؤل وهو يلمح هذه النظرة الخائفة في عينيها من جديد..

_لا تزال الصورة في عيني ناقصة.. تفاصيل كثيرة لم أفهمها.. ماذا حدث في غيابي؟! حواء..



لم تكد تهمس بالاسم حتى بسط سبابته على شفتيها هامساَ بعتاب حانٍ:
_ألم نتفق أن اليوم لنا وحدنا؟! دعي عيني اليوم تمتلئ بك كقلبي وعقلي.. لا أريد أن يزاحمك فيهم اليوم أحد!

_آآه..
تتأوه بتأثر وهي تخفي وجهها في صدره مردفة :


_كلامك اليوم يبدو مختلفاَ.. أُقسم بالذي زرع حبك في قلبي بلا ميعاد وبلا حدود لو كنت انا من أكتب قدري لما تمنيته بهذا الجمال!

_كلامي فقط؟!
عيناه تتوهجان بذاك الوهج الخطير وهو يرفع ذقنها نحوه فتبتسم بمزيج دلالها وخجلها الشهي هامسة :

_كل ما فيك.. كل ما فيك أجمل من أحلامي.

_تعنين أنه لا ملحوظات أخرى؟!
تضحك وهي تتذكر ما يحكي عنه لتهمس بدلال :
_ها قد أتى وقت اعترافك أنت بملحوظاتك! لكن لا تبالغ في النقد.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


لكن حنان تتحسس وجنتها لتهتف بأمها لائمة :
_هل ستقولين عني (فاجرة) انا الأخرى؟!

تظهر ملاذ عند الباب وقد بدت أنها فهمت ما يدور..
وكذلك فجر مع أساور وقد جذبهما صوت الصراخ لكنهن جميعاَ بقين صامتات..



ترتجف شفتا معالي بالمزيد من الغضب وقد بدت مثيرة للشفقة حقاَ..
عيناها تهتزان ذات اليمين وذات الشمال كأنها تبحث عن شيء لا تعرفه..
تبسط كفيها أمام وجهها لتهتف بصوت متقطع..
تحدث حنان وفيصل بقهر :




_ماذا فعلت لكما كي تفعلا بي هذا؟! انا أفنيت عمري عليكما! هل تتعمدان قتلي؟! هل كنت أربي عدويْن في حجري؟! لم أستوعب بعد صدمتي في ابني.. والآن تكملين أنتِ الأخرى طريقه!! تحبين لصاَ؟! تقابلينه سراَ؟! لهذا ترفضين الزواج؟!

_بالله يا أمي اهدئي.. هي تقول إنها لم تقابله إلا مرة واحدة مصادفة.

يهتف بها فيصل وهو يربت على ظهر حنان التي ترتجف بين ذراعيه كعصفور مبتل..
لكن معالي تجذبها منه لترجها بين ذراعيها صارخة :
_وهل سأنتظر حتى تحني رأسي؟!

_معاذ الله! ماذا تقولين يا أمي؟!
يهتف بها فيصل بغضب لكنها تلتفت نحوه صارخة :



_أنا سمعت ما قالته لك.. أنت السبب.. لولا أنك تزوجت تلك المرأة لما جرؤت هي على التفكير في ذاك الرجل!

تشحب ملامح فيصل وهو يتوجه ببصره نحو فجر التي وقفت رافعة رأسها رغم كل شيء دون أن تتدخل في الحوار..
ليقول أخيراَ بحسم :


_أمي! فجر الآن زوجتي كرامتها من كرامتي.. لن أسمح بأي كلمة تؤذيها من أي أحد ولو منكِ أنتِ.

تطبق معالي فكيها بغضب مكتوم للحظات قبل أن تهتف بصرامة :
_وحنان ابنتي.. لن أسمح أن تؤول لمصير لا ارتضيه.
_حنان ابنتك وشقيقتي أيضاَ.. دعينا نهدأ أولاً ونفهم حقيقة ما يحدث.


يقولها فيصل بهدوء محاولاً التحكم في غضبه..
لكن معالي تهتف بانفعال:
_وهل سأنتظر كي نهدأ ونفهم؟!.. والله لا أصبر حتى يوماَ واحداَ!

يرتجف جسد حنان بخوف وهي ترمق فيصل بنظرة راجية..
فيربت الأخير على كتفها داعماَ ليسأل أمه بتوجس:
_ماذا تقصدين؟!
تلتمع عينا معالي بتصميم وهي تقول بصرامتها القاسية :
_كلمة واحدة ولن أكررها! زميلك الضابط الذي تقدم لخطبتها منذ عدة أيام و(الهانم) رفضته.. أرسل له وأخبره أننا وافقنا عليه.
=======








مصر.. الفيوم

يهبط سراج الدرج المؤدي ل (البدروم) الذي يسكن فيه بخطوات بطيئة متهالكة، يفتح الباب لتستقبله رائحة الرطوبة التي لم يعتدها رغم طول بقائه هنا..

يتنهد بحرارة وهو يجد قدميه تسحبانه نحو زاوية المكان هناك حيث ذاك الكيان المغطى بعناية!
منذ متى لم يرفع هذا الغطاء؟!
لم يعد يحسب!

يرفع الغطاء ليبدو ما تحته!
(موتوسيكل) لامع يبدو وكأنه جديد تماماَ يحرص هو على نظافته كل أسبوع.. رغم انه لم يستخدمه منذ سنوات إلا مرات قليلة!
اشتراه له أبوه عندما حصل على مجموع عالٍ في الثانوية العامة ودخل كلية الألسن..


لا يزال يذكر فرحة عيني أبيه وقتها.. والفخر في عيني أمه..
من وقتها وهذا (الموتوسيكل) يرمز في عينيه لهذا!
أين هو الآن من هذا؟!


لهذا يغطيه منذ سنوات هكذا دون ان يستخدمه إلا في مرات قليلة جداَ.. ومع هذا يصر على تنظيفه فلا يناله الغبار أبداَ..
كفاه الغبار الذي نال قلبه!

لكنه الأن بالذات يريد ان يركبه!
ان يخرج به من هذه الغرفة الصغيرة ذات الرائحة العطنة..
أن يستشعر ولو قليلاً..
ولو كذباَ..
أنه استحق يوماَ شيئاَ كهذا!

يحمله بين ذراعيه ليغادر به الغرفة..
يركبه لينطلق به تحيطه نظرات أهل المدينة بين إشفاق وازدراء..
لكنه يترك كل هذا خلفه وهو يتحرك به بمهارة كبيرة في الطرقات..
يزيد سرعته وهو يتحرك به يمنة ويسرة مغمضاً عينيه كأنه يراقص قدره..

يوماَ ما كان فتى مهذباَ تنشرح لرؤيته الصدور قبل العيون..
حياة هادئة.. أب معطاء وأم حنون..
مشاكل تبدو عادية.. ومستقبل يبدو مضموناَ في بلدة هادئة كهذه..
متى انقلب كل شيء فجأة؟!
مات أبوه دون سابق إنذار وهو في السنة الأخيرة من الجامعة..
وبدلاً من ان يقف جواره عمه الوحيد أكل إرثه وامه ظلما وبهتاناَ..
طردهما من البيت الذي كانا يقيمان فيه..
ليجد نفسه فجأة مسئولاً عن أمه وعن نفسه!
دون مال إلا معاش أبيه البسيط .. دون بيت.. دون أهل!
الصدمة أسلمته لاكتئاب..
والاكتئاب أسلمه لرفقة السوء..
ورفقة السوء أسلمته للمخدرات..
والمخدرات أسلمته للسرقة!

أجل.. لن ينسى ذاك اليوم الذي أفاق فيه من نشوة المخدر ليجد رجال الشرطة يضعون الأصفاد في كفيه..
يقولون إنه رفع سلاحاَ على صاحب متجر مهدداَ إياه حتى يعطيه المال..

وهو يقسم انه لا يذكر مالاً ولا متجر.. ولا يعرف كيف يرفع سلاحاَ!
خوفه مما صار إليه حاله وقتها كان أعظم من خوفه من السجن..
عاهد ربه على التوبة والرجوع من هذا الطريق..
لكن الطامة الكبرى كانت وفاة أمه بحسرتها عليه!

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


تهمس بها باستنكار فيرمقها بنظرة نهمة لكل انفعالاتها الطبيعية التي تظهرها أمامه لأول مرة بكل هذه العفوية وهي تسبل جفنيها على مزيج الدلال والخجل الشهي خاصتها..
تميل عليه مردفة بخفوت :



_منذ زمن طويل وأنا أتمنى لو تطلقها.. هكذا تبدو أكثر وسامة.

ابتسامته الماكرة تزيد هذا الألق في عينيه وهو يستدرجها بهمسه عبر تقطيبة مصطنعة :
_تعنين أن شكلي لم يكن يعجبك؟!

وتسقط في الفخ بسرعة اعتراف عفوي لذيذ يشبهها :

_ما رأت عيني أوسم منك.. كانت هذه فقط ملحوظتي الوحيدة.

_من الجيد أنك صارحتني.. أنا الآخر لدي بعض الملحوظات.

يكتم معها ابتسامته متصنعاَ الجدية فتتأهب حواسها وصوتها العالي يخذلها كعادته :
_قل بسرعة.. ما الذي لا يعجبك؟!

تلتفت نحوهم أنظار بعض رواد المحل فتحمر وجنتاها بخجل وهي تراه يشير لأذنه بحركة إصبعه عاتبة وأنيقة كعادته..

_لا تلمني! انت من اشعلت فضولي!

تهمس بها بخفوت مغتاظ فيشيح بوجهه مخفياَ تعابيره المتلذذة بكل ردود أفعالها..
يسمعها وهي تهمس بفضول.. تبدو كطفلة تشد كم قميصه كي يلتفت :

_ما الذي لا يعجبك في شكلي؟! قل لي كي أراعي هذا مستقبلاً.. على الأقل الآن في اختيار الثوب.



يتعمد إثارة المزيد من فضولها مستمتعاَ بهذا الوجه منها.. يتجاهل عبارتها وهو يتناول منها البدلة قائلاً :
_اخترتِ هذه؟!.. لا بأس بها.. تبدو مناسبة.
يقولها وهو يشير للصبي في المحل كي يأخذها منه ليضعها في غرفة القياس..


_إلياس!

تهمس بها بغيظ وهي تراه يتحرك نحو قسم الفساتين يتفحصها واحداَ واحداَ..
فتطبق على كفه بكلتا كفيها هامسة بانفعال :
_ما هي الملحوظات؟!
_ممم.. كلها متشابهة.. أريد لك واحداَ استثنائيا!
لا يزال يتظاهر بتفحص الفساتين بكفه الحر.. فتهمس بالمزيد من الغيظ :

_إلياس.. لا تهرب!

تلتوي شفتاه بابتسامة ماكرة وهمسه الخافت يحلق بعتابه :
_من هذه التي تتكلم؟! صاحبة ميدالية (الهروب) الأولى؟!! لا تتكلمي عن الهرب مرة أخرى! تذوقي بعضاَ مما فعلتِه بي!




ابتسامتها تشبه اعتذاراَ ولا يزال فضولها الراجي يتراقص بين همسها ذي الدلال :
_طيب! كن انت أكرم مني! هيا.. قل الآن.
عيناه تتقدان بهذا الوهج الخطير ونظراته تتلكأ فوقها من قمة رأسها وحتى قدميها ببطء كاد يصيب أوصالها..
قبل ان يميل على أذنها هامساَ بخفوت :


_هذا أمر شرحه يطول.. تعرفين أنني مولع بالتفاصيل.. الليلة أخبركِ بكل الملحوظات.. واحدة واحدة.. نتناقش فيها عملياَ ونبحث عن حلول جذرية!

تكتم ابتسامة خجلها وهي تشعر بسخونة خديها تفضحها شر فضيحة..
بينما تراه يختار أخيراَ أحد الفساتين يرفعه أمامها قائلاً باستحسان :
_أظن هذا جيداَ.
تتسع عيناها بانبهار وهي تميز تفاصيل الفستان الرائعة..
لا تبالغ لو قالت أنه أفخم واحد رأته!
تتكدس الدموع في عينيها وهي تتذكر أنها أبداَ.. ابداَ لم تفكر في فستان زفاف..
حتى أيام مظفر!
كان الأمر يبدو لها وكأنه تفصيلة خيالية لعالم وردي لن تنتمي له!



وبعد زواجها من إلياس كانت قد بدات توقن أنها حقاَ لن تنتمي له!
لكن.. الآن!

تشعر به يمسح دمعة خانتها فترفع عينيها إليه ليهمس لها بحرارة عشقه :
_لا ينقصه إلا أن ترتديه كي يكون استثنائياَ!



فرحتها تبدو وكأنها تلبسها تاجاَ غير مرئي وهي تتناوله منه لتتوجه نحو غرفة القياس..
ترتديه بارتباك وهي لا تزال تشعر انها في حلم..
لكنها تتذكر عبارته..
(وماذا لو كان حلماَ؟! ألم أعدكِ أن أجعل كل أحلامك حقيقة؟!)

تبتسم وهي تتأمل صورتها في المرآة..


طويل هو ذيل الثوب.. طويييل.. بطول العمر الذي تتمنى عيشه معه..
ناصع البياض دون شائبة.. ببياض الغد الذي تتمناه دون رواسب الماضي..
لامع دون تطريز.. دون فصوص.. لمعته تنبثق منه هو.. كأنه يشع بذاته.. بإشعاع يشبه عشق يجري في دمها الآن!


تثبت طرحته فوق رأسها وهي تشعر أنها بفستان واحد صارت أخرى!
كأنه طوى حزن العمر كله بفرحة واحدة!!

ورغم أنها لم تكن تضع أي مساحيق..
حمرة وجنتيها بصبغة عشق كانت تكفي!
ورغم تعب عينيها بفعل سهرها الليلة الماضية..

وهج شوقهما بألق غرامها كان يكفي!
هل ازدادت بشرتها نعومة ؟! أم هو أثر انامله كعصا سحرية تبدل كل ما تأتي فوقه؟!
هل اكتست شفتاها بوردية ناعمة أم هو أثر عطايا عشقه كمطر يدرك أي وادٍ يصيب؟!
هل ازدادت جمالاً أم هو فقط سحر غرامه كنجم زاد تألقه فزاد معه وهج كل ما يدور حوله من كواكب؟!

تغادر غرفة القياس بخفر وهي تبحث عنه بعينيها لتجده هو الآخر قد ارتدى بدلته..
تسمع تصفيق بعض الواقفين بفرحة وإعجاب لكنها لم تكن تشعر إلا به وهو يتقدم نحوها ليمسك كفها بين راحتيه..
عيناه تفضحان خبيئته..
هو الأن مثلها.. لا يرى سواها.. لا يسمع غيرها.. لا يحس إلا بها!



شفتاه ترقصان رقصة مقدسة خاصة على جبينها الوضاء وهمسته المغرمة ترضي غرور أنوثتها :
_استثنائية كالعادة.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


يوقف (الموتوسيكل) في اللحظة الأخيرة قبل اصطدامه بأحد الأعمدة..
يشتمه أحد المارة لكنه لا يسمع شيئا!
هو عود نفسه منذ زمن بعيد أن يعيش دون ان يسمع أو يرى..
يعاقب نفسه بالمزيد من الخسارة..
لكنها وحدها بقيت الفجر النابض وسط ظلمة ليله..
هي.. حنان!

يعرف أنها تحبه!
حب كحبها تصعب مداراته!!
منذ سنوات وهو يشرق في ظلمته دون مواعيد..
ليذر خلفه صبحاَ استثنائياَ يختفي برحيلها لكنه لا يملك إلا أن ينتظر شروقه من جديد!

كل نداءات العقل كانت تقول أن يترك هذه البلدة..
أن يبدأ من جديد في مكان آخر..
هو حتى لم يجد عملاً هنا بسهولة مع سمعة ماضيه ولولا العجوز المتصابية صاحبة محل الدجاج التي ظهرت نيتها أخيراَ في التحرش به لما وجد عملاً..
وهاهو ذا تركه كذلك!
ومع هذا كان متشبثاَ بالبقاء هنا..
لماذا؟!
جزء من ضميره يقول إنه يجلد نفسه بخطيئته..
وجزء من قلبه يقول إنه لأجلها هي.. لأجل أن يبقى جوارها..
لكن.. هل ظل من الأصوب أن يبقى هنا؟!

ينطلق ب(الموتوسيكل) من جديد نحو الوادي البعيد..
يشعر أنه يترك كل شيء خلفه.. وكم يخاف أن يترك كل شيء خلفه..

_سراج.. توقف.. خذني معك.

صوت زكي المجذوب ينتزعه من شرود أفكاره فيتوقف ليركب زكي خلفه قبل أن ينطلق من جديد..
يسمع زكي يهتف خلفه بسعادة وهو يفرد ذراعيه كانه يطير :
_لم اركَ من قبل تركب هذا!.. ملكك ؟!

_لا يمكنني ان اقول هذا بالضبط.. أبي أهداه لواحد كان يستحق.

يقولها بشرود بائس لكن زكي لا يفهم فيهتف به بنفس السعادة :
_ألست صديقك؟! دعني أركبه معك كلما ركبته أنت!

يتنهد بحرارة وهو يوقف (الموتوسيكل) في صحراء الوادي القريب أخيراَ..


يترجل وهو يشعر أنه يوشك أن يتخذ قراراَ خطيراَ..
لكن لا مفر!
أحدهم عرض عليه عملاً في القاهرة..
(دروس لغات) في مركز صغير لا يشترط خبرة ولا يبالي بماضيه ..
مرتب زهيد جداَ لكنه يضمن سكناَ..
هروب سريع من كل شيء هنا..
حتى هي!


لا يزال يذكر نظرة شقيقها المزدرية له في آخر لقاء لهما بالمشفى!

لو كان قد اختار البقاء هنا طوال تلك السنوات لأجلها..
فهاهو ذا يختار الرحيل لأجلها كذلك!
لن يكون وصمة في جبينها!
لن يفعلها أبداَ!!

_ماذا بك؟! تبدو شارداَ اليوم!

يسأله زكي بسذاجته الطيبة فيرمقه بنظرة مشفقة طويلة قبل أن يقترب منه ليربت على كتفيه قائلاً :
_سأفتقدك كثيراَ.. انتبه لحالك ولا تدع أحداَ يؤذيك!

يبدو الخوف جلياَ على وجه المجذوب الذي يتشبث بثياب سراج قائلاً بهلع :
_ستتركني ؟!
فتدمع عينا سراج بتأثر وهو يقول بحزن شق صوته :
_رغماَ عني.. مجبور على الرحيل.. مجبور.
======







العراق.. بغداد

_ألا نزور جدتي؟! افتقدتها وشقيقيّ كثيراَ!

تهتف بها ناي بنبرة عادت لها حيويتها وهي تستقل جواره سيارته.. لكنه يهز رأسه نافياَ وهو يرمقها بعينين تنبضان عشقاَ :



_هي عرفت بعودتك وفرحت كثيراَ واطمأنت.. اليوم لنا وحدنا.. أنا وأنتِ.. سأسمح لنفسي عوضاً عن عذاب الأيام الماضية أن أكون أنانياَ.. لن يشاركني فيكِ أحد اليوم.. أنت اليوم لي وحدي وأنا لك وحدك.

تبتسم رغماَ عنها تأثراَ بعاطفته الاستثنائية التي سمح لها أخيراَ بالظهور..فتسند رأسها المرهق على كتفه مغمضة عينيها باستسلام..
لا يزال برأسها الكثير من الأسئلة..
لا يزال الغد معه غامضاَ في وجود حواء وابنه..
لكنها ستعمل بنصيحته..
اليوم لهما.. لهما وحدهما.. ولتدع الغد للغد!
_أين نحن؟!

تسأله بترقب وهي تراه يوقف السيارة أمام أحد الأسواق التجارية الفخمة.. فيمسك كفها قائلاً بابتسامة ماكرة :


_نحن عائدان إلى بيتنا.. تظنينك ستدخلينه ككل مرة؟!
ترمقه بنظرة متسائلة عما يقصده لكنه يرد عملياً وهو يترجل من السيارة ليفتح لها بابها ممسكاَ كفها ثم يدخل بها..

_لماذا جئنا إلى هنا؟!
تسأل وقد بدا السؤال ساذجاَ حقاَ مع المحل المزدوج الذي وجدت نفسها فيه معه..

منقسم بالتساوي لقسمين أحدهما لفساتين الزفاف والآخر لبدل العرس..
لكنه يميل على أذنها هامساَ :
_اليوم تدخلين بيتي عروساَ ترتدي ثوب زفافها..لكن اختاري لي بدلتي أولاً.

تكتم صيحة فرحة كادت تفلت من شفتيها وهي ترفع عينيها المذهولتين نحوه..
فيبتسم وهو يحيط وجنتها براحته :
_تستحقين حفل زفاف يتحدث عنه القاصي والداني لسنوات.. كنت سأفعلها.. لكنني تراجعت.. قصتنا نالت نصيبها أمام الناس.. اهتممنا بالناس فيما قبل أكثر مما ينبغي.. من اليوم لن يرى أحدنا إلا صاحبه.. فليكن ما بقي خاصاَ بنا وحدنا.. أنتِ كل ناسي وأنا كل ناسك .
_أنت كل ناسي وأنا كل ناسك.

تكررها بتأثر وهي تحدق في عينيه تريد تصديقها..
تريد رمي كل مخاوفها خلف ظهرها..
حواء.. داوود.. مظفر..
كل من تخشى أن يقفوا بينها وبينه!

يهز لها رأسه مؤكداَ وكأنه قرأ أفكارها فتبتسم وهي تتحرك بحيوية لتختار له بدلة عرس..
تضمها لصدرها بقوة قبل أن تعطيها له هامسة في أذنه بمزيج من دلال وخجل :
_طالت لحيتك قليلاً.
_صحيح.. أحلقها عندما نرجع.
_لا.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


طوال تلك السنوات وهي تروي شجرته داخل قلبها مكتفية برذاذ بسيط من أمل..
رذاذ تحول لوابل صيب كاد يكفي لتزهر شجرتها أكثر وأكثر..
لولا..!

_غبية يا حنان! غبية!! ماذا كنتِ تظنين؟! ماذا كنتِ تنتظرين كنهاية لحب كهذا؟! نهاية وردية كقصة فيصل وفجر؟! هاهو ذا فيصل أول من خذلك! لكن هل تلومينه؟! تلومين الضابط الذي يرفض مصاهرة اللص؟! بالغتِ كثيراَ في الأمل يا حمقاء!

تحدث بها نفسها بمرارة ساخطة وهي تكتم المزيد من دموعها ثم تتحرك نحو مرتبة فراشها تزيحها لتستخرج صورته القديمة التي رسمتها..
اليوم سترسم له صورة جديدة كما وعدت نفسها..
صارت تحفظ شكل حاجبيه بالضبط..


هذه الشامة التي تبدو كنقطة كبيرة تحت الأيسر..
وهذا الارتفاع الطفيف للأيمن..
لكن.. هل ستنجح في ادخار نظرته العاشقة لها؟!
أول نظرة توثق عهد حبهما الذي امتد طوال هذه السنوات صامتاَ ولما أرادوا النطق به أخرسه القدر؟!!
تبدأ في رسم الصورة دون خوف..
من سيدخل غرفتها الآن؟!


أمها معالي نائمة في غرفتها بعد عودتها من المشفى..
وملاذ منزوية في غرفتها تبكي خسارتها هي الأخرى..
وفيصل مشغول مع فجر!
وحتى لو لم يكن مشغولاَ.. هو غاضب منها هي لم يكلمها منذ تلك الليلة التي رآها فيها مع سراج في المشفى.. يشيح بوجهه عنها كلما رآها.. في سلوك جديد لم يسلكه من قبل!


فليتركوها لوحدتها مع رسوم يدها..
تراها وحدها ما تبقى له منه..
مجرد صورة؟!

لم تشعر بمرور الوقت حتى سمعت الباب يفتح بعد طرقات قليلة لكن المفاجأة منعتها من سرعة إخفاء ما بيدها..

_فيصل!
تتمتم بها بخوف واناملها ترتعش بينما تهب واقفة فيرمقها بنظرة آسفة وهو يغلق الباب خلفه..
يتقدم منها قائلاً بعتاب لم يفقد صبغة حنانه المعهودة :
_أول مرة تخافين هكذا عندما أدخل عليكِ غرفتك!

تنكس رأسها المهزوم الذي يشبه قلبها في هذه اللحظة..
فيقترب أكثر ليتناول منها الرسم الذي رسمته يرمقه بنظرة طويلة..

يقارنه بالرسم القديم ثم يضع كليهما جانباَ..
يمسك كفها المرتعش بأحد كفيه.. وبالآخر يربت على كتفها قائلاً بغضب مكتوم :
_لص يا حنان! لص! تخفين عني أنك تحبين لصاَ؟!! هو سبب رفضك للزواج إذن؟!
فلا تملك دموعها وهي تهتف به بعتاب مشابه :
_ظننتك خير من سيفهمني!


ينعقد حاجباه للمقارنة التي أرادت الإيحاء بها ليهتف بالمزيد من الحدة دون أن يتخلى عن كفها :
_الوضع مختلف.. لا مجال للمقارنة.. فجر..
لكنها تقاطعه وهي تسحب كفها منه بعنف هاتفة بين دموعها :
_ماذا عن فجر؟! ألم يقولوا عنها ما قالوا؟! منفلتة هربت من أهلها وخسرت شرفها؟!! هل منعك هذا حبها؟! من الدفاع عنها؟! من الزواج بها؟! لماذا تحلل لنفسك ما تحرمه عليّ؟!

_ماذا تقولين انتِ؟! يالله!! لا أصدق أنك تخفين في صدرك مقارنة ظالمة كهذه كل هذا الوقت؟!! فجر كانت حب طفولتي.. ثم إنها أخطأت خطأ واحداَ لا يستحق أن ترجم به عمرها كله!!

يهتف بها بغضب وهو يهب واقفاَ يشرف عليها من علو.. فتتناول الصورة القديمة لسراج ترفعها امام عينيه وقد هزم يأسها خجلها :
_وهو حب طفولتي! مثلكِ دق قلبي له منذ سنوات لم أعد أعرف عددها..
تنفرج شفتاه مشدوهاَ باعتراف كهذا بينما تردف هي بين زخات دموعها :

_لكنك كنت تملك رفاهية البوح.. أنا لم أفعل! طوال هذه السنوات أكتفي بصورة رسمتها له.. بأخبار تصلني عنه من بعيد.. بنظرة عابرة وسط الزحام.. أنا حتى لم أتأكد من أنه يحمل لي أي مشاعر إلا يوم رأيتني معه في المشفى.. صدق أو لا تصدق!

يطبق كفيه بغضب تسوقه غيرة فطرية على شقيقته..
لكنه ينحني ليقبض على كتفيها قائلاً :
_منذ متى لم أصدقكِ؟!.. تعرفين أكثر ما يثير غضبي في كل هذا؟!! أنني أسمعه لأول مرة!! لماذا لم تخبريني من قبل؟! منذ متى تخفين عني شيئاَ؟!

تمسح دموعها وهي تسبل جفنيها بخزي قائلة :
_كنت سأخبرك.. لكن.. حادث السرقة الذي سُجن بعده منعني.. كنت أخشى حكمك عليه.. وهأنذا أتأكد أنني كنت على حق.

يهم بقول شيء ما لكن باب الغرفة يفتح لتطل منه أمه معالي محمرة الوجه مصدومة الملامح..



تشهق حنان بخوف وهي تحتمي خلف ظهر فيصل الذي تشحب ملامحه بين خوفه على أمه وغضبه من كل هذا الذي يحدث..

_أمي.. لماذا تركتِ فراشك؟! لم تتعافيْ تماماَ بعد؟!
يغمغم بها بقلق وهو يمسك كف حنان داعماَ..
يتمنى لو لم تكن أمه سمعت شيئاَ من حديثهما..
لكن ظنه يخيب وهو يرى معالي تتقدم منهما كعاصفة..
تسحب حنان من ذراعها لتبعدها عنه.. تنقل بصرها بذهول بين ابنتها والصورة المرسومة هاتفة بغضب مخيف :
_هل ما سمعته صحيح؟!

تتردد حنان قليلاً وقد غلبتها طبيعتها الوديعة كالعادة..
بينما ترجها معالي بين ذراعيها صارخة بحدة :
_انطقي!
_نعم.. صحيح..


تصرخ بها حنان شاعرة بالقهر مردفة :
_أنا لم أفعل ما يشين.. أنا أحبه.. أحبه.

صفعة معالي القوية تهوي على وجنتها فيجذب فيصل حنان ليحميها في حضنه هاتفاَ بامه :
_اهدئي يا أمي.. الأمور لا تحل هكذا.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


يقولها حارة صادقة فتستجلب ابتسامة حقيقية على شفتيها منذ بدأ اللقاء..
بينما يصب لها هو الشاي..
يرتشفه قبلها في حركة صارت تخصهما وحدهما..
قبل أن يناولها إياه.. فترتشف منه رشفة قبل ان تدمع عيناها بهمسها المرتاح :
_أخيراَ!
يطلق زفرة قصيرة وهو يداعب وجنتها بأنامله هامساَ :
_لو تعرفين كم كنت أخاف عليكِ.. حد أني أتمنى الآن لو أخبئك بين ضلوعي.
تبتسم ابتسامة مرهقة تفضح فوضى مشاعرها بينما تضع ما بيدها جانباَ لتصب له القهوة قائلة :
_هاهي ذي قهوتك!

يرتشف منها رشفة مغمضاَ عينيه بتلذذ صامت..
فتنتظر بترقب لكن صمته يطول.. فتهتف باعتراض طفا معه المزيد من حيويتها وهي تغلظ صوتها ببعض المرح :
_ألن تقولها: (كلش حلوووو هوااااي)؟!

ضحكته تذهب بعقلها كالعادة للحظات قبل أن يضع ما بيده جانباَ ليضمها إليه بقوة هامساَ في أذنها بحرارة :
_ظننت هذا بديهياَ! في أناملك عصا سحرية.. كل ما تلمسه يصير حلواَ.. (كلش حلوووو).

تبتسم بارتباك لا يزال يغشى ملامحها.. كأنها من فرط ما لاقته لا تزال عاجزة عن تصديق كل هذه السعادة..

لكن فعلته الأخيرة تكاد ترفعها فوق الغمام وهو يستخرج من جيبه ورقة مجعدة تعرفها وقد كتبتها بخطها..
(إلياس
ليس
لي)
اسمه الذي كتبته عدة مرات متتابعة لتشطب منه حرفاَ في كل مرة لتصير هذه الجملة..!
هل وجدها بين حاجياتها التي تركتها؟!!
لماذا يريها إياها الآن ؟!
تتحفز حواسها بتوجس وهي تراه يخرج معها ورقة أخرى..
يكتب فيها بنفسه اسمه بنفس الطريقة..
لكنه يشطب ما يشاء هذه المرة..
لتصير الجملة :
(الياس
لي)
يعطيها لها ثم يشير لها أن تقرأ فتقرأها عالية بصوتها كأنها تملأ بها أذنها وقلبها..
ليهمس هو مؤكداَ بحرارة ألهبت جوارحها :
_اقرئيها دوماَ هكذا.. (إلياس لي).. إياكِ أن تصدقي سواها كما صرت أنا أفعل.

ضحكة رائقة تطلقها عالية هذه المرة كأنها تخلصت أخيراَ من رواسب حيرتها وهي تضم الورقة لصدرها بحرارة..
قبل أن يفاجأ بها تندفع بعفويتها اللذيذة كي تلكزه بسبابتها في صدره هاتفة بسعادة :
_أنا هنا.
حركتها كانت من العنف المفاجئ حد انها أسقطته على ظهره ليتاوه ضاحكاَ وهو يجذبها لصدره هامساَ بعينين ملتمعتين وهو يثبت كفها على موضع قلبه:
_أنتِ هنا.. دوماَ هنا.. ولآخر دقة يدقها قلبي ستكونين هنا.
تتسارع أنفاسها بعاطفة تغشى جوارحها كالبركان وهي تتوسد صدره..
شعاع الشمس يسقط فوق عينيه فيمنحهما سحراَ استثنائيا لتجد نفسها تهمس بعمق عاطفة لم تعد بحاجة لتخفيها :
_تعرف كم أحببت عينيك في ضوء الشمس!! .. لأجلهما لا أبالي لو أصير زهرة دوار شمس تتبعهما شرقاَ وغرباَ دون ملل.


