قد أُوقن أن جمهرتكم تحبون الشيخ الحبيب في الله لِمَا أشهدكم كثيرًا من موفور خيره في حكيم دعوته إلى دينه العظيم على بصيرةٍ وإحسانٍ، وإني بذلك له معكم من المحبين؛ بَيْد أن هذا الحرف عن الشيخ في كشف ما لا يعلمه عنه إلا من خالطه عن كثبٍ، وقد كنت بحمد الله من أولئك البُخَتاء.
عرفت أخي منذ ربع قرنٍ من الدهر أول ما سكنت مدينة حلوان حرسها الله، عرفته بطريق أخيه الكبير شيخنا الصادع بالحق عبد الله بن مصطفى ملأ الله جدثه الكريم غفرانًا ورضوانًا وكلَّ خيرٍ أناله وليًّا له توفاه، ثم خالطته مدةً من الزمان مخالطةً عامةً، ثم حُبست معه نحو شهرٍ في قسم حلوان الكئيب.
وإني إذا ابتغيت اختصار شمائله لكم في كلمةٍ جامعةٍ مانعةٍ؛ قلت من فوري: سمير رجلٌ، صحبته في السراء لرجولته فإذا الرجولة المَخرج لديه كما كانت المَدخل إليه، ثم صحبته في الضراء فإذا الرجولة الفائضة عنه كما كانت العائضة منه، وتلك الفضيلة لو تعلمون قاعدة الشمائل في العالمين.
لم يكن الشيخ رجلًا فحَسْب؛ بل كان كل من حوله من أصحابه رجالًا، لا ترى فيهم أحدًا غير راسخ الرجولة، كأنما خُلقوا في رحمٍ واحدٍ من ماءٍ واحدٍ، ليس أجلى من رجولتهم الباطنة بعد رجولتهم الظاهرة إلا ما بينهما من متين الرجولة ومكينها، حتى لكأن ربهم لما جمعهم عليها منعهم ممن دونهم أن يُنادمهم شيئًا.
لعلك الآن بعونٍ من هذا الحرف تفقه ما وراء صدق الشيخ في خطبه ومحاضراته مما يروق سامعيه ويعجبهم، إنها مكرُمة الرجولة، لا انفكاك بين مظاهرها الربانية والبشرية في الإنسان الواحد، يبيت بها صاحبها رجلًا في تصوراته فيصبح بها رجلًا في تصرفاته، إذا رأت عيناه الخنوثة أخطأتها.
نفْس الشيخ في عقيدته نفْس رجلٍ، صورته في دعوته صورة رجلٍ، صوته في مواعظه صوت رجلٍ، موالاته إذ يوالي أولياء الله موالاة رجلٍ، معاداته إذ يعادي أعداء الله معاداة رجلٍ، لا موضع في خلاله لِمَا هو طافحٌ في جمهرة دعاة الزمان البئيس من تخنُّثٍ وتأنُّثٍ في نفوسهم ومواعظهم المائعة.
إنْ هو إلا حفيد سيد رجال المنابر عبد الحميد كشك قدَّس القدوس روحه، وابن شيخ رجالها فوزي السعيد نوَّر النور ضريحه، قد أشبه أفذاذ الرجال أولئك في رجولةٍ عاشوا بها وماتوا عليها؛ أخْذًا للإسلام بقوةٍ، واستمساكًا بالكتاب، وصدْعًا بالحق، وصبرًا على الغربة، لا يعرفون أفعال نسْخ الرجولة هان وأخواتها.
خنوثة الدعوات من خنوثة المناهج، وخنوثة المناهج من خنوثة العقول، وخنوثة العقول من خنوثة النفوس، وخنوثة النفوس من خنوثة التنشئة، أوَ من يُنشَّأ رجلًا كمن يُنشَّأ غير ذلك! لا يستوون جذورًا ولا ثمارًا، وإن أبا عبد الرحمن الشافعي سمير بن مصطفى نبت رجلًا فعاش رجلًا، والله وليُّ ثباته رجلًا.
إني لأخالف بعض الشيوخ في كثيرٍ من الأمر، فإذا كان رجلًا في طريقة وعظه أثنيت عليه بالذي هو أهله في ذلك، من هؤلاء أبو العلاء محمد بن حسين بن يعقوب، فإني أبرأ إلى الله من كثيرٍ من أمره؛ غير أني أذكر خليقته في الوعظ فأذكر رجلًا لا يتثنى تثني مخانيث الدعاة أشباه الذكران أغْلِمَة النساء.
ذلك، ولعل قدَرًا جوَادًا يجمع بعضنا ببعض من خالط الشيخ في سجنه هذا -ممن نجاهم الله- فيحدِّثه بآثار مَنقبة الرجولة التي تجلت لهم منه بما هو أسبغ من ذلك؛ فإن معادن الناس تهتكها الشدائد، كيف بنفيسها وعزيزها! ثم يكون في الجنة برحمةٍ من الله حديثٌ عن سِير كل رجالنا على سُررٍ متقابلين.
ربَّاه أنت قدَرت حرفي هذا في شمائل عبدك يوم الجمعة، وإنك لا تقدُر الشر إلا لخيرٍ، كيف إذا قدَرت خيرًا كهذا عظيمًا؛ فاجعل اللهم خيرك في قدَرك هذا أن تكون نجاته من سجنه يوم جمعةٍ دانيةٍ غير قاصيةٍ، وأن يرجع إلى منبره في مصر المخطوفة جُمُعاتٍ يخطبها تترا، وأن تجعل وفاته يوم جمعةٍ شهيدًا.
- حمزة أبو زهرة