والحديث عام خُصَّ بالدليلين اللذين ذكرهما الحافظ والجلال, وتخصيص العموم غير مُستَنكر إذا سوّغه الدليل, بل ما من عام إلا وقد خُصَّ, ولو قُدّر عدم ورود ما مرّ من الأدلة, لكان يكون تخصيص هذا العموم بالمصلحة المتحققة الحاصلة بالاجتماع على الذكر والعلم, قويٌّ مُتَّجه, وفي تخصيص العموم بالمصلحة قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد.
على أن مذهب الجمهور في قوله عليه الصلاة والسلام: (ما ليس منه) أي: ما يُنافيه ولا يشهدُ له شيءٌ من قواعده وأدلته العامة، ومن هنا قال الشافعيُّ رضي الله عنه: (ما أُحْدِثَ وخالفَ كتاباً أو سنةً أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعةُ الضلالةُ، وما أُحْدِثَ من الخير ولم يُخالف شيئاً من ذلك فهو البدعةُ المحمودة) أخرجه البيهقي في (مناقبه) ولم يخالفه فيه أحد من المتقدمين، ولذا حكى ابن حجر الهيتمي الاتفاق عليه وقال ابن رجب في (الجامع): (والمرادُ بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة).
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): (والمراد به ما أحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة) ويشهد له رواية أبي عوانة في (مستخرجه): (من أحدث في أمرنا ما لا يجوز فهو ردّ) وهو ظاهر في أن ما شهدت أصول الشارع العامة لجوازه فليس من البدعة المذمومة بل هو حسن، فظهر ضعف قول من أنكر البدع المستحسنة كما قاله الشاطبي وغيره.
ومن حُسن سياسة الأيوبيين أنـهم لم يمنعوا الناس من عمل المولد الذي كان قد عمله الفاطميون, بل نقلوه من مظاهره المخالفة لقانون الشرع, إلى ما استحسنه العلماء في وقتهم من قراءَة السيرة والاجتماع على الذكر والخير والعلم والنشيد وإطعام الطعام وغير ذلك من أعمال البر والخير.
فصل
وقد ذكروا أن الحافظ أبا الخطاب بن دحية صنَّفَ للملك المظفر صاحب إربل مولداً أسماه (السراج المنير) فأقام المظفرُ الاحتفال به, واستحسنه علماءُ المشرق, وكذا عمِلَ المولدَ بالمغرب العلامةُ أحمد العزفي السبتي كما ذكره ابنُ مرزوق, فاستحسن صنيعَه علماءُ المغرب.
وقال ابن الخديم اليعقوبي:
وعمل المولدَ مَلْك إربلِ...تابع بعضَ الصُلحا بالموصلِ
أول من أحدثَهُ وقد قصدْ...تقرُّباً بذاكَ لله الصمدْ
وكان يُجزل العطا والنائلا...مُحتفلاً به احتفالاً هائلا
وهوَ بالعقل والبَطاله...مُتّصفٌ والعلم والعداله
والعلما والصلحا ما اعترضوا...إذ حضروا لديه بل بذا رضوا
وصنّف الشيخُ ابن دحيةَ الرضى...لهُ من أجله كتاباً مُرتضى
وقد رخص في عمل المولد والاجتماع فيه على العلم والخير والاحتفال فيه بصنع الطعام وإظهار السرور جماعة من المحققين كأبي شامة المقدسي وأبي الخطاب بن دحية والحافظ العراقي والحافظ ابن حجر والسيوطي والسخاوي والقسطلاني والزرقاني وعليه أكثر المتأخرين.
وأما من روي عنه إنكار عمل المولد كشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وابن الفاكهاني وأبي زرعة بن العراقي وغيرهم, فهم صنفان: طائفة أنكرته في الجملة وأنه بدعة كالفاكهاني والشاطبي, وطائفة لم تُنكر أصلَه وإنما أنكرته لـما يحدث الغلاةُ فيه من السماع المحرّم والرقص وهو مقتضى تصرف العلامة ابن الحاج صاحب (المدخل) وغيره.
وهذا بدعة دون ريب, لكنهم لا يحرّمون الاحتفال الذي هو الاجتماع على الذكر والعلم, أو إحياء المولد بالطاعة من صوم ونحوه, بدليل أن ممن روي عنه إنكار المولد الحافظ ابن حجر والسيوطي والسخاوي, وهولاء ممن ذهبوا إلى جواز الاحتفال به كما تقدم.!
فطريق الجمع بين ما نُقل عنهم أن يقال إنـهم إنما حرّموا المولد الذي اشتمل على ما جاءت الشريعة بالنهي عنه كما مرَّ وصفه, واستحسنوا منه ما اشتمل على مصلحة مقصودة مطلوبة للشارع, وخلا من المنكرات.
ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قال في كتاب (الصراط المستقيم): (فتعظيمُ المولد، واتخاذُه موسماً، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لـحُسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا يبيّن أن كلامه في إنكار عمل المولد إنما هو لما يُعمل فيه من البدع والمنكرات, فأما الاجتماع على الخير والذكر والعلم فحسنٌ عندَه, بدليل أن كلامه متوجه إلى عمل المولد الذي فيه مظاهاة للنصارى في أعيادهم بمولد المسيح عليه السلام, ومعلوم أنه لا يكون فيه مظاهاة للنصارى إلا إن كان مشتملاً على الشرك والبدع, فإن خلا منها ولم يكن فيه إلا الذكر والعلم والنشيد فحسنٌ كما مرَّ تقريره.
ومن تمسك بنحو الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين وأنـهم لم يفعلوه فهو غالط, لأن المراد حيث وجد هذا الأمر في زمانـهم, ولم يُنقل عنهم فعلُه, وقد عُلم أن عمل المولد إنما حدث بعد زمانـهم بدهر, ولو كان الأمر على ما فهمه لانسدَّ باب الاجتهاد, وهذا فاسد جداً, لأن النصوص والمنقولات تتناهى, والحوادث غير متناهية, ومحال أن يُقابل ما يتناهى بما لا يتناهى.!