وسألتك لأمتي طعامًا لم يأكله أحد كان قبلهم, فأمرتني أن أدعوك من قبل المشرق ومن قبل المغرب، فناديتك من شرقي أمتي فأعطيتهم المن من مشرق لنفسي, (34) وآتيتهم السلوى من غربيهم من قبل البحر, واشتكيت الحر فناديتك, فظللت عليهم بالغمام. فما أطيق نعماك علي أن أعدّها ولا أحصيها, وإن أردت شكرها لا أستطيعه. (35) فجئتك اليوم راغبًا طالبًا سائلا متضرعًا, لتعطيني ما منعت غيري. أطلب إليك، وأسالك يا ذا العظمة والعزة والسلطان، أن تريني أنظر إليك, فإني قد أحببت أن أرى وجهك الذي لم يره شيء من خلقك! قال له رب العزة: ألا ترى يا ابن عمران ما تقول؟ (36) تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق! لا يراني أحد فيحيا, [ ليس في السماوات معمري, فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي, وليس في الأرض معمري, فإنها قد ضعفت أن تسع بجندي]. (37) فلستُ في مكان واحد فأتجلى لعين تنظر إليّ. قال موسى: يا رب، أن أراك وأموت, أحب إليّ من أن لا أراك وأحيا. قال له رب العزة: يا ابن عمران تكلمتَ بكلام هو أعظم من سائر الخلق, لا يراني أحد فيحيا! قال: رب تمم علي نعماك, وتمم عليّ فضلك, وتمم عليّ إحسانك، بهذا الذي سألتك، (38) ليس لي أن أراك فأقبض, ولكن أحب أن أراك فيطمئن قلبي. قال له: يا ابن عمران، لن يراني أحد فيحيا! قال: موسى رب تمم عليّ نعماك وتمم عليّ فضلك, وتمم علي إحسانك بهذا الذي سألتك، فأموت على أثر ذلك، (39) أحب إلي من الحياة! فقال الرحمن المترحِّم على خلقه: قد طلبت يا موسى, [وحي ] لأعطينك (40) سؤلك إن استطعت أن تنظر إليّ, فاذهب فاتخذ لوحين, ثم انظر إلى الحجر الأكبر في رأس الجبل, فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلا مجلسك يا ابن عمران. ثم انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير، ففعل موسى كما أمره ربه, نحت لوحين ثم صعد بهما إلى الجبل فجلس على الحجر، فلما استوى عليه, أمر الله جنوده الذين في السماء الدنيا فقال: ضعي أكتافك حول الجبل. فسمعت ما قال الرب، ففعلت أمره. ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي موسى أربعة فراسخ من كل ناحية, ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمرُّوا بموسى, فاعترضوا عليه, فمروا به طيرانَ النُّغَر، (41) تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد, فقال موسى بن عمران عليه السلام: رب، إني كنت عن هذا غنيًّا, ما ترى عيناي شيئًا، قد ذهب بصرهما من شعاع النور المتصفِّف على ملائكة ربي! ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه! فهبطوا أمثال الأسد لهم لَجَبٌ بالتسبيح والتقديس, (42) ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى ومما سمع, فاقشعرّت كل شعرة في رأسه وجلده, ثم قال: ندمت على مسألتي إياك, فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له كبير الملائكة ورأسهم (43) يا موسى، اصبر لما سألت, فقليل من كثير ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة: أن اهبطوا على موسى, فاعترضوا عليه! فأقبلوا أمثال النسور لهم قَصْفٌ ورجفٌ ولجبٌ شديد, (44) وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس، كلجَب الجيش العظيم، كلهب النار. (45) ففزع موسى, وأَسِيَتْ نفسه وأساء ظنه, (46) وأَيِسَ من الحياة, فقال له كبير الملائكة ورأسهم: مكانك يا ابن عمران, حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران! فأقبلوا وهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مرُّوا به قبلهم, ألوانهم كلهب النار, وسائر خلقهم كالثلج الأبيض, أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس, لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مرُّوا به قبلهم. فاصطكّت ركبتاه, وأرعد قلبه, واشتد بكاؤه, فقال كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت, فقليل من كثيرٍ ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى! فهبطوا عليه سبعةَ ألوان, فلم يستطع موسى أن يُتبعهم طرفه, ولم ير مثلهم، ولم يسمع مثل أصواتهم, وامتلأ جوفه خوفًا, واشتد حزنه وكثر بكاؤه, فقال له كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران، مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ! ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة: أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني موسى بن عمران، واعترضوا عليه! فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نارًا أشد ضوءًا من الشمس, ولباسهم كلهب النار, إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم, يقولون بشدة أصواتهم: " سبوح قدوس، رب العزة أبدا لا يموت " في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا, وهو يبكي ويقول: " رب أذكرني, ولا تنس عبدك، لا أدري أأنفلتُ مما أنا فيه أم لا إن خرجت أحرقت, وإن مكثت مت " ! فقال له كبير الملائكة ورئيسهم (47) قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلئ جوفك, وينخلع قلبك, ويشتد بكاؤك، فاصبر للذي جلست لتنظر إليه يا ابن عمران! وكان جبل موسى جبلا عظيما, فأمر الله أن يحمل عرشه, ثم قال: مرُّوا بي على عبدي ليراني, فقليل من كثيرٍ ما رأى !