وقد تخرج "الشقاقي" من الجامعة سنة ١٩٧٢م، وعمل بالتدريس في القدس لمدة سنتين، أعاد فيهما دراسة الثانوية من جديد ليحصل عليها بتفوق يؤهله لمنحة دراسية أخرى بكلية الطب في جامعة الزقازيق بمصر. ومن ثمّ بدأت مرحلة جديدة وفاصلة في حياته من العام ١٩٧٤م وحتى سنة ١٩٨١م، والتي تعرف بالمرحلة المصرية.
وفيها ظهرت مواهبه الفكرية والثقافية بكتابة المقالات والدواوين الشعرية ونشرها من خلال مجلة "المختار الإسلامي" التي رأس تحريرها لمدة سنتين بصورة سرية صارت فيها المنبر الإعلامي لأطروحات حركة "الجـهاد الإسلامي"، كما ظهرت سماته القيادية وتأثيره الكبير على الطلبة الفلسطينيين الذين التفوا حوله مثل "رمضان شلّح" و"بشير نافع" و"موسى أبو مرزوق" و"نافذ عزام" و"إبراهيم المقادمة" وغيرهم من الكوادر الذين أسهموا بشكل بارز في المقاومة الإسلامية المجاهدة في فلسطين. وشكلوا الخلية الأولى لتنظيم الجهاد التي أطلق عليها الدكتور "الشقاقي" اسم: "الطلائع الإسلامية" في سنة ١٩٧٨م.[٦].
ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة آية الله "الخميني" في فبراير ١٩٧٩م، ونزْع ملك الشاه "محمد رضا بهلوي" الذي كان يمثل قوى الاستكبار والهيمنة الصهيونية في بلاد الإسلام، واحتفاء أحرار وعلماء العالم الإسلامي بها، من "أبي الأعلى المودودي" في الهند إلى "الغزالي" و"المحلاوي" و"عبد الحميد كشك" في مصر. كتب "فتحي الشقاقي" كتابه ذائع السيط آنذاك: "الخميني.. الحل الإسلامي والبديل" الذي تسبب في اعتقاله بمصر لبضعة أيام. كانت كفيلة بفتح ملفه والتحقيق معه بواسطة اللواء "فؤاد علام" مدير أمن الدولة المصري. ثم تعرضه للاعتقال من وقت لآخر قبل أن يخرج من مصر خائفاً هارباً في أول نوفمبر ١٩٨١م، لأنه كان مطلوباً في قضية قتل الرئيس "أنور السادات"!.[٧].
ولما عاد إلى فلسطين بادر على الفور في نشر خلايا تنظيم الجهاد في الضفة والقطاع والقدس مستقطبا كوادر جديدة عمل على صقلها وبناء قوتها العسكرية والعقائدية بقوة وصلابة.. فمثّلوا موجة جديدة من العمليات الاستشهادية والنوعية، وبداية مرحلة جديدة منذ العام ١٩٨٣م من معاناة للاحتلال لم يختبر مثلها منذ إنشاء الكيان سنة ١٩٤٨م.
فلما ذاع نشاطه وكان وقتها يعمل طبيباً بمستشفى فيكتوريا في القدس، اعتقلته أجهزة الأمن الإسرائيلية وتم تعذيبه لمدة ١١ شهراً سنة ١٩٨٣م، قبل أن يقبضوا عليه مرة أخرى في ١٩٨٦م ويُحكم عليه بالسجن المشدد ٤ سنوات للتحريض ضد الاحتلال.
ولكن "الشقاقي" ما كان ليرضخ ويستكين للعدو داخل السجن بل تابع النضال والتوجيه والإرشاد واستقطاب الرجال ومواصلة العمليات الجهادية حتى اشتعلت فلسطين كلها في نهاية العام ١٩٨٧م بانتفاضة ثورية عظمى هى الأولى في ظل الاحتلال، حيث كان السبب الرئيسي وراءها هو استشهاد خمسة من كوادر الجهاد في أكتوبر ١٩٨٧م. وجدير بالذكر معرفة أن كل هذه الأمور حدثت قبل الإعلان الرسمي لميلاد حركة حـماس على يد الشيخ "أحمد ياسين" في ديسمبر من نفس العام. والتي تأثرت بالفكر الجهادي الذي بثّه الدكتور "الشقاقي" في أرجاء فلسطين.
فما كان من وزير الدفاع "إسحاق رابين" إلا إصدار الأمر بنفيه خارج البلاد في ١٩٨٨/٨/١م. في محاولة للحد من دوره ونشاطه وتهدئةً لأنصاره وتلاميذه في ظل الأوضاع المشتعلة بسبب الانتفاضة التي ضاق فيها المسؤولون الصهاينة بمستوطنيهم، فوصفهم "رابين" في ١٩٨٨/٢/٤م بأنهم يشكلون عبئًا على المؤسسة العسكرية وكتب "يوسي سريد" مقالاً في صحيفة هآرتس في ٢/١١ مؤيدا تصريح "رابين" واصفاً المستوطنات بأنها ثقوب في الرأس وعبء على الدولة دون جدوى حقيقية. فعندما يذهب الشباب اليهودي من مستوطنة لحضور حفل موسيقي يترتب على ذلك فتح طريق خاص لهم بطول عدة كيلو مترات. أما المهمة الدفاعية القتالية وهي مهمة المستوطنات في المحل الأول فلا وجود لها، ومساهمتهم في الدفاع عن أمن إسرائيل يشبه ما تفعله الجدة الخائفة أي البكاء والصياح. ولذا فإن وجود ٦٠ ألف يهودي بين مليون ونصف فلسطيني في الضفة والقطاع سيثير مشاكل عويصة للجيش خاصة في حالة الحرب!.[٨].
وكما عجزت قضبان السجن أن تكسر إرادة المجاهد العظيم، فشل النفي والإبعاد أن يلين عزيمته ويطفئ شعلة جهاده، بل أخد يسافر في أرجاء العالم الإسلامي لجمع الأموال والدعم والتنسيق مع فصائل المقاومة الأخرى على أساس ثوابت لا يمكن التنازل عنها في مقدمتها الموقف من إسرائيل والاعتراف بها، وأن الكفـاح المسلح ضدها أمرٌ ضروريٌ لا جدال فيه، تحت المظلة الإسلامية.