فقد أطلعني بعض الإخوة على تغريدة لفاضل، كانت تعليقًا على بعض ما ذكر في درس دليل الطالب، ومفادها :
أن الاستدلال بالقياس على الكلب في تسبيع النجاسات لا يستقيم على تقريرات المتأخرين، وإنما يستقيم على تقرير المتوسطين والمتقدمين الذين فرّقوا بين بول الآدمي وعذرته وبقية النجاسات .. لأن المتأخرين يقررون أن البول والعذرة كسائر النجاسات لا تزيد على نجاسة الكلب ..
وأكد المعترض رأيه بأن المتأخرين من الأصحاب لا تجدهم يذكرون هذا الاستدلال .
وألمح إلى أن طباعة كتاب زاد المسافر للخلال أظهر للحنابلة هذا الدليل (القياس على الكلب) ففرحوا به وكأنهم لا يعرفون عنه من قبل! لكنه بزعمه لا يستقيم على أصلهم.
وتضمن كلامه غفر الله له تعريضًا ببعض من يدرس المذهب من المشايخ، بالعجلة وقلة التأني .
وأقول مستعينا بالله تعالى ، ومسترشدًا به، ومعتصمًا به:
١- أما أصل الاعتراض فالمعترض الكريم خلط بين مسألتين:
فالمتقدمون فرقوا بين البول وسائر النجاسات في حكم تنجيسهما للماء عند ملاقاتهما له .. والكلام في التسبيع إنما هو في حكم تطهير ما تنجس فأين وجه الاشتباه بين حكم التنجيس وحكم التطهير؟
ثم إن المعترض الموفق توهم أن قول المتأخرين في (مسألة التنجيس) أعني تنجيس الماء الكثير: (ولأن البول لا يزيد على نجاسة الكلب) توهم أن هذا يمنع من صحة قياس البول على الكلب في (مسألة التطهير)، وأن الاستدلال بالقياس في (مسألة التطهير) يعود على الأصل بالإبطال.
ولو تأنى المعترض الكريم ، وراجع كتب الأصحاب، وسأل عمّا أشكل عليه لكان أولى به، بدل أن يجعل إشكاله كالإلزام للفقهاء.
وسأبين كيف أن المعترض الفاضل لم يتبين له الاستدلال، وأن الإيراد الذي ذكره لا أثر له:
👈🏻 في مسألة ( تطهير النجاسات ) ، ورد الأمر بالغسل سبعًا في ولوغ الكلب، والعدد الوارد فيه ليس تعبديًا مقتصرًا على مورد النص، -ولذا قاسوا على الإناء الثوب والبدن اتفاقا وقاسوا عليه الخنزير- ولكن علة العدد كونه أبلغ في إزالة النجاسة، كالعدد في الاستجمار، وإذا لم يكن تعبديًا، فيقاس عليه غيره من النجاسات لكونه أبلغ في إزالة النجاسة.. هكذا فقط .
فما علاقة خلاف المتقدمين والمتأخرين (في مسألة التنجيس): هل بول الآدمي من حيث النجاسة يزيد على بول الكلب أو لا ؟
ولو سلمنا بعلاقة المسألة .. فقد اختلفوا ، هل يزيد أو لا يزيد، وعلى كلتا الحالين؛ لا مانع من القياس.. لأن بول الآدمي إن كان يزيد على الكلب في النجاسة فقياسه عليه في التسبيع قياس أولوي، وإن كان لا يزيد فالقياس مساوٍ، وشرط القياس متحقق فيهما جميعا، فأين الإشكال ؟
نعم .. يتوجه لو قيل جدلًا إن نجاسة الكلب أبلغ من البول في (مسألة التنجيس).. فلا يتناسب مع قولهم في (مسألة التطهير) بقياس البول وسائر النجاسات على الكلب، لأنه قياس أدنى على أعلى.
لعل هذا ما انقدح في خلد المعترض الكريم ، لكن ما نحن فيه بالعكس.
👈🏻 ثم هاهنا أمر: وهو أن الاعتبار ليس في مجرد كون البول ونحوه مثل الكلب أو لا في النجاسة، بل من جهة أخرى، وهي جهة الاتفاق والاختلاف، كما نص ابن تيمية والزركشي وابن المنجى وغيرهم فإن التسبيع إذا وجب في نجاسةِ مختلف في نجاسته، ومأذون بالانتفاع به، وهو الكلب، فلأن يجب في نجاسةٍ مجمع عليها ومشدد فيها من باب أولى، أعني نجاسة البول.
ولذا كان قياسًا أولويًا ، أي من حيث إنها نجاسة مجمع عليها .
وهذه دلالة فحوى الخطاب أو ما يسمى بدلالة التنبيه بالأدنى على الأعلى .
٢- أيّد المعترض الكريم رأيه بقوله: "ولذا لا تجد هذا الاستدلال عند المتأخرين".
وهذه الجملة تؤكد أن المعترض الكريم كان بحاجة للرويّة والأناة، ويكفي في ردها تصفح المسألة في كتب الأصحاب، فالكتب المعتمدة للمتأخرين من الحنابلة كلها نصت على الاستدلال بالقياس على الكلب، ذكره في كشاف القناع، وشرح المنتهى للمصنف، وشرح المنتهى للبهوتي، ومطالب أولي النهى، والمنح الشافيات شرح المفردات، وشرح الدليل للمقدسي وغيرها .
ولم أذكر الشرح الكبير وشرح العمدة لشيخ الإسلام والمبدع للبرهان بن مفلح وشرح الزركشي والممتع لابن المنجى لئلا يقال هذه كتب المتوسطين.
٣- بعد ما تبين أن المتأخرين قد ذكروا هذا الاستدلال، وأنهم يعلمون به ويقررونه، ولم يتعارض مع تقريراتهم الأخرى = تبين لك أخي القارئ بطلان ما أوهمه كلام المعترض الفاضل من أن طباعة كتاب زاد المسافر كان سببًا في اكتشاف هذا الدليل، وأن الحنابلة فرحوا به كأنهم كانوا على جهل به، ونحو ذلك مما قد يفهمه كلامه !
غاية ما في الأمر أن كتاب زاد المسافر كشف لنا أن هذا الدليل الذي يستدل به الأصحاب على تتابع طبقاتهم أصله دليل منصوص عن الإمام ، وهذه رتبة عالية للدليل .
فليت المعترض الكريم ، تريث في حكمه، وتأنى، وأحسن الظن بالمشايخ ومن يدرس المذهب .
وفقنا الله وإياه للعلم النافع والعمل الصالح ، اللهم اهدنا وسددنا .
✍🏻
كتبه/
أحمد بن نجيب السويلم
٢٧ رجب ١٤٤٦هـ