مصطفى إنشاصي
لقد حظي وطننا منذ القدم باهتمام الدول الكبرى، نظراً للخصائص الاستراتيجية التي يتمتع بها، حيث أضافت عليه تلك الخصائص أهميه خاصة، فجعلته أهم المناطق الحيوية، ومهد الحضارات الإنسانية، وملتقى الحضارات القديمة الشرقية والغربية، ومعبراً رئيسا لطرق المواصلات البرية والبحرية والجوية، وجسراً لجيوش الإمبراطوريات الكبرى قديماً وحديثاً إلى الشرق والغرب، ومسرحاً للصراعات الغربية الطامعة فيه، ومحوراً تدور حوله الكثير من الأحداث العالمية، وميداناً للتنافس فيما بينهما، لدرجة أن ساد الاعتقاد بأن من يريد أن يسيطر على العلاقات الدولية، يجب عليه أن يسيطر على سورية من المنطقة العربية عامة، وفلسطين خاصة. كتب البريطاني (جورج أدم سميث) عام 1891 في معرض الإشارة إلى الدور التاريخي والجغرافي لسورية الطبيعية ككل:
"إن تاريخ سورية هو دورها العظيم كوسيط، وهو الدور الذي حافظت عليه منذ أقدم الأزمان إلى يومنا هذا. وبتحديد أدق تقع سورية بين قارتين، آسيا وأفريقيا، بين الموطنين الأولين للإنسان هما وادي الفرات ووادي النيل، بين العالمين الشرقي القديم من جهة والغربي الحديث من جهة ثانية" .
موقع سورية الطبيعية الجغرافي والاستراتيجي يحظى لدى المفكرين الاستراتيجيين في العالم بأهمية كبيرة لمن يخطط للهيمنة على وطننا، والتحكم، في حركة المواصلات والاتصالات والتنقل الدولية فضلاً عن التحكم في مصادر الطاقة عالمياً. فالموقع الاستراتيجي لوطننا جعل منه مدخلاً لإفريقيا، وجسراً لأسيا، ومعبراً إلى المحيطات الكبرى، ومشرفاً على عدد من طرق المواصلات البحرية الهامة للتجارة العالمية، وقد ازدادت خطورة موقعه مع ازدياد نشاط التجارة العالمية، واتساع حركة النقل والسياحة، والانفتاح الثقافي والحضاري والتجاري، مما جعله موقعاً مهماً وقت السلم، كما هو مهم وقت الحرب، وأكسبه أهمية خاصة في السياسات الدولية. فهو يعتبر "نقطة التقاطع الهامة بين أوروبا وأسيا وإفريقيا، بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، وتتحكم المنطقة بمجموعة من أهم مواقع المرور الدولية، وهي: قناة السويس بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ومضيق باب المندب بين البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي، ومضيق هرمز بين الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي، ومضيقي البوسفور والدردنيل بين البحر الأسود والبحر المتوسط، ومضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي" .
ذلك الموقع المتميز لوطننا كقلب العالم، وما فيه من بحار وشاريين ومضائق بحرية وطرق برية لا غنى لحركة التجارة العالمية عنها، جعل الحضور التجاري والعسكري للدول الغربية الكبرى في وطننا حيوياً لنموها وتطورها، ولفرض سياستها على الأمة. كتب (أ . ت .ماهان) في كتابه "تأثير القوة البحرية على التاريخ" الصادر عام 1892م "جعلت الظروف البحر الأبيض المتوسط يلعب دوراً تجارياً وعسكرياً في تاريخ العالم أكبر مما لعبه أي سطح مائي أخر يتمتع بالحجم ذاته. فقد سعت أمة بعد أمة للسيطرة عليه ولا يزال الصراع مستمراً" .
في قلب الوطن العربي والإسلامي تقع فلسطين، في ذلك الجزء الجنوبي الغربي من سورية، الذي يقع بين البحر المتوسط من الغرب وسورية ونهر الأردن من الشرق