يبتسم لعفوية اعتراف حلو يشبهها.. وهو يضمها إليه أكثر..
المسافة بين وجهيهما تتناقص حد امتزاج أنفاسهما وهي تسمع حديثه يشبه أشعار العاشقين
_أما أنا فكلما نظرت لعينيك أجدني أردد :ماسكاَ نايي أغني ذلك اللحن القديم.. تسرقين الناي مني.. تضحكين وتركضين..تسكبين العشق عمراَ..تحلمين وتهمسين :(ويحك يا صاحب العزف الحزين.. أما آن الأوان لتستكين؟! وكفاك ركضاَ خلف أسراب الحنين! دع عنك قيداَ من سراب ماضٍ عنك ولّى.. صحح الدرب.. لم يفت موعد النادمين. لا زلت تسأل من أنا؟! انا القلب والدّرب.. انا الناي والطرب.. أنا قُبلة الصلح التي خطّها قدرك على الجبين.)
تتلاحق انفاسها اكثر مع كل كلمة يقولها حتى ينتهي فتهمس بتأثر :
_انت ألّفت هذا لأجلي؟!
_ولمن سواكِ؟!
لم يكد يهمس بها حتى تمنحه شفتاها أروع هدايا عشقها..
تسكب عطايا غرامها عفوية دافئة فيتلقاها كأرض قفراء تستجدي المطر..
تبتعد أخيراَ لتشرف عليه بعينين تتوهجان كانهما سرقتا شمس السماء فوقهما ليهمس بها بمكر وهو يعاود ضمها إليه :
_ماذا تفعلين؟!
فتميل فوقه من جديد.. تنهيدتها تسبق همسها بخجلها الشهي ودلالها الأشهى.. ترد له سابق بضاعته :
_أتنفس!
=======








مصر.. الفيوم

في غرفتها تقف حنان وهي تنظر عبر نافذتها ليقابلها سواد الليل بظلمته الحالكة..
تبكي بحرقة وهي تحاول كتم شهقاتها كي لا يسمعها أحد!
أكثر ما صارت تجيده في حياتها هو الكتمان!
كتمان العشق.. الحزن.. الأمل.. والآن.. ما أيسر كتم الدموع كذلك!



من كان يخبرها أن هذه ستكون حالتها عندما يعترف لها سراج بحبه.. ؟!!
لم يقلها صريحة كما يليق بعزيز قلب مثله.. لكن كل كلماته كانت تدور حولها كما تدور الأرض حول شمسها..
تتذكر نظرات عينيه وهو يحتوي وشاحها القطني في كفه بهذه النبرة المختنقة بعاطفتها :


ائذني لي ان أحتفظ به.. ليست المرة الأولى التي أحتفظ بها بذكرى منكِ لو تعلمين.. لو شُقّ صدري لوجدتِ داخله الكثير من بقايا تركتِها خلفك .. لكنها ستكون أول شيء يمكنني لمسه.. ربما ستكون آخر مرة يمكنني فيها الاقتراب منكِ هكذا.. دعيه لي فقط كي يذكرني أنكِ يوماَ ما كنت بهذا القرب.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


يجف حلقها وهي تستجلب المزيد من المقاومة لكل هذا الطوفان الذي لا تفهمه..
تراه يجذبها من كفها هاتفاَ بحسم :
_تعالي معي.

_لن آتي معك..
تقولها بعناد رغم ملامحها المستنزفة ومشاعرها الأكثر استنزافاَ..
تنزع كفها منه بالكثير من العسر وهي تردف :
_لماذا آتي معك؟! لم يتغير شيء.. بل تعقد الموقف أكثر.
_تعالي!
يهتف بها بحسم أكبر وهو يعاود احتواء كفها لكنها تخلصه منه من جديد بالمزيد من العناد وهي تتشبث بقدميها في الأرض..
فيهز رأسه لثوانٍ بنظرة وعيد صامت لم تفهمها حتى فوجئت به يحملها حملاً فوق أحد كتفيه!!

تشهق وهي تحاول الحفاظ على توازنها بينما يهرول هو بها نحو سيارته فتهتف بذهول :
_إلياس! أنزلني! ماذا جرى لك؟!
_جربي النسخة الجديدة! نسخة (مجنونة) تليق بكِ! أعرف أنك تحبين رصد النسخ!

سخرية صوته لم تفقده صرامته ،تحاول مقاومته للحظات شاعرة بالدوار من هذا الوضع لتهتف وهي تتمسك بكتفيه :
_أنزلني.. أشعر بالدوار.. ماذا أصابك ؟! صرت أشعر وكأني لا أعرفك!


يصل للسيارة أخيراَ فينزلها أرضاَ يفتح الباب بسرعة ليدخلها قسراَ..
ينحني أمام وجهها بزفرة مشتعلة وسط أنفاسه المتلاحقة.. هاتفاَ بانفعال:
_لا بأس! أمامنا العمر كله لتعرفيني جيداَ!
تهز رأسها بارتباك فينعقد حاجباه وهو يحيط وجنتيها براحتيه يغمغم بقلق:
_لازلتِ تشعرين بالدوار حقاَ؟!



تشيح بوجهها دون رد وقد عاد حاجباها للانعقاد بعناد .. فيستقيم بجسده وهو يغلق الباب مردفاَ بصوت عادت له صرامته :
_سأعتبر هذه إجابة مطمئنة بالنفي!

تتعالى خفقاتها أكثر وهي تراه يستقل السيارة جوارها.. تحاول فتح بابها بعناد لكنه يسبقها ويغلقه اوتوماتيكياَ .. فتهتف به بصوتها العالي بطبيعته :
_لا يمكنك أن تأخذني معك قسراَ!
_صحيح؟! تعالي نجرب!
بروده المستفز يثير المزيد من ارتباكها فتهتف بصوت أعلى وهو تراه بدأ الحركة بالسيارة بالفعل بينما تخبط هي على زجاج نافذتها :
_ أوقف هذه السيارة! إلى أين تذهب بي؟!
_إلى مكان يمكننا فيه تصفية حساباتنا!
يقولها دون أن ينظر إليها للحظات ينشغل فيها بالطريق..



ثم يلتفت لتروعه هذه النظرة الزائغة في عينيها..

جسدها المتخشب.. أناملها التي تجمدت على مقبض الباب..
خائفة؟!
ينعقد حاجباه وهو يتذكر ما قالته بشأن حادثة أمها..
ثم بشأن كلمة (تصفية الحسابات) التي أثارتها يوماَ أيضاَ بقلق لم يفهمه..
فلا يفكر كثيراَ وهو يتناول كفها القريب بكفه الحر يحتضنه بقوة رفيقة..
يرفعه لشفتيه ببطء بقبلات خفيفة متتابعة بينما يعود للنظر أمامه كي لا يفقد تركيزه في الطريق كأنه يمنحها أماناَ غير منطوق..
حتى يشعر بها تسترخي في مقعدها أكثر مستسلمة لصمتها الصاخب..كأنها استسلمت أخيراَ لكل هذه الفوضى التي لا تفهمها وإن بقي قلبها يشعر بأمانها قربه.
=======
_هنا؟!
تسأل بعينين دامعتين وهي تتبين توقف السيارة عند حقل الأقحوان..
لكنه يتدثر بصمته وهو يغادر السيارة ليفتح لها الباب..
يتشبث بكفها في كفه وهو يتحرك بها..
تلمح الحارس الذي يبتسم بمجرد رؤيتها مرحباَ بحفاوة لم تفهمها فتغمض عينيها بانفعال..
اشتاقت هذا المكان..اشتاقته حد الجنون!

وكيف لا؟! وهو بكل هذه الروعة من رونق زهورها المفضلة؟!
وكيف لا؟! وهو أول مكان يخصها هو فيه بمشاركتها إياه في وحدته؟!
وكيف لا؟! وقد ترك بصمته في روحها فصار مرادفاَ لكل جميل يمكن ان يجمعهما وكل مستحيل لا يليق بقصتهما؟!

يغيب إدراكها لدقائق ربما بفعل الصدمة.. الحنين.. الخوف.. الترقب..
وربما بفعل التعب!
متعبة حقاَ!
لم تشعر بكل هذا الاستنزاف كما هي الآن!

لكنها تفيق أخيراَ وهي تجد نفسها معه في المصعد الزجاجي يرتفع بهما ..
أحد كفيه يتشبث بكفها..
والآخر تشعر به يرفع ذراعها الحر ببطء ..
همسه الدافئ يداعب أذنها يذكرها بعبارتها :
_هل يمكن الطيران بذراع واحد؟! فقط لو كان كفي يمسك الذراع الآخر!

تلتفت نحوه تحاول قراءة هذه النظرة المختلطة في عينيه.. بين غضب واشتياق..
تهمس بوجل :
_لماذا أتيت بي إلى هنا؟!
يتوقف المصعد في آعلى ارتفاع ممكن.. فيشير بعينيه نحو الفضاء العريض قائلاً :
_لعلكِ تشعرين أنك حرة هنا.. هنا كل شيء يشبهك.. السماء.. الرياح.. الطير.. والأقحوان.
_ولماذا تريدني أن أشعر أنني حرة ؟
زفرته المشتعلة تسبق خبطة حذائه القوية على الأرض مؤيدة لقوله بنبرته الحاسمة :
_لأنني أريد أن نقف معاَ على أرض ثابتة.. أريد أن نكمل من حيث توقفنا آخر مرة.. كنتِ تريدين قول الحقيقة وأنا وقتها لم أسمع.. الآن يمكنكِ فعلها ؟!

تدمع عيناها وهي تشعر برهبة خفية رغم كل الأمان الذي يفرضه حضوره.. عنادها يدفعها للرد :
_لماذا تريد معرفة الحقيقة الآن؟! لماذا لا تتركني وعبثي خلفك وتلتفت لحياتك الجديدة مع حبيبتك وابنك؟!

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


تنفرج شفتاه وكأنه على وشك النطق بشيء ما..
لكنه يستبدله بآخر وهو يضغط كفها في كفه بقوة.. نبرته الهادئة تناقض الانفعال الهادر في عينيه :
_أنتِ مدينة لي بالحقيقة على أي حال!
_ألم تخبرك جدتي؟!
_هي حاولت لكنني رفضت..
يقولها ثم يرفع ذقنها مقرباَ وجهها منه وهو يحتكر نظراتها بعينيه العاتبتين :
_أردت سماعها بينما أنظر في عينيك.. وحدهما لم تكذبا أبداَ منذ عرفتك.
تسبل جفنيها وهي تعض شفتها السفلى بقوة تحاول منع دموعها لكنها تعجز..
يريد الحقيقة!
فليكن!

_أنت عرفت ناي الكبيرة! كلكم عرفتموها! ربما أنا الوحيدة التي لم أعرفها.. طوال هذه السنوات وأنا محبوسة داخل ناي الصغيرة.. الطفلة التي انقلبت بها السيارة وهي تقبع في زاويتها تمسك تفاحة ملوثة بدم أمها.. تخفي الحقيقة التي سمعتها بأذنيها ورأتها بعينيها عن الجميع دون أن تجرأ على مصارحة أحد بها أو حتى تجاوزها! سلمان البارودي هو من سجن أبي ظلماَ.. هو من تسبب بقتل أمي.. لو كنت أنا كبرت بعار ليس لنا يد فيه.. فهل أتركه لإخوتي ؟! هل أترك حق أبي وأمي؟! أظنك ذكياَ بما يكفي لتفهم حقيقة ما حدث! أنا من سعيت خلف مظفر عندما التقينا من جديد بعدما كبرنا.. أنا من اخترت الكذب بشأن الحمل المزيف كي أجبر جدي على الموافقة على زواجنا..لكن.. والله.. والله ما أردت سوءاَ بأحد.. تظنني أردت انتقاماَ؟! والله حتى ما اردت الانتقام! كل ما أردته أن أقترب من سلمان.. حمقاء كنت! ظننتني حين أفعلها أستطيع أن أجد دليلاً يبرئ أبي ويبرد نار أمي في قلبي.. لم أعرف أبداَ أنني كنت أشد طرف البساط الذي وقف الجميع على طرفه فسقطنا كلنا معاَ! الآن تفهم لماذا وقفت أدافع عن مظفر بجسدي عندما كدت تؤذيه ليلة زواجنا! لماذا رغم كل ما فعله كنت أجد له عذراَ.. لماذا لا أزال أشعر بقلق عليه.. لأنني بقيت عالقة هناك.. (نوني) الطفلة التي لا تزال عاجزة عن فهم كيف يمكن ان يكون عالم الكبار قاسياَ ومعقداَ إلى هذا الحد ! لا أزال رغم كل هذا العناد والقوة والتهور أشعر بالخوف الشديد كأن السيارة لا تزال تنقلب بي من جديد!

كفه يترك كفها فيغوص قلبها رعباَ بين جنبيها وهي تشعر بأنفاسها تنقطع مع هذه النظرة العاتبة في عينيه..
لم يسامحها!
لم يتفهم!
بضع ثوانٍ مرت عليها كدهور قبل أن تجد كفه يضم خصرها إليه بقوة يلصقها به!
همسه اللائم يقذفها من أقصى يمين العشق لأقصى يسار الغضب :
_ولماذا لم تخبريني بكل هذا؟! أتفهم خوفك في البداية.. لكن فيما بعد.. بعدما أخبرتك أنني أثق بك..بعدما اتفقنا أن نكون صديقين.. بعدما أخبرتك أن الكف الذي أمسكه لا أفلته أبداَ؟!

تغمض عينيها على زخات دموعها لكنه لا يسمح لها بالهرب.. أحد كفيه يضغط على ذقنها والأخر يعتقل خصرها مع صوته القوي وهو يعاود ضرب الأرض بحذائه بقوة كادت تزلزل الأرض تحتها :
_افتحي عينيكِ! قلت لك نريد الوقوف على أرض ثابتة.. لا مزيد من الهرب اليوم!

تفتح عينيها وجسدها كله يرتج بين دموعها وانفعالاتها هاتفة بحرقة :
_لأني خفت! خفت! أنت لم تدع طريقة كي تؤكد لي كل مرة أنني فقط صورة حواء إلا واتخذتها!.. خفت.. خفت.. ليس على نفسي فما كنت إلا محترقة آخر الأمر على أي حال.. لكن على عائلتي.. أنت كنت ضمان الأمان لهم وأنا لم أكن لأخاطر بأي ذرة شك خاصة بعدما حرق سلمان البيت!

ينعقد حاجباه بغضب يناقض حنان أنامله التي تمسح دموعها.. فتهمس له بنبرة مستنزفة وقد بدت من فرط إرهاقها وكأنها ستسقط في أي وقت :
_هأنتذا عرفت كل شيء.. أرجوك دعني أرحل.. سامحني.. لو كنتَ كرهت ناي التي كذبت عليك مرة فأنا كرهتها ألف مرة.

_انا لم أكره ناي أبداَ..
يهمس بها بدفء..
راحتاه تعانقان وجنتها.. عيناه تعانقان عينيها.. وقلبه - للعجب- تشعر انه يعانق قلبها..
كيف صارت الدنيا كلها أشبه بعناق كبير يضمهما وحدهما معاَ؟!!

بينما يردف وهو يصهر انفاسه بأنفاسها :
_أنا أحببت ناي دوماَ في كل حال.. أحببتها من كل قلبي.. أحببتها ربما حتى قبل أن أدرك.. وأحببتها أكثر بعدما أدركت.. أحببت ناي الصغيرة ووددت لو كنت هناك معها آخذها في حضني حتى تهدأ وتطمئن ولا تخاف.. وأحببت ناي الكبيرة وسأبقى معها حتى تحقق العدل الذي ترجوه لكن بالحق.. ليس بالباطل.

يتوقف قلبها عن النبض للحظات وهي تشعر أنها في حلم ستفيق منه في أي لحظة!
هل اعترف بحبه لتوه؟؟
هل فعلها حقاَ أم أنه خانها الفهم؟!
حدقتاها زائغتان تتحركان ذات اليمين وذات اليسار كأنما تناشده المزيد..
ليردف وهو يمنحها وعده :
_يوم تزوجنا لم تنالي مني مهراَ.. ليكن هذا مهرك.. براءة أبيكِ وحق أمك وجدك من سلمان.
_مهري؟!
تتمتم بها بتشتت ولا تزال تشعر أن المفاجأة تكاد تفقدها صوابها..

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:02


يهز رأسه مؤكداَ لكنها تدفعه لتهتف بضحكة ساخرة اختلطت بدموعها :
_هل تهزأ بي؟! هل ستكون هذه طريقتك في عقابي؟! أنت تعترف لي بالحب؟! بل بالزواج؟! ومتى؟! بعد رجوع حبيبتك وابنك؟!
_اسمها حواء.
يقولها بهدوء صارم وهو يحاول تفهم ثورتها وانفعالاتها التي يعذرها فيها..
بينما تصرخ هي بانفعال وقد بدت منعدمة السيطرة على كل جوارحها..
تلكزه بسبابتها في صدره تدور بها على موضع قلبه كأنما تحفره حفراَ.. غيرتها التي كتمتها طوال تلك الأيام تلفحهما نيرانها معاَ الآن :

_حقاَ ؟! هل صارت هذه هي المشكلة الآن؟! اسمها :حبيبتك أم حواء؟! هي هنا.. هنا.. كنت أشعر بها في كل كلمة منك.. أراها في كل حركة.. أسمعها في كل دقة.

فيثبت كفها كله بقوة على موضع قلبه يمنعها الحركة هاتفاَ بانفعال جارف وهو يغرس عشقه في عينيها :
_والآن بماذا تشعرين ؟! ماذا ترين؟! ماذا تسمعين؟!

تلهث بجنون وبصرها يتأرجح بين عينيه وصدره..
دقات قلبه تتعالى حد الصراخ حتى لتشعر وكأنها تمسكه في كفها!!
لكنها تهز رأسها في عدم تصديق.. فيرفع إصبعه المزدان بدبلتها هاتفاَ بحرارة :
_خلعتها الليلة السابقة.. ساعة كنت أصرخ فوق الجبل.

تغمض عينيها بألم لكنه يقترب أكثر ليقبلهما بعمق يجبرها أن تفتحهما ليردف بنفس الانفعال العاصف :
_لكنني عدت أرتديها من جديد.. بملء قلبي وعقلي وروحي.
لا تزال تهز رأسها بعدم تصديق.. صوتها يبدو كالهذيان :
_إلياس! لا يمكن أن تكون جاداَ.. هل تشفق عليّ؟! وعدت جدتي بقول هذا كي تجعلوني أرجع؟!.. لا تفعلها بي.. أرجوك.. أنا بالكاد أقف على قدمي..

وكأنما يؤيدها جسدها الذي يسقط بوهن لكنه يتشبث بها ليسندها ويستند بها..
لم يكن أقل منها انفعالاً وهو يهتف بحرارة :
_لو لم تصدقيني أنا.. صدقي قلبك.. ألا يشعر بي؟!
_انت لا تحبني.. أنت تحب حواء.. كيف تريدني ان أصدق تغير حقيقة كهذه؟!
_كما صدقتها أنا!
لا يزالان يتناحران..
هي تهرب منه..
وهو يهرب إليها!!

اناملها تنتزع حافظته من جيبه ..
تفتحها دون أن تنظر لترفعها في وجهه هاتفة :
_هنا! هنا الحقيقة التي صفعتني أول مرة.. هنا الصورتان.. صورتها هي بكامل رونقها.. وصورتي مقطوعة الوجه! انظر.. انظر جيداَ..
_انظري انتِ!
هتافه يجبرها أن تفعل لتتسع عيناها وهي تدير الحافظة نحوها..
ترتجف شفتاها بانفعال وهي تميز الصورة أمامها..
لم تكن صورة حواء.. ولا حتى صورتها مقطوعة الوجه
بل صورتها الكاملة لها معه هو..
في بيت حواء!
بالتحديد في بيت الخال كرم ليلة الحفل الذي أقامه لنزار وحسناء!
هي الصورة الوحيدة التي تذكرها لهما معاَ..
ورغم عبوسها ليلتها وإصرارها ألا تقف جواره بل جوار جدتها.. لكن طيف أصرت أن تلتقط لهما تلك الصورة قسراَ..
وقد تشابك كفاهما بينما يضمها لصدره!
كيف نست تلك الصورة؟!
لم تتذكر حتى أنها وقفت منه موقفاَ كهذا!!

_صورتي.
تتمتم بها بابتسامة هزمت ذهولها المصدوم ليحيط كتفيها بقبضتيه هامساَ بتملك :
_صورتنا! من اليوم لن يفصل أحدنا عن الآخر شيء..انتِ أنا وأنا أنتِ.


تنهيدة حارة تفلت من صدرها الذي ضج بكل هذه الانفعالات..
لكنه يضمها لصدره مهدئاَ محاولاَ استيعاب ثورة أحاسيسها وأحاسيسه معاَ..
_أنت مليكة قلبي.. وأنا مليك قلبك.. دعي هذه تكون ارضنا الثابتة التي يدور حولها أي شيء آخر!

ترفع عينيها الدامعتين إليه بألف سؤال تجبن عنه شفتاها..
أهونها ما جرأت أخيراَ على النطق به :
_حواء! ماذا ستصنع معها!
لكنه يبسط سبابته على شفتيها هامساَ :
_اليوم لنا وحدنا! دعينا نفعل هذا أولاً!
ترمقه بنظرة متسائلة عما يقصده فيضغط زر إنزال المصعد الذي يتوقف بهما أمام حقل الأقحوان..
========
الحارس يبتسم وهو يشير للمفرش المخملي الذي فرشه لهما مع إفطار مناسب كالمرة السابقة قبل أن يتحرك ليغادرهما تاركاَ لهما مساحتهما من الخصوصية..

آهة عميقة تطلقها وهي تشعر به يجلسها جواره يسند رأسها على كتفه ينظران للشمس التي بدت كثغر متبسم في وجه السماء..

_ألم يكن هكذا رسمك؟!

يسألها هامساَ فتهز رأسها وهي تتذكر ما يحكي عنه.. ليردف بابتسامة شاردة :
_كم يليق الأقحوان بقصتنا! يقولون إنه رمز البدايات الجديدة!
ترفع عينيها إليه وكأنها تريد تصديق كل هذا الحلم الذي تحياه..
لتهمس أخيراَ :
_احلف!
يعقد حاجبيه بنظرة متسائلة لتهتف بنبرة عادت لها بعض حيويتها :
_احلف أن كل هذا حقيقي.. أنني لا أحلم!
قبلة عميقة يهديها لوجنتها قبل أن يهمس بيقين عاشق:
_وماذا لو كنتِ تحلمين؟! ألم أقسم لكِ في آخر ليلة لنا أن أجعل كل أحلامك حقيقة!


تتلاحق أنفاسها مع احمرار وجنتيها وهي تتذكر تفاصيل ليلتهما هذه..
ويبدو أن هذا كان حاله هو الآخر وعيناه تتقدان بوهج خطير كاد يعصف بهما معاَ..
لكنها تهرب من هذا وهي تشير لأدوات إعداد القهوة هناك..
تهتف بالمزيد من الحيوية التي تغزو نبرتها مع الوقت :
_ألم تفتقد قهوتي؟!
_افتقدتها حد أني لم اتناولها منذ رحلتِ! أناملكِ وحدها صارت قادرة على ضبط مزاجي.

رواية على خد الفجر

26 Oct, 20:01


الشعاع الثامن والعشرون
=====
العراق.. بغداد

عاصفة!
لم تكن مشاعره أهون من عاصفة وهو يعتصرها بين ذراعيه اعتصاراَ حتى شعرت بألم حقيقي لم يهونه إلا إحساسها أنها دوماَ أمنة في حضنه!

تحاول رفع وجهها إليه لكنه يثبت رأسها مكانه :
همسه المتقطع يفر من بين أنفاسه اللاهثة..
بالكاد يُسمَع وهو يضغط رأسها على صدره :
_هنا.. ابقي هنا.. قليلاً.. كي يطمئن قلبي.. كي يهدأ..كي يسكت كل هذا الضجيج داخلي.. هنا.. ابقي هنا.. كي أصدق أنك أخيراَ معي.

قبضته تجعد ظهر ثوبها كأنه يريد ان يطويها بأكملها في كفه كي يمنعها الهروب من جديد!!

وأخيراَ يسمح لها بأن ترفع رأسها..قليلاً قليلاَ..
فقط قدر ما يمكنه معانقة عينيها دون أن يفتقد دفء أنفاسها!

_أنتِ بخير؟!

همسه المبحوح بهذه النبرة الحارة يفعل بقلبها الأفاعيل..
لكنها ترفع راحتها المرتعشة بجنون لتعانق وجنته هامسة بلهفة حانية قلقة :
_بل أنت بخير؟! كنت تصرخ فوق الجبل!

فيعاود إخفاء رأسها بين ضلوعه.. يعتصرها أكثر هامساَ في أذنها بتنهيدة عميقة كادت تذيب أوصالها:
_بخير.. صرت بخير.. الآن فقط صرت بخير.

تدمع عيناها بتأثر وهي تخشى تصديق كل ما يتلقفه قلبها من شارات عاطفته..
لكنه يفاجئها وهو يرفع وجهها من جديد نحوه..
كأنه يراها لتوه!!
أنامله تسابق عينيه في تفقد ملامح وجهها..
وشفتاه..
شفتاه تسبقهما معاَ!
ركضهما الرشيق مرة.. والمتلكئ مرة.. على وديان بشرتها يكاد يصيبها بالجنون!

نفَساً خلف نفسٍ يأخذه عميقاَ كأنه يملأ صدره من رائحتها..
فتغمض عينيها بقوة وهي تسمعه يهمس أخيراَ بين أنفاسه المتلاحقة :
_لو كنت أعرف أن صراخي هو ما سيعيدك لزلزلت الجبال صراخاَ حتى ترجعي!

عاصفة هائجة من مشاعر متضاربة تزأر بقلبها وهي تشعر أنها غارقة في فوضى لا تفهمها.. ولا قِبل لها بها!
ترتجف شفتاها بانهيار عاطفي وهي تحاول الابتعاد لكنه لا يسمح لها بالحركة قيد أنملة..
هاهو ذا من جديد يقيدها بكل قوة ذراعيه و.. قلبه!!

_أخلفتِ وعديْن وليس واحداَ! وعدتني ألا تأتي إلى هنا وحدك.. ووعدتني ألا ترحلي بتلك الطريقة أبداَ!

تكتم شهقات دموعها وهي تتذكر ما يحكي عنه..
تغمض عينيها على عذاب تكتوي به منذ تركته..
لتهمس بنبرة ذابلة :
_ذبحتني كلماتك آخر لقاء بيننا.. والموتى لا يوفون بالوعود!

_كلماتي ذبحتك؟! وأنتِ ماذا فعلتِ بي؟!

هتافه العاتب المستنكر والمتقد بغضبه لا يفقد دفء حنانه وأصابعه حائرة بين تلمس وجهها مرة والقبض على كتفيها أخرى كأنه لا يزال خائفاَ من ابتعادها..
لكنها تفعلها أخيراَ وهي تدفعه لتخطو عدة خطوات للخلف..

صوتها يصحو من نشوة سكرته وهي تتذكر حقيقة ما بينهما لتهتف بانهيار حاد فجرته طول ضغوط الأيام الماضية.. ودموعها تغرق وجهها :
_ماذا تريد مني؟!.. ألم تعد حبيبتك وابنك؟! ألم تدرك أنت حقيقة كذبي وخداعي لك؟! لماذا كنت تنتظر رجوعي؟! كي تضع النهاية؟! شق عليك أن أضعها أنا قبلك؟! أم أنك كالعادة تشعر بالذنب ولا تريد تركي ضائعة خلفك؟! ارجع.. ارجع واطمئن هأنذا واقفة على قدمي لم أسقط.. ارجع من حيث جئت وانسَ أنك رأيتني الآن.

تقولها ثم تركض مبتعدة بكل قوتها دون ان تنظر للخلف..
لا تثق أنها يمكنها الهروب في موقف كهذا..



ولا تعرف أين يمكن ان تودي بها خطواتها لكنها كانت عاجزة عن مواجهته بهذا الحريق المستعر في روحها الآن ..

تخور قواها أخيراَ فتكاد تسقط لكنها تشعر بذراعيه القويتين تحاصرانها من الخلف ليضمها إليه..
ظهرها يلاصق صدره فتشعر بجنون خفقاته يشبه فوضى مماثلة بين ضلوعها..


رأسه يتدلى على كتفها وقبضتاه كجمرتين من نار على خصرها..

_اتركني.. دعني وشأني!
تهتف بها لاهثة وهي بالكاد تحرك عنقها لتلتفت إليه..فيصرخ هادراَ:
_أنا كل شأنك يا غبية.. أنا كل شأنك وانتِ كل شأني!

هل قال :( يا غبية) ؟!
طارت الشرائط الفضية!!

يدير جسدها ليقابله..
يمسك رأسها بين كفيه يرجه بقوة صارخاَ بالكثير من الغضب والكثير الكثير من العشق:
_تعرفين كم أتمنى الآن ان أكسر رأسك العنيد هذا؟!!

لا يزال يرج رأسها حتى تشعر ببعض الدوار لكن الدوار الحقيقي تستجلبه قبلته المفاجئة بعدها!
تظلمها لو قالت :(قبلة)!



كيف يكون إذن الموج؟!..
البرق؟!
الرعد؟!..
الإعصار؟!!
نسخته (الجامحة) هذه تكاد تصيبها بالجنون!!
تسقط وكانها تحلق!
تحلق وكأنها تسقط!
إذ أنها بمنتهى الأمانة لا تعرف سماء من أرض!!

وأخيراَ تعثر على كفيها.. قدميها.. أنفاسها.. صوتها.. وبقايا من عقلها.. فتدفعه هامسة بصوت مبحوح :

_إلياس.. ماذا تفعل ؟!
_أتنفس!

يرتفع حاجباها للحظة وهي تحاول استيعاب همسته التي اخترقت قلبها كسهم نافذ!



همسته التي مزجت ألمه بارتياحه.. لوعته بشوقه.. غضبه برضاه.. وعتابه بفرط صبابته!
عيناها تطاردان هذا الغمام الساحر في عينيه..
نظرة لم تميزها من قبل بهذه الحرارة التي تكاد تصهرها..
تكاد ؟!
هي انصهرت حقاَ! ذابت في نار لا تشبهها نار!!

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


_ماذا تقصدين ؟!
يسألها بلهفة فتقول بكلمات متباطئة تزيد حماسه :
_لدي لك خبر سيجعلك تطير فرحاَ! ناي هربت من إلياس.

لم ترَ اشتعال نظراته ولم تسمع هدير خفقاته لكنها شعرت بكل هذا في نبرة صوته التي بحت فجأة وهو يسألها :
_حقاَ ؟! لماذا؟! كيف ؟!

_لا أحد يعرف هذا على وجه الدقة.. كل ما نعرفه أنها اختفت.. لا أحد يعرف مكانها..
_كيف عرفتِ شيئاَ كهذا؟!
_لا يهمك هذا الآن.. ما يعنيك أن تجدها قبله.. هي الآن وحدها دون حارسها المغوار الذي كان يسد عليك الطريق.. ونصيحتي لك أن تفعل مثلي.. لا تظهر في الصورة.. ابقَ خارج العراق حيث أنت.. لن تعجز عن فعلها من بعيد.. صحيح؟!

يصمت للحظات مفكراَ قبل أن يسألها :
_حتى لو وجدتها.. ستبقى زوجة ذلك الوغد!
_سيطلقها!
تقولها بيقين يعكسه صوتها فيسألها بعصبية شرسة :
_من أين هذه الثقة؟!
_لأن حواء لن تقبل أن تكون هي في الصورة!
_من حواء؟!
ضحكتها تجلجل في أذنه وتثير المزيد من غيظه لكنه يحتملها صابراَ وهي ترد بنبرة منتشية :
_اسمع وتعلّم! حواء هذه سبب زواج إلياس من ناي.. ألم تكن تسأل نفسك لماذا تزوجها؟! تظنها كانت فقط مجرد تنفيذ وصية جدها؟! لا يا صغيري! إلياس كان يرى فيها صورة حواء.. امرأة غبية سلمته نفسها وشرفها وهربت طوال هذه السنوات.. والآن عادت مع ابنه.. أو من يظن أنه ابنه.. قل لي برأيك ما مصير ناي خاصتك في وضع كهذا؟!

يتجاهل مظفر الجزء الأخير ليسألها بتوجس:
_ماذا تقصدين بقولك (من يظن أنه ابنه)؟!

تجلجل ضحكتها من جديد بانتشاء أكبر وهي ترد بغرور :
_هذا كان دوري الأكبر في وضع كلمة االنهاية..عندما عرفت بشأن الولد أدركت أن يحيى لن يترك الأمر للشك.. سيسعى لإثبات نسب الولد.. من هو رجل يحيى الأول الذي يلجأ إليه في شئون كهذه لأنه أكثر من يثق به؟!!.. سفيان! سفيان سيسعى خلف التحليل الذي سيثبت أن الولد ليس ابن إلياس لكنني سأجعله يزور النتيجة!
_هل خانه الرجل؟!
_لا تسمها خيانة! لا أحب هذه الكلمات الرنانة!! لنقل إنني - سامحني الله- أمتلك خصلة سيئة لكنها كانت تحفظ لي مكانتي المسيطرة في شركة الأمين طوال هذه السنوات.. وهي أنني كنت أحتفظ بملف كبير يحوي نقاط ضعف لكل الموظفين.. ينفع عند الحاجة! وهاهو ذا قد نفع!
_وما مصلحتك في دعم حواء تلك؟!
يسألها بحيرة فترد بتنهيدة :

_سياسة النفَس الطويل يا صغيري.. أزيح غريمتي الأولى ناي من الطريق أولاً.. دعم حواء الآن يضمن لي هذا.. حتى أنني تواصلت معها.. الغافلة صدقت أنني ساعدتها في إخفاء الحقيقة لأن ناي أوغرت صدر إلياس ضدي وجعلته يبعدني ظلماَ من الشركة.. وكان شرطي لمساعدتها أن تطلب من إلياس الزواج بسرعة كخطوة أولى وبعدها يطلق ناي كخطوة ثانية.
يزوم مظفر معجباَ بخطتها ليكملها لها :
_وبعد زوال ناي العقبة الأولى تتفرغين أنتِ لحواء العقبة الثانية.. ولن يكون هذا صعباَ! فقط تكشفين كذبتها لكن بعد أن تؤدي مهمتها وتزيح ناي من الصورة!

