ذَهَبْتُ إِلَى أَحَدِ مُدُنِ إِيرَانَ، وَكَانَ هُنَالِكَ فِي تِلْكَ المَدِينَةِ رَجُلٌ يَبْدُو عَلَيْهِ الذُّهُولُ، يُطَارِدُهُ الصِّبْيَانُ وَيَضْحَكُونَ عَلَيْهِ. وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَتَصَوَّرُونَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَجْنُونٌ.
وَبَعْدَ أَيَّامٍ، دَخَلْتُ مَسْجِدًا لِلْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الفَرِيضَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ سِوَايَ، وَبَيْنَمَا أَخَذْتُ أَتَهَيَّأُ لِلْعِبَادَةِ، شَعَرْتُ بِدُخُولِ شَخْصٍ إِلَى المَسْجِدِ. فَالْتَفَتُّ، وَإِذَا بِهِ ذَلِكَ المَجْنُونُ. فَاسْتَتَرْتُ خَلْفَ عَمُودٍ هُنَاكَ، كَيْ أُرَاقِبَهُ: مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ؟
فَرَأَيْتُهُ أَخَذَ يَنْظُرُ إِلَى جَوَانِبِ المَسْجِدِ، وَبَعْدَ أَنْ اطْمَأَنَّ بِعَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ، شَرَعَ فِي صَلَاةِ الخُشُوعِ، وَقِرَاءَةٍ مُتَأَنِّيَةٍ فِي أَجْزَائِهَا وَأَذْكَارِهَا وَأَدْعِيَتِهَا، كَوَاحِدٍ مِنْ أَفْضَلِ العُقَلَاءِ.
فَكُنْتُ مُتَحَيِّرًا مِمَّا رَأَيْتُهُ مِنْهُ. كُلَّمَا أَمْعَنْتُ النَّظَرَ فِيهِ، لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ أَقَلَّ عَلَامَةٍ لِلْجُنُونِ!
رَاقَبْتُهُ بِمَزِيدٍ مِنَ الدِّقَّةِ، حَتَّى مَلَكَتْنِي الدَّهْشَةُ. وَلَمَّا انْتَهَى، وَأَرَادَ أَنْ يَمْشِيَ، أَسْرَعْتُ إِلَيْهِ. فَأَخَذَ يُمَوِّهُ عَلَيَّ شَخْصِيَّتَهُ الحَقِيقِيَّةَ بِتَصَرُّفَاتٍ جُنُونِيَّةٍ!
قُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنِّي رَأَيْتُكَ مُنْذُ أَنْ دَخَلْتَ المَسْجِدَ، فَقَدْ دَلَّتْنِي صَلَاتُكَ الخَاشِعَةُ عَلَى أَنَّكَ إِنْسَانٌ عَاقِلٌ، وَلَسْتَ كَمَا تُظْهِرُ نَفْسَكَ فِي الطَّرِيقِ. قُلْ لِي: لِمَ تَتَصَرَّفُ كَالمَجَانِينِ؟
فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَّا بِحَرَكَاتٍ جُنُونِيَّةٍ، أَصَرَّ بِهَا أَنْ يُغَطِّيَ عَلَيَّ شَخْصِيَّتَهُ.
فَكُلَّمَا رَجَوْتُهُ، أَبَى إِلَّا إِصْرَارًا عَلَى التَّمْوِيهِ، وَهُوَ يَسْعَى إِلَى التَّهَرُّبِ مِنِّي.
وَهُنَا قُلْتُ لَهُ: أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّ الَّذِي جُنِنْتَ مِنْ أَجْلِهِ، قُلْ لِي الحَقِيقَةَ!
بِهَذَا القَسَمِ، انْهَمَرَتْ دُمُوعُهُ وَبَكَى... فَعَلِمْتُ أَنِّي وَضَعْتُ إِصْبَعِي عَلَى جُرْحِهِ!
نَظَرَ إِلَيَّ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا دُمْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ عَلَيَّ بِمَنْ جُنِنْتُ مِنْ أَجْلِهِ، فَإِنِّي أُخْبِرُكَ بِحَقِيقَةِ أَمْرِي.
فَلَقَدْ كُنْتُ كَثِيرَ اللِّقَاءِ وَالنَّظَرِ إِلَى الإِمَامِ الحُجَّةِ، صَاحِبِ العَصْرِ وَالزَّمَانِ، رُوحِي لَهُ الفِدَاء.
وَلَكِنْ، بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ صَدَرَتْ مِنِّي، وَلَّتْ عَنِّي هَذِهِ السَّعَادَةُ.
وَمِثْلِي لَيْسَ لَهُ إِلَّا الجُنُونُ تَعْبِيرًا عَنْ شَقَائِهِ وَخُسَارَتِهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا عِنْدِي بِلَا أَهَمِّيَّةٍ.
قُلْتُ: هَلْ يُمْكِنُكَ الإِفْصَاحُ لِي عَنْ تِلْكَ المَعْصِيَةِ لِيَعْتَبِرَ النَّاسُ وَيَرْتَدِعُوا؟
قَالَ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ إِلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ نَظْرَةَ رِيبَةٍ وَشَهْوَةٍ.
أَفَهَلْ تَسْتَحِقُّ هَذِهِ العَيْنُ الخَائِنَةُ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ وَلِيِّ اللهِ الأَعْظَمِ، الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ، مَرَّةً أُخْرَى؟
وَالآنَ، فَهَلْ تَعْلَمُ خَاسِرًا أَشْقَى مِنِّي؟!