قلتُ: لم يقصد قتادة الحصر الحقيقي لكافة صور الشرك، إنما أراد التنبيه والتركيز فقط على أشهر صور الشركيات عند العرب ومنها الذبح لغير الله؛ لأنّ هذا هو محل البحث بينه وبين الجمهور في حكم متروك التسمية.
🔹1- وذلك كقول النبيّ ﷺ:(لا رِبَا إلَّا في النَّسِيئَةِ).رواه البخاري، لم يقصد النبي هنا الحصر الحقيقي لكافة صور الربا، بل أراد التنبيه فقط على أشهر صور الربا، فلا يفهم أحدٌ مثلًا أنّ ربا الفضل حلال!
🔹2- ومنه أيضًا قول النبي ﷺ:(إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق) رواه البزار، وكلمة "إنما" من أدوات الحصر، ومع ذلك فالمراد ههنا هو التنبيه على مكارم الأخلاق، وليس حصر بعثة النبي ﷺ فيها، فلا يفهم أحمقٌ من هذا الحديث أنّ النبي ﷺ لم يُبعث بالتوحيد مثلًا!.
🔹3- ومنه أيضًا قول النبي ﷺ:(الحج عرفة) ، تنبيهًا منه على أعظم مناسك الحج، ولم يفهم أي عاقل من الحديث أنَّ مناسك الحج محصورة في الوقوف بعرفة فقط!
🔹4- ومنه أيضًا قول التابعي عبد الله بن شقيق:(كان أصحابُ مُحمَّدٍ ﷺ لا يرَوْنَ شيئًا مِن الأعمال تَرْكُه كُفْرٌ غيرَ الصَّلاةِ) صحيح الترمذي، تنبيهًا منه على عِظَم جريمة ترك الصلاة من غير قصدٍ للحصر الحقيقي.
🔹5- ومنه أيضًا قول الزهري:(لا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِسْلامِ حَتَّى يَخْرُجَ كَمَا دَخَلَ إِلا سُجُودًا لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ جُحُودًا لِلَّهِ).اهـ كتاب المحاربة.
والشاهد أنّ هذا الإسلوب مستعملٌ بكثرة في لغة العرب، ويسميه البلاغيون بـ (القصر الإضافي)، وهو نوع من المجاز غرضه التنبيه، وقد استعمل قتادة هذا الأسلوب المجازي في كلامه للتنبيه على أنّ العرب اشتهروا بالذبح لغير الله ولذلك يجب تفسير آية:{وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ} بما اشتهر عن العرب، لا كما فعل الجمهور، فتدبر!
ولكن للأسف جهل الناس اليوم بلغة العرب وبالحقيقة والمجاز جعلهم يَضلون في فهمِ كلام قتادة وغيره.
ومما يُؤكد أنّ قتادة لا يقصد بكلامه الحصر الحقيقي أنَّه كَفَّرَ مشركي العرب بمناط التشريع مع الله في آياتٍ أخر، مع أنّه لم يذكر شرك التشريع في الصور الثلاث التي حكاها عنهم أعلاه.
▪️قال الواحدي في تفسيره:( {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}...مذهب قتادة من المفسرين إنهم عمدوا فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم فقرنوه بالمحرم في التحريم، وأشركوا بينهما في الاسم فقالوا للمحرم وصفر: صفران).اهـ
▪️قال ابن كثير في تفسيره:( {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}...عن ابن عباس: الحجر: الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا، وكذلك قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة).اهـ
▪️قال القرطبي في تفسيره:( {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}...قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي تَحْلِيلَ الْحَلَالِ وَتَحْرِيمَ الْحَرَامِ).اهـ
📍ويمكن توجيهُ كلام قتادة المُشْكَل من وجهٍ أخر: وهو أنَّه أراد أن يُبين أنَّ مجرد الأكلِ مما ذُبِحَ لغير الله ليس بشركٍ، بل الشرك هو الذبحُ لغير الله، وليس الأكلَ نفسَه، وذلك دفعًا للإشكال الذي توهمه الخوارج من آية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وهو أنَّ من أطاع الكفار في مجرد الأكل مما ذُبِح لغير الله أو في مجرد أكل الميتة فهو كافر بالله، ثمّ عمّموا الاستدلال بالآية على تكفير كل عصاة المسلمين، والوجه الأول أظهر.
▪️أخرج ابن ابي حاتم في تفسيره:(عن الشَّعْبِيَّ {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} قَالَ تَزْعُمُ الْخَوَارِجُ أَنَّهَا فِي الأُمَرَاءِ).اهـ
📍وأخيرًا أقول: إنّ المحتج بكلام قتادة لم يفهم الخلاف الوارد في الآية، ولم يستوعب علاقة كلامه بالآية أصلًا، ولذلك عَجِزَ عن فهم كلامه رحمه الله وأخرجه عن سياقه، وعلى أي حال فكلام قتادة ليس بحجة في دين الله، إنّما الحجة هي الكتاب والسنة والإجماع، ولكن آفة الزمان هي التعجل في البحث، والقول على الله بغير علمٍ، وإنزال كلام العلماء منزلة كلام الله ورسوله، ومن هنا هَلَك الكثيرون وضلّوا أنفسَهم وأهليهم، وقد قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) ، والله أعلى وأعلم، وصلِّ اللهم على محمد.
┄┄༻💥💥💥🌷🌷💥💥💥༺┄┄
✍️ كتبه: أبو هريرة التميمي.
بوت التواصل: @Twhied_bot
رابط القناة: t.me/fatawa2all
ٰ