_هأنتذا قد فهمت!
تقولها ضاحكة لتردف بفخر :
_ما رأيك؟!
_دهاء ثعالب هذا والله!
يقولها ضاحكاَ لأول مرة منذ بدأ الحوار وقد أعجبته الخطة..
فتبتسم بقولها تحفزه :
_المهم أن تلتزم أنت بدورك.. اعثر على ناي قبل إلياس..لا أعرف كيف ستفعلها لكن.. ألا تقول إنك صاحب طفولتها وتفهم كيف تفكر؟!!
زفرته المشتعلة تكون جوابه للحظات.. قبل ان يقول بتصميم :
_سأفعل! لو كان هو عاجزاَ أن يجدها فأنا لن أعجز.. ساعتها ستفهم هي أنني أفهمها أكثر من ذاك المتغطرس الذي تزوجته!
========


العراق.. بغداد

_لماذا خرجتِ وحدك ؟!
يهتف بها إلياس بحدة تسرب عبرها حنانه المعهود وهو يحاول تهدئة حواء التي رقدت على الأريكة في صالة بيت الأمين..
ترتجف حقيقة لا ادعاء وهي تستعيد تلك اللحظات العصيبة التي عاشتها منذ قليل..


كيف تهورت هكذا؟!
كيف نسيت ان حياتها لم تعد بهذه السهولة؟!
دموعها يذرفها قلبها قبل عينيها مع شهقات بكائها :
_أردت أن أفاجئك بهدية! لا أدري إن كنت ستتذكر أم لا.. غداَ ذكرى أول لقاء لنا.. أول مرة قابلتك فيها.. لا أدري كيف نسيت في لحظة كل ما يطاردني.. أردت أن أعيش حياة طبيعية ليوم واحد فقط.. أن أحتفل به معك.. أن نعيد إحياء الذكرى وكأن كل العمر القاسي هذا لم يمر.. وكأنني عدت حواء القديمة.. لم أكن أعرف ما ينتظرني.. أحمد الله أن داوود بقي هنا.. لم يأتِ معي.. هو بالأعلى.. لا يعرف شيئاَ.. بالله لا تدعه يشعر بأي شيء.. لا ينقصه الخوف.

تدمع عيناه بتأثر وهو يربت على كفها شاعراَ بقلبه ينتفض مكانه..
تسأله إن كان يذكر؟!
ذاك التاريخ الذي لم يفوته هو كل عام.. يجلده بقسوة الذكرى..
من كان يخبره أن المرة الوحيدة التي سينساه فيها هو عندما تعود هي أمام عينيه؟!!

لكنه يتجاهل مشاعره وهو يسألها بقلق :
_تعرفين من فعلها؟!

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


تشهق للمفاجأة وهي تشعر به يدفعها بعنف كاد يسقطها أرضاَ فتتشبث بحاجز الأريكة خلفها..
ولم يكن هو أقل منها مفاجأة وهو يدرك لتوه ما فعله!
كأن جسده تصرف بإرادة مستقلة!
لا.. ليست مستقلة تماماَ..
قلبه أمر!

ينعقد حاجباها بغضب وهي تشعر بأنها حقاَ لا تفهم!
لو كان يحبها كل هذا الحب الذي رأت دلالاته..
فلماذا يبعدها عنه هكذا؟!

بينما يبدو غضب مكبوت على ملامحه يهدد بالانفجار لم يخففه الحرج الممتزج به وهو يمسح وجهه بكفيه قائلاً :

_حواء! ارتكبنا خطيئة واحدة بقينا ندفع ثمنها طوال هذه السنوات.. دعينا نحترم الحدود.
_هل تسمي حبنا خطيئة ؟!


تسأله ولا تزال يكابر فيلوح بسبابته في وجهها قائلاً :
_أنت تفهمين ما أعنيه!

تتلون ملامحها بوهج متمرد يعرفه منذ زمن بعيد..
عيناها تحملان نظرة غاضبة لم تصل لبرودة صوتها وهي تقترب منه مكتفة ساعديها بقولها الصارم :
_سنتزوج يا إلياس.



تتسع عيناه بصدمة من جرأتها رغم اعتياده إياها.. لكنه ظن أن كبرياءها سيمنعها التفوه بشيء كهذا..
بينما تردف هي وعيناها تلتمعان بوهج حاد :
_لن أصبر بعد ما حدث لي اليوم.. اختر قراراَ ودعني أحدد مصيري معك.. قلها صريحة او دعني أدبر أمري مع ابني وحدنا دون أن تشغل بالك بنا.. أمامك فرصة للصباح فقط.. لن أبقى في هذا البيت أكثر من ذلك.. سأنتظرك هنا صباحاَ مع حقيبة ملابسي.. إما ننتقل لبيتك ويعرف الجميع أنني سأصير زوجتك.. وإما سنرحل دون رجعة هذه المرة.. القرار لك.
=======







العراق.. بغداد

على أحد الأرائك في الطريق تجلس ناي مكتفة ساعديها تشعر بالبرد..
من أين يمكنها أن تكمل الطريق؟!
لم تعرف اليأس في حياتها كما هي الآن!
شبكة من خيوط معقدة تجمعت حول عنقها ببطء والآن تعتصره اعتصاراَ!

كل يوم تتأكد أن اختفاءها من حياة الجميع هو الحل..
صارت حملاً زائداَ عقوبته الرمي!
كيف تصف شعورها عندما سمعت صوت حواء وقبلها ابنها؟!
لو أخبرها أحدهم أنها ستجرب شعور الموت قبل الموت لما صدقته!
الآن تصدق!
عزاءها أن إلياس أخيراَ وجد راحته التي يستحقها بعد كل هذا التعب..
الآن تعود كل القطع لتتراص بصورة صحيحة..
ومكانها هي؟!
هي في الصف الأخير.. بل خارج كل الصفوف!

عواء الريح يكاد يسد أذنيها فتحتضن جسدها أكثر لعلها تحتوي ارتجافته..


غافلة عن تلك السيارة التي كانت تقترب منها ببطء وقد بدا سائقها وكأنه يتوجه نحوها هي بالذات هامساَ لنفسه :
_هأنذا قد وجدتك.
======








_لو كنت جئت تسأل عن ناي فستخرج خاوي الكفين هذه المرة أيضاَ!
يقولها العم فياض بجفاء وهو يجد إلياس أمامه..
كان قد جلس أمام شعلة نار أوقدها قبالة فتحة الجبل ولما طال صمت إلياس يجد نفسه يرفع عينيه نحوه..
شيء ما في مظهره يثير إشفاقاَ داخله..
لم يكن غاضباَ يعاتبه على إخفاء ناي عنه لدى ابنه..
ولا نادماَ معتذراَ عن ضربه لابنه ذاك اليوم..
بل كان متهالكاَ..
كأنه جبلٌ دُكّ لتوه فلم يذر إلا هباء منثوراَ!


ربما لهذا يتنهد العجوز بعمق يسأله بغلظة نبرته البدوية :



_ما الذي تريده من البنت بالضبط؟! لا أفهم ميوعة الأفعال هذه! لو كنت تحبها فلماذا هربت هي منك؟! ولو كنت لا تريدها فلماذا تسعى خلفها بكل هذا الهوس؟!

لا يصله رد وقد نكس إلياس رأسه المحتقن فيشعر فياض بالمزيد من التعاطف معه رغم غيظه منه..
ليعاود سؤاله :
_لماذا أنت هنا؟!

وأخيراَ يغادره صوته.. يخرج مختنقاَ كأنه سدادة عبوة ناسفة توشك على الانفجار :
_أريد صعود الجبل.

تضيق عينا العجوز للحظات كأنه يقرأ خبيئته ثم يشير له بالسماح.. قائلاً :





_همك يبدو وكانه يشبه واحداَ من تلك الجبال.. يقبع ثقيلاً على كتفيك.. يمضي الواحد منا وكل ما يشغل باله كيف يزيحه عن ظهره الذي انحنى.. ولا يعرف أن الثقل الحقيقي في القلب.. قطرة واحدة منه لو صفت كافية لتفتت أي ثقل في ما سواها.. دع قلبك يرشدك للطريق.. فقط لو ترى عيناك صفاء قطراته.


يتحرك إلياس ليصعد الجبل حتى يصل لقمته..
ودون وعي يجد نفسه يصرخ!
صرخة هائلة تشبه هذا الجحيم الذي تكتوي به ضلوعه الآن!!
صرخة لم يحسب مداها إلا عندما شعر بها تكاد تزلزل الأرض تحت قدميه وترتد شظاياها فتصيب روحه من جديد!!

هل هكذا كانت تشعر وهي تأتي إلى هنا كل مرة فقط كي تصرخ ؟!

تنفس عن هذا البركان داخلها والذي يجد الآن في صدره ما يشبهه؟!
صرخة خلف صرخة يفلتها قلبه قبل شفتيه..
لماذا يكبله هذا العجز المقيت؟!
لماذا لا يزال واقفاَ على مفترق الطريق لا يمكنه اختيار يمينه من يساره؟!!
هل يتزوج حواء؟!
هي لا تريد أكثر من ان يمنحها وعده!

يرفع إصبعه الذي لا يزال يحمل دبلة ناي أمام عينيه..
لا..
لن يمكنه فعلها!
إذا كان لا يرتضي أن يزاحم خاتمها خاتماَ آخر في إصبعه فكيف يقبل أن تزاحمها أخرى في قلبه..
حتى ولو كان زواجاَ لغرض الحماية!
لكن هل يترك حواء؟!
هل يتخلى عنها وعن ابنه؟!
برغبته هذه المرة؟!

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


صرخة أخرى عالية يطلقها تلتمع عيناها بعدها بتصميم..
هاقد صفت قطرة القلب!
أخيراَ كما قال العم فياض!
أن الأوان أن يتحرك من مفترق الطرق ويختار طريقه القادم..
يزيح هذا الجبل عن كاهله..
بما يليق برجل مثله!



أنامله تمتد نحو دبلة ناي في إصبعه تستخرجها ببطء كأنه ينتزع معها روحه..


يتذكر المرة الاولى التي وضعها فيها..
من كان يخبره وقتها ان الأمر سيكون بهذه الصعوبة؟!!

وهاهو ذا يعيدها من جديد بسرعة..
يضغط عليها بقوة هامساَ بحسم :
_هذه المرة أضعها بملء قلبي وعقلي وروحي.. لن تشاركني فيها أي امرأة..أي امرأة!

يتجلى له طيف حواء عاتباَ مهدداَ بالرحيل من جديد للأبد هذه المرة .. ليست وحدها بل معها ابنهما..
فيتمتم وكأنه يكلمها :




_لن أسمح لكِ كذلك أن تؤذي نفسك بتهورك كالمرة السابقة.. سأحميكِ من نفسك هذه المرة مهما بدا رد فعلي مبالغاَ أو متطرفاَ.. لكنك لم تتركي لي خياراَ آخر! وإن اختار قلبي طريقه بعيداَ عنك فلن أتخلى عن حمايتك أنت وابننا أبدا ولو دفعت روحي في المقابل!

يهبط من على الجبل شاعراَ أنه قد ترك حمله خلفه..
خفيفاَ خفيفاَ كأنه يحلق!
يتناول هاتفه ليتصل بيحيى قائلاً بصرامة :
_لن تدع حواء تغادر البيت حتى أعود ولو بالقوة.. سننفذ الخطة الاحتياطية التي اتفقنا عليها مع فارق بسيط.. موافقة حواء ليست ضرورية.. سنفعلها ولو قسراَ.. لن نسمح أن تؤذي نفسها أو الولد تحت أي ظرف.

يمنحه يحيى موافقته ليسأله بحذر :
_تعني أنك رفضت اقتراح الزواج؟!
_أنا متزوج بالفعل..قلبي اختار رفيقته ولا مجال للمزيد من الشتات.

يبتسم يحيى مكانه للرنة الواثقة في صوته بينما يغلق إلياس الاتصال وهو ينتبه لشروق الشمس حوله..
متى طلع الفجر؟!
هل اختطفه شروده فوق الجبل طوال هذا الوقت؟!



يسير مبتعداَ وهو يبحث عن العم فياض كي يودعه لكنه لا يجده فيمضي في طريقه..
لكن..
عيناه تتعثران بهذا الحذاء ذي الرقبة الطويلة في فتحة الجبل!
يكاد يتجاوزه بعدم اكتراث لولا أنه قد تذكر!
هو!
هو حذاء ناي الذي تستخدمه عند صعودها المرتفعات هنا!!



وفي مكانها المستتر عند فتحة الجبل تكاد ناي تكتم أنفاسها وهي تستند بظهرها على الجدار الصخري..
عندما كلمت العم فياض كي يأتي ويأخذها بسيارته إلى هنا لم تتوقع أبداَ أن يجيئ إلياس في نفس الليلة!
جاء باحثاَ عنها!
كان يصرخ فوق الجبل!!


صرخاته كانت تصدع قلبها حتى أنها كادت تلقي كل شيء خلف ظهرها وتركض إليه..
لكنها لم تستطع!
منعها خوفها ويأسها!


شهقة عنيفة تطلقها وهي تشعر بذراعه تسحبها لتخرجها من مخبئها ..
ترفع عينيها المصدومتين نحوه للحظة..
لحظة واحدة قبل أن تجد نفسها بأكملها مغمورة بين ذراعيه..
رأسها مدفون بين ضلوعه..
أنفاسها تنكتم للحظات قبل أن تعود لتدوي في صدره بهدير عاصف لا ينافسه إلا هدير دقات قلبه هو..
هدير دقاته الذي يشبه لحناَ عاصفا..
بل قبلة جامحة على خد الفجر.
======
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


هنا يأتي دور الكذب!
لن تخبره أنها توقن أنه (براد)!
هي لا ترد على اتصالاته منذ قررت العودة لبغداد!
لقد هددها صراحة في آخر رسالة تركها لها أنها إن لم تكن له فستكون للقبر!
ظنت أنه سيفقد أمله فيها لكن هاهو ذا قد وجدها!
انقلب سحرها عليها!
(براد) الذي كانت علاقتها به أماناَ لها من ملاحقة عصابة (مقداد) الآن صار هو مصدر الخطر نفسه!
فكرت أن تهادنه قليلاً!



أن تعود لعلاقتها المدنسة معه!
لكنها لم تستطع!!
لم تستطع أن تهين جسدها أكثر.. أن تبيع منه أكثر!
ليس وإلياس جوارها.. يمنحها كل هذا الحب!
ليس وقد عادت لها روحها القديمة بنقاء فطرتها قبل أن يلوثها كل هذا الدنس!!
لا تريد العودة لمستنقع الوحل هذا!!
لا تريد!!

لهذا تستعين بالمزيد من الكذب :
_لا ريب أنهم رجال مقداد.. وجدوني.. لم يكن صعباً أن يستنتجوا عودتي لبغداد.. أنا وداوود في خطر كما أخبرتك..يالله! لا أعرف ماذا أفعل!

دموعها المنهمرة تخزه بالمزيد من شعوره بالذنب وهو يحمل نفسه المسئولية كالعادة..
لماذا لم يوفر لها حراسة مناسبة حتى الآن؟!
لماذا غفل عنها هكذا؟!

لهذا يشدد ضغطه على كفها قائلاً بملامح محتقنة :
_أنا آسف.. خذلتك هذه المرة أيضاَ.

ابتسامتها تتلطخ بدموعها وذنبها..
بينما تسمعه يهتف بحمائيته الممتزجة بحنانه :
_لن يحدث هذا مرة أخرى.. أعدك.. فقط التزمي بكلامي.. لا تغادري البيت وحدك مرة أخرى.


تتسع ابتسامتها وهي تمسح دموعها لتقول بشرود.. وبصدق لا تدعيه :
_تعرف؟! عندما سمعت صوت الرصاص وشعرت أن الموت قريب.. كل الصور في عقلي تلاشت.. انمحت.. كلها انمحت تماماَ.. عدا صورة داوود وصورتك.. لم أخف من الموت فأنا عشت حياة أقسى منه.. لكنني خفت ألا أراكما من جديد.

عباراتها تخز قلبه بالمزيد من شعوره بالذنب!
يبحث عن كلمات فلا يجد!!
يبحث عن بقاياها في صدره فلا يجد إلا رفاتاَ!
كان قلقاَ عليها حد الموت..
لكنه لم يكن قلق رجل على حبيبته..
بقدر ما كان على أم ابنه.. على رفيقة ماضيه.. على امرأة حملها كوزر ثقيل على كتفيه طوال هذه السنوات.. وما عاد يعرف كيف سيضعه!

نبرته الهادئة بنسخته (العملية) تسعفه في موقف كهذا وهو يطمئنها بقوله :
_لا تخافي.. الشرطة تتولى الأمر بأفضل ما يكون.. اهدئي ولا تعكري بالك بهذه الأفكار السيئة.

ترمقه بنظرة متعجبة طويلة.. قبل أن تهمس :
_لم تتغير!


كاذبة!
كانت أول من تعلم أنها كاذبة!!
هو تغير!!
تغير كثيراَ!!
لهفته وقلقه وخوفه.. كلها حقيقية للغاية..
لكنها تفتقر عاطفته الحارة القديمة!!
لا تريد تصديق هذا!
لا تريد!!


هي بالكاد قبلت عودتها له كعوض عن عمرها الذي أريقت دماءه على الأرصفة..
كيف تقنع أن تريق المزيد؟!

_ماما! كنتِ تبكين؟!
صوت داوود يجبرها على الاستقامة بجسدها فتطمئنه بعبارات مموهة.. بينما يندفع الصبي نحو إلياس يعانقه بحرارة هاتفاَ بالعربية :
_بابا! متى جئت؟!

_منذ قليل فقط.
يقولها إلياس وهو يضمه إليه بحنان..
يتنشق في رائحة شعره أماناً مؤقتاَ ينتشله من كل بحور التيه التي وجد نفسه غارقاَ فيها..
بينما يهتف الصبي وهو يفتش جيوبه بمرح :
_أحضرت لي (فلاشة) الألعاب التي طلبتها.
_بالطبع.. وهل أنساك أبداَ؟!


يبتسم إلياس وهو يشعر بحركة الصغير العفوية في تفتيش جيوبه تمنحه شعوراَ بحميمية خاصة بينهما..
تقرب كل المسافات التي ابتعدها عنه طوال هذه السنوات..
كم صار متعلقاَ بكل حركاته حد أنه يسال نفسه كيف عاش دونه طوال هذه السنوات ؟!
يشكره داوود بحرارة وهو يستخرج (الفلاشة) من جيبه مع حافظة نقوده..


يفتح الأخيرة بفضول فتنهره حواء.. لكن الصبي يهتف بفضول بالانجليزية :
_اريد التعرف على شكل العملات هنا.. لم أستوعبها بعد.
يبتسم إلياس وهو يستخرج بعض العملات يعرفها له..
لكن الصغير ينتبه للصورتين في حافظته..
يستخرجهما بسرعة ليرفعهما أمام أمه هاتفاَ بمرح :


_هذه أنتِ! تبدو صورة قديمة لكنها جميلة!

تبدو المفاجأة على وجه إلياس وهو يرى حواء تتناول الصورتين..
واحدة لها بكامل رونقها..
والأخرى لناي وقد قطع منها الجزء الخاص بالوجه..

تدمع عيناها بمزيج من فرح وتأثر وهي ترفع وجهها لإلياس وقد انتبهت من شكل القلادة في الصورة المقطوعة لهوية صاحبتها..


تتنحنح ثم تصرف الصغير لغرفته بذريعة واهية واعدة إياه بعودة قريبة..
يقف إلياس واجماَ وقد قرر اللحاق بداوود.. لكنها تقف في مقابلته..
صوتها يرتعش بعاطفتها :



_لا أحتاج أن أسألك عن هذا! هذه كانت مكانة ناي الحقيقية عندك! وحدي بقيت بكامل قيمتي في قلبك.. هي فقط كانت صورة لقلادتي!

يشيح بوجهه وهو يبحث عن رد لا يحرجها..
لكنها تفاجئه وهي تلقي نفسها بين ذراعيه مردفة بحرارة :
_كل يوم أتأكد أنه لا ينافس حبي لك إلا حبك أنت لي!

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


يقولها حارس المبنى بعفوية بينما يمسح أثر النوم من على وجهه في هذا الوقت من فجر اليوم..
يستقبل إلياس أمام الفندق غير المأهول غافلاً عن هذه النظرة المحترقة في عينيه وهو يناوله مفتاح المصعد الزجاجي المطل على حقل الأقحوان والذي يستقله إلياس ضاغطا زر الصعود..
يستحضر ذكرى صعودها معه هنا..

كانت تغمض عينيها.. تتباطا أنفاسها وهي تفرد ذراعها في وضع التحليق بينما كفها الحر أسير كفه هو ..
كان يقرأ ما تفعله فيسألها :
_هل يمكن الطيران بذراع واحد؟!
_نعم.. عندما تمسك أنت الآخر!

خجلها.. ابتسامتها.. هذه النظرة التي لم يفهمها وقتها في عينيها.. نظرة لو نطقت لقالت (أحبك.. أعشقك دون قيود أو شروط)

آهة حارة يطلقها قلبه والمصعد يصل لآخر رحلته..
هاهو ذا حقل الأقحوان يمتد أمام عينيه..
لكن صورتها تحول بينهما..
صوتها المميز بنبرته العالية التي تتراقص دوماَ بين منتهى القوة ومنتهى الضعف..


_جعلتني أعدك الا اذهب لجبل العم فياض دونك.. لن استطيع ان أفعل مثلك واطلب منك وعدا كهذا هنا..لكنني سأطلب منك ان تتذكرني كل ما جئت الي هنا حتى لو كنت خرجت من حياتك.. يكفيني هذا فقط.. تذكّرني كزهرة اقحوان من هؤلاء.. سقطت من غصنها ولم تعرف كيف يمكنها ان تعود.. أو كطائر كهذا الذي يطير هناك.. هدموا له عشه ويوقن أنه مهما حلّق لن يجد ما يشبهه.. أو حتى كسحابة بيضاء كهذه تسير هائمة ولا تعرف ما يخبئه لها قدرها..

_بل سأذكرك دوماَ كما رأيتك أول مرة.. فضاء عريض كهذا لا تسعه العين بمجرد نظرة!

أنامله تعتصر دبلتها في إصبعه وهو يشعر أنه لم يصدق في شيء قدر صدقه في وصفها هكذا!
كانت توصيه أن يذكرها..
بل ليته يتعلم كيف لا يفعل!
هو لم يعد يعرف نفسه!
وسط كل هذه المفاجآت والطرقات على رأسه يشعر ان غيابها كان هو ما قسم ظهره!
لماذا جاء اليوم إلى هنا؟!
ربما بسبب شجاره الأخير مع يحيى..
سمعه بالمصادفة وهو يتحدث مع طيف!



_ابنه؟! هل تأكدت حقاَ أنه ابنه؟!

قالتها طيف بلهفة ليرد يحيى بيقين حمل بعض الأسف :
_نعم! التحليل أثبت هذا! لولا ثقتي في ان سفيان نفسه هو من تولى الأمر لكررته مرة أخرى.

هزت رأسها بتفهم وهي تدرك أن سفيان هو رجله الأول.. ثقتهما فيه لا تقبل ذرة شك!
لكنها لم تكد تفتح فمها لترد حتى اندفع إلياس بغضب نحو يحيى هاتفاَ :
_من طلب منك أن تصنع شيئاَ كهذا؟!
فتهتف طيف بانفعال :
_فعلناها لأجل صالحك.. كنا نعلم أن شعورك بالذنب نحو حواء لن يجعلك تشك في كلمة واحدة مما تقول.. لهذا أردنا التأكد.. لماذا تصرخ فيه هكذا؟!
_طيف! لا تتدخلي! اصعدي لمجد!
يهتف بها يحيى بصرامة فتهم بالاعتراض كي تدافع عنه من جديد لكن نظرته الزاجرة تمنعها قسراَ فتزفر بحدة قبل ان تتركهما..
بينما يهتف إلياس بنسخته الجديدة فاقدة السيطرة وهو يجذب يحيى من ياقة قميصه :
_لماذا تتدخل في شأن كهذا؟! كيف تجرؤ على أن تفكر في حواء هكذا؟!
لكن يحيى يشد بقبضتيه على كفيه هو هاتفاَ بثبات انفعالي يُحسد عليه :
_تسأل لماذا؟! لأجل حالك هذا! لأنني لم ولن أتركك تتخبط هكذا طويلاً! أين إلياس الأمين؟! إلياس الذي كانت الدنيا تنهار على كتفيه فلا يؤثر هذا على ثباته مثقال ذرة؟!! تظنني لا أشعر بالصراع الذي داخلك؟! أستسهله مثلاً؟! أن تقف على الأعراف بين الأمس والغد.. بين قلبك الذي يريد ناي وضميرك الذي يصرخ بحواء والصغير.. بالطبع لا! لكن دعني أستعير عبارتك التي قلتها لي يوماَ (رغد معيشتنا لم يقدح في رجولتنا وتحملنا لمسئولياتنا!).. تمالك نفسك سريعاَ.. هذا الوهن لا يليق بك..خذ قراراَ وتحمل تبعاته لكن لا تبق هكذا متذبذباَ طويلاً.. لا أرضاها لك.. يا (عمي)!

وهاهو ذا يقف هنا!
كعهده كلما أراد العودة لنفسه يجد نفسه مجبوراَ أن يذهب لمكان ما يحمل له طيفاَ منها..
هي ناي!
نايه ذو اللحن العصي الذي لم يعد يطرب أذنيه سواه!
فقط.. لو تعود..
لكن ماذا لو عادت؟!
كيف ستستقيم حياته وهو لا يزال عاجزاَ عن تحديد موقع حواء هذه المرة؟!

تنقطع أفكاره وهو يسمع رنين هاتفه الذي يحمل له الخبر المفاجئ..
(حواء تعرضت لإطلاق نار من مجهول)
=======




=======
تركيا.. اسطنبول

_أخيراَ.. عثرت عليك!
تهتف بها جوليا عبر الهاتف بابتسامة منتصرة ليصلها صوت مظفر حاداَ مشتعلاً كعادته منذ ترك العراق قسراَ..



_لا أظنني صرت أحتاج مساعدتك.. عرفت إن ذاك النذل ابن الأمين نفاكِ مثلي خارج العراق وإن جعل لكِ مسمى أكثر أناقة برعاية المشروع الجديد في اسطنبول.

تجلجل ضحكتها مثيرة غيظه ودهشته ليردف:
_هل أصبتِ بالجنون؟! أم تعاطيتِ شيئاَ آخر الليل؟!

_لا يا صغيري! أنا فقط أضحك من سذاجتك! ألم يعلموك أبداَ أن تجعل صديقك أمام عينك مرة وعدوك ألف مرة؟! إلياس أخطأ كثيراَ عندما أبعدني.. لكن هذا أفادني كثيراَ.. على الأقل تنتفي عني الشكوك عندما ينهدم المعبد على رؤوس الجميع.

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


يهز رأسه بتفهم وهو يدلف للداخل.. يبحث بعينيه عن داوود يسألها بلهفة :
_لا تقولي أن الولد نام.
_رفض النوم قبل رؤيتك.. لكن..

تقطع عبارتها متعمدة زيادة أثرها على لهفته الواضحة فينعقد حاجباه بالمزيد من القلق:
_لكن.. ماذا ؟!
_بصراحة.. أخاف تعلقه الزائد بك..

تقولها وهي تكتف ساعديها.. تغرس نظراتها في عينيه كأنها تحاول قراءة خبايا روحه :
_إلى الآن لم تحدد موقفاَ واضحاَ بشأننا!
_ماذا تقصدين؟! أي شيء أوضح من إعلاني الصريح أنني لن أتخلى عنكما أبداَ ؟!!
_بأي صفة يا إلياس؟! بأي صفة؟!

تقولها بحذر وهي تراقب تبدل ملامحه بين غضب وحسم وصراع!
صراع يضفي ظلاله على ملامحه وهو يتجاوزها ليعطيها ظهره..
فتقبض بكفيها على كتفيه من الخلف قائلة بحيرة حقيقية :


_منذ عودتي وأنا لا يمكنني فهمك! لا يمكنني التشكيك في حبك لي وانتظارك لعودتي طوال هذه السنوات! كانت هذه أجمل مفاجأة وأول فرحة يعرفها قلبي منذ عمر بعيد.. لكنني كلما نظرت لعينيك أشعر بجدار عريض يرتفع بيننا!


تقولها ثم تتحرك لتقابله من جديد كأنها تحاول قراءة عينيه في برهان لحديثها.. لكنه يغمضهما بقوة فتهتف به بانفعال:
_هل هو خوفك من الفضيحة لو انكشف أمر علاقتنا القديمة ونسب داوود لك؟! تظنني سأعرضك وأعرض ابني لشيء كهذا؟!
يفتح عينيه بنظرة متسائلة لتردف بصوت متهدج :
_عندما أتيتك بتحليل إثبات النسب لم أكن أنتوي إجبارك على كشف حقيقة كهذه لن تفيد أحداَ.. كل ما أردته أن تحمي داوود.. تحميه وأنت تعرف من هو حتى ولو لم يعرف أحد غيرك حقيقته! لم آتِ كي أهدم عالمك وأنشر فيه الفوضى! جئتك لأنك آخر جدراني الآمنة التي يمكنني الاستناد عليها ! لهذا أرجوك أن تطمئن لو كان هذا سبب تباعدك! أما لو كنت تنتوي التخلي عنا فأرجوك أن تخبرني من الآن.. لا تجعل الولد يتعلق بك أكثر!

_كيف تفكرين هكذا؟!
يهتف بها مستنكراَ فيهدأ قلبها لقراءة هذا الوهج اللامع في عينيه.. دموعها حقيقية جداَ وهي تسبل جفنيها على خوفها من فقده..
فيربت على كتفها برفق مردفاَ بحسم :
_لن أضيعكما بعدما وجدتكما.. ليس بعد كل هذه السنوات التي قضيتها أنتظرك.

تبتسم بظفر وهي تود لو تستغل اعترافا كهذا في وقته فتضغط عليه في طلب الزواج..
تعرف أن عدتها لم تنته بعد.. لكن على الأقل وعده لها أن يفعل!
ذكاءها يلهمها أن تصبر قليلاً..
إلياس يبدو وكأنه يتقافز على جمر حار..
رغم ردوده الحاسمة ومظهره المتماسك لكنه يبدو لها وكأنه يخوض أقسى معاركه!

_دعك مني وأخبرني.. كيف حالك أنت؟!

تقولها بحنان لا تدعيه وهي تقترب منه خطوة لينعقد حاجباها وهي تراه يبتعد خطوة غريزية دون وعي..
يقول (بخير) وكل ما فيه يكذّبه!
تشعر بتباعده يصفعها من جديد فتلقي ورقتها الرابحة :
_سأذهب لأخبر داوود أنك أتيت.. نتناول عشاءنا معاَ.. يحيى وطيف على وصول.

يهز لها رأسه بابتسامة شاحبة فتتحرك نحو غرفة الصغير بينما يتهالك هو جالساَ على أقرب كرسي..
يمد كفه ليستخرج ورقة مطوية من جيبه..
رسمها الذي تركته خلفها!
يرفعه أمام وجهه كأنما يدفئ به أنفاسه الباردة..
يطوف فوقه بشفتيه كأنه يقبل كل أثر تركته أناملها هناك!
ثم يطويه ليعيده لجيبه من جديد مع قلادتها قرب قلبه!

صوت رنين الهاتف يقاطع أفكاره..
لا.. ليس هاتفه هو!
بل هاتف جدتها الذي استأذنها في الاحتفاظ به تحسباَ لو هاتفتها ناي!
قلبه ينبض بعنف يكاد يقتلعه من ضلوعه وهو يميز رقماَ غريباَ على الشاشة..

_كوني أنتِ! بالله كوني أنتِ!

يهتف بها قلبه دون شفتيه وأنامله تفتح الاتصال بلهفة..

_بيبي! أنا ناي!

يغمض عينيه بارتياح غامر وهو يكتم أنفاسه للحظة كأنه يخشى أن يتسرب صوتها من أذنيه!
شفتاه ترتعدان وهو يحاول منع نفسه بصعوبة من الكلام..
يخاف أن تغلق الاتصال!

_بيبي! أنتِ بخير؟! كلكم بخير؟! أعرف أنك غاضبة مني لكن أرجوك لا تفعلي.. لا ينقصني غضبك عليّ! قولي شيئاَ.. أي شيء!

ورغم تهالك نبرتها الشاحبة لكنه كان يشعر أن كل كلمة بهذا الصوت الذي عشقه تضمد داخله جرحاَ.. تعيد له الاتزان الذي فقده منذ رحيلها..
لم يعد لديه ذرة شك..
هي وحدها من يحتاجها قلبه بضراوة كي يكمل الطريق!

_ناي.


يقولها أخيراَ بكل ما اوتي قلبه من اشتياق ولهفة فتشهق شهقة عنيفة تخز قلبه..
المفاجأة تخرسها للحظات.. ليجد نفسه يهتف وهو ينتفض واقفاَ مكانه كأنه صار عاجزاَ عن الاحتفاظ بهدوء جلسته :
_إياكِ أن تغلقي الاتصال!

تبكي!
يعرف أنها تبكي!!
صار يحفظ حتى وقع أنفاسها عندما تتقطع هكذا!

_ارجعي! ارجعي وسنحل معاَ كل شيء! بل قولي أين انتِ وسآتيكِ أينما كنتِ!

_بابا إلياس! افتقدتك كثيراَ!

