" في طَمْسِ الطِّرسِ وحكِّ صدأِ النَّفسْ"
كان الشاعر علي وجيه قد إتصل بي في وقت متأخر من مساء أمس، قبل بلوغه البصرة بساعتين أو ثلاث، مستعلماً مني ما إذا كانت بي رغبةٌ في تقديمه، هو الحبيبُ والخدنُ والصديقُ وبالتهذيب الذي نعرفه عنه، وإذعاناً لما بيننا من الودِّ والوفاء واقتفاء أثر الجمال شقَّ علي التقاعسُ والاعتذار، وهكذا تجلببتُ اليه بجلباب المحبة والتقدير، وآثرتُ أنْ أكتب الورقة القصيرة هذه، زاهداً بالتقديم الشفاهي، الذي كثيرا ما تلفظه الذاكرة، ويذهب في النسيان.
قد يأخذُ غيرُ واحد على عليٍّ بأنّه "يقسِّمُ جسمَه في جسومٍ كثيرة" بحسب عروة بن الورد، ذلك لأنه أتي الشعرَ وأصدر فيه سبعة كتب هي( سرطان، بأجزائه الثلاثة) و(منفائيل) و(أصابعي تتكلم جسمك يستمع) و(دفتر المغضوب عليهم والضالين) و(الصوائت والصوامت والخوافت) و(كتاب الكتابين) و(يسحل حياته على الطريق السريع)، ويشترك مع أصدقاء فيصدر له الكتاب والكتابين والثلاثة، ويعمل في الصحافة والإعلام والى اليوم، فتولى رئاسة تحرير وكالة بغداد اليوم الإخبارية بين العامين 2020 -2021 وعمل مديرَ تحرير تنفيذي في الوكالة ذاتها بين عامي 2017 – 2020 ومحررا ثقافيا في جريدة العالم، وقناة NRT ومحررا للقسم السياسي في جريدة المدى وقناة الاتجاه، ومسؤولا عن البرامج الثقافية في القناة ذاتها، ومقدما للبرامج في قناة آسيا، وقدم برنامج "ذاكرة معاصرة" على قناة السومرية، وصالون علي وجيه على قناة آسيا، ثم يعد كتباً في الشعر والسيرة ليس أولها كتاب (استيقظ يا يوسف) ولا آخرها كتاب (واتساب عراقي) الذي اشتركت معه حوراء النداوي، وأسهم في صناعة أكثر من كتاب خاص في التشكيل العراقي.
هل أخطأ عليٌّ في اختياره بأن يكون ذلك كله، وهل أتاح عمره الفيزياوي له انتاج الكتب والاعمال الصحفية والتلفزيزنية كلها هذه، فضلاً عن حضوره اللافت في وسائط التواصل الاجتماعي بوصفه واحداً من أشهر المدونيين في العراق؟ شخصياً أقول: قد يؤتى المرءُ حظّاً من ذلك وأكثر، وحين نقرأ في كتب سير الكتاب والشعراء والفنانين العالميين سنجد من هم على هيئته وأزيد، كما أنني أقول بأنَّ الشاعر الممتلك لناصية لغته، والمحصِّن نفسه بالقراءات المتعددة والمتنوعة، والمؤتى نصيباً في الحفظ، وقوة الذاكرة، وسرعة البديهة، سيكون قادراً على الإتيان بالكثير الجميل، والمختلف الأجمل، وأشهدُ معرفتي بأنَّه كان واحداً من هؤلاء الشعراء الكتبةِ الحافظين.
هل قلتُ شيئاً لا يعرفه أحدٌ عنه؟ لا، بكل تأكيد! وما أنا هنا بمعرِّف به، ولا مقدِّم له، ولم تكن زيارتُه للمدينة التي يحبُّ بمفاجئةٍ لنا، فهو المتغزلُ بها في أكثر من قول شعري، وعمل فني، كما وله في كل بيت من بيوت أصدقائه نصيبٌ من الود والمحبة، لكنَّ الأولين درجوا على هذا النهج في الاحتفاء، وتقديم المحتفى بهم، وها نحن على هداهم سائرون وبهم مقتدون، ولعمري لقد جاؤوا بالحسن الجميل، والبديع والاصيل، فكان شرعةً ومنهاجاً. اللهم إجعلنا من الذين يستمعون الشعر، فيقتفون أثره، ويتبعون أحسنه، ويذهبون بقلوبهم الى مواطن العذوبة والجمال فيه، ويهتدون بقناديل الكلم الطيب الى حدائق الصفاء والنور، إنك على قلوبنا وقلوبهم أمينٌ قمين.
بدا لي أنَّ علياً الشاعر وقع في سنيّه التالية أسير حبائل لوحات وكتب شاكر حسن آل سعيد، بطرسها المكتوب، ولونها المسطور، وبما عرف عن آل سعيد من تجلٍّ صوفيٍّ، وعنايةٍ انتهت به كواحدٍ من السحرة المهرة الكبار، الذين جعلوا فضاء الحرف في أعمالهم معادلاً موضوعياً للون. يقول سهيل سامي نادر بان شاكر حسن كان "يدفع الوصف اللغوي الى الاقتراب من مجريات سطح اللوحة حد التطابق" وفي مقام آخر يلمّح سهيل الى أنه "عالج حياته في فنه وصارع تعديات السلطة" هل أقول بـأنَّ علياً حاول الخروج من دائرة الشعر لكي يستريح الى دوائر التشكيل، وهو المعروف بيننا بوصفه مقتن لوحات كبير، قبل أن يكون مطلسماً ومزخرفاً ومطرِّساً ومنتجاً لأعمال فنية عرّف بها فنانون معروفون في بغداد والبصرة؟
هل كانت غواية اللون والحرف أعتى من غواية الشعر فيه؟ لا أعلم، لكنني، وعلى وفق ما شاهدت وقرأتُ أقول بأنَّ الشاعرَ الشاعرَ قادرٌ بعدته وأخيلته على أخذنا الى حيث يريد، آيتي في ذلك قول ابن زريق: ( كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ) . لدى الشاعر إحساسٌ فطريٌّ يستعمله أحياناً وبظنّه أنَّه يعمل على إعادة توازن الكون، ويعمل على استرداد ما فقده الانسان في رحلته الداخلية، مخلصاً الى ما انطوت عليه ذاتُه شعراً وألواناً وطروسا، ولا جناح إن قلتُ: ونساءً وهرطقات!