صوت داوود يقاطع المكالمة ويجعل ناي ترتجف مكانها وهي تكاد تكذب أذنيها!!
وهاهو ذا صوت حواء يجلدها بما تبقى :


_الأكل جاهز يا حبيبي..أعددت لك كل ما تحبه.. ننتظر يحيى وطيف ونتناوله معاَ..ما رأيك لو نشاهد مع داوود الفيلم الذي اتفقنا عليه قبل أن نذهب للنوم؟!

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


تتسع عينا معالي بتأثر أبت الاعتراف به وهي تشعر بحلقها يجف..
بينما تردف فجر وصوتها يبدو مرآة صادقة لروحها :
_أنا أخر واحدة في هذا العالم يمكن ان تحرض فيصل ضدك.. أبي وأمي ماتا بسببي دون قصد مني.. شعوري بالذنب يكاد يذبحني.. قلبي يحدثني كثيراَ لو أقبل كف كل أم ألتقيها كأنها أمي.. لو أقبل رأس كل اب كانه أبي.. لو يمكنني ان أعيد الزمان بأي طريقة فلا أغضبهما أبداَ.. ولأن هذا مستحيل.. ولأنني لا يمكنني ان استعيدهما أبداَ.. فأنتِ في عيني صورة منهما.

تتفرس معالي في ملامحها وهي تخشى تصديق هذا الذي يصرخ به قلبها بوضوح..
هذه المرأة ليست كاذبة ولا مدعية..
بل إنها ربما قد بدأت تعذر فيصل في حبه لها..
طريقتها في الكلام ساحرة..
ربما لأن الكلام لا يبدو وكانه يعبث على شفتيها بل كأنه ينسكب من داخل قلبها عفوياَ دافئا ومؤثراَ.

يزداد حلقها جفافاَ وهي تقاوم هذا الشعور داخلها لتقول بنفس النبرة القاسية وكأنها تذكر نفسها بمصيبتها الحقيقية :
_ومع هذا لا تلوميني على شعوري نحوك.. ضعي نفسك مكاني.. هل كنتِ تقبلين واحدة مثلك زوجة لابنك!

تشحب ملامح فجر من غلظة قولها للحظات..
لكنها تتحسس دبلتها خلسة في إصبعها كأنها تستقي منها مددا خفياَ.. قبل أن يخرج صوتها من جديد هادئاَ قوياَ :
_دعينا نسألها بطريقة أخرى.. لو كنت أنا ابنتك هل كنتِ تتمنين لي عوضاَ مثل فيصل؟!

تتسارع أنفاس معالي بانفعال بينما تردف فجر وقد تحشرج صوتها بدمع مكتوم :
_أنا أخطأت مرة واحدة.. عندما رضيت بالهرب من أهلي.. كان هذا هو الخطأ الوحيد الذي تعمدته.. والذي استجلب كل مصائب حياتي بعدها.. هل كنت أستحق كل ما حدث لي؟!انتهاك جسدي.. الحادثة التي فقدت فيها بصري.. بل وذاكرتي طوال تلك السنوات.. احتجازي قسراَ في سجن بعيد رغماَ عني ودون أن أعرف أو أفهم أي شيء.. وفي النهاية موت سجاني بين ذراعي.. وبرصاصة لازلت أسمع صداها وأشم رائحتها في أصابعي حتى الآن.. عمري كله صار مشوشاَ لا أكاد اميز حقيقة من خيال.. ووسط كل هذا يظهر فيصل.. عاشق يعرفني أكثر من نفسي.. انتظرني طوال تلك السنوات..قولي لي صدقاَ : لو كنت ابنتك هل كنتِ سترضين بوحدتي أم تتمنين لي أن أكمل عمري معه أسعده ويسعدني؟!

يختلج قلب معالي برحمة تكرهها..!
تحمد الله أن فجر لا ترى هذه الدموع التي حبستها في عينيها!
لا..
لن تستسلم لغواية هذه الساحرة!
فعلاً ساحرة!
كيف تلوم فيصل وهي نفسها في بضع دقائق كادت تستسلم لسحرها؟!!

لهذا تنتزع كفها منها بحدة لتهتف بقسوة :
_لا تساوي نفسك بابنتي! ابنتي تعرف حدودها جيداَ.. تعرف حلالها من حرامها ولا تعرض نفسها وشرفها للغواية! أنا أعرف تربيتي.

تطرق فجر برأسها للحظات لكنها لم تيأس من المحاولة..
لتقول أخيراَ بنفس النبرة الهادئة :
_لن أتعبك في الكلام أكثر.. أردت فقط أن أريحك بشأن فيصل.. لن نغادر بيتك.. ومن يدري؟! لعلك يوماَ ما تفتحين لي قلبك كابنتك كما فتحت لكِ قلبي كأمي.
=======







=======
العراق.. بغداد

يصل إلياس لبيت الأمين ليلاً بعد يوم عصيب قضاه في البصرة دون جدوى..
رجاله لا يزالون يرابطون أمام بيت ابن العم فياض رغم أنه وصلته معلومة أن ناي تركت البصرة..
أحدهم رآها وهي تغادر!


كل الغضب المستعر الذي كان يغشاه منذ النهار يستحيل الآن لرماد بارد من خوف وقلق وعجز!
هاهو ذا آذاها من جديد!
أرغمها دون قصد أن تهجر مكاناَ كانت تجد فيه الأمان لمجهول لا يعرفه ولا يظنها تعرفه!
ترجع؟!
تراها ترجع وقد فقدت كل حلولها؟!
لا يظنها ستفعل!
لو صدقت قراءته لشخصيتها ولو بقدر واحد بالمائة فلن يرتجي منها عودة قريبة!!

زفرة مشتعلة تغادر صدره كبركان وهو يترجل من سيارته..
لماذا عاد إلى هنا؟!
ربما..
ربما جزء بسيط من نفسه يريد المقاومة بشعوره بوجود داوود!
لعل فرحته به - وإن كانت منقوصة- تداوي جرح فقده لناي!
ربما!
ربما!!

تستقبله حواء بجرأة لا تنقصها وهي تفتح له باب البيت و (ذراعيها) بابتسامة عاشقة فيغمض عينيه بقوة وهو يشعر بألم رهيب يغشي رأسه وقلبه معاَ!

قديماَ كان يحب جرأتها هذه!
كانت تليق بسنين شبابه الأولى وقد عاش طفولته ومراهقته مقيداَ بقيود (الكبار)..
فوجد فيها ريشة متمردة بلون صاخب كان يضفي الحياة على لوحته الباهتة بألوانها الهادئة!
لماذا لا يجد الآن فيها كل ما كان يراه وقتها؟!
يخاف تصديق هذا!
يخاف تصديقه حقاَ لأن معناه أنه كان يضيع عمره في انتظار وهم!!
بل.. والأقسى.. أنه مضطر ليكمل طريقه مع هذا الوهم!

نفس عميق يأخذه يتمالك به شتاته وهو يتجاهل ذراعيها الممدودتين نحوه مكتفياَ بمصافحة سريعة..
نظرته تعاتب جرأتها ولسانه يكتفي بسؤاله المهتم حقيقة لا ادعاء :
_كيف حالكما؟!

تتمالك خيبتها من رد فعله، تهز كتفيها لتقول بحسرة حقيقية وابتسامة ذات حرج :
_أعتذر! معيشتي في أميريكا استجلبت بعض العادات.

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


تتسع ابتسامتها الخجول وهي تراه يشدد ضغط قبضتيه الرفيق على كفيها مردفاَ بنبرته العجيبة التي تمزج حنانه بقوته :
_تعرفين؟! لم أشعر يوماَ بالوهن الذي شعرت به في ذاك الموقف.. عندما قلت إنني استسلمت كنت أشعر أنني أزهق روحي نفَساَ نفساَ.. لكنني ما أحببت ضعفي أبداَ إلا في موضع كهذا.. لأنه أظهر قوتك أنتِ.. هذا ما كنت أعنيه عندما كنت أقول لكِ دوماَ أن مجرد وجودك جواري يكفي.. لا تتصورين مدى فخري بك الآن.. كلمة واحدة منك كانت تكفي لأستعيد توازني.

_لا يزال طريقنا صعباَ.. لكن.. أنت اخترت لنا رمز (اللانهائية).. وأنا الآن أختاره مثلك..

تقولها وهي تتحسس دبلتها في إصبعها..
فتشعر بشفتيه الدافئتين فوق إصبعها المزدان ببدبلته..
ارتباك لذيذ يطوقها..
يعزف تلك الدغدغة التي تشبه لحناَ فوضوياَ عابثاَ داخلها.. لكنه يعيدها لحرب ليست مستعدة لخوضها بعد..
فتسحب كفها منه بسرعة تغمغم بارتباك :
_أريد رؤية والدتك.

_الآن ؟!
يقولها ببعض القلق فتهز رأسها بحسم..
يزدرد ريقه بارتباك يصلها فتبتسم بقولها :
_لا تخف.. لن أقول ما يؤذيها بالطبع.. على العكس.

_فجر! لا تضغطي على نفسك! لستِ مضطرة لقبول وضع لا يرضيكِ.

يقولها بضيق لكنها ترد بقوة أحبها في نبرتها الواثقة :



_بل مضطرة.. مجبورة.. لأنني أريد ان ينتصر ما بيننا رغم كل شيء.. لأنني لن استسلم بعد الآن.. يدي في يدك نزيل معاَ كل أحجار الطريق.. أنا مللت دور المذنبة التي تقبع في الزاوية تنتظر انتهاء مدة عقوبتها.. ومللت أكثر دور الضحية التي تتلقفها الأذرع بالحماية فتقبع في زاوية أخرى تنتظر فتات الأمان الذي يلقونه لها.. أنا مللت الزوايا.. أريد أن أتحرك.. أنهض.. أمشي.. أفتح كل الأبواب التي زعموا أنها مغلقة.. هل تفهمني ؟!

_تسألين ؟!
صوته المؤنس يكتسب رنة خاصة تداعب وتراَ حساساَ بقلبها..
فتبتسم لتتسيد غمازتها وجهها..
تتحسسها أنامله بهيام :

_ليت الدنيا كلها بجمال غمازتك عندما تبتسمين هكذا! خوفي عليكِ كبير.. لا تصيبك شوكة إلا ويتصدع قلبي ألماَ.. لكن إيماني بك أكبر.. أنا أحببت فجر القاضي بكل صورها.. لكنني عشقت صورتها القوية أكثر.. لهذا لن أمنعك فعل أي شيء تشعرين أنك تحتاجينه كي نستعيدها معاَ!

عبر الحاجز الزجاجي لعينيها المنطفئتين يلمح لمعة خاطفة كأنما أججت كلماته المزيد من روح هذه العنقاء داخلها..
تشعر به يقف لتقف معه..
يتحرك معها نحو غرفة أمه..
تسمع صوت الباب يفتح لتدخل معه..
ورغماَ عنها تنتابها رهبة اولية لم تملكها..
لم تكن ترى معالي بطبيعة الحال..
لكنها كانت تشعر أنها ترى أمها هي..
بل وأباها ايضاَ..
وإن كانت معالي بفضل الله نالت نصيبها من النجاة..
فهما لم يفعلا!
لهذا تشعر بهذه الوخزة في صدرها.. وضميرها معاَ!
رضا معالي يساوي في عينيها رضا أبويها..
فكيف لا تسعى إليه؟!

يساعدها فيصل كي يجلسها على الكرسي جوار الفراش..
لكنها تطلب منه :
_أريد الجلوس منها أقرب.. دعني أكن على طرف الفراش.

ترمقها معالي بنظرة حانقة لم ترها وإن شعرت بذبذبات التوتر المعهود بينهما كالعادة..
يستجيب فيصل لرغبتها فتبحث بأناملها حتى تجد كف معالي..
تنحني لتقبله هامسة :
_حمداَ لله على سلامتك.

ترد معالي بفتور يتحول لدهشة مترقبة وهي تسمع فجر تخاطب فيصل :
_اتركنا وحدنا قليلاً.

يهم فيصل بالرفض وهو يشعر بخوف حقيقي على كل واحدة فيهما من الأخرى!!


هو لا يضمن قسوة أقوال أمه..
وفي نفس الوقت لا يضمن رد فعلها لأي كلمة تقولها فجر بالذات بعد سقوطها هي الأخير!

لكنه يتذكر كلامهما بالخارج فيطلق زفرة مستسلمة وهو يشير نحو الخارج بقوله :
_سأكون أمام الباب.. لو احتجتما شيئاَ.



يغادرهما بخطوات بطيئة ولم يكد يغلق باب الغرفة خلفه..

حتى ضغطت فجر كف معالي برفق قائلة برقتها المعهودة :
_خفت عليكِ كثيراَ.. تعرفين أنني فقدت أمي.
_أعرف.. بالطبع أعرف.. بسببك أيضاَ!



ورغم قسوة عبارتها لكن فجر كانت تبدو وكأنها تتوقع هذا..
لم تهتز نبرتها..
لم تترك كفها وهي تهز رأسها بقولها :
_بالضبط.. لهذا يشق عليّ كثيراَ أن أراكِ تتأذين بسببي.
_كل ما أصابنا بسببك! أختي ماتت بحسرتها.. ابنتها فقدت عقلها وصارت تفعل أفعالاً خارج نطاق تربيتنا.. ابني صارت سمعته على كل لسان.. ومع هذا قبلت وأدخلتك بيتي.. فعلتها فقط كي لا أخسر ما بقي منه.. والآن تريدين أن تأخذيه مني هو الآخر؟!

عباراتها حاقدة.. مغالية.. ظالمة لحد كبير..
ومع هذا تتقبلها فجر صابرة بقولها :
_أول ما أحببته في فيصل حبه لأهله ولكِ انتِ بالذات.. كان يتحدث وكأنك شمسه التي يدور حولها عالمه كله.. حتى أنه أخبرني أنه يصر أن يبقي شاربه خفيفاَ دون حلاقة لأن شكله يذكركِ بأبيه.. نموذج نادر لبرّ غير مألوف.. من ليس له خير في أهله ليس له خير في أي أحد حتى لو كانت المرأة التي يحبها.. كيف بعد كل هذا تظنين أنني أريد أخذه منكِ؟!!

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


يخفق قلبها بجنون وهي تميز صوت سيد خلفها..
تلتفت بحدة رغماَ عنها وهي تكاد تكذب أذنيها لتجده يدخل مع صاحب المحل الذي يرمقها بنظرة محرجة..

بينما تتعلق عيناها بسيد الذي يرمقها بنظرة طويلة موصدة ظاهرها شماتة أججها غروره..
وباطنها.. باطنها اشتياق لكل لمحة منها!
لا يبالغ لو زعم أنه لو ترك الزمام لقلبه لاختطفها بين ذراعيه وهرب بها من الجميع ولو رغماَ عن أنفها!
يذيبها بلهب عاطفته حتى تعود لعقلها من جديد وتعتذر منه!



لكنها تتجاهله تماماَ وهي تعود لعملها عاجزة عن منع قلبها من الخفقان..
ما الذي أتى به إلى هنا؟!
لماذا لا يبدو متفاجئاَ بقدر ما يبدو شامتاَ؟!
صاحب المحل يبدو على علاقة جيدة به..
هل يكون صاحبه أو تجمعه به علاقة عمل؟!
بالطبع!
من مِن تجار الملابس لا تجمعه علاقة بسيد القاضي؟!

_هل يمكنك أن تحضري لي فنجان قهوة أم أن عملك هنا يقتصر على رص الملابس فقط؟!

هل يكلمها؟!
يكلمها هي؟!
مستحيل!

لا يمكن أن يكون قد وصل هذا القدر من الوضاعة!!

تلتفت ببطء شديد وهي تشعر بالدم يغلي في رأسها..
لتلتقي عيناها بعينيه المتحديتين!
الآن فقط تتأكد!
ليست مصادفة!
هو جاء لإذلالها!
كي يسخر من حالها الجديد بعده!!


الاشمئزاز ينسكب من نظراتها المزدرية نحوه والذي يصفع وجه غروره ألف صفعة!!
الحقير بدلاً من ان يخجل من نفسه انه اضطرها إلى هذا الحال.. يأتي ليشمت فيها!

تحتقن الدماء في وجهها وهي تهم بشتيمته لكن ظهور حسام يقاطعها!

_حسام! ما الذي تفعله هنا؟!
نفس السؤال الذي يدور بذهنها وحاجباها ينعقدان بتوجس مع تقدم حسام البطيئ نحوه قائلاَ ببرود مشتعل ينذر بكارثة :
_(اللي يسأل ما يتوهش).. مدير مكتبك أخبرني أنك هنا.

_ماذا تريد؟!
يسأل سيد بتبجح فارداَ صدره لكن لكمة حسام المفاجئة تجعله يرتد برأسه للخلف بعنف..
الدماء تسيل من انفه المصاب بغزارة بينما يسحبه حسام من قميصه ليخرج به خارج المحل قائلاً بغضب :
_هذا مكان أكل عيش! دعنا لا نلوثه بدمك القذر!

تكتم أمينة صرختها وهي تراقب المشهد من مكانها بصدمة..
ترى حسام وهو يصرخ بالجمع الذين تحلقوا حولهما الا يتدخلوا فيتراجعون توجساَ من هيئته المهيبة..
بينما يكيل هو لسيد لكماته واحدة تلو الأخري..
يحاول سيد ردها فينجح مرة ويفشل مرات!

_لم تدع لي إلا هذه الطريقة يا عار عائلة القاضي! العائلة كلها تبرات من أفعالك يا قذر! اتضح أن همك كله هو محل فجر! قسماَ برب العزة أنا من سأنتزعه منك وأبكيك دماَ على تعب عمرك كله جزاء ما فعلته بفجر.

صوت حسام المهيب يبذر مزيجاَ من الرهبة والاحترام في قلوب الحضور فلا يهتمون لإنقاذ سيد من يديه وقد بدا لهم واضحاَ من صاحب الحق..
وأخيراَ يلقيه حسام ارضاَ ليبصق جواره بحركة مزدرية قبل ان يركله في خاصرته منهياً كلامه بجملته :
_طوال الفترة السابقة وانا أجاهد نفسي كي اعاملك ك(بني آدم).. لكنك لا تستحق إلا ان أعاملك ككلب.

تتلاحق انفاس أمينة بجنون وهي تشعر بقلبها يكاد يغادر مكانه..

جزء من آدميتها الطبيعية يشعر ان ما حدث رد لها بعض حقها..
لكنها لا تملك شعورها بالإشفاق نحو ذاك الغبي الذي يرقب خساراته واحدة تلو الأخرى يوماَ بعد يوم!

ترى صاحب المحل وهو يتوجه نحو سيد وقد وجد الجرأة اخيراَ ليتدخل..
يساعده في النهوض لكن سيد يدفعه بحركة متهالكة وهو عاجز عن رفع رأسه قبل أن يتحرك بخطوات متهالكة نحو سيارته القريبة فيستقلها ليغادر المكان كله حاملاً فتات كرامته المبعثرة!

ولم يكد يفعل حتى يفض صاحب المحل الجمع الذي تحلق حول المكان بغضب..
قبل ان يتوجه نحو أمينة التي وقفت ترتجف مكانها ليهتف بحدة :




_خيراَ تعمل شراَ تلقى! أنا قبلت عملك هنا لأجل عمك.. لكن أن يصل الأمر لهذا الحد فلا يمكنني تحمل المزيد.. لا أريد مشاكل وبالذات مع عائلة القاضي!

_لا ترفع صوتك عليها!

_فاروق!
تتمتم بها بامتنان مع تنهيدة عميقة تكاد تحلق بها نحوه..
بينما تراه يندفع نحو الرجل مردفاَ بخشونته الحمائية :
_من انت كي ترفع صوتك عليها؟! الا تعرف من هي؟!

يشد الرجل من ثيابه وقد كاد الأمر يتحول لمشادة أخرى لكنها تتدخل لتهتف بفاروق بين شهقات بكائها :
_دعنا نغادر يا فاروق.. هو لا ذنب له!

_لا يرفع صوته عليكِ! لا أحد يجرأ ان يرفع صوته عليكِ!

تتسع عيناها مع جنون خفقاتها وهي ترى عروق جبينه قد نفرت مع حدة انفعاله..
مظهره بدا مخيفاَ حقاَ للجميع عداها هي!
وكأنه كعهده البطل الذي يختفي في الظلام فلا يظهر إلا عندما تحتاجه!

_اعتذر لها..
يهتف بها بحدة وهو يرج الرجل بين ذراعيه رجاَ فيهتف الرجل بسرعة بصوت متحشرج مخاطباَ أمينة :
_آسف.

تمسح أمينة دموعها وهي تشعر بفوضى من مشاعر مضطربة تستجلب المزيد من دموعها فتشد حقيبة يدها لتغادر المحل بسرعة..
يلحقها فاروق ،يناديها ليفتح لها باب سيارته فتستقلها وهي عاجزة عن منع دموعها..
يركب جوارها ليهتف بحدة غريبة على طبعه الهادئ معها :

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


_لماذا لم تخبريني؟! هكذا صار الوضع إذن؟! أعرف مصادفة من ليان وآتي هنا لأجد الحي كله يتحدث عن شجار سيد وحسام وانتِ بينهما؟! أنتِ التي يساوي تراب قدميها رؤوس هذا الحي كله!!!

يزداد بكاءها حرقة فيود لو كان يمكنه أن يحتويها بين ذراعيه..
قلبه العاشق الذي أهلكه كتمانه لم يعد قادراَ على المزيد..
يكاد يتمزق ألف قطعة!

فلا يزيد هذا صوته إلا حدة وهو يهتف بها فاقداً سيطرته على حاله :
_هل جعلتكِ بحاجة لشيء؟! قصرت معكِ في شيء؟!


تهز رأسها نفياَ وهي تهم بالرد لكن حركته التالية تزلزلها وهي تراه يتناول مفاتيحه كلها ليضعها في كفها ثم يطبقه عليها مردفاَ بنفس الحمائية الصادقة :
_هذه مفاتيح كل ما أملكه.. كلها لكِ.. افعلي بها ما شئتِ لكن يبقى أنفك مرفوعاَ.

تتوقف عن البكاء فجأة وعيناها تتعلقان بعينيه في نظرة غريبة تعرفها لأول مرة نحوه..
حمائيته ليست غريبة..
مروءته ليست غريبة..
شهامته ليست غريبة..
لكن هذه النظرة في عينيه هي الغريبة.. كيف تصفها ؟!

وكأنها تحمل قلبه بين كفين من نور لتهديه لها!!

لا.. لا.. مستحيل..
مستحيل أن يكون ما يدور ببالها صحيحاَ!
هو أخوها..أخوها..
جنونٌ أن تصدق غير هذا!
يبدو ان كثرة الضغوط ستصيبها بالجنون حقاَ كما وصفها سيد!


تتحاشى النظر لعينيه من جديد وهي تطرق برأسها..
لتلين نبرته قليلاً وإن بقي صوته على انفعاله :
_مادمتِ تريدين العمل على أي حال.. فلماذا لم تأتِ لمحلك ؟!

_محلّي؟!
تلتفت نحوه بنظرة متسائلة فيرد صادقاً غير مبالغ ولهاث أنفاسه المتلاحقة يفضح مشاعره شر فضيحة :

_كل ما أملك لكِ.. قلتها لكِ ألف مرة.. كل ما أملك لكِ.

تتنهد بحرارة وهي تفتح كفها لترمق المفاتيح فيها بنظرة شاردة قبل أن تقول بحزن :
_ابقَ انت خارج الصورة يا فاروق.. لا تقف بيني وبين أبي وأمي.. هما قد يتراجعان عن موقفهما معي يوماَ ما.. لكن أنت قد لا يسامحانك أبداَ لو ظنا أنك تقف معي ضدهما!

_لا يهم!
يهتف بها بحرارة وهو يخبط بقبضته على مقود السيارة مردفا بانفعال :
_تنهد الدنيا ولا ينحني رأسك لأحد ابداَ.

تنهيدة خاصة تفلت من صدرها هذه المرة..
ليست تنهيدة ألم ولا تنهيدة حرقة.. بل تنهيدة راحة!


هاهو ذا فاروق كعهده..
جدارها المنيع الذي تستند عليه متى شاءت دون ان تخشى أبداَ أن يسقط بها!

لكنه يسيئ فهم تنهيدتها التي تخلع قلبه من مكانه فيهتف :
_بالله لا تفعليها مرة أخرى.. أنا أكفيكِ هم كل شيء.. لو قصرت ساعتها اعملي ما بدا لك.



_انت لا تقصر ابداَ يا فاروق.. لكنني أحتاج حقاَ أن أعمل.. هي طريقتي الوحيدة للصراخ في وجه أبي أنني لن أستجيب لضغوطه.. أعرف أنه يحبني ويظن انه يعمل لصالحي.. لكنه لا يريد أن يفهم.. رجوعي لسيد مستحيل حتى لو تسولت لقمة اولادي من الشارع.

_ماذا تقولين؟! اسكتي.. اسكتي.. حتى آخر نفس في صدري لا أتركك تحتاجين شيئاَ أبداَ.
تبتسم وهي تميز أن خشونة صوته مهما حملت من غلظة انفعاله تمتزج دوماَ بحنان عجيب يبدو وكانه ينبع من روحه نفسها..
منذ طفولتها وهي تعرف هذا الطبع فيه..
يعنفها لو أخطأت لكن عتابه لا يتجاوز غلظة كلامه يبقى دوماَ هذا الحنان في عينيه يهدهد خوفها.. يروضه!



تمسح ما بقي من دموعها بصبر وهي تتمسك بقوتها الجديدة..
لا بأس!
اليوم الذي بدأ بشماتة سيد وحقارته.. انتهى بلطف فاروق ودعمه!

تلتفت نحوه فجأة لتلاحظ تعلق عينيه بابتسامتها..
ترتبك قليلاً وهي تشعر بشعور غريب يتملكها نحوه..
لكنها تهرب من هذا الخاطر وهي تمط شفتيها بقولها :
_ليان ستحزن عندما تعرف أنني تركت العمل من اول يوم.. كانت تشجعني كثيراَ.

_تركتِ عملاً وستتولين آخر.
يقولها بحسم وهو يعيد تشغيل السيارة لينطلق بها فتهتف به باعتراض :
_لا تجعلني اكرر كلامي يا فاروق.. أبي لن يسامحك لو فعلت شيئاَ كهذا.
_وانا لن أسامح نفسي لو تركتك في موقف كهذا.
يقولها بنفس الصرامة دون ان ينظر إليها وهو يتذكر ما قاله (مستر ربيع) عندما عاد من مقابلة أبيها وقد كان فاروق قد وسطه للإصلاح بينهما..
أبوها لا يزال على عناده!
لا يزال يرى مصلحتها في العودة لسيد ويضغط عليها كطفلة يعاقبها بالحرمان من المصروف حتى تعود للذهاب للمدرسة!!



رفض وساطة ربيع بل وطلب منه ألا يتدخل في الأمر لأنه أدرى بصالح ابنته!
هل سيتركها هو وحدها إذن؟!
حاشاه!!
لو وقفت الدنيا كلها في صف.. ووقفت هي في صف..
فسيختار صفها هي دون تردد!




يسمع صوت الأذان يتردد فيردده خلف المؤذن وكعهده يلهج قلبه بالدعوة الخفية التي لا يكاد يطلع عليها إلا خالقه..
(اللهم اكتبها لي في حلال.. واجعلني عوضاَ لها عن كل ما عاشته)
=====






=====
العراق.. بغداد

_مرحباَ سيدي.. وحدك هذه المرة؟!

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


يضطرب إلياس في وقفته بفعل المفاجأة وهو يدرك أن صوت حواء العالي بالتأكيد قد وصلها..

ينحني ليعانق داوود بحرارة دون أن يفلت الهاتف من يده..
تتشبث به أنامله وهو يشير لهما بالصمت ..
يبتعد قليلاً والصمت المقابل من الجهة الأخرى للاتصال يكاد يذبحه..

_ناي! انتِ معي؟!
_هل.. هل وجدت حواء ؟!

لا تنتظر رده وسؤالها يبدو شديد المرارة.. شديد السذاجة..


شديد الألم وهي تشعر أنها فقدت آخر زهرة في حقل ورد احترق عن آخره!
حواء عادت مع ابنه!
تعد الطعام له ولعائلته!
بل وتنتظره كي يتشاركوا مشاهدة فيلم قبل النوم!
ما كان مكانها هي في لوحة كهذه؟!
وما سيكون ؟!



_ناي! لا تسكتي هكذا.. قولي أي شيء..
يهتف بها بانفعال أججه عجزه وهو يتشبث بالهاتف بكلتا كفيه كأنه يتشبث بها هي..
صمتها المشتعل يكاد يحرقه فيردف بنبرة أكثر ثورة :
_يجب أن ترجعي.. لن..



لكنها تغلق الاتصال على شهقة بكاء اخترقت قلبه كخنجر نافذ وكأنها تعطيه رداَ غير منطوق..
لن تعود.. أبداَ.. لن تعود!
======








مصر.. القاهرة

(لا تتصل بي مرة أخرى.. فيصل عرف كل شيء.. فسدت خطتنا)

يسمعها سيد بصوت ملاذ قبل أن تغلق الاتصال فيطلق صرخة غضب هادرة وهو يتوجه نحو باب بيته يهم بالخروج..
يتوقف قليلاً أمام المرآة وهو يشعر برغبة عارمة في تدميرها..
لماذا يشعر أن قدره يعانده؟!
كل خططه تفشل!
كل شيء يتسرب من يده!
فجر.. المحل.. أمينة.. وأولاده..!!

تدمع عيناه باشتياق يرفض الاعتراف به وهو يتحاشى النظر لغرفة الولدين الخالية خلفه..
يشعر وكأن روحه نفسها تنزف..
لكنه يأبى الاعتراف بهذا!!

يرن هاتفه فينعقد حاجباه وهو يميز رقم أحد تجار الملابس الذين يتعامل معهم بانتظام..
يتنحنح طارداَ لوعة صوته وهو يفتح الاتصال..
ليرد الرجل بحرج :
_كنت أريد إخبارك بشيء ما.. كي لا تعرف من أحد غيري وتلومني!

ينعقد حاجباه بغضب وهو يطلب من الرجل الإفصاح عن الأمر بسرعة.. ليقول الرجل بالمزيد من الحرج :
_أمينة بنت الحاج خضر.
_زوجتي!
يهتف بها سيد دون وعي وكأنما غافله قلبه قبل لسانه..
ليتلعثم الرجل بقوله :
_قالوا لي إنك قد طلقتها.
_ماذا عنها؟! تكلم!
يهتف بها بتحفز عصبي فيرد الرجل بارتباك :
_عمها طلب مني أن تعمل عندي في أحد المحلات.. وأنا وافقت.

_ماذا؟! هل جننت؟! أنت تتحدث عن أمينة؟!!
يصرخ بها سيد بانفعال وهو يغادر البيت ناسياَ ارتداء عباءته في حركة غير مسبوقة..
ليرد الرجل وقد بدا كمن غرق في شبر ماء :
_اهدأ.. لهذا أردت أن أكلمك اولاً.. أنا أعرف بالطبع من هي ومن أبوها.. لكن ما فهمته من عمها أن أباها غاضب منها ويرفض الإنفاق عليها.. وأنت..

يقطع الرجل عبارته بحرج وقد خشي الإفصاح عن المزيد ليزداد غضب سيد وهو يصل لسيارته..
يفتح بابها ليصفقه خلفه بعنف كاد يخلعه وهو يفكر..
إلى هذه الدرجة بلغ عنادها؟!
تتحداه هو وتتحدى أبوها في العودة إليه ولو كان المقابل أن تعمل عملاً بسيطاَ كهذا لدى الغرباء؟!!
آه يا أمينة!
جبارة كنتِ في عطائك..
وأكثر جبروتاَ في عنادك!

_لا تغضب.. عملنا و علاقتنا أهم عندي بالتأكيد من أي شيء.. اليوم اول عمل لها.. سأصرفها بهدوء متعللاً بأي سبب.

_لا!
يقولها سيد بصرامة وهو يفكر قليلاً..
قبل أن يسأل الرجل :
_دعها تعمل ولا تخبرها أنني أعلم .. قل لي أي محل عندك بالضبط؟! قابلني هناك بعد قليل.

يغلق الاتصال مع الرجل ثم يتصل بمكتبه يخبر مساعده عن وجهته قبل ان يتجه نحو المحل المنشود.. أو بالأدق نحوها هي!

وفي مكانها كانت أمينة تتحرك بنشاط وهي تشعر لأول مرة منذ زمن بعيد أنها تتنفس!


خطوة عملها هنا لم تكن سهلة لكن عمها العزيز وبضغط من تغريد وافق على التوسط لها لدى صاحب المحل كي تعمل هنا..


شهادتها متوسطة لا تسمح لها بالحلم بوظيفة مرموقة..
لكنها راضية بأي شيء مقابل الصمود في معركتها وعدم الخضوع لأسرتها كي تعود لسيد من جديد!

ترص الملابس مكانها كما علموها بتلك الرصة الخاصة التي تبرز رسوم الصدر وترتب من الأصغر للأكبر..
تسقط الرصة من يدها فجأة فترتبك وهي تنحني لترتبها من جديد..
ورغماَ عنها تجد نفسها تتذكر فاروق!

تبتسم عفوياَ وهي تهز رأسها!
كعادتها كلما تقع في مأزق يكون هو اول من يرد في خاطرها!
أول اسم يستنجد به عقلها!
لماذا لم تطلب منه المساعدة في أمر العمل هذا إذن؟!
بل أنها حتى لم تخبره بعد!
ربما لأنها تعرف أن أول ما سيعرضه مادامت قد يأست من أهلها وتريد العمل أن تعمل معه في محله هو..
وهي لا تريد ان تخرب علاقته بأسرتها.

تدمع عيناها للحظة وهي تشعر للحظة بهوان حالها..
لكنها تتحسس سلسلة صدرها خلسة وهي تشرد بابتسامة واهنة..


(ماما كانت قد ضيعت قلبها.. وفاروق أرجعه)!

فتتسع ابتسامتها وهي تشعر بانشراح لا تفهم سببه بينما تعود لترص بقية الملابس بنشاط..
_السلام عليكم.

رواية على خد الفجر

19 Oct, 20:56


الشعاع السابع والعشرين
======
العراق.. البصرة

_أين زوجتي؟!

من مكانها خلف الشجرة تسمع ناي صراخه الهادر..
تخاف حتى أن تطل من مكمنها كي تراه ولو من بعيد فيكتشف وجودها..

صوته!
يالله!!
كيف تشتاقه إلى هذا الحد؟!
حتى وهو غاضب هكذا!
اشتاقته بكل حال..
بكل نُسخِه التي تبينتها واحدة واحدة!

يلتزم ابن العم فياض الصمت وهو يتبادل نظرة حاسمة مع زوجته.. ليقول بصرامة :
_لا نعرف عما تتحدث.
تكتم ناي أنفاسها وهي تسمع صرخة الرجل المستنكرة بعدها..
فلا تملك نفسها وهي تطل برأسها قليلاً لترى إلياس وهو يدفعه بعنف قبل أن يندفع داخل البيت.. فيهتف الرجل بحدة :
_من أنت كي تقتحم بيوت الناس هكذا؟! تظننا نعيش في سوق؟! سأتصل بالشرطة!

تدمع عيناها بخوف حقيقي كاد يجمدها مكانها!

هاهي ذي لعنتها تصيب كل من تقترب منه من جديد!!
هل ستؤذي العم فياض وأولاده أيضاَ؟!

وأخيراَ يعود إلياس في مرمى بصرها يتجادل مع الرجل من جديد وقد بدا وجهه محتقناَ بعد فشل سعيه في العثور عليها بالداخل..

_تقول إنك لا تعرف أين هي؟! ماذا تفعل هذه هنا؟!

يصرخ بها إلياس بانفعال جارف وهو يرفع ورقة تحوي رسماَ ما ملوناَ بأتقان..

رسماَ لرجل وامرأة وقد جلسا متجاورين فيما يشبه حقل أقحوان.. ظهراهما فقط واضحان دون ملامح.. المرأة تضع رأسها على كتف الرجل.. ويبدو أنهما ينظران معاَ لبزوغ الفجر..
كان ليبدو الرسم قرينة غير ذات شأن لولا أن كتب أسفله بخط مزخرف (ناي وإلياس)!

_تباَ! وجدها بين أغراضي!

تتمتم بها ناي وهي تسب نفسها سراَ.. تلعن حماقتها التي دفعتها لرسم شيء كهذا لكنها لم تكن تجد ما تواسي به نفسها إلا رسوماَ كهذه!

يزم الرجل شفتيه وقد فقد كلماته.. لكن زوجته تهتف بحمائية :

_لماذا تلومنا نحن؟! انت من ضيعت زوجتك.. لماذا تكترث الآن بمن وجدها!

يُسكت الرجل زوجته بنظرة زاجرة ثم يلتفت نحو إلياس قائلاً بصرامة :
_اسمع.. نحن أناس لا نضيع أماناتنا.. أبي أوصاني بناي.. قال إنها تريد مكاناَ تأمن فيه.. تبتعد فيه عن كل ما يسوءها.. لا يعنيني ماذا فعلت أنت بها.. ما يعنيني أنها هي أرادت الهروب منك.. لهذا..

ينقطع قوله بلكمة إلياس المفاجئة التي أصابت فكه وجعلت ناي تنهار ساقطة مكانها بالمزيد من الخوف..
نسخته (فاقدة السيطرة) هذه تكاد تقتلع قلبها من مكانه!!

لهذه الدرجة هو غاضب منها؟!
لم تره يوماَ بهذه الحال!
كانت تعلم أنه لن يسامحها.. لكن أن ترى اشتعاله العاصف وقد فقد تحكمه المعهود في نفسه هكذا يكاد يقتلها خوفاَ!

_تقصد انك تحمي زوجتي مني؟! جرؤت على قول هذا حقاَ؟!!

صراخه الغاضب يصفع أذنها فتنكمش على نفسها بالمزيد من الخوف..
تنقسم في لحظة لاثنتين :

واحدة قوية شديدة العنفوان بتمردها المعهود تكاد تدفعها لأن تقتحم المشهد بشجاعتها المألوفة.. تقف في وجهه تتلقى تبعات فعلتها..
وأخرى؟!
أخرى!!
أخرى تجبرها أن تنكمش على نفسها في مخبئها.. تخفي رأسها بين ركبتيها.. وكأنها ذات الطفلة التي انقلبت بها السيارة في الحادث منذ سنوات.. دورة خلف دورة.. أصابعها متشنجة.. متكورة.. كأنها لا تزال تمسك نفس التفاحة الملطخة بدم أمها!


هاهي ذي حياتها تنقلب من جديد.. نفس الذعر.. قلة الحيلة.. الأسى على من رحل.. والخوف على من بقي..!

وللأسف تنتصر نسختها المذعورة لتسيطر على كل جوارحها فتنكمش مكانها أكثر عاجزة عن النهوض!



صياح الرجلين يصلها مكانها وقد تشوش في أذنيها مع حالة الانهيار التي أصابتها..
لكنها تنتبه أخيراَ لصراخ إلياس ينضح بتهديده :
_ساعة واحدة وسيملأ رجالي هذه البلدة كلها.. لن يخرج منها أو يدخلها أحد دون علمي.

فتجد قدماها دون وعي تركضان بعيداَ..
دون حتى أن تنظر خلفها ولو لتصبر قلبها بنظرة وداع أخيرة..
فلتهرب!
فلتختفِ من جديد نحو مجهول آخر هذه المرة!
لم تعد تطيق المزيد من كل هذا التعب..
لم تستطع تحمل صراخه الغاضب وهو يعطيها ظهره..
فكيف لو أدمى قلبها بنصال عينيه ؟!
=======




مصر.. الفيوم

_أنت بخير؟!

تسأله فجر بقلق حانٍ وقد جلس جوارها على كراسي الانتظار في رواق المشفى أمام غرفة أمه..
ترفع أناملها تتحسس ملامحه وقد صارت هي طريقتها في قراءة مشاعره..
تلك الخيوط فوق جبينه أكثر تقارباَ..
تلك التجاعيد الخفيفة حول عينيه أكثر كثافة..
شفتاه مزمومتان بما أراده ابتسامة لكنها كانت تشعر بما خلفها من قلق..
كفاه تعانقان راحتيها، يقبلهما بعمق..
أنفاسه تمتزج بأنفاسها مع همسه :

_هل تدركين هذا؟! اليوم قلتِ لأول مرة :(حبنا)!

خدها يصطبغ بحمرة شهية..
لا تدعي صدمتها وهي تتمتم بدهشة مرتبكة :
_حقاَ ؟! قلتها؟!.. تغضب لو قلت إنني لا أتذكر!

ابتسامته تمتزج بتنهيدة وهو يعاود تقبيل كفيها هاتفاَ :
_بل أفرح أكثر! قلبك صار أكثر تواطئاَ مما تخيلت! يجري حكمه على شفتيك دون حتى أن تدركي!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


_أوووه! هل تذكر هذه الحلوى؟! سافرنا يوماَ ما خصيصاَ للبصرة كي نأكلها من ذاك المطعم هناك! لا يصنعها أحدهم أفضل منه! ما رأيك نجربها هنا؟! ثم نسافر هناك لنقارن من جديد؟!

تهتف بها بمرح مع غمزة عابثة لكنها تجده يعقد حاجبيه متمتماَ :
_البصرة!

ترمقه بنظرة متعجبة وهي ترى عينيه تلتمعان فجأة مع لهفة صوته :
_البصرة! كيف لم أنتبه إلا الآن! العم فياض له ولدان في البصرة!

_من العم فياض؟ !
تسأله بدهشة لكنه يهب واقفاَ هاتفاَ بارتباك :
_تذكرت شيئاَ مهما.. اعذريني.. أوصلكِ الآن للبيت فلدي عمل عاجل.

_لكننا وصلنا للتو.. ألا يتأجل ؟!
تهتف بها متذمرة لكنه يهز رأسه بحزم :
_لا يتأجل أبداَ.
========








العراق.. البصرة

تعجل ناي الخطا وهي تعود لبيت ابن العم فياض الذي تقيم فيه مع زوجته واولاده..
لا تستسيغ بقاءها هنا طويلاَ لهذا خرجت تبحث عن بيت آخر..
وجدت عملاَ عبر الانترنت يتيح لها ممارسة شغفها وتلقت أول أجر..
تعرف أنه لن يكفي كل شيء لكنه يصلح كمقدم لدفع إيجار بيت متوسط الحال..
إلى متى ستبقى هاربة؟!
لا تعرف!
كل يوم يزيد صعوبة الجواب على عقلها وقلبها معاَ..
لكن كل ما تشعر به أنها لا تزال عاجزة عن العودة!

تنقطع أفكارها وهي تقترب من حديقة البيت لتتسع عيناها بصدمة مع شهقتها وهي تميز جسده الواقف أمام باب البيت..
إلياس!!
هل هو حقاَ؟!
ولو أخطأته عيناها فهل سيخطئه قلبها ؟!!

تتوقف مكانها وقد تجمدت خطواتها للحظات..
قبل أن تجد نفسها تركض لتختفي خلف جذع شجرة قريبة..
تكتم أنفاسها وهي تتمنى لو لا يراها!
قلبها يكاد يقفز خارج ضلوعها إليه لكنها تقبض كلا كفيها فوقه كأنها تمنعه..
ودون وعي تهمس بخفوت عبر تلاحق أنفاسها :
_ليته يكون حلماَ! ليته لا يكون حقاَ هنا!
ويبدو ان القدر كان يدخر لهما المزيد من المفاجآت!
=======
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


_اوف! لا تذكريني بحال المسكين! المصائب لا تترك رأسه هذه الأيام! ليتكِ كنتِ هنا تساعدينه برأيك.. هو يعتز كثيراَ بصداقتك!

تهتف بها شجون بسذاجتها المعتادة فتتحفز حواس جوليا وهي تدرك أنها أصابت سهماَ فائزاَ بهذه المكالمة..
شجون لا تحتاج مجهوداَ كي تخبرها بكل ما تريد سماعه..
وهاهي ذي تندفع منها المعلومات كصنبور تالف دون سدادة :
_ناي اختفت! لا نجدها في أي مكان! والأسوأ ظهور تلك المرأة حواء! لا تعرفينها؟! كانت حبيبته في الماضي ثم تزوجت وسافرت فجأة مع زوجها.. كلنا كنا نعرف أنها سبب عزوفه عن الزواج قبل أن يهديه الله لناي.. المصيبة أنها عادت بابنه!
_ابنه!!
تصرخ بها جوليا بانفعال مبالغ فيه لترد شجون بأسى :
_مصيبة! أرأيتِ ما هو فيه؟!!

تصمت جوليا قليلاً محاولة استيعاب صدمتها!
كانت تظن ان ناي غريمتها الوحيدة..
لكن ظهور حواء تلك بابنها يبدو لها وكأنه نهاية طريقها مع إلياس!!
لا.. لن تسمح بهذا أبداَ!
إلياس لها!
لها وحدها!
ستزيح من طريقها كل العثرات بداية من ناي ونهاية بحواء تلك!

لهذا تسأل شجون بانفعال:
_هل تأكدتم من أنه حقاَ ابنه؟!

تطلق شجون صيحة مستنكرة دلالة عدم تفكيرها في الأمر..
قبل أن تغمغم بحيرة :
_لا أدري.. لم يخطر الاحتمال ببالي.. هل يغيب هذا عن إدراك إلياس؟!
_حتى لو غاب عن إلياس.. لن يغيب عن يحيى!

تتمتم بها جوليا بذكاء لا ينقصها لتسألها شجون بسذاجة :
_ماذا تقصدين؟! ماله يحيى؟!

لم ترَ التماعة عين جوليا الظافرة ولا ابتسامتها الماكرة وهي تجيب ببساطة :
_لا عليكِ! لا تجعلي القلق يحزن قلبك الجميل.. لعل تشابك الأمور يفك قريباَ.. إلياس لن يعجزه حل أمر كهذا.. ربما أعود في إجازة قريبة.. قولي لي.. ماذا أحضر لكِ من تركيا؟! أعرف أنك مهووسة مثلي بالعطور.. تريدين تجربة أحدثها؟!

ينجح مسعاها وهي ترى شجون بسذاجتها المعهودة تنسى ما كانت تتحدث عنه لتنخرط معها في الحديث عن العطور والموضة قبل أن تغلق معها الاتصال بابتسامة بلهاء.

وفي مكانها كانت جوليا تحك ذقنها بطرف هاتفها تفكر بعمق تتمتم سراَ :
_حواء! لنرَ ما خلفك أنتِ أيضاَ!

تقولها ثم ترفع هاتفها من جديد مردفة بخبث:
_أعرف من سيفيدني هذه المرة.. يظنون أنني بوجودي هنا بعيدة عن الملعب.. لا يعرفون أنني أجيد تصويب الأهداف أينما كنت!
======



مصر.. الفيوم

_انا.. أستسلم!

ينعقد حاجبا حسام بانفعال وهو يحتوي كف فجر بين كفيه..
يتفحص ملامحها المصدومة بإشفاق لكنه يخاطب فيصل بقوله :
_أتفهم موقفك جيداَ.. سأكون..

لكن فجر تسحب كفها منه بقوة.. تبحث بحدسها عن ذراع فيصل وسط الظلمة التي تغشي عينيها..
بل وسط النور الذي يشع بقلبها.. !
وأخيراَ.. تجده!

تتشبث به هاتفة بحرارة :
_وانا لن أستسلم! لو استسلمت أنت أنا لن أستسلم!

يزداد انعقاد حاجبي حسام مع احتقان ملامحه وهو يشعر بخوف غريزي عليها..
يكاد يجذبها بعيداَ عن كل هذا بحمائيته الفطرية لكنه يستجيب لإحساس قلبه فيسكت محترماَ انفعالاتها وهو يراها تتشبث بذراعي فيصل الذي بدا هو الآخر مأخوذاَ بانفعالاتها :


_لن أتركك وحدك.. ولن اسمح لك أن تتركني وحدي.. أعرف لماذا تفعل هذا.. كعادتك تحاول أن تحمي الجميع ولو على حساب نفسك.. لكنني مللت كوني مجرد وزر ثقيل يحمله الجميع على ظهورهم.. وبالذات أنت! أنت لم تتزوج امرأة عاجزة مكانها في الزاوية الآمنة.. أنت تزوجت فجر القاضي!

تتسع عينا حسام بصدمة وكأنه لتوه يشهد معجزة!
ابتسامة فخورة تفر من بين شفتيه وهو يشعر أنه لأول مرة يرى فجر الحقيقية التي افتقدها!
فجر القديمة ذات العنفوان المتمرد والبعيدة تماماَ عن صورتها الخانعة الباهتة بعد الحادث!

بينما لم يكن فيصل أقل منه صدمة وهو يعانق ملامحها بعينيه العاصفتين..
_فجر القاضي.

يتمتم بها بخفوت في نبرة متجانسة بين عاطفته وخوفه..
فتهز رأسها الذي ترفعه مردفة بصوت متهدج :


_تقول أنك استسلمت؟! أما أنا فلن أستسلم بعد الآن أبداَ.. أنت علمتني الا أفعل! تقول إنك استسلمت؟! هذه حرب لا استسلام فيها.. إما نصر وحياة أو هزيمة وموت.. وحبنا لا يليق به موت ولا هزيمة.. تقول إنك استسلمت؟! دعني إذن أكون آخر جندي متمرد في جيشك! يرفع الراية حتى وإن نكستها انت لأنك كنت قدوته في هذا وإن نسيت!

يتراجع حسام للخلف تاركاَ لهما حرية الحديث وقد شعر باطمئنان غريب على فجر جعله يفسح لها مجال الحرية..
بينما تدمع عينا فيصل مع تلاحق أنفاسه الهادرة وهو يضغط كفيها بقوة بين كفيه..
صمتٌ قصير يلفهما قبل أن يصلها همسه :
_افتقدتك..



تهز رأسها بتساؤل وقد بدا لها رده غريباَ لكنه يضمها لصدره بقوة مردفاَ في أذنها بحرارة دافقة :
_افتقدتك كثيراَ.. يا فجر القاضي!

ابتسامة واهنة تتوج شفتيها وهي تشعر به يبعدها..
يحتوي وجهها بين راحتيه هامساَ :
_آسف.. من اليوم لن أستسلم من جديد ابداَ.. لن نستسلم معاَ أبداَ.

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


لم تكن تبصر شيئاَ لكنها تشعر أنها ترى كل شيء!
أساور تجلس جوارها تمسك كفها بقوة وهما تنتظران في رواق المشفى..
حسام يمسك كفها الآخر.. لكنها تشعر أن برد كفها لا يطفئه ألا دفئه هو!
ربما لهذا السبب تسحب كفيها منهما..
وربما لسبب آخر!
أنها شعرت بهما الآن قد عادتا ملطختين بالدم!

لا..
لا..
لن تسقط في هذه الهوة من جديد!

هو الأن يحتاجها!
حقاَ؟!
ألا يحتمل أن ابتعادها الآن عن حياته هو الحل؟!
هي أكثر من تعرف كم هو مرتبط بأمه!
أمه التي سقطت لتوها..
الطبيب يقول إن قلبها مريض لكنها تعلم أنها هي.. هي علّة قلبها الحقيقية!

_فيصل؟!.. أين فيصل؟!

صوتها المبحوح يفضح رهبة قلبها في هذه اللحظة.. فيصلها صوت حسام المفعم بضيقه:
_واقف على باب غرفة أمه المغلق.. وضعوها تحت الملاحظة..
يقولها ثم يضمها إليه بقوة حانية مردفاَ :
_اسمعي! لا تحملي نفسك ذنب هذا أيضاَ! هو ذنب تلك الغبية ابنة خالته.. أنا اوقن أنها هي من خلف المصيبة الأخيرة تلك.. كل ما حدث وسيحدث لأمه من تحت رأسها! انتِ لا ذنب لك في كل هذا فلا تدخلي وسط هذه الدائرة من جديد!

تهز رأسها بعدم اقتناع مع همسها الراجي:
_خذني لفيصل.

يتردد قليلاً لكنه يمتثل لأمرها في النهاية وهو يمسك كفها ليتحرك بها..

وفي مكانه كان فيصل يقف على باب الغرفة وقلبه يكاد يحترق بين ضلوعه..
كفاه متشبثتان بالباب المغلق كأنه يخشى لو افلتهما ان يفلت معهما أمله بعودة أمه..

_هل ستموت خالتي معالي كأمي؟! هل يستحق حبك العظيم هذا أن ندفع ثمناَ كهذا؟!

يسمعها من خلفه بصوت ملاذ الباكي لكنه لا يجد الطاقة ليلتفت..
رأسه منكس مستند على الباب بعجز..
قلبه يتفتت لشظايا!

يشعر بخطوات ملاذ تبتعد ساحبة معها شهقات دموعها وتاركة له أثرها!
هل أخطأ الحسابات حقاَ هذه المرة؟!
هل آذى الجميع دون أن يشعر؟!
هل أخطأ عندما لبى نداء قلبه رغم كل الظروف؟!
والنتيجة..
ماتت خالته متأثرة بصدمتها!
جنت ملاذ وأشاعت عليهما تلك الإشاعة الفاحشة !
تعرضت فجر لتلك الخطة الدنيئة من سيد الذي لم يكتفِ بأنه كاد يختطفها بل وكاد يجعلها تخسر ثقتها فيه هو بادعائه الكاذب عن طمعه في مالها!
ماذا لو صدقت فجر افتراءه؟!
ماذا لو انتكست حالتها أكثر وفقدت يقينها بعده في نفسها وفي الناس؟!
ماذا لو آذاها قربه بأكثر مما نفعها؟!
هو آذى الجميع حقاَ..
وآخرهم أمه!
أمه التي لا يذكر أنه أغضبها يوماَ ما في حياته هاهي ذي ترقد بين الحياة والموت بسببه!
هو من فتح كل أبواب الحرب هذه!
هو أول جاني وأول ضحية!

يشعر بكفها الرقيق على كتفه فيغمض عينيه بقوة دون أن يلتفت!
فجر!
من سواها يستجيب لحضورها القلب بكل عنفوان دقاته حتى وإن لم يرها بعينيه؟!

_كل هذا بسببي.. أنا آسفة.
تهمس بها بصوت متهدج لتشعر به يلتفت أخيراَ، يحتوي كفها بين راحتيه..
ولأول مرة تسمع صوته بهذا الانكسار المهزوم :
_بل أنا الآسف.. أنا المخطئ..آذيت الجميع دون ان أشعر.

ينزوي قلبها بين ضلوعها بخوف رهيب وهي تشعر أن روحه نفسها تحتضر..
كفاه يرتعشان على كفها فتتذكر يوم قال إن كفيه لا يرتجفان إلا عندما يخاف عليها!
تشعر به يتحرك معها نحو حسام فتستجيب لخطواته ببطء وهي تشعر بكفيه تتشبثان بكفها أكثر..
وترتجفان أكثر وأكثر!

يرمقه حسام بنظرة مشفقة مقدراَ أثر كل هذه الضغوط عليه..
فيرفع إليه عينيه قائلاَ بنبرة ميتة :
_يبدو انني خضت حرباَ أكبر مني..

تكتم فجر شهقتها وهي تشعر به يترك كفها أخيراَ ليضعه في كف حسام مردفاَ وكأنه يلفظ روحه مع كلماته :
_ابتعد بها من هنا.. خذها بعيداَ عن كل هذا.. لم أستطع حمايتها كما وعدت.. أنا.. أنا أستسلم!
======








العراق.. بغداد

في حديقة بيت الأمين تسير شجون مكفهرة الوجه..
تفتقد وجود طيف كي تثرثر معها أو حتى تتشاجر!
رأسها يكاد ينفجر من هول ما عرفت!

ناي هربت!
حواء عادت!
ليست وحدها بل بطفل لإلياس!
كارثة!
كيف سيواجه العائلة بخبر كهذا؟!
بل كيف سيواجه الناس؟!
تنقطع أفكارها برنين هاتفها فينعقد حاجباها وهي تميز رقماَ غريبا..
بداية الرقم تشير أنه من تركيا!
من سيتصل بها من تركيا؟!
لعلها سراب!
سافرت في رحلة مع زوجها!

تفتح الاتصال بلهفة ليصلها صوت جوليا الناعم :
_(شوشو) الغالية.. افتقدتك!

تبتسم بسذاجتها الطيبة وهي تميز لفظ التدليل الذي تخصها به جوليا والذي تحبه هي لأنه يشعرها بالصغر في السن..

_جوليا! كيف حالك؟!
تهتف بها بمودة حقيقية لترد جوليا بدلال:
_عرفتِ صوتي!
_حتى لو لم أميز رنة صوتك المميزة.. لا يناديني أحد (شوشو) إلا أنتِ!
ضحكة جوليا المرحة تنجح في تبديل مزاجها، لكنها تسألها عاتبة:
_لماذا لم تودعيني قبل سفرك؟! فوجئت بالخبر من إلياس.

يهيأ إليها أن صوت جوليا قد غص بمرارة غاضبة بعد صمت قصير لترد أخيراَ بمرح مصطنع:
_تصدقينني لو قلت لك أنني أنا الأخرى قد فوجئت! تعرفين مفاجآت إلياس!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


تتسع ابتسامتها المرتجفة وهي تود لو ترى نظرته الفخورة بها هذه المرة..
تود لو تصرخ به أنها لا تريد بعد الآن ان تكون كفها فارغة..
مبسوطة دوماَ في وضع الأخذ..
بل في وضع العطاء!
ربما.. ربما ساعتها لا تراها ملطخة بالدم!

تنقطع أفكارها وهي تسمع صوت باب الغرفة يفتح فتتحفز حواسها وهي تشعر بفيصل يضغط كفها دون وعي كأنه يستمد منها قوته في هذه اللحظة التي خرج فيها الأطباء من غرفة معالي..
لينشرح صدرها وهي تسمعهم يعلنون الخبر السار أنها تجاوزت مرحلة الخطر..
======






مصر.. الفيوم

تحت أحد الأشجار في حديقة المشفى تقف حنان منكمشة على نفسها، تعطي وجهها لجذع الشجرة دافنة رأسها بين كفيها كأنها تخفي نفسها عن العالم!
خائفة..
خائفة حد الرعب!
كل ما حدث في الآونة الأخيرة يتراكم فوق صدرها بثقل لم تعد تحتمله..
تعنت أمها.. موت خالتها.. غباء ملاذ وشناعة أفعالها مؤخراَ..
كل هذا في كفة.. وسقوط معالي الآن في كفة وحده!
رغم قسوة معالي الظاهرة لكنها لا تنكر أن أمها في عينيها هي عمود هذه الدنيا كلها.. لو سقطت يسقط كل شيء!
منذ وعت على هذه الدنيا وهي تكاد توقن أن أمها لا تسقط ابداَ..
تحزن كالأخرين.. تمرض كالآخرين.. وتخاف كالآخرين.. لكنها لا تظهر هذا أبداَ للآخرين!
كل هذا يتوارى دوماَ خلف رأسها المرفوع وجسدها الشامخ الذي لا يهتز!
الجسد الذي يسقط الآن أخيراَ!
والأسوأ أنها ترى في ما حدث خطراَ يهدد حب فيصل وفجر!
حبهما الذي صار في عينيها انعكاساَ لقصتها هي!
لو نجحا هما فسيعني هذا لها بعض الأمل أن تنجح هي الأخرى مع سراج!

_لا تبكي.

تشهق للمفاجأة وهي تلتفت خلفها لتراه..
هو؟!
هو هنا حقاَ؟!
أم أنها تتخيله؟!
سراج!
تهمس باسمه بذهول لا تصدق أنه هنا..
قلبها يخفق بجنون عاطفته لكن خوفها يسبق عشقها في موقف كهذا فتتلفت حولها برهبة خشية أن يراهما أحد..
لكن الظلمة النسبية للمكان تضمن لهما عزلة عن العيون فتتنهد بحرارة وهي تبسط كفها على صدرها..

_ستكون بخير.. لا يذيقك الله هذا الهم أبداَ!

صوته الخشن بطبيعته يكتسي بألم هي خير من تدرك سببه!
ماتت أمه وهو في السجن!
لم يستطع توديعها كما ينبغي..
والأقسى أنه يحمل نفسه مسئولية هذا كله!
يزداد الثقل على قلبها بل وجسدها فتترنح مكانها لتستند بكفها على جذع الشجرة..
يصلها صوته القلق مفعماَ بعاطفته :
_أحضر لكِ شيئاَ؟! ماء؟! عصائر؟! تناولتِ أي طعام؟!

تهز رأسها نفياَ وهي تستجيب لرغبتها في الجلوس على الأرض مستندة على جذع الشجرة..
دموعها تغرق وجهها وهي تتمتم بين شهقات بكائها :
_لا أدري لماذا يحدث كل هذا! لماذا يجب أن يدفع الواحد ثمناَ باهظاَ كهذا لمجرد أن ينتصر حب له كل هذا الرصيد من السنوات؟! فيصل لم يطلب شيئاَ كثيراَ.. كل ما طلبه أن يدعم المرأة التي يحبها حتى يصل بها لبر الأمان.. أن يعوض صبره على فراقها طوال هذه السنوات! لماذا تحاربه الدنيا هكذا؟! لماذا تختبره الحياة في أعز من لديه؟!

يتردد قليلاً وهو يعاود النظر حوله مستكشفاَ يخاف أن يراهما أحد..
كل نداءات العقل تستحثه أن يتركها الآن ويرحل..
هو دوماَ يستجيب لنداء العقل..
طمر قلبه تحت ركام خساراته منذ زمن بعيد!
وبالذات فيما يخصها هي!
لكنه الآن لا يمكنها تركها وحدها!
ليس وهو يدرك مدى خوفها وقلقها على أمها!

لهذا يجد نفسه يجلس جوارها محافظاَ على مسافة مناسبة..


_ليس غريباَ! دوماَ تختبرنا الحياة في أعز من نملك! اختبارات كهذه لا ينجو منها إلا من صفا قلبه.. أعرف كم تتألمين.. كم تخافين.. لكنني لا أجد ما أواسيكِ به إلا أن أقول إن كل سفينة تجد مرساها في النهاية مهما علا الموج.
_بعض السفن تغرق!


_حتى الغرق أحياناَ يكون نجاة.. رحمة من انتظار الهلاك!

يبدو لها يائساَ أكثر منها رغم ما يحاول أن يبثه فيها من أمل..
فترمقه بنظرة مختلسة وهي لا تزال لا تصدق حقيقة أنه هنا معها..
_كيف عرفت أنني هنا؟!

_ألا تعرفين مكانة أمك وشقيقك في البلد؟! الناس كلهم يتكلمون عن وعكتها ودخولها المشفى ويتمنون لها الشفاء!

يقولها بصدق مس قلبها فتتنهد بحرارة قبل أن تنتبه لجلستهما فتشهق وهي تحاول النهوض بسرعة لكنها تتعثر في طرف ثوبها فيقف بدوره ليمسك كفها كي يسندها..

تحمر وجنتاها بخجل وهي تشعر لأول مرة بقربها الحقيقي منه..
لن تكذب فتدعي أنه يوماَ ما كان بعيداَ!
من يسكن القلب والحلم طوال هذه السنوات ليس أبداَ ببعيد!

بينما لم يكن هو أفضل منها حالاَ وهو يشعر بخفقات قلبه تتجاوز حد الجنون!
هي!
هي ثمرته المحرمة التي لن ينالها أبدا جزاء خطيئته!
فلتبقَ كما هي.. نجمة بعيدة في السماء لا يمكنه إلا أن ينظر إليها على استحياء حتى يؤلمه عنقه فيضطر لأن يحني رأسه!

_زكي! كيف صار حاله الآن؟! تعافت إصابته؟!

تسأله محاولة الهرب من مشاعرها ليرد دون ان يحيد ببصره عن عينيها كأنه يخشى لو أسدل جفنيه أن تختفي كحلم :
_صار بخير.. اطمئني.. يرسل لكِ سلامه.. و.. هذا..

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


تقولها بعمق عاطفتها وهي تضم الرضيع إليها فيبتسم إبراهيم وهو يقبل رأسها قائلاً بمرح ساخر :
_موضوع الرائحة هذا سيصيبك بالجنون يوماَ ما! غداَ تقولين :(إبراهيم قال!)

فتضحك وهي تعاود إغراق الرضيع بقبلاتها هاتفة:
_مرحبا بجنون كهذا! الف مرحباَ!

ثم تخاطب ابنها كانه يفهمها :
_رضعت وشبعت واستحممت ولبست الطاقم الجديد.. ننزل ل(جدو ربيع)! لعله افتقدنا!

_ابي ليس وحده.. عنده ضيف.
يقولها إبراهيم وهو يتم ارتداء ملابسه استعداداَ للخروج فتسأله :
_من؟!
_لا أظنكِ تعرفينه! فاروق.. صاحب محل تأجير فساتين الزفاف الذي في طرف الشارع!

تلتمع عيناها بلهفة غامضة لكنها تكتم ابتسامتها وهي تتصنع آهة استدراك :
_أظنني أعرفه.. ما الذي يريده من أبي؟!

يبدو غافلاً عن فضولها وهو يرد ببساطة :
_يريد وساطته لدى الحاج خضر أبو أمينة.. تعرفينه! بيته يجاور بيت هبة.

من جديد تكتم ابتسامتها وهي تقول بدهشة :
_ما اعرفه أن الحاج خضر هو أبوه! لماذا يريد وساطة أبي لدى أبيه؟!

فيتنهد إبراهيم ليقول بأسف :
_اولاَ هو ليس أباه بالضبط.. الحاج خضر رباه لقيطاَ فلم نعرف له نسباَ.. طوال هذه السنوات وهو يعامله بحب كانه أخو ابنته أمينة تماماَ.. ثانيا هو يريد وساطة ابي لأجل أمينة نفسها!

يبدو الاهتمام على ملامحها وهي تقترب منه فيردف إبراهيم :
_أبو أمينة يضغط عليها للعودة لزوجها.. والمراة رافضة.. لهذا طردها من بيته ويقول إنه قد تبرأ منها.. لا أعرف أي أب هذا! أستغفر الله العظيم.. لا اريد اغتيابه.
_أي اب هذا؟!

تتمتم بها يسرا بحسرة خفية وهي تتذكر معاناتها الخاصة..
ويبدو انه تدارك هذا.. ليردف باقتضاب :
_لهذا يريد وساطة ابي لدى الرجل.. تعرفين ان جميع أهل الحي يقدرون كلمة أبي.

_أبقاه الله للجميع.
تقولها بفخر ممتن فيقبل رأسها يسألها :
_تريدين شيئاَ قبل ذهابي للعمل؟!
_سلامتك.

تودعه بحرارة حتى باب البيت ولم يكد يغادرها ببضع دقائق حتى يرن جرس الباب..
فتبتسم وهي تدرك هوية الطارقة قبل أن تفتح الباب لتجد سندس تهمس بخفوت وهي تغلق الباب خلفها :
_عرفت من هنا عندكم؟!

تضحك يسرا وهي تلاعب ابنها هاتفة :

_عرفت! ومنعت نفسي بالكاد ان أفضحك امام إبراهيم!

_ما الذي يفعله فاروق عندكم؟! بالله قولي! هل يخطب هبة؟!
تسأل سندس بقلق فتضحك يسرا هاتفة :
_يالله! دماغك صار لا يحوي شيئاَ إلا الزواج! تعقلي يا بنت!

_إذن ماذا يريد؟!
_وساطة أبي ربيع لدى الحاج أبو امينة.. يقنعه بخطأ موقفه كي تعود المرأة المسكينة لبيت أبيها.

_آآآه! كيف غاب هذا عن بالي! هذا الرجل غريب جداَ!
تقولها سندس باستدراك قبل ان تلكز يسرا كتفاَ بكتف هاتفة بغمزة عابثة:
_رأيتِ شهامته ؟! ألا يستحق ؟!

فتطلق يسرا ضحكة متهكمة وهي تميل رأسها :
_يستحق لقب (معشوق الشهر)! ألا تبدلينهم أنتِ كل شهر واحد؟!

تطقطق سندس شفتيها وهي تحك رأسها قائلة :
_العالم كله يمشي بنظام الخطط البديلة.. وبصراحة قائمتي تحوي ثلاثة هذه الأيام أفاضل بينهم.. فاروق وذاك الطبيب الشاب الذي أجر عيادته في اول الحي.. وأخو صديقة لي تعرفت عليها في الدار خاصتك.

_اتقي الله يا شيخة! أنا فتحت الدار للأعمال الخيرية أم لاصطياد خُطّابك؟!
تهتف بها يسرا باستنكار فترد سندس بشقاوتها المعهودة :
_وهو الزواج ليس فعل خير؟! إنه اسمى أفعال الخير!

تضحك يسرا وهي تتحرك لتجلس بالصغير فتهتف سندس وهي تجلس جوارها :
_أنا فيّ شيئ لله! بالأمس كلمت (مستر ربيع) وطلبت منه ان يكلم فاروق بشاني!

_آه يا مجنونة! عمّ يكلمه؟!
تهتف بها يسرا باستنكار لتقهقه سندس هاتفة :
_لا تتعجلي! بالطبع ليس بشان الزواج.. ولو ان أتمنى..

ثم ترفع ذراعيها بوضع الدعاء (العقبي له يارب!)

فتضحك يسرا وهي تخبطها على مؤخرة رأسها بينما تردف سندس بهيام مصطنع:
_بشان العمل معه في المحل.. محل تأجير فساتين زفاف.. أي مكان انسب من هذا لتندلع شرارة الحب الأولى بيننا؟!

_وهل ينقصك العمل؟! انت تعملين في الدار!
تقولها يسرا باستنكار فتهتف الفتاة بمرح :
_وهل يعارض هذا ذاك؟! (الرزق يحب الخفيّة)!

_أي رزق بالضبط؟!
تهتف بها يسرا باستنكار يائس وهي تهز رأسها فتضحك سندس هاتفة بخجل مصطنع:
_لا تخجليني!

_(والشهادة لله أنت وش كسوف قوي!)
تهتف بها يسرا مع مطة شفتيها لتلوح بسبابتها في وجهها هاتفة بنبرة تحذير :
_اسمعي! انا أحتمل حماقاتك كلها! لكن لا تدخلي أبي في شأن كهذا.. والله يا سندس لو صغرتِ رأسه بعدما توسط لك في العمل لدى ذاك الرجل باي فعل فستكون قطيعة بيننا!

_لا.. لا.. وهل اقدر؟! أعدك أن أتعقل وأصبر.. حتى يحط الطير من تلقاء نفسه على كتفي!

تهتف بها سندس بتهذيب مصطنع فتتنهد يسرا بيأس لتقول في محاولة اخيرة لإثنائها :
_لا ادري سبب عجلتك على الزواج هذه!

_خير البر عاجله يا يسرا هانم! والبنات ليس لها إلا الستر!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


تلتفت حيث يستخرج وشاحها هي القطني الذي كانت قد تركته له كي يضمد جرح زكي في لقائهما الأخير..
لترتسم ابتسامة واهنة على شفتيها..
ابتسامة يختض معها قلبها وهي ترفع عينيها إليه..
حديث العيون يطول وإن خرست الألسنة..
حتى أن أحداَ منهم لم ينتبه أن دفء كف كل منهما لا يزال ينبض في كف الآخر!
وكلاهما يقبض بكفه الحر على الوشاح الذي بدا كطير عشق يحلق بينهما..
يتذكر ما قالته له في آخر لقاء..

(أنا لست كالآخرين.. أنا أعرف جيداً من تكون)

وأخيراَ يجد كلماته.. لا يرتبها.. لا يعقلها..
يتركها يخرج كما هي لا من لسانه لأذنيها بل من قلبه لقلبها..
خشونة صوته المجروح تمتزج بلين عاطفة حارة :
_ائذني لي ان أحتفظ به.. ليست المرة الأولى التي أحتفظ بها بذكرى منكِ لو تعلمين.. لو شُقّ صدري لوجدتِ داخله الكثير من بقايا تركتِها خلفك .. لكنها ستكون أول شيء يمكنني لمسه.. ربما ستكون آخر مرة يمكنني فيها الاقتراب منكِ هكذا.. دعيه لي فقط كي يذكرني أنكِ يوماَ ما كنت بهذا القرب.

تدمع عيناها بتأثر وهي تود لو تصارحه أنها تشاركه كل هذه المشاعر من سنوات..
أنها مثله تتمنى لو يكون لها منه تذكار ملموس يجعلها تصدق كل هذا الذي تسمعه..

لكنها تراه يترك كفها فتنتبه فجأة أن يدها كانت أسيرة دفئه كل هذا الوقت..
عيناه تكرران طلبه بنظرة مستئذنة..
فتومئ برأسها وعيناها تمنحانه أصدق جواب عن سؤال لم يكن يحتاج لطرحه..
أميرته ساكنة البرج البعيد تبادله مشاعره..
لكنه لم يعد الفارس ذا الدرع الذهبي الذي ينفش صدره بخيلاء فاتحاَ قلعتها..
بل مجرد متسكع حولها لا يناله إلا نظرة مختلسة منها!
هزمته خطيئته وسقط سيفه من أول المعركة!

يخفي وشاحها من جديد في جيب سترته.. خشونة صوته تزداد كأنه يحارب بها نفسه في هذه اللحظة :
_عودي الآن كي لا يفتقدك أحد.. لا ينبغي أن يرانا أحد معنا.. لكن عديني الا تستسلمي لحزنك..

تهم بقول شيء ما لكن..

_حنان! ما الذي تفعلينه مع هذا الرجل؟!

صوت فيصل الغاضب يقطع الصمت حولهما وينتزع منها شهقة عنيفة شحبت معها ملامحها..
بينما ينعقد حاجبا سراج وهو يحاول حمايتها بقوله :
_أنا استوقفتها للسؤال عن شيء ما هنا في المشفى!

لكن فيصل يندفع نحوهما كقذيفة ليجذب سراج من ملابسه هاتفاَ بحدة غريبة على طبعه الحليم :
_لا تكذب! أنا رأيتك تمسك كفها! من أنت؟! وما الذي تفعله مع أختى؟!

_اتركه! ارجوك يا فيصل! سأشرح لك فيما بعد!
تهتف بها حنان برجاء وسط شهقات دموعها لكن فيصل يتفرس في ملامح سراج قليلاً ليهتف أخيراَ :
_تذكرتك! ألست انت ذاك الذي كان محبوساَ في قضية سرقة منذ عدة سنوات؟! كنتم جيراننا قبل هذا الحادث! اسمك سراج صحيح؟!



تشحب ملامح حنان وهي لا تزال تحاول أن تبعد فيصل عن سراج قبل ان يتحول الأمر لفضيحة..
بينما يخلص سراج نفسه من قبضتي فيصل.. خشونة صوته تتأرجح بين انكسار وكبرياء عزيز قوم ذل :
_اطمئن! لن أعترض طريقها بعد الآن.
_إياك حتى أن تفكر!



يهتف بها فيصل وهو يلوح بسبابته في وجهه وقد احمر وجهه بغضب.. يكز على أسنانه وقد بدا انه يبذول مجهوداَ مضاعفاَ لكظم غضبه:
_احمد ربنا أنني منشغل بمرض أمي ولا أريد فضيحة تتسبب في نكستها وإلا كنت..

_فيصل! يكفي هذا القدر..أرجوك.. ارجوك دعه يرحل.


تهتف بها حنان باكية وهي تشد ذراع أخيها بينما ينكس سراج رأسه قبل أن يغادرهما بخطوات مندفعة..

يلتفت نحوها فيصل يرمقها بنظرة مصدومة بين غضب وإشفاق..
_هذا! هذا إذن سبب رفضك لكل عروض الزواج التي تأتيكِ! أنتِ.. أنتِ خذلتِ نفسكِ قبل أن تخذليني!

لكنها تمسح دموعها هاتفة :
_انا لم أفعل ما يشين.. إنها تكاد تكون المرة الأولى التي أقابله فيها هكذا.. صدقني والله أنا لم..

لكنه يقاطعها بقوله الصارم ملوحاَ بكفه في وجهها:
_ليس هذا وقته ولا مكانه..نتكلم فيما بعد.. كنت أبحث عنكِ لأخبركِ فقط أن أمي قد أفاقت.
_حقاَ ؟!
تهتف بها بلهفة متأملة أنستها حزنها مؤقتاَ وهي تركض من أمامه ذاهبة لأمها..
بينما يزداد انعقاد حاجبيه وهو يرمق ظهرها المنصرف بنظرة غاضبة اتشحت بحسرتها :
_ليتني أكذّب عينيّ! ليتكِ لا تكوني حقاَ عاشقة لذاك الرجل! ستسقط أمي حقاَ هذه المرة ولن تقوم بعدها أبداَ!
======





مصر.. القاهرة

_هيا! خذ هذا وعلقه في مرآة سيارتك!

تهتف بها يسرا بمرح فيضحك إبراهيم وهو يتناول منها ما يصلح لأن يكون سلسلة لمرآة سيارته لولا أنه يتدلى منها جورب طفل..!

_براءة اختراع لأول ام تجعل من جوارب ابنها سلسلة لمرآة السيارة!


يقولها ضاحكاَ فتهتف به وهي تحمل حسن الصغير تغرق وجهه بالقبلات :
_هو ليس أي ابن! هو حسن إبراهيم ربيع!

تقولها مفخمة صوتها بعظمة فتعلو ضحكاته أكثر وهو يراها تدغدغ بطن الصغير بفمها فتدوي ضحكاته الرنانة الطفولية هو الآخر..

_رائحته ليست كاي رائحة.. لهذا اتمنى لو احملها معي لكل مكان.. جواربه صغرت عليه.. لم يطاوعني قلبي ان ارميها.. ففكرت في هذه الفكرة!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


تهتف بها بتحفز وهي تكتف ساعديها فيمسك الملعقة، يتصنع ارتجافة يده حتى تسقط الملعقة في الطبق..
يكتم ابتسامته الظافرة وهو يراها تقترب منه..
يتحاشى النظر نحوها ينتظر أن تجلس جواره كي تطعمه بنفسها..
لكنها تعتصر أذنه بقوة تجعله يتأوه حقيقة لا تصنعاَ مع هتافها الساخط:
_(شغل الدحلبة) هذا لم يعد يؤثر فيّ! (اتنيّل كُلْ)!

يسمعان صوت طرقات على باب الغرفة فيلتفتان نحوه لتدخل ممرضة شابة مبهرة الجمال، تتوجه نحو نزار باهتمام مع تحية عابرة لحسناء..
تسأل الأول باهتمام :
_لماذا كنت تصرخ؟! ما الذي يوجعك؟!


يشتعل وجه حسناء بغيرة واضحة وقد تحفز (رادار) أنوثتها بينما يختلس نزار نظرة جانبية نحوها وهو يرد بهدوئه المرح :
_لا تهتمي! أنا بخير.
_لماذا لم تتناول طعامك؟!

تسأله الممرضة بحذر وقد شعرت بذبذبات توتر في الغرفة.. فيرد نزار بمسكنة :
_لم أستطع تناوله وحدي.


ترفع الممرضة نظراتها لحسناء بتساؤل فتهز حسناء رأسها بحركة عنيفة حادة هاتفة:
_لا تنظري إليّ! لو كنتِ تشفقين عليه يا حبيبتي أطعميه أنتِ!

تتنحنح الممرضة بحرج وهي تضطر لفعلها فتكز حسناء على أسنانها وهي تراقبهما للحظات قبل أن تعطيهما ظهرها لتتوجه نحو نافذة الغرفة..


تحاول التظاهر بمراقبة حديقة المشفى لكنها بدت وكأنها نبتت لها عين خلفية..
عين خلفية تراقبهما بتحفز وتشتعل الآن بجنون!!

والآن لم تعد تحتمل أكثر!!

_هاتي! هاتي! هل ستستغرقين ساعة كاملة كي تطعميه؟! قومي واهتمي ببقية عملك.. أنا سأطعمه.


تهتف بها بانفعال وهي تتوجه نحوهما، ذراعها تكاد تنتزع المرأة من كتفها وهي تتناول منها الطبق..
فينعقد حاجبا الممرضة بدهشة غاضبة لكن نزار يبتسم بخبث قائلاً لها:
_لا بأس! زوجتي صعبة المراس قليلاً.. وقلقها عليّ يزيد عصبيتها! هي تحبني جداَ!

تهز الممرضة كتفيها ثم تغادر الغرفة لتغلق بابها خلفها ولم تكد تفعل حتى تناوله حسناء الطبق بعنف كاد يسقط محتوياته فوقه هاتفة بسخط:
_كل بنفسك!
_لكنك قلتِ أنك ستطعمينني! افعليها أو ناديها هي كي تفعل!

تشده من قميص المشفى بقوة تستجلب آهة ألم حقيقية يكتمها ضاحكاَ وهو يراها تهمس من بين أسنانها :
_لا تختبر صبري أكثر! (اتنيّل كُلْ)!
_تغارين؟!


يتراقص معها حاجباه بمشاكسته المعهودة رغم الحزن النابض في عينيه..
فتتأفف هاتفة بسخط:
_يا حسرة! على ماذا وعلى من ؟! (ايش ياخد الريح من البلاط؟!!)

_بلاط؟! هل صرت بلاط؟!!
يمط بها شفتيه باستياء فتكرر بنبرة أكثر حدة :
_(اتنيل كُلْ)!

يكتم ضحكته وهو يعانق هذا الألق الدافئ في عينيها يمنحه بعض الأمل..
يمسك الملعقة بنفسه أخيراَ ليهمس باستسلام :
_حاضر! (هاتنيّل)!
=======





العراق.. بغداد

تستقل سيارته جواره لترمق جانب وجهه بالكثير من الرضا عن هذا القلق الغامر في عينيه نحو داوود.. بينما يتمتم باهتمام حانٍ دون ان ينظر إليها :


_هل سيكون بخير؟! هل الأمر سيكون حقاَ بهذا السوء الذي تحكي عنه شجون؟! أعرف أنها تبالغ أحياناَ.. لكن.. هل يمكن أن يكون حقاَ خائفاَ وغاضباَ لهذا الحد؟!

_لا تقلق.. أنا هاتفته وطمأنته مؤقتاَ.. داوود يشبهني كثيراَ في طباعه.. انفعالاته جامحة منطلقة..
_وانا؟! ألم تلاحظي أنه قد ورث شيئاَ من طباعي؟! لاحظت أنه يشبهك تماماَ.. لكنني عجزت أن أجد لي شبهاَ في ملامحه!


تزدرد ريقها بتوتر نجحت في إخفائه..
توتر امتزج بحزن حقيقي جعل أحشاءها تتلوى وهي ترد :
_طوال هذه السنوات وأنا أتحاشى التفكير في هذا كي لا يغص قلبي بمرارته أكثر.. لكنني ما تمنيت شيئاَ أكثر من أن يشبهك ابننا في كل شيء.. رغم غضبي مما ظننته خذلانك ما اشتهيت أملاً أكبر من أن أحتفظ بنسخة منك تذكرني بماضينا معاَ..

الدموع تملأ عينيها صادقة وقد أصرت رغم كل شيء أن تختار كلماتها جيداَ كي لا تكذب في شأن كهذا.. وإن كذبت في كل شيء سواه!

تتحسس بطنها برفق عدة مرات كأنها تعتذر ل(قبر) ابنها الميت..
أجل.. طالما ظنت أن له قبران.. أحدهما تحت التراب والآخر سيبقى هنا.. داخلها.. بين بطنها وقلبها.. يذكرها بأنقى خساراتها.. وأعظمها!

_سأعوضه عن كل شيء.. لن أدعه يعيش الخوف والقلق لحظة واحدة بعد الآن.
يقولها حاسماَ فتسأله وهي تعانق كفه براحتها :
_هل فكرت ماذا ستفعل بشأننا؟!

يلتفت نحوها لتشتد ملامحه بجوابه :
_لا أعرف الآن إلا شيء واحد.. أنني لن أتخلى عنكما أبداَ.

تتنهد بارتياح غامر كسا ملامحها وجعلها تشد قبضتها على كفه أكثر..
تتأمل ملامحه بعينين عاشقتين تعيدانه لعهدهما القديم..
ورغماَ عنه يشعر أنه يتوه في دوامة نظراتها من جديد..
لا ينكر أن جزءاَ منه ينجذب بمغناطيس غير مرئي نحوها..
كأنها تعيد له شيئاَ كان له يوماَ.. وضاع!
بل كأنها تعيده هو نفسه لأرض كان ينتمي إليها..!

صوت بوق سيارة ينبهه للطريق فينتبه أنه كاد يتعرض لحادث قبل ان يسيطر على المقود في اللحظة الأخيرة..

ورغم صعوبة الموقف لكنها تضحك تتمتم بشجن وهي تتحسس صندوقها على ركبتيها :

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


_هذه أيضاَ لم تتغير.. لا تزال تتوه عن الدنيا كلها كلما نظرت لعيني.. قديماَ كنا نتعرض لمواقف كثيرة تشبه هذه! هل تذكر يوم..

يبتسم بدوره لما تحكي عنه وقلبه يتفاعل معه لأول وهلة باشتياق طبيعي..
لكنه وللعجب يجد طيف ناي يقطع عليه طريق الذكريات!



ضحكة حواء جامحة لا تزال تصيب أثرها في قلبه..
لكن ضحكة ناي كانت تبدو له وكأنها تجعل الدنيا كلها تضحك معها!

تدمع عيناه مع الخاطر الأخير وهو يتذكر كلمات رسالتها الأخيرة..
هل ستعود يوماَ مع ضحكتها؟!

_ستعود! ستعود!


لم ينتبه أنه قالها بصوت مسموع إلا عندما جواب حواء الغافلة التي أساءت تاويل عبارته و لم تنتبه لشروده :
_تقصد أيامنا معاَ؟! بالطبع ستعود!

يلتفت نحوها بتشتت لكنه يعاود النظر للطريق بسرعة..
فتستجمع شجاعتها لتسأله :
_أين ناي؟!

يلتفت نحوها بحدة فتردف بابتسامة جذابة وهي تعيد خصلة من شعرها خلف أذنها :
_أنا وعيت الدرس جيداَ.. لن أتدخل في شئونكما بعدما عرفت الحقيقة.. لا أريد معرفة تفاصيل.. لكنني منذ عدت وأنا أسمع الجميع يتساءل عن اختفائها.. هل الأمر يستحق القلق؟!

تراقب ملامحه بتفحص مع سؤالها.. لكنه يسدل الستار المعدني على وجهه.. يواجهها بنسخته (المعلبة) كما كانت ناي تحب تسميتها.. فتشرخ قلبه الذكرى من جديد.. لكنه يجيب :
_غاضبة مني.. قليلاً.. لا تقلقي.. ليس شأنا يصعب حله! قريباَ تعود.

_إلى متى تنتوي ان يستمر زواجكما المزيف هذا؟!

تكاد تسأله لكن ذكاءها يلجم لسانها في اللحظة الأخيرة..
هو طلبها صراحة ألا تخوض في أمر ناي..
ربما حزمه المستحدث غريب عليها لكنها ستحترم أثر الزمان على كليهما..
لا تريد خسارته.. بل ترويضه!

لهذا تستبدلها بعبارات أخرى.. تريد غرسها في يقينها قبل يقينه:

_الأن أفهم حالتك.. اختفاءها ذكرك بي.. باختفائي أنا الأخرى منذ سنوات.. يالله! كأنما وضعها القدر في طريقك لتمهد الطريق لعودتي أنا إليك.. ظلمتك يوم قلت إنك تجاوزتني ووجدت حياتك مع أخرى..كل يوم أزداد يقيناَ أن قلبك الذي عرف معي الحب لأول مرة لم يكن لينبض لغيري أبداَ!

لا يملك رداَ فيتدثر بصمته مؤقتاَ وعيناه تتعلقان بدبلة ناي في يده.. منذ ارتداها بنفسه ولم يفكر في خلعها أبداَ..
ولن يفكر في خلعها أبداَ!


تنقطع أفكاره وهو يسمع حواء تسأله عن مناديل ورقية ثم تفتح صندوق سيارته عفوياَ لتصطدم بورقتي شجر جافتين هناك..
ترفعهما أمام وجهه قائلة باستغراب تزينه ابتسامة :
_هل تغيرت عاداتك إلى هذا الحد؟! إلياس الذي اعرفه كان شديد الوسوسة بشأن موضوع النظافة.. لماذا نسيت هذه القمامة هنا؟!


تهم بإلقائها من النافذة لكنها تفاجأ بقبضته تشتد على معصمها وبهتافه الصارم :
_إياكِ.

تلتفت نحوه بدهشة غافلة عن إعصار قلبه في هذه اللحظة!

(من يدري؟! ربما يوماَ ما قد آخذها من هنا.. يوماَ ما قد أستعيد يقيني بالأمنيات)!


بصوت ناي يدوي في قلبه قبل أذنيه يسمعها!
يتذكر حديثها عن أبيها يوم قالت إنه كان كلما سقطت ورقة شجر على رأسها يخبرها أنها بشارة بأمنية ستتحقق.. لكنها كفرت بالأمنيات!
يومها سقطت ورقة شجر على رأسها وهي معه.. فاحتفظ بها في صندوق سيارته هنا.. أخبرها أنه سينتظر حتى تعود لتلتقطها وتستعيد معها يقينها بالأمنيات!
ستعود.. ستعود وسيعود معها يقينها بالأمنيات!
ستعود!

_إلياس.. أنت تؤلمني.

صوت حواء ينتزعه من شروده فينتبه لأثر قبضته على معصمها..
يعتذر بلباقة لا تنقصه وهو يتناول منها ورقتي الشجر بحرص يعيدهما مكانهما ليردف :
_هما ذكرى خاصة أستبشر بهما.

_ستحكي لي قصتهما يوماَ؟!

نبرتها ذات الدلال تصيب أثراَ ما لا ينكره في قلبه وهي تميل رأسها فيتطاير شعرها..
كم تبدو صورتها مشوشة في عينيه!
هل هي حواء حقاَ؟!
تشبهها ولا تشبهها!
لكن لم العجب؟!
هو الآخر قد مر عليه الزمان وغيّر عليه القمصان واحداَ تلو الآخر حتى ما عاد يدرك أي واحد يرتدي!

يهز رأسه بشرود وهو يعاود النظر للطريق..
فيصله صوتها مفعماَ بعاطفته:
_تذكر المكان الذي اعتدنا اللقاء فيه؟! كان أول مكان جمعنا؟!

_زرته بضع مرات بعد رحيلك.. بعدها لم أقوَ على زيارته طوال تلك السنوات.. خشيت أن اصاب بالجنون لو ذهبت إليه دونك!


يقولها صادقاَ مع تنهيدة حارقة فتتسع ابتسامتها مع لمعة دموعها وهي تربت على كفه قائلة:
_ما رأيك لو نذهب إليه اليوم مع داوود؟! سيعني لي هذا الكثير.

يبتسم مع هزة رأس بمعنى الموافقة وقد وصلت السيارة لبيت الأمين..
يترجل منها مندفعاَ نحو الداخل فتبتسم وهي تلحق به شبه راكضة..
تشعر ان فراشات الأمل بعثت في صدرها من جديد..
روحها تغص بثقل كذبتها وهي ترى من بعيد قوة عناقه لابنها تكاد تزلزل الأرض تحت قدميها..
لكنها تتجاوز هذا تبرر لنفسها..
لن تخسر إلياس هذه المرة.. لن تستصعب درباَ يوصلها إليه!
مهما كان الثمن!
======



مصر.. الفيوم

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


تقولها سندس بمرح وهي تمد كفها نحو المنضدة تلتقط حبة من الشيكولاتة تفضها بسرعة لتأكلها فتهتف بها يسرا تنهرها :
_لا تأكليها كلها! سامي يحبها ووعدته ان تكون كلها له!
_من أين تعلمتِ البخل؟! تستكثرين عليّ الزواج والشيكولاتة معاَ؟!!

تهتف بها سندس مشاكسة وهي تختطف ثلاث حبات أخريات من الشيكولاتة فتخبطها يسرا على كفها ثم تتشاركان ضحكة طويلة..
قبل أن تقف يسرا بالرضيع هامسة بخفوت :
_حبيبي نام! سأضعه في الفراش وأعود لك نكمل كلامنا.

تهز لها سندس رأسها فتتحرك يسرا بضع خطوات ثم يبدو انها تذكرت شيئاَ..
فتعود لتحمل صندوق الشيكولاتة تحت ذراعها الحر وهي تخرج لسانها مغيظة سندس التي تكتم ضحكتها بكفها خشية أن توقظ الصغير..

ولم تكد يسرا تختفي في غرفة النوم حتى سمعت سندس صوت البوابة الداخلية للبيت تغلق..
فتهب واقفة لتتوجه نحو النافذة تفتحها لتنظر عبرها لفاروق الذي غادر البيت يتحرك بمشيته الرجولية المهيبة..
فترفع وجهها للسماء هاتفة بلهفة متعجلة :
_المرة القادمة بإذن الله يأتي هنا لخطبتي! العمل أولاَ ثم يجمعنا بيت واحد.. يا كريم يارب!
======








العراق.. بغداد

_يالله! ما أجمل هذا المكان.. يزداد سحراَ كلما زرناه!

تقولها حواء بنبرة ذائبة وهي تتأمل المكان حولهما..
حديقة قديمة تحتوي مطعماَ فاخراَ في أطراف المدينة..
نفس المكان الذي اعتادا اللقاء فيه في عهد غرامهما القديم..
تتوجه به نحو مائدة بعينها في زاوية المطعم تطل على حديقته..
عيناها الدامعتان تلتهمان تفاصيل المكان بنهم..
كأنها تود لو تستعيد كل ثانية مرت بها بعده!

يسحب لها كرسياَ لتجلس فوقه هاتفة بمرح :
_دع عنك تصرفات السادة الوقورين هذه! أعد لي من فضلك إلياس القديم الذي يشاكسني ليسبقني للجلوس على الكرسي المجاور للنافذة قبلي!
يبتسم بشرود وعقله يستعيد عبارة ناي في موقف مشابه..

_اسمح لي إذن أنا الأخرى بمناسبة عهد صداقتنا الجديد أن اعترف لك بشيء.. أحياناَ أشعر أن هناك منك نسختان.. نسخة معلبة ذات مواد حافظة.. وهذه ما تواجه بها العالم غالباَ..


_معلبة ذات مواد حافظة!! من اين تأتين بهذه التعبيرات؟! مممم.. طيب.. عرفنا هذه نسخة معلبة.. والثانية؟!
_نسخة طبيعية..طازجة الشعور.. دون مواد حافظة.. قد تفسد صلاحية مزاجها بسرعة.. لكنها تبقى أفضل.. دون تكلف.. دون تصنع.. هذه رأيتها طويلاَ بالأمس.. لهذا لم أخش غضبك أو ردة فعلك.. كنت مستعدة لقبول كل ما ستفعله.. سواء كان لصالحي أو ضدي.. ربما لأنني مقتنعة أن أسوأ ما يفعله الواحد بنفسه أن يسجن وجهه الحقيقي خلف قناع جامد.. مهما بلغت أناقته!
_حسناَ.. لك من النسخ ما أحببتِ.


_إلياس! فيما شردت؟!

صوت حواء ينتزعه من أفكاره فيغمض عينيه بقوة للحظات قبل ان ينتزع ابتسامة باهتة وهو يجلس جوارها قائلاً :
_تظنين أنه يمكننا استعادة إلياس وحواء القديمين حقاَ؟!

قلبها الملهوف يفهم سؤاله كحسرة على ما فات فتمد كفها تعانق كفه قائلة بيقين :
_بالطبع نستطيع.. مادمنا معاَ يمكننا فعل كل شيء.

يطرق برأسه دون رد للحظات قبل أن يسألها عن أكثر ما يشغل باله الآن :
_داوود! كيف يشعر هنا؟! لا يزال متوتراَ؟!!
فتهز رأسها مجيبة:
_هو تعلق بك كثيراَ بسرعة لم أتصورها.. صرت في عينيه صورة المنقذ والحامي.. يسألني عن كل تفاصيلك في غيابك..صار يقول (بابا) بعفوية اتعجبها! وكأنه كان ينتظر كل هذا العمر ليقولها لمن يستحقها!


لم تكن تكذب أو تبالغ!
كان هذا شعورها بالضبط مع داوود!
يبدو أنها هي الأخرى صدقت كذبتها من فرط ما تمنتها!
عقلها الكاذب يتوارى من قلبها اللائم بخدعة كهذه!
ماذا لو صدقت أن داوود هو ابنها حقاَ من إلياس؟!
ماذا لو مسحت الماضي كله بمجرد كذبة؟!
أليس عدلاَ أن تعيش ما بقي لها من عمر كما كان ينبغي لها من البداية؟!

وبهذا اليقين تفتح حقيبتها لتستخرج ورقة وضعتها أمام إلياس قائلة بعذوبة صوت لم ترجفه كذبته :
_لم تجعلني أحتاج لأن أريك هذا.. لكنني أفعلها كي أغلق باب الشكوك.

_ما هذا؟!
_تحليل إثبات نسب.. يؤكد ان داوود ابنك!

يزيح الورقة جانباَ دون أن يقرأها وقد بدت نظرة ضائقة في عينيه..
فتربت على كفه قائلة :
_أعرف أنك تثق بي.. لم أقصد سوءاَ.. أردت فقط أن أغلق كل ثغرة بيننا.. بعد الماضي الأسود الذي عشناه بسبب شكوكنا.. لا أريد نضيع لحظة واحدة بعد االآن.

يصل النادل في هذه اللحظة يقدم لهما قائمة الطعام..
فتتناولها لتنظر فيها بتفحص..
ملامحها تبدو له شديدة الحيوية.. مرتاحة.. مطمئنة..
لماذا لا يجد في صدره صدى لكل هذا؟!
يسمعها تدندن وهي تتفحص القائمة بلحن ما كان يحب سماعه منها..
لكنه رغماَ عنه يتبدل في أذنيه للحن آخر.. بصوت امرأة أخرى..

فوق إلنا خل فوق
يابا فوق إلنا خل فوق
مادري لمع خده
يابا مدري القمر فوق.

فيتلوى قلبه بحنين عاصف وهو يعتصر دبلة ناي في إصبعه!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


يهتف بها بحرارة نادمة وكفه يبحث عن كفها من جديد لكنها تقف مكانها، تبتعد عنه بضع خطوات لتقول بحزم :
_اسمع يا (ابن الحلال)! قلتها لك وأكررها من جديد.. قصتنا انتهت كما أردت انت لها وكما صرت أنا الآن أريد.. لو كان هناك سبب واحد لوجودي معك الآن فهو مجرد شفقة! ليست فقط شفقة على مصاب تورط لأجل أن ينقذني.. لكن على ضال ضيع قلبه ونفسه! وأنا لا أنسى الفضل ولا أعيّر بنقيصة..
ثم تنحني نحوه لتلوح بسبابتها في وجهه بحركتها المعهودة :
_لكن لا تنتظر ما هو أكثر.

تنتهي عبارتها بشهقتها المفاجئة وهي تجده يحكم قبضته فجأة على سبابتها يشدها نحوه، تكاد تسقط فوقه ،بل تسقط فعليا فوق صدره لتشعر بذراعه الآخر يكبل حركتها..
آهة توجع يطلقها وهو يعقد حاجبيه بألم وقد أثارت حركته إصابة كتفه، فتهتف به باستنكار غلفه حنانها بمزيج مدهش:

_انتبه! سيفتُح الجرح من جديد!

عيناه تنبضان بعاطفته ولا يزال محكماَ قبضته على سبابتها فلا تدري أيهما أشد وطأة على روحها..

_ألم أحذرك من حركة سبابتك هذه من قبل؟!



همسه الحار يتراقص لاهباَ على أوتار العتاب وشجن الحنين يذكرها بماضٍ ليس ببعيد..

_قلت لك لا أضمن قبلاتي.. أعرف من أين تبدأ ولا أعرف أبدا أين ستنتهي.

لم تكد تعي أخر حروف كلماته حتى ألهبت سبابتها قبلته!


قشعريرة هائلة تسري كتيار لذيذ في جسدها كله وهي تشعر بشفتيه تطوفان فوق كفها.. ظاهره وباطنه..
تحاول الابتعاد لكن ساعده يشتد حول خصرها، تخاف أن تبتعد أكثر فيتهور أكثر مؤذياَ جرحه..
عيناه تغزوانها بوابل آخر من قبلات..
تطوف بكل ملامحها وتحكي سطوراَ وسطوراَ من اشتياق..
تناجيان عينيها..
تتمشيان على وجنتيها..
تتلكآن فوق شفتيها..
وأخيراَ تستقر كما شفتاه على جبينه في قبلة اعتذار طويلة زلزلتها من أعلى رأسها لأخمص قدميها..

_تعرفين ؟! لم تكن هذه أول إصاباتي ولا أظنها ستكون آخرها! ذاكرتي تحفظ جروحاَ كثيرة مثل هذه! من كثرة ندوبي ما عدت حتى أحاول عدها.. لكن هذا الجرح بالذات سأبقى ممتناَ له عمري كله.. كفاني أنه جعلك تأتين إليّ.. لم أكن سألومك لو لم تأتي.. لكن.. أما وقد أتيتِ فكيف أرضى أن تبتعدي من جديد؟! فليقل لسانك ما شاء لكن قلبك لا يقول إلا ما أصدقه أنك تنتمين إليّ كما أنتمي إليكِ.. أنا تعايشت مع كل جروحي.. نبذني الناس قريبهم وبعيدهم فلم يكن يزيدني هذا إلا صلابة وزهداَ. . لكن أن تفعليها أنتِ! لا أحتملها! والله لا أحتمل وجعاَ كهذا أبداَ!


همسه الملتاع يحرقها!
لكنته تتراقص دون وعي بين المصرية والعراقية لا إرادياَ كأنه في لحظة يعود ذاك الطفل الصغير الذي كان الشارع أكثر دفئاَ من بيته!
قلبه لا ينبض.. بل يرتج بعنف..
حتى لتشعر وكأن الفراش سينقلب بهما معاَ!
عيناه دامعتان.. ضارعتان.. خائفتان..عاجزتان.. وغاضبتان لأقصى حد!

_لن تبتعدي! لن تفعليها الآن! منحتك فرصة بعد سفري ولم تستغليها.. الآن نفدت كل فرصك.. لو لم يبقَ من عمري إلا ساعة واحدة فسأقضيها وأنا أسترضيكِ لتكوني جواري أو أركض خلفك حتى أدركك.. والله لا أفرط فيكِ أبداَ بعد اليوم.. والله لا أفعلها أبدا.

تدمع عيناها بتأثر فتغمضهما هامسة :


_أنا صدقتك مرة! انظر أين انتهيت! لا أصدقك حتى تزرع البحر ورداَ!

_أفعلها! لأجلك أفعلها!

يهتف بها حارة دافقة وساعده يشتد حول خصرها.. فتهتف بحدة :
_لم أعد أريدك.


لكنه يقترب بوجهه منها أكثر، حتى تشعر أن الكون كله قد خلا إلا منهما.. قبضته تشتد على كفها الأيسر مع همسه:
_كاذبة! لا تزالين ترتدين دبلتي! هاهو ذا قلبك فوق صدري يكاد يقفز ليسكن ضلوعي!

لم تملك نفسها وهي تبتعد بجسدها عنه هذه المرة لتقف من جديد.. يحاول النهوض ممسكاَ بها من جديد لكنه يتأوه بألم حقيقي وهو يتحسس كتفه فيعود ليستند بظهره على الوسادة مرغماَ..
نظرتها الدامعة تظلله مغتاظة بلوعتها :
_أحسن! هاهو ذا قلبي قفز معي بعيداَ ولم ينلك إلا الألم! افهم! افهم!

يطلق زفرة ساخطة وهو يشيح بوجهه، فتلتفت نحو صينية الطعام والدواء التي لا تزال مكانها على الكومود..
ينعقد حاجباها وكانها تذكرت شيئاَ ما ثم تنظر في ساعتها قائلة :
_أي إهمال هذا؟! كان يفترض أن تتناول طعامك من نصف ساعة كي تأخذ الدواء!

يمط شفتيه وهو يفكر بابتسامة لم تتجاوز حدود شفتيه..
هاهي حبيبته التي يعرفها!
رغم كل شيء لا ينتزعها من حنقها إلا خوفها عليه!
يراها تضع صينية الطعام على ساقيه هاتفة بنبرة حازمة :


_هيا كل.. كي تتناول دواءك! يبدو أنني سأكون مضطرة أن أرعاك بنفسي حتى تغادر المشفى.. وبعدها يروح كل واحد منا لحاله!


يتجاهل الجزء الأخير من عبارتها قانعاَ بفوزه المؤقت..
يتصنع آهة خافتة وهو يقول بمسكنة :
_ذراعي تؤلمني لن يمكنني تناول الطعام وحدي.

_لا تتمارض! كل بذراعك الأخرى!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


الشعاع السادس والعشرون
=======
العراق..بغداد
=====

(أي كف مهما امتلأت.. دونك خاوية!)

هكذا كان يحدث إلياس نفسه وقد عاد لبيته بعد ذهابه لذاك المحل العمومي الذي تلقت منه جدتها الاتصال لكنه لم يصل لشيء!
فجر جديد يشرق دونها لكنه يشعر أن ليله هو لم ينقض بعد!
حواء!
داوود!
العائلة!
الماضي!
المستقبل!
دوامة عنيفة تجتذبه تياراتها في طياتها ولا يمكنه الفكاك!
يريد فقط أن يستعيد توازنه..
هنا! هنا بالذات!

ليس فقط لأنه بيته.. لكن لأنه يحمل أخر أطيافها قبل أن ترحل!
هنا فقط يمكنه أن يلتقط أنفاسه ولو قليلاً قبل أن يعاود الركض!

_أعد لك الإفطار والقهوة؟!

تسأله الخادمة وهي تتقدم نحوه بنظرة مشفقة وقد أغناها حاله عن السؤال المعهود لها إن كان قد وجد ناي!


فيهز رأسه نفياَ ثم يتوجه بخطوات مهزومة نحو غرفة ناي مفتوحة الباب..
وأخيراَ يقف أمام حوض الأقحوان الخاص بها..
ينحني برأسه نحوه هارباَ من شعاع الشمس المسلط فوقه..
كأنه لا يريد تصديق بداية يوم جديد دونها!

ابتسامة واهنة تشق شفتيه وهو يغمض عينيه..

هل يبالغ لو زعم أن مذاق قهوتها لا يزال في فمه..
لا ينافسه إلا مذاق بشرتها بين شفتيه الهائمتين!


ليس هذا فحسب..
بل مذاق أول رشفة شاي يجرب سخونتها قبلها كي لا تحرق شفتيها!
هاهي ذي تفعلها من جديد!
تندفع هاربة بتهور قد يؤذيها هي قبل الجميع!
لم يستطع حمايتها هذه المرة!
ومع هذا لا يلومها..
شوقه.. خوفه.. وقبلهما عشقه.. كل هذا يحتله بطغيان هادر لا يقف أمامه أي شعور آخر!

يشعر بدفء كفين يغطيان عينيه وكأن صاحبهما يسأله عن هويته..
فيكتم شهقة دهشته!

يرفع ذراعيه بسرعة يتحسس الكفين على عينيه، يسبقه لسانه بلهفة قلبه:

_ناي.

لكن ملمس البشرة المختلف يصفعه!
كف ناي أكثر نعومة.. أقل حجماَ.. يستطيع أن يحتويه كاملاً في قبضته كأنه على مقاسها بالضبط!

لهذا يلتفت بمزيج من خيبة وغضب ليصطدم بنظرة حواء التي لم تكن أقل منه خيبة..


قلبه يتشوش للحظات وهو يميز العنفوان الهادر في عينين تزينهما زهور الماضي..
ابتسامته حقيقية جداَ وإن بدت شاحبة.. الصدق يغزل حروفه رغم كل شيء :
_حواء! ما أجمل المفاجأة!

_حقاَ؟!

تسأله بخوف يكاد يمزق قلبها في هذه اللحظة..
هي بالكاد وجدت نفسها القديمة في عينيه..
حواء ذات الشعر الطويل الجميل الذي لا تبدو عليه كسرة واحدة..
حواء التي لا تريد إلا حياة هادئة لا يروعها فيها خوف ولا ظلم..
قبل أن تجد نفسها غارقة في بركة الوحل!
هي تريد تصديق هذا الشوق في عينيه..
لا تريد أن تستجيب لمارد حقدها من جديد!

أناملها ترتفع لتعانق وجنتيه..
دلالها يمتزج بضراعتها في تجانس مدهش.. صوتها يتراقص مع خفقات قلبها :
_لم أنم ليلة أمس.. لهذا ما كاد الصباح يطلع حتى وجدتني أركض ركضاَ إلى هنا.. لا أصدق أننا معاَ بعد كل هذه السنوات.. والأعجب أنك لا تزال تحبني أنا.. حتى زواجك كان لأجل امرأة تذكرك بي.. لم أكن لأصدق حتى أخبرتني جدتها نفسها بالحكاية.. وحتى جئت هنا اليوم لتخبرني الخادمة عفوياَ أنك في غرفة (ناي).. لها غرفة وحدها.. هذا يعني أنكما لم تكونا أبداً معاَ.

وكأنما أيقظته كلماتها من غمرة تشوشه..
بل.. ربما زادته غرقاَ فيه!

(لم تكونا أبداَ معاَ!)

يتراجع للخلف خطوتين..

كفاه تبدوان ثقيلتين شديدتي الصلابة وهو يزيح كفيها عن وجنتيه..
منذ عودتها وهي تشعر بنظرته مترددة بين اشتياق حقيقي ونفور غامض!
بين لهفة جارفة وإدبار عاصف..
لا يمكنها تكذيب هذه العاطفة الهادرة في عينيه نحوها..
وفي نفس الوقت لا يمكنها تصديقها!


_لا أحب الحديث عن زوجتي مع أحدهم.. حتى لو كنتِ أنتِ.. هو شأن يخصني معها وحدنا.. فلا تقتربي من هذا الخط.

ينعقد حاجباها وهي تشعر بحزمه المفاجئ يصفعها!
كما لم تعد هي نفس فتاة الماضي التي تجيد إغواءه بفتنة لا تنقصها..
لم يعد هو نفس الشاب الساذج الذي ينظر للحياة من خلف نافذة مخملية..
متى اكتسب صوته هذه الصرامة؟!
متى صارت له هذه النظرة النافذة التي تشعر انها قادرة على ان تخترق روحها نفسها؟!

لكنها لا تزال تتشبث بسلاحها الوحيد وهي تقترب منه هامسة بحرارة :
_لم تتغير! وكأنك نفس الفارس النبيل الذي عشقته وعشقني.. ربما في موقف آخر كنت لأغار.. لكنني خير من يدرك أن حسن أخلاقك لا علاقة لها بخبيئة قلبك.

يشيح بوجهه دون رد وهو يشعر أن كل ما يرغب به الآن هو ان يخرج بها من هنا..
هنا (قُدس) ناي الذي لا يجب أن تطأه قدم امرأة سواها..!

_سيدي.. وجدت هذه في المطبخ!

تقاطع بها الخادمة أفكاره وهي تقترب منهما بنظرات مندهشة كأنها تتعجب من طبيعة علاقته بحواء..

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


تقولها ثم تندفع لتفتح باب غرفة نزار بسرعة قاطعة على نفسها طريق التردد.. وربما هاربة من رد طيف!
تبتسم الأخيرة بعاطفة تناقض سخريتها الفظة السابقة وهي تراها تغلق الباب خلفها..
تهز رأسها تتمتم (الحب وسنينه!)

فيبتسم بدوره وهو يجذبها ليجلس جوارها على كرسيين للانتظار في رواق المشفى، يتفحص ملامحها بعينيه الخبيرتين بها ،قائلاً :
_لا تنكري أنك معجبة بتصرف نزار الأخير وقد خاطر بحياته من أجلها!



_بالله لا تقل كلاماَ كبيراَ لا يليق بصاحبك! هو فعل فقط أكثر ما يجيده.. النصب! كان (فرقع لوز) وسيبقى (فرقع لوز)!
تهتف بها بسخرية متذمرة وهي تلوح بكفها، فيضيق عينيه بنظرة تليق بقوله :
_عيني في عينك؟!!
تتنهد وهي تبتسم مشيحة بوجهها قائلة :



_يعني! لعله فعل شيئاَ جيداَ مرة واحدة أخيراَ في حياته.. حتى الحمار الكسيح ينفع أحياناَ!

يمسح وجهه بكفيه محاولاَ احتواء كل هذا القدر من فظاظتها الساخرة.. ليجد نفسه مضطراَ لتغيير الموضوع :
_ما رأيك في حواء؟!


تكتسي ملامحها بسحابة قاتمة وهي تعود برأسها للخلف مغمضة عينيها بقوة.. صوتها يخفت رويداَ رويداَ حتى يصل حد الهمس:
_ضعفٌ خاص ينتابني تجاهها.. لا يمكنني الاعتراف بهذا أمام أي أحد.. لكنك..
_لكنني لست أي أحد.. أنا توأم روحك كما أنت توأم روحي!

يهمس بها بحرارة وكفه يعانق كفها مردفاَ :
_ولو لم تقوليها أنا أفهم.. أنتِ تشفقين عليها من ماضيها وتخافين أن يشوش هذا على قراءتك لحقيقتها.
تبتسم له ابتسامة بمعنى الموافقة فيتنهد قائلاً :
_أما أنا فلا! لا أستسيغ نسب الولد لإلياس!
_تحليل بسيط يفضح الكذبة!

تقولها منعقدة الحاجبين فيرد :

_ليس بهذه البساطة! إلياس بضخامة عقدة شعوره بالذنب لن يعرضها للتشكيك في هذا ولو بمجرد كلمة.. وهي ليست بهذا الغباء لتدخل علينا هكذا دون أن تكون قد أعدت عدتها.. تحليل مزور.. لن تكون أول ولا آخر من يفعلها!

تهز رأسها بأسف مع المرارة التي غشيت صوته في عبارته الأخيرةوهي تتذكر ما فعلته أمه استبرق من تزييف لتحليل كهذا في الماضي..
لكنها تتجاوز الأمر لتهتف بانفعال:

_إذن نفعلها نحن سراَ دون أن يعرف إلياس.. لا أظننا سنعجز عن فعل كهذا.
فيبتسم بغموض وهو يرفع حاجبه بقوله :
_أنا بدأت التنفيذ بالفعل! سنعرف الحقيقة قريباَ قبل الجميع!
=======




العراق.. بغداد


يركض..
ويركض..
ويركض..
لا يعرف بالضبط مما يهرب لكنه يشعر بغريزته أنه يجب أن يهرب..
أنفاسه تكاد تنقطع لكنه لا يكف عن الجري..
وأخيراَ يسقط هذا الجدار فجأة أمام عينيه يجبره على التوقف..
ابتسامة تحلق على ثغره وترش السكر على كعكة صغيرة بنكهة يجدها في فمه وإن لم يتذوقها بعد..
صوت معدني رتيب يشبه خشخشة أساورها يزيد جمال الصورة فلا يشعر بالغضب لأنه توقف عن الركض بل ينحني ليجلس مستنداَ بظهره على هذا الجدار..
يغمض عينيه وكأنه أدرك لتوه تعب سنوات من الركض..
الآن يعرف معنى الراحة..
لكن الجدار خلفه يهتز.. يرتج بعنف.. كأنه يوشك أن يسقط فوقه.. فيفتح عينيه مجبوراَ..

_حسناء!
يهتف بها بتشوش وهو يدير عينيه يميناَ ويساراَ كأنه يريد تمييز الواقع من الحلم..
لا تزال جدران المشفى الباردة صقيعية كما هي..
لكن الدفء الذي تستجلبه خطواتها يزيد شتاته فينهض من رقدته ليتأوه بألم وهو يمسك كتفه المصاب..

_على مهلك..

صوتها؟!
هل هو حقاَ صوتها؟!
يفتقد حرارة عاطفتها الملهوفة لكنه لا يزال مدموغاَ بحنانها الفياض لم تخفِه لوعة جرحها..
تقترب أكثر لتجلس جواره على طرف الفراش..
عيناها تهربان من عينيه.. تتعلقان بكتفه المصاب كأنها تذكر نفسها أنه هو فقط سبب وجودها هنا..

_حسناء! أنتِ حقاَ هنا؟! أم أنها هلوسة الأدوية؟!

يتمتم بها بنظرات زائغة وعيناه معلقتان بها لكنها تقترب أكثر لتنحني نحوه فيغمض عينيه بقوة يسحب رائحتها لصدره بعمق..

صدرها يكاد يلاصق صدره فيشعر بخفقات قلبها تدوي بين ضلوعه..
يمني نفسه بعناق لكنها كانت فقط تعدل وضع الوسادة خلفه كي تمنحه جلسة مريحة أكثر ولا تزال تهرب بعينيها من عينيه..
تتشاغل بالنظر لتقارير حالته المكتوبة والتي تتناولها لتقرأها باهتمام بحكم خبرتها العملية..

_جيد.. لا شيء يدعو للقلق.. (عمر الشقي بقي) كما يقولون.

صوتها المحايد يخزه وهو يشعر بكل ذرة فيها نافرة..
بعيدة.. هاربة..
عدا قلبها!
قلبها يشعر وكأنه يتوسد ضلوعه هو!!

لهذا لا يتعجب عندما يمد كفه ليعانق كفها فتسحبه منه بعنف، برود صوتها يصفعه :
_لن تحتاج لأكثر من بضعة أيام كي تتعافى.
_وأنتِ كم ستحتاجين؟!

لم يمكنها تجاهل المرارة النادمة في نبرته فترفع عينيها إليه..
نظراتها تتلون بين عتاب وعناد وغضب لكنها لا تفقد غلالة الدفء التي تميزها على أي حال..

ابتسامتها المتحسرة تليق بقولها :
_لا تشغل بالك.. (ياما دقت على الرأس طبول) كما يقولون! أنا تعلمت منذ زمن طويل كيف أداوي جروحي وحدي!
_لكنكِ لم تعودي وحدك!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


يتوجه بها نحو غرفة مكتبه..
يستخرج صندوقها هي القديم يرفعه ليضعه أمامها على مكتبه، فتدمع عيناها وهي تزيح غطاءه..
هذا كعب حذائها ترفعه بقولها الشارد مبتسمة لشجن الذكرى:
_ انكسر يوماَ في مشيتي معك فجعلتني أخلعه وأعطيتني حذاءك وعدت لبيتك حافياَ.

تلتوي شفتاه بابتسامة شاحبة لشجن الذكرى..
بينما تستمر هي في استخراج محتويات الصندوق..

_مشط شعري! تذكر؟!

(أحب شعري كثيراَ.. وأحبك أنت اكثر!)
تقولها بصوتها مستدعية الذكرى عندما كانت تلتقي به فتعطيه ظهرها سامحة له ان يمشط شعرها.. فتنفلت منه تنهيدة تأثر وهو يسمعها تردف بينما تناوله المشط:
_هل تفعلها الآن؟!

تعطيه ظهرها ببطء فيغمض عينيه بقوة أحد كفيه لا يزال قابضاَ على قلادة ناي.. والآخر يمسك المشط..
لكنه لا يمكنه تمشيط شعرها..
رغماَ عنه يجد نفسه يهمس :
_لقد تغيّر شكل شعرك كثيراَ.

تلتفت نحوه بكامل جسدها..
عيناها الدامعتان ترتجفان بحزنها :
_معك حق.. لم يعد مفروداَ كما كان.. كل كسرة فيه تبدو لي كأنها أثر قدم داست على روحي.. ربما لهذا أردتك أن تمشطه لي.. ربما.. ربما يمكنني أن أراه من جديد مفروداَ كما كان..


يغص حلقه بمرارته وهو يراها تتقدم لتكمل استعراض محتويات الصندوق..
تستخرج قلادتها الشبيهة بقلادة ناي.. لتهمس بمرارة :
_كيف صارت صدئة قبيحة الشكل هكذا؟! ليته لا يكون نذير شؤم..

ثم ترفع عينيها إليه بمزيج غريب من حزم وضراعة يكاد يميزها :
_ستعيد تلميعها لأجلي يا إلياس.. لأجلنا معاَ..

ينعقد حاجباها وهي تراه يقبض كفه أكثر على قلادة ناي حتى تبرز عروقه نافرة وقد أغمض عينيه بقوة..

فيدفعها الخوف لاستخدام سلاحها من جديد :
_لأجلنا ولأجل داوود.. ابننا!

هنا يفتح عينيه وقد لمعت فيهما نظرة غامرة بحنان اتشح بالحزن..
قبل أن يهز رأسه بما يشبه الوعد..
يهم بقول شيء ما لكن صوت رنين هاتفه يقاطعه :
شجون تخبره أن الصبي قد استيقظ من نومه وهو شديد الغضب والخوف لأنه لم يجد أمه وقد عجزت عن السيطرة على الوضع بينما يحيى وطيف خارج المنزل..

_حالاً! سنكون عندك في ظرف دقائق!

يهتف بها بلهفة وهو يتحرك مع حواء مغادراَ البيت بعدما وضع قلادة ناي في جيب قميصه الأقرب لقلبه..
بينما خرجت حواء تحمل صندوقها العزيز وقد وضعت داخله صورة إلياس القديمة..
من قال إن الماضي لا يعود؟!
هي ستستعيده يوماَ يوماَ.. وساعة ساعة..
لن تبرح حتى تبلغ!
=======





العراق.. بغداد

_هيا.. هيا ادخلي له.. أم أن كرامتك (نقحت) عليكِ فجأة ؟!

تهتف بها طيف بسخريتها الفظة أمام باب غرفة نزار بالمشفى وقد اصطحبهما يحيى بناء على رغبة حسناء..
التي تلتفت نحو طيف بقولها المغتاظ:

_ألا يفقد لسانك هذا سلاطته أبداَ؟! لو لم تشفقي على الرجل في موقف كهذا.. متى ستفعلين ؟!.. ظننتكِ ستدخلين معي لتتمني له الشفاء العاجل!

_أنا أدخل له؟!
تهتف بها طيف باستنكار رافعة حاجبها لتردف بابتسامة متشفية وهي تعقد ساعديها :
_حبيبتي أنا لو دخلت له فسيكون الغرض واحد من اثنين.. إما ان أفصل التيار الكهربي عن الأجهزة.. أو أحقن المحاليل بحقنة هواء!
_يا ستار!
تهتف بها حسناء وهي تحاول تكميم فمها لكن طيف تبتعد برأسها للخلف قائلة :
_ليست كل النساء عديمات كرامة مثلك!



_لست عديمة كرامة! إنها شفقة.. رحمة.. لم أقل إنني سامحته.. لن أفكر في الرجوع له.. لكنني لا أستسيغ تركه هكذا في محنته.. خاصة وقد ضحى لأجلي أنا.

تهتف بها حسناء بانفعال دمعت معه عيناها فيبدو التأثر قليلاً على وجه طيف..
تتنهد وهي تقترب منها لتربت على كتفها قائلة بنبرة لانت قليلاً :


_طيب.. لن أقول عنك (عديمة كرامة) بعد الآن..

ترفع لها حسناء عينيها بنظرة ممتنة وقد أسعدها تفهمها..
لكن طيف تطلق صوت تهكمها المعهود وهي تخبطها على مؤخرة رأسها مردفة:
_لا تحزني.. من الآن سأسميكِ (المهزّأة)! المهزأة راحت المهزأة جاءت!


يضطر يحيى للتدخل وهو يرى احتقان وجه حسناء واشياَ برد فعل منفجر فيجذب طيف خلفه ببعض القوة ،ليواجه حسناء بقوله الجاد رغم ابتسامة يكتمها :
_اسمحي لي كأخ لنزار أن أقدّر موقفك كثيراَ.. لا سلطة لي لأخبركِ بما ينبغي أو لا ينبغي عليكِ فعله فالقلوب لها سلطان آخر.. لكن مجرد وجودك هنا الآن يرفعك في عيني كثيراَ.. ورغم صعوبة الماضي أظنها بشارة جيدة لبداية جديدة قد تجمعكما مرة أخرى!

_(قال بشارة قال! دلقوا القهوة من عماهم.. وقالوا الخير جاهم)

تغمغم بها طيف ساخرة مع ضحكتها المكتومة فتتأفف حسناء هاتفة بحدة وهي تلوح بسبابتها في وجهه متجاهلة النظر لطيف خلف ظهره :


_بالله تصرف وحاول أن تجد لها حلاً! الطب تقدم! بالتأكيد اخترعوا علاجاَ لحالة لسانها المستعصية هذه! تصرف بسرعة قبل أن تتسبب زوجتك في حرب عالمية ثالثة تخصها وحدها!!

رواية على خد الفجر

12 Oct, 20:45


هذه المرأة الغريبة التي ما إن دخلت من باب البيت حتى شعرت بالتوجس نحوها..
خطواتها الواثقة المتملكة بجرأة لا تنقص ملامحها وهي تدلف للداخل وكأنها تدخل بيتها!
حتى إنها عندما دعتها للجلوس في الصالون كما يليق بالزوار وجدتها تسألها ببساطة عن إلياس..
لم تتوقع وهي تخبرها بينما تشير لغرفة ناي أنه هناك أنها ستتوجه هناك بتلك الجرأة السهلة وكأنه حقها!
لماذا لم تمنعها؟!
ربما لأن جرأة خطواتها ونظراتها أعطتها ذاك الانطباع أن هذه المرأة أكثر بكثير من مجرد ضيفة!

يرمقها إلياس بنظرة غاضبة لم تفهمها..
غضب امتزج بلهفته وأنامله المرتجفة تمتد لتنتزع ما بيدها بلهفة حارقة..



_قلادتي!
تهتف بها حواء بفرحة وهي تهم بانتزاعها منه لكنه يقبض عليها بقوة وهو يضم كفه المضموم لصدره قائلاً بصوت متهدج :
_بل قلادة ناي!

ينعقد حاجبا حواء باستنكار فيصرف إلياس الخادمة بكفه الحر..
قبل أن يردف وصوته يحمل الكثير من المرارة :


_قلادتك في الصندوق.. صندوق ذكرياتنا الذي رميته خلفك.

تهز رأسها بجهل عما يقصده فيجذبها من كفها الحر كي يغادر بها الغرفة..
لكنها تتوقف فجأة وقد لمحت صورته القديمة المؤطرة موضوعة على الطاولة القريبة..
تبتسم دامعة العينين وهي تندفع نحوها تتناولها لتضمها بحنين جارف هامسة بحزن حقيقي:
_صورتك.. بل صورتي أنا! على كم شهدت هي من ذكريات؟!! يالله! وكأن نظرة واحدة إليها تعيد لي العمر كله! كم من السنوات أحتاج كي أعوض شوقي إليك؟!

قلبه يهدر داخل صدره بجنون والصراع داخله يشتد!
مارد عاصف يكاد يكسر ضلوعه، يرغب في انتزاع الصورة منها صارخاَ أنها لم تعد لها!
هي رمتها خلفها وذهبت!

صاحبتها الحقيقية ستعود يوماَ لتحافظ عليها من جديد!

لكن المارد يتقزم مرغماَ وهو يتذكر معاناة حواء..
التي لا تزال تفصح عن فصولها الجديدة.. فصلاً بعد فصل..

_الآن تذكرت! هذه الصورة! ليست هي فقط.. بل كل تذكاراتنا معاَ جمعتها في ذاك الصندوق! ذلك اليوم بعدما قابلت استبرق زوجة أخيك لتخبرني أنك هجرتني.. أنك سافرت وستتزوج بأخرى.. أنني وحدي من سأحتمل ذنب خطيئتنا وابننا.. ظننتها أسوأ كوابيسي حتى تبينت أن مقداد كان يتبعني.. عرف كل شيء.. أخذني قسراَ في سيارته وذهب بي لتلك المنطقة الجبلية.. لا أعرف كم مرة صفعني.. كم مرة ركلني.. ومع هذا كان ألم جسدي كان أهون كثيراَ من احتراق قلبي بشعوري بخذلانك..

تزم شفتيها بعدها بقوة كأنها تخشى أن تتسرب بقية الحقيقة من بينهما..
لن تخبره أنها سقطت يومها بين قدمي مقداد فاقدة للوعي بعدما فقدت ابنهما من أثر الضرب..

تشعر بكفيه تربتان على كتفيها برفق مع هذه النظرة الغارقة بالذنب في عينيه فتردف بين طوفان دموعها :
_مقداد هو من ذهب بي للمشفى بعدما سقطت فاقدة الوعي من شدة الضرب.. ابتزني كي يتستر على الأمر كله ويخفيه عن أبي مقابل أن أتزوجه ونرحل جميعاَ من هنا.. هو أقنع أبي أن يهجرا بغداد ويكملا أعمالهما القذرة في مكان آخر.. لم يكن أمامي حل آخر سوى ان أستجيب لتهديده.. أتزوجه وأرحل بعيداَ..

_هل كان هذا مقابل أن ينسب داوود لنفسه؟!

يسألها وقبضتاه تشتدان على كتفيها فتومئ برأسها كاذبة ،ليعاود سؤالها بمزيج من غضب وحسرة :
_عرفت أنه كان يسيئ معاملتك طوال هذه السنوات.. هل كان يفعلها كذلك مع داوود؟!

تهز رأسها نفياً وهي تجد نفسها تستمر في السير تحت ظل كذبتها :

_كان يحبه ويعامله كابنه.. خاصة بعدما عرف أنه لا يمكنه الإنجاب.. كان داوود وسيلته الوحيدة للضغط عليّ طوال هذه السنوات كي يبقيني بجانبه حتى بعد وفاة أبي.. كان يهددني به.. بل وبك أحياناَ.. كان يقول إنه سيقتلكما معاَ لو عرف أنني تواصلت معك بأي شكل.. بل إنه أجبرني على بيع بيت أبي هنا مشدداً إجراءاته كي يخفي كل ما يتعلق بي عنك طوال هذه السنوات..

كم تخز كلماتها قلبه!
بل تنحر عنقه نحراَ!
كيف عاش غافلاً عن عذابها وابنه طوال هذه السنوات؟!!
يشهد الله انه لم يقصر في البحث.. لكن كيف يغفر لنفسه عجزاَ كهذا؟!!
يقترب منها خطوة وهو يهم بمعانقتها..
ليس عناق حب.. بل عناق دعم واحتواء ووعد..
وعد ألا يتركها لعذاب وحدتها من جديد أبداَ!
لكنه لا يتمكن من فعلها!
ذراعاه العاجزتان تتوقفان في الهواء وأحد كفيه لا يزال يقبض على قلادة ناي!


وإن تشوش قلبه بألف شعور فصدره لن يتسع إلا لامرأة واحدة..
لن تكون بعد الآن إلا ناي!

لهذا يكتفي بأن يمسح دموعها بكفه الحر في شارة صامتة بالاعتذار والدعم..
لتجد نفسها تهتف بلهفة :
_الصندوق! كان هذا آخر ما بقي منا هنا! هل هو ما تقصده؟! هل وجدته؟! هل تحتفظ به؟!

يومئ برأسه وهو يغادر بها غرفة ناي مغلقاَ بابها خلفه بقوة كأنه يمنع بقايا رائحتها من التسرب خارجه..
أو لعله يمنع رائحة حواء من أن تعلق داخله!

رواية على خد الفجر

13 Sep, 22:36


تتحفز حواء في جلستها بنظرة مترقبة بينما يرد إلياس بنبرة متهالكة :
_قامت بالاتصال بجدتها من محل هنا في بغداد لتطمئنها انها بخير.. سأذهب إليه الآن وأحاول تقصي الأمر.. لعلي أصل لشيء.. لكنني أردت أن أطمئن على حواء وداوود هنا أولاً.

تشعر شجون بالاضطراب مع ذكر الاسمين..
حواء؟!
هل تكون هي حبه القديم؟!
لكنها تتجاهل هذا مؤقتاَ مع قولها :

_يبدوان لطيفان.. لا تحمل هماَ.. أنا حضرت لهما غرفة سراب.. تعاليا معي..

تقولها شجون مرحبة فترمق حواء إلياس بنظرة متسائلة ليشير إليها مطمئناَ بقوله :
_ناما الآن واستريحا.. سأمر عليكما صباحاَ.. لا تحملا هماَ.

فتنهض مع داوود لتتحرك مع شجون نحو الغرفة التي خصصتها لهما بينما تتقدم طيف منه لتسمعه يهمس ليحيى بقوله :
_أعتذر على إزعاجكما في هذا الوقت.. لكن لم أستطع الذهاب بهما لبيتي.. لا.. لا يليق.

يرتجف صوته في عبارته الأخيرة فاضحاَ السبب الحقيقي لرغبته في عدم الذهاب بهما لبيته..
لم يستسغ أن تدخله امرأة بعد ناي.. ولو كانت حواء!

_لا بأس.. هنا أيضاَ بيت الأمين.. يعني بيتك.. اطمئن.. هما هنا في أمان..
يقولها يحيى باقتضاب وهو يربت على كتفه مردفاَ :

_أعرف أن رأسك يضج بالتساؤلات والمشاعر وكذلك أنا.. لكن.. ليس هذا وقته.. لنهدأ أولاً قبل أن نحكم على أي شيء.

_شجون؟!
يغمغم بها إلياس بتشتت فتهتف طيف :
_لا تقلق.. لن نخبرها شيئاَ حتى نمهد لها الأمر.

يهز إلياس رأسه وهو يغمغم بتوتر :
_يشق عليّ كثيراَ ألا أقضي هذه الليلة مع داوود.. لكنه آمن هنا معكم.. بينما ناي لا اعرف عنها شيئاَ.. سأذهب لعلي أجد أي طرف خيط يوصلني إليها.

يربت يحيى على كتفه بحركة داعمة بينما تهتف طيف بنبرة واثقة :
_لا تتعب نفسك.. ناي لن تعود الآن.


يلتفت نحوها إلياس بنظرة منفعلة تليق بكلماته المتلهفة :
_كيف عرفتِ؟! كلمتك؟!

لكنها تهز كتفيها قائلة :
_لا.. لكنني أفهمها.. هي لم تهرب ضعفاَ بل بحثاَ عن قوة.. ناي تحتاج أن تبتعد حتى تعيد حساباتها وتعرف خطوتها القادمة على أرض صلبة.. أرض لن تستطيع انت منحها إياها الآن.. وبالذات بعد عودة حواء.

يطلق إلياس زفرة مشتعلة وهو يمسح وجهه بكفيه..
فتتنحنح لتغمغم بجرأة:

_سؤال قبيح واعذر وقاحتي لكنني أحتاج إجابته كي يمكنني تقييم الوضع بالضبط..
يرمقها كل من إلياس ويحيى بنظرة متوجسة فتردف :
_كيف عرفت بالضبط أنها كذبت عليك بشأن علاقتها مع مظفر؟!


يحتقن وجه يحيى وهو يقبض بكفه على معصمها بقوة جعلتها تتألم قليلاً ولم يكن رد فعل إلياس أقل انفعالاً لكنه أشاح بوجهه..

فتتنحنح لتغمغم ببساطة وكانها تكلم نفسها :
_تماماَ كما توقعت وقلت لها ! رهيبة أنا! إذن يمكنني القول أنها تحتاج أكثر لأن تبتعد حتى تستعيد توازنها بعد خطوة كهذه.. ليس هيناَ على أي امرأة أن يكتشف الوضع بهذه الطريقة.. لهذا لا تنتظر انت عودة قريبة.

يضغط يحيى أكثر على معصمها بنظرة زاجرة تدرك هي انها ستنال بعدها تقريعاَ لا بأس به..
بينما يطرق إلياس برأسه وهو يتحرك ليغادر البيت بخطوات متثاقلة..




وفي مكانها بغرفتها الجديدة لم تكد حواء تطمئن لنوم داوود حتى تحركت لتتناول من حقيبتها دفتراَ ورقيا..
هذا الذي استقرت به على الأرض مسندة ظهرها على باب الغرفة..
تتأمل المكان الجديد بعينيها قبل أن تتنهد..
لتشرع في الكتابة..




(ابني الحبيب داوود..

كعهدي أكتب إليك رغم أني أعرف أنك لن تقرأ ما اكتبه أبداَ..
لكنك أنت الأقرب.. ومن سواك ألجأ إليه في يوم كهذا؟!

أبوك لم يتخلّ عنا كما كنت أتصور.. طوال هذه السنوات وهو يبحث عني.. حتى زيجته الجديدة يقولون إنها كانت لأجل واحدة ذكرته بي.. هل تدرك شعوري الآن؟! كيف أصفه ؟! فرحة.. فرحة عارمة تغرد بين ضلوعي.. هو عاش يذكرني طوال هذه السنوات.. يتعذب مثلي وأكثر..
لكن.. فرحتي كالعادة منقوصة.. كل فرحة بعدك كانت منقوصة..منذ فقدتك وأنا أدرك ان حياتي بعدك لن تعود كما كانت أبداً.. منذ تلك الساعة التي تتبعني فيها مقداد ليلة لقائي باستبرق ليكتشف الحقيقة ويدرك حملي بك.. آه.. آه.. هل شعرت مثلي ساعتها بقوة ضرباته التي هوى بها على بطني فوق ذاك التل؟! هل سقط فوق رأسك ذاك المطر مثلي؟! هل رددت الريح صدى صرخاتك كما فعلت معي؟! هل شاركتني ذاك الوجع؟!.. بالطبع فعلت.. غير أنك رحلت لمكان آمن بينما أنا بقيت بين براثن وغد لا يرحم.. وغد بقي يحكم قبضته على عنقي طوال تلك السنوات.. لكنني لم أنسك.. منحت اسمك لأخيك فور ما وضعته.. أعطيته كل الحب الذي لم اتمكن من منحه لك.. طوال هذه السنوات وأنا احتمل قهر مقداد لأجله.. أخاف ان أفقده كما فقدتك.. سامحني لو كذبت باسمك اليوم على أبيك.. سامحني.. صدقني فكرت ان اخبره بالحقيقة خاصة بعدما تأكدت من إخلاصه لي.. لكنني خفت.. خفت أن أفقدك من جديد لو أخبرته.. أجل.. خفت أن أفقدكما معاَ من جديد! خفت! خفت!)

رواية على خد الفجر

13 Sep, 22:36


تنهي كلماتها كعهدها بتمزيق خطابها لقطع صغيرة قبل أن تنهار في بكاء عنيف وهي تخفي وجهها بين ذراعيها المضمومتين على ركبتيها..
وليتها بهذا اليسر تخفي هذا الوجع الذي يسحق روحها..
========










العراق.. بغداد


_أطلق عليه النار؟!

تهتف بها حسناء بجزع وهي تغادر مقر الحبس حيث بقي يحيى ليكمل الإجراءات مع المحامي.. بينما كانت طيف تحكي لها ما حدث..
فتمط طيف شفتيها هاتفة بسخريتها الفظة :



_نعم يا (حنينة)! لكن لا تخافي.. هو كالقط بسبع ارواح!

_أين هو الآن؟! كيف حاله؟!

تهتف بها حسناء وهي تتشبث بياقة قميص طيف التي تخلصها منها هاتفة باستنكار :
_دعي ثيابي! وأنا مالي؟! هل أنا من أطلقت عليه النار؟! ولو أني كنت أتمنى صراحة!





يظهر يحيى في هذه اللحظة بملامح منهكة وهو يصافح محاميه شاكراَ قبل أن يلحق بهما..
فتهتف به طيف بنفس السخرية الفظة:
_هل كان يجب أن تتدخل وتمسك يد مهدي ذاك بينما يطلق النار؟! كانت الرصاصة ستصيب قلب صاحبك بدلاً من كتفه وكنا خلصنا!

_بعيد الشر!



تهتف بها حسناء بحدة وهي تلكزها في كتفها فتهتف طيف باستنكار ساخر :
_عدنا لتفعيل وضع (انعدام الكرامة)! دعي حنية قلبك هذه تنفعك عندما يصفعك (فرقع لوز) هذا على قفاكِ من جديد!

تتأفف حسناء وهي تقترب منها.. تربت على وجنتيها ببعض العنف هاتفة بانفعال:
_طيف حبيبتي! لماذا تفسدين الأمر؟! من المفترض الآن أن أشكرك دامعة العينين بامتنان شاكرة ما فعلتِه لأجلي.. لماذا تجبرينني أن أشتمك بأول ما يتبادر لذهني من شتائم بالمصرية والعراقية وكل اللهجات التي أعرفها؟!!

_الله! الله! قعدة السجن غيرتك! صرتِ ترفعين صوتك عليّ! ادخري يا اختي قوتك هذه حتى تقابلي (سبع البرومبة) في المشفى! لو كنت مكانك لما أعجبتني إصابة كتفه بطلقة رصاص وكنت أضفت إليها كسر ضلعين أو ثلاثة على الأقل!

تهتف بها طيف ساخرة فتتأفف حسناء وهي تهم برد حاد لكن يحيى يتدخل، يفرد ذراعه بينهما مبعداَ طيف بعض الشيء قبل ان يخاطب حسناء بضيق حقيقي:


_اسمحي لي.. لا يليق أن اتدخل بينك وبينه.. ولا أن أخبركِ بما ينبغي عليكِ فعله.. لكنكِ الآن في أمانتي.. قولي ماذا تريدين الآن وأنا سأدعمك فيه دون مناقشة.. قولي أنك تريدين العودة لمصر فأحجز لك في اول طائرة وأرسل معك من يرافقك حتى اطمئن لسلامتك هناك.. أو قولي أنك تريدين الذهاب لنزار في المشفى ولن يطالبك أحد بتفسير هذا!

تتردد حسناء قليلاً وهي ترفع يدها عفوياَ فتعود أساورها لتصدر شخشختها المميزة التي افتقدتها..
كانوا قد أخذوها منها بطبيعة الحال عندما كانت في السجن..
تبتسم دون وعي وهي تتذكر تعليق نزار على صوت شخشختها المميز..
قبل أن تدمع عيناها وهي تشعر بحيرة حقيقية..
كل أندية العقل تقول أن تبتعد الآن..
أن تركض قدر استطاعتها بعيداَ..
أن تعود لبيتها وعائلتها و (غية الحمام) خاصتها قانعة أنها خسرت معركتها..
أن الطير الغريب لا يليق بوطنها!
لا تريد أن تراه من جديد..
فلتنتهِ القصة هنا!







_ألا زلت تسألها؟! ألا يبدو لك من (وجه الجرو) المسكين الذي ترسمه على ملامحها أي قرار ستتخذه؟!

تهتف بها طيف باستنكارها الساخر فتزمجر حسناء وهي تلوح بسبابتها في وجهها هاتفة:
_طيف! اسكتي وإلا قسماَ بالله أفش فيكِ انتِ غليلي كله!


_أهلاً وسهلاَ حبيبتي! افعليها وامنحيني عذراَ كي أفش غليلي أنا الأخرى! لم أتشاجر منذ الأمس وهذا خطر على صحتي النفسية! قال (اسكتي) قال!!

تهتف بها طيف وهي تتأهب في وضع قتالي فاردة ذراعيها..

فتتراجع حسناء بخوف فطري يجعل يحيى يكتم ابتسامته قسراَ وهو يشيح بوجهه..
بينما تهتف حسناء وقد انخفضت نبرة صوتها ولا تزال تلوح بسبابتها في وجهها :





_أنا لست خائفة منك.. أنا أحسب حساب زوجك المحترم فقط.. وإلا كان سيكون لي معك كلام آخر!

تطلق طيف شهقتها الساخرة المميزة وهي تكتف ساعديها..
فتلتفت حسناء نحو يحيى..
ترفع أنفها قائلة بكبرياء :
_اختياري واضح.. سأعود لبلدي وعائلتي..لا أريد رؤيته بعد اليوم.. قل لصاحبك يطلقني ويدعني لشأني.. كفاني ما جرى لي من تحت رأسه!

يمط يحيى شفتيه مخفياَ ضيقه من قرارها لكنه لا يملك إلا موافقتها..
فيهز رأسه ببطء وهو يشير لها نحو سيارته القريبة قائلاً :
_فلنعد إذن للمنزل.. استريحي قليلاً قبل أن نشرع في اتخاذ اجراءات السفر.



ترفع طيف حاجبيها بتحفز وهي ترى حسناء تعطيهما ظهرها لتتحرك بخطوات شبه راكضة تهرول نحو السيارة تسبقهما..
يكاد يحيى يلحقها بطبيعة الحال لكن طيف تمسك ذراعه تمنعه فيرمقها بنظرة متسائلة..
تشير بعينيها نحو حسناء التي تتوقف مكانها فجأة لتستدير نحوهما..
ثم تعود بخطوات بطيئة إليهما.. تتحاشى نظرات طيف لتخاطب يحيى بقولها بحروف متلعثمة :




_هو.. هو.. إصابته خطيرة ؟!

_كنت اعرف! والله كنت أعرف! له حق والله (فرقع لوز) يبيع ويشتري فيكِ مادمتِ خالعة عقلك وواضعة مكانه (قرص عجوة طري)!!

رواية على خد الفجر

13 Sep, 22:36


تهتف بها طيف باستنكار ساخر وهي تخبطها بخفة على مؤخرة رأسها فتلوح حسناء بسبابتها في وجهها هاتفة:





_لعلمك! لعلمك هذا ليس ضعفاَ مني! لكن بنت الأصول تقف جوار زوجها في محنته!
_طبعاَ.. طبعاَ يا حبيبتي.. حتى يقف على رجليه وبعدها يصفعكِ على قفاكِ من جديد هكذا!


تهتف بها طيف ساخرة وهي تكرر خبطتها الخفيفة لمؤخرة رأسها فتطلق حسناء زفرة ساخطة وهي تلتفت نحو يحيى هاتفة:
_كيف تحتملها هذه؟! ماسكة عليك زلّة؟!

يتنحنح يحيى بحرج وهو يصفق بكفيه بخفة يشير بعينيه حوله قائلاً بتهكم :
_اشكركما جداَ على هذا العرض الرائع أمام قسم الشرطة.. نكتفي بهذا القدر اليوم من المشاهدين وأعدكما في المرة القادمة ببث مباشر على أكبر فضائيات بغداد!
=======
انتهى الفصل

رواية على خد الفجر

13 Sep, 22:36


لو يهتف بها أنه ما تزوج ناي إلا لأنها كانت في عينيه نسختها!
أنه فعلها لأجلها هي.. لا العكس!
لكن قلبه صار أكبر شاهد أنه يكذب!
ناي التي فرضت حضورها منذ اول خطوة ولجت فيها داخل حياته.. كانت تزرع مع كل خطوة زهرة أقحوان حتى تحولت لحقل كبير ما عاد قادراَ على تصحيره!



_إلياس.

يسمع النداء من على باب بيت العم كرم فيلتفت ليجد الجدة رياحين ترمقهما بملامح دامعة..
فلا يحتاج كثيراَ من الذكاء ليدرك أنها شهدت الموقف كله!

تنفرج شفتاه بترقب وهو يرى العجوز تتقدم منهما لتخاطب حواء بنبرتها الحنون عبر عينيها الدامعتين:


_عدتِ إذن؟! حمداَ لله على سلامتك.

_تعرفينني؟!

الدهشة المرتبكة تنال منها وتنتزع المزيد من أنياب حقدها وهي تسمع العجوز تشير لإلياس بقولها :
_أعرف قصتكما كلها.. هو حقاَ لم يكف عن البحث عنك طوال تلك السنوات..

ثم تشير للبيت قائلة بحفاوة غير مصطنعة:
_تعالي يا ابنتي.. نكمل كلامنا بالداخل.. الجو بارد على الولد.

ترمق حواء البيت بنظرة كارهة وهي تستعيد كل لحظة قاسية قضتها داخله..
لهذا ما كاد إلياس هو الآخر يدعوها للدخول حتى هتفت به ببعض الحدة وهي تنزع معصمها منه :


_بأي صفة تدعوني لدخوله بالضبط؟! بصفته بيتي انا القديم أم بصفته صار بيت عائلة زوجتك؟!

يعجز إلياس عن الرد مع شعوره الهائل بالذنب وهو يرى الدموع المتكدسة في عينيها بينما تضم داوود إليها..
لكن الجدة ترد بحرارة ودموعها تسيل على وجنتيها :


_ادخلي يا ابنتي وسأشرح لك كل شيء.. هو لم يتزوج حفيدتي إلا لأجلك.. وعندما يقضي ربي ان ترجع سالمة فسينتهي هذا الأمر.

تتسع عينا حواء بصدمة حقيقية وهي تنقل بصرها بينهما..
بينما يكز إلياس على أسنانه بغضب كاد يحطمها وهو يسمع قول العجوز..


لكن لماذا يلومها؟!
أليس هذا فقط ما تعلمه؟!
أليس هذا ما لا يزال هو عاجزاَ عن إنكاره أمام صاحبة الشأن الهاربة نفسها؟!!

الغضب اليائس يكاد يدكه مكانه لولا هذه الحركة البسيطة من داوود الذي بدأ يتململ محاولاَ سحب كفه من يده فيضغطه رغماَ عنه وهو يشعر أن وجوده عاد يحتل مشاعره كلها.. !!


فينحني بوجهه نحوه هاتفاَ بحنان :
_لا تخف.. انا معك الآن.
يبتسم له الصبي بحذر ليسأله بالانجليزية :
_أكلمك بالانجليزية أم بالعربية كأمي؟! هي تحبها أكثر لكنني أرتاح للأولى.

تدمع عيناه بالمزيد من الحزن وهو يضمه إليه بقوة هامساَ بالانجليزية وبفيض من حنان يكتسحه لأول مرة بهذه الضراوة :
_كما تحب.
_ماذا أدعوك ؟!

يسأله الصبي بالعربية الركيكة وكأنه أدرك بفطنته أنه سيحبها أكثر..
فيرفع إلياس نظرة حاسمة نحو حواء قبل أن يعود ببصره نحو الولد بقوله المهادن :
_ألم يرحل والدك منذ وقت قصير؟! اعتبرني مثله وأقرب.. ادعني (بابا).
=======


مصر.. الفيوم

_لماذا سكتتم طوال هذا الوقت ؟! لماذا جعلتم سيد يخبرني أولاً؟!

تقولها فجر بعتاب واهن هش كمن لا يجد له حقاَ في فعلها..
تتحسس الأرض بباطن قدمها كما اعتادت فتشعر ان خشونة السجادة تحتها تخدشها..
أو ربما هي فرط حساسيتها من مواجهة كهذه!

كانت تجلس مع حسام وفيصل بالصالون المغلق في بيت الأخير والذي تدخله لأول مرة بطبيعة الحال بعدما طلب حسام أن يتحدثوا وحدهم..
حسام الذي أخبرها بملابسات زواج فيصل وملاذ مؤكداَ ما قاله فيصل..


والذي يزفر الآن هاتفاَ بحنق :
_بماذا أخبركِ سيد هذا غير شأن زواج فيصل من ابنة خالته؟!

تزدرد ريقها بتوتر لكنها تشعر بكف فيصل الجالس جوارها يحتوي راحتها فتأخذ نفساً عميقاَ لتقول بصوت خافت كانها تكره استرجاع شعورها في تلك اللحظات :
_قال لي إن فيصل سيخدعني ويطلب مني توقيع تنازل عن المحل.


يلتفت حسام نحو فيصل بتساؤل فينهض الأخير من مكانه ليحضر الأوراق الممزقة ويريها لحسام هاتفاَ بانفعال عصبي:
_هذا ما يثير جنوني! كيف تبدلت الأوراق في سيارتي؟! من أين أتت هذه؟! فجر كادت توقعها لولا انتباهي ومنعي لها في الوقت المناسب!

يتفحص حسام البقايا الممزقة للحظات قبل أن يسأل فجر :
_لماذا كنتِ ستوقعينها مادمتِ كنتِ تشكين؟!
ينتبه فيصل بدوره لهذا وهو يلتفت نحوها قائلاً:
_صحيح! كنتِ ستوقعين لولا أنني منعتك.

ترتجف شفتاها.. تطرق برأسها وهي تغمغم بمرارة ساخرة :
_قلت لنفسي.. لو كان فيصل حقاَ يخدعني فلن يضيرني بعد هذه خسارة! أي خسارة!

فيعاود فيصل الجلوس جوارها يقبض على كفها بقوة هاتفاَ بنفس الانفعال:
_لهذا السبب بالضبط أريد توضيح الحقائق أمامك.. لا لأبرئ نفسي بقدر ما أريدك أنتِ أن تطمئني.

ينقل حسام بصره بينهما مفكراَ للحظات قبل ان يسأل فيصل :
_هل أخبرت أحداَ بأنك ستجعل فجر توقع اوراق بيع المزرعة؟!


_حنان.. حنان فقط.. وأنا واثق أنها لن تخبر أحداَ.
_لا يشترط أن تخبر أحدهم بطريقة مباشرة.. يمكن أن يكون قد تصنت..

يهمس بها حسام بصوت شديد الخفوت وهو يشير لهما بالصمت قبل ان يتحرك ليفتح الباب فجأة فيتناهى لأسماعهم صوت خطوات هاربة لكن للأسف لا يدرك صاحبها..

رواية على خد الفجر

13 Sep, 22:36


يعود لمكانه ساخطاَ حيث وقف فيصل محمر الوجه بغضب هادر.. وهو يشير للخارج مردفاَ :
_هكذا عرفنا كيف وصل الخبر لسيد.. هناك من سمع حديثي مع حنان وأبلغه.. وهو نفسه من بدل الأوراق في سيارتي..

يقولها ثم يتوجه للخارج صارخاَ :
_ملاذ.. ملاذ..



تخرج ملاذ من المطبخ بملامح مرتبكة وهي تهرب من نظراته تسأله عما يريد..
فيهتف بها بحدة :
_أنتِ من فعلتِ هذا؟! أنتِ من تواصلتِ مع سيد القاضي؟!

_من سيد هذا؟! لا أعرفه!

تهتف بها بجهل مصطنع فيصرخ فيها ثائراَ وهو يعتصر ساعدها بقبضته :

_هل وصل انحطاطك إلى هذا الحد؟! هل بلغت جرأتك هذا المدى؟!

_ما الذي يحدث هنا؟!
تهتف بها معالي بصرامة حادة وهي تغادر غرفتها..
بينما تندفع أساور لتحرر ملاذ الباكية من قبضة فيصل الذي يهتف بثورة عارمة لم يعهدها الجميع من قبل :
_لو لم آمن نفسي في بيتي فأين أفعل؟!

تقترب منه معالي بنفس النظرة الصارمة لتسأله عما حدث فيخبرها..
تصل حنان في هذه اللحظة فتشهق وهي تبسط كفها على شفتيها ترمق ملاذ بنظرة ساخطة لتهتف ملاذ بين شهقات دموعها:


_كلكم صدقتم أنني أنا المذنبة! جعلتموني أتصنت وأكلم رجلاً غريباَ وأبدل أوراق لا اعرف عنها شيئاَ! كلكم تريدون رميي بأي مصيبة كي تتخلصوا مني!

_لو أردت التخلص منكِ كما تقولين لتخليت عنك في أول لحظة! لتركتك لأهل أبيكِ يعاقبونك بطريقتهم على فعلتك الشنيعة ولما اضطررت لأتحمل معكِ وزرها! لكنني لم أفعل! لآخر لحظة حاولت أن أنقذ الوضع وأحافظ عليكِ لأنك أمانتي.. فهل هذا جزائي؟!

كان صراخه الهادر يصل فجر مكانها بينما تحرك حسام ليجلس جوارها باسطاَ ذراعه على كتفيها في دعم صامت..


ووسط كل هذا التوتر لم تكن تريد شيئاَ سوى أن تقف جوار فيصل..
تشد على كفه حتى يهدأ..
كانت المرة الأولى التي تسمع فيها صوته بهذه الثورة..
لكن قلبها كان يدرك أنه كذلك لأنه يخاف خسارتها هي!!

_لم أفعل.. لم أفعل..
تصرخ بها ملاذ باكية وهي ترمق الجميع بنظرات راجية..
فيهتف بها فيصل :
_من فعلها إذن؟!
_ميسرة!

تصرخ بها ملاذ وهو تلوح بذراعيها قائلة :


_رأيتها وهي تفتح سيارتك.. ألم تعطها انت المفاتيح كي تحضر الحقائب!

_مستحيل!
تتمتم بها فجر وهي تقف مكانها فيقف حسام بدوره منعقد الحاجبين وهو يميل عليها بهمسه:
_دعينا لا نتدخل الآن.. اصبري.

بينما يتجمد فيصل مكانه وهو يسمع ملاذ تردف بنبرة منهارة :

_بالطبع لم تخطر على بالك! لأنني الأقرب دوماَ لاتهاماتك الباطلة! حرام عليك.. والله حرام عليك!

ترمقهم معالي بنظراتها الحادة قبل أن تتلفت حولها قائلة :
_أين ميسرة؟!

يناديها فيصل بصوت مرتجف فلا يصله رد..


يرن على هاتفها حتى يجدها تتقدم أخيراَ نحوهم وآثار النعاس واضحة على ملامحها بينما ترفع هاتفها أمامه :
_جئت فور ما سمعت الهاتف.. آسفة كنت نائمة.. استأذنت فجر قبلها وسمحت لي.

_اسألها.. اسألها كما سألتني..

تصرخ بها ملاذ وسط شهقات بكائها لتردف بمسكنة :
_انت حتى لم تساوني بخادمة!

ينعقد حاجبا ميسرة بتساؤل وهي تشعر بمزيج من إهانة وتوتر..
فتسأله عما يحدث..
ليتناول منها فيصل هاتفها يتفحص سجل مكالماته..
ينعقد حاجباه وهو يميز رقماَ غير مسجل..
يقارنه برقم سيد..
وللأسف!
يجده نفس الرقم!

_أنتِ؟!!!... انتِ كلمتِ سيد القاضي؟!!

يهتف بها فيصل باستنكار غاضب فتتراجع ميسرة للخلف هاتفة بارتباك :
_والله لم أفعل! هو رقم غريب اتصل على هاتفي ولما أجبت لم يرد فظننته مجرد رقم خاطئ! أنا حتى لا أعرف رقمه! ولماذا سأكلمه أصلاً وأنا أعرف ملابسات ما صار بينه وبينكم؟!

_كاذبة! أنتِ من فتحت سيارة فيصل! وأنت من كلمتِ سيد ذاك! اعترفي! اعترفي ولا تدعيهم يلقون كل القذارات فوق كتفي أنا!

تصرخ بها ملاذ بدموع حقيقية وهي تلعن نفسها سرا!
كل مرة تتورط في المزيد من الحقارة!
كل مرة تدوس في الوحل أكثر!
لكنها هذه المرة تجاوزت الحد وهي تورط امرأة بريئة معها!


لكن سيد أقنعها انها الطريقة الوحيدة كي تفلت هي من شكوكهم!
لو عرف فيصل فسيطلقها وسيطردها من حياته دون رجعة!
لكن ماذا عن ضميرها الذي يجلدها الآن؟!!
لا يمكنها الاعتراف بالحقيقة!!
لا تستطيع!!



لهذا يبدو انهيارها حقيقياَ تماماَ حد أن حنان تتقدم لتضمها بين ذراعيها بإشفاق بينما تكتفي معالي بمراقبة الموقف ساكتة..

يتوقف فيصل مكانه عاجزاَ عن الرد وهو يرمق ميسرة الباكية بصمت تتمتم ببراءة جاهلة:




_والله لا أعرف عن ماذا تتحدثون! كنت نائمة في غرفتي! نعم.. فتحت سيارتك لأحضر الحقائب.. لكن لم أفعل شيئاَ.. عن أي أوراق تتحدثون؟!

_لا داعي للمزيد من الكلام.. ميسرة احزمي حقائبك وتعالي معي..

يقولها حسام بنبرة صارمة وهو يتقدم منهم مع فجر التي بقيت مطرقة الوجه دون كلام..
لتهتف ميسرة بين شهقات دموعها :
_والله لم أفعل شيئاَ! انت تعرفني!

رواية على خد الفجر

13 Sep, 22:36


فيلتفت حسام نحو فيصل بنظرة ذات مغزى بقوله:
_بالطبع أعرفك.. أنا ائتمنتك على بيتي وزوجتي وابني وبعدها على أختي بكل ظروفها.. شيء كهذا ليس هيناَ على رجل مثلي يكاد يشك في أصابع يده!



يكز فيصل على أسنانه وهو يرمق ملاذ بنظرة حانقة بينما يردف حسام وهو ينظر لفجر :
_أنا سآخذ ميسرة لأنها لن تستريح هنا..كنت أتمنى لو أفعل المثل معك.. لكنني لن أجبركِ على شيء كما وعدتك..انتِ قرري بنفسك ماذا تريدين.. لكنكِ رأيتِ بعينيك ما حدث من أول يوم!




فيتقدم فيصل منها بدوره هاتفاَ بانفعال:
_فجر! تذكري ما قلته لكِ قبل دخولنا إلى هذا البيت! قولي أنكِ لا تريدين البقاء هنا.. وقدمي ستسبق قدمك للخارج!

ينعقد حاجبا معالي بغضب وهي تشعر بالارض تميد تحت قدميها.. تتدخل لأول مرة بهتافها الساخط:



_لكن هذا لم يكن اتفاقنا! كان هذا شرطي الوحيد لقبول هذه الزيجة! ما شأني لو كانت خادمة زوجتك غير مأمونة؟! ما شأني بكل هذا الذي يحدث؟!

لكن فيصل يلتفت نحوها ليتمالك غضبه قائلاَ بهدوء حاسم :

_لم أقل إن لك شأنا بكل هذا يا أمي.. لكن ما أُخذ بسيف الحياء فهو باطل.. فجر وافقت على البقاء هنا لأجلك أنتِ.. كي لا تشعري أنها باعدت بيننا.. لكنني لن أرضى أن تشعر بعدم الأمان في بيتي.. لهذا لن نبقى هنا.. سأجد بيتاَ قريباَ من هنا ننتقل فيه ونكون وحدنا.. ولن أقصر في زيارتكم والاطمئنان عليكم.

_ستتركني إذن ؟! ويتحدث الناس أنك هجرت بيتي؟!

صوتها المرتجف بغضبه يشي بكل هذا الانفعال الذي يملأها..
فيهتف فيصل بحدة لم يتعمدها:
_أرجوك يا أمي.. أرجوكِ.. أخرجي الناس من دماغك وسترين كل شيء بصورة أفضل!


يرمقه حسام بنظرة مستحسنة بينما تتحفز ملامح ملاذ بترقب وهي ترى وجه معالي يزداد احتقاناَ بغضبه..
وحدها أساور تنتبه لرجفة جسدها وكفها الذي انقبض على موضع قلبها فتدرك أنها ستجابه نوبة معهودة..
فتندفع نحوها لتسند جسدها في الوقت المناسب تماماَ حيث سقطت المرأة مغشياَ عليها..
========









العراق.. بغداد

_أهلاً بكم.. تفضلوا..

يقولها يحيى بترقب لم يخلُ من توجس وهو يستقبل إلياس مع حواء وداوود ببيت الأمين..

يصافح حواء بنظرة متفحصة وكأنه يحاول قراءة خبيئتها قبل أن تتلون ملامحه بعاطفة لم يملكها نحو الصبي البريئ الذي بدا مرتبكاَ خائفاَ ملتصقاَ بأمه..

ينحني نحوه ليصافحه فيمد الولد كفه بتردد قبل أن يقبضه بسرعة وهو يرفع بصره نحو إلياس..
إلياس الذي بدا على شفا حفرة من الانهيار وهو يتقدم للداخل..
ومع هذا يجلسهما مكانيهما وهو يفرد ذراعيه حولهما كأنه يثبت دون كلمات أنه سيحميهما..
وبالذات الصغير الذي تعمد الجلوس جواره ليخاطبه بنبرة حنون امتزجت بشعوره بالذنب:
_أعجبك البيت؟!

_كبير جداَ.. وجميل.. أنيق.. لكن بيت أبي كان أحلى!

يشعر إلياس بنصل يدمي قلبه مع كلمات الولد الذي أطرق برأسه مردفاَ بنبرة معتذرة بالانجليزية:
_آسف..لا أقصد ان اكون قليل اللياقة.. لكنني فقط أفتقد بيتنا.

_هنا صار بيتنا يا حبيبي.. هنا نحن في أمان.
تقولها حواء بصوت مرتجف وهي تضم الصغير إليها فيسبل يحيى جفنيه بتأثر وهو يتحرك ليجلس جوار إلياس..
يلكزه بقبضته في فخذه بتلك الحركة الخاصة السرية بينهما منذ صغرهما والتي تعني (دعماَ غير مشروط مهما كانت الأسباب)!

وفي مكانها خلف العمود القريب تعمدت طيف الوقوف تراقب الوضع بتفحص بعد التطورات الجديدة..
إلياس في موقف لا يُحسد عليه حقاً!
ناي اختفت!
الحمقاء لم تسمع نصيحتها وهاهو ذا اكتشف كذبها في نفس الوقت الذي تظهر فيه حواء مهيضة الجناح تطلب الأمان لنفسها ولابنه الذي حُرم منه طوال هذه السنوات!
أي ميزان هذا الذي ترجح فيه كفة ناي أمام كفة حواء بعد كل هذا؟!!

حواء؟!!
حواء!!
تحاول قراءة خبيئتها بخبرتها المعهودة في البشر فتشعر انها أمام حائط سد!
لا تنكر شعورها الخاص جداَ بالضعف نحوها والإشفاق عليها بعد ما عرفته من ماضيها الذي يشبه ماضيها هي..
أب مجرم قاسٍ عضو عصابة لن يختلف كثيراَ عن حماد الرفاعي كما يبدو!
وإن كانت هي استطاعت النجاة بنفسها رغم كل شيء..
فهل ستفعلها حواء؟!

ومع هذا شعرت أن المرأة تخفي أسراراَ كثيرة تفضحها لغة جسدها المتوترة..
شخصية رمادية.. لا يمكنها الآن تصنيفها تحت أبيض أو أسود..
لكنها ستؤدي واجبها نحو عائلة الأمين على أي حال!

لهذا تتقدم منها أخيراَ لتصافحها بحذر فيقوم إلياس بالتعارف بينهما..

قبل ان تظهر شجون في الصورة بفوضويتها المعهودة وهي تسأل بفضول:
_من؟!

يتبادل إلياس ويحيى نظرات مرتبكة..
بينما تتولى طيف دفة الحديث بذكاء هاتفة:
_ضيفا إلياس اللذين حدثتكِ عنهما من أمريكا .. سنستضيفهما هنا بعض الوقت.

تحييهما شجون بطيبتها المعهودة قبل أن تلتفت نحو إلياس هاتفة بلهفة :
_وجدت ناي؟!

8,615

subscribers

2

photos

0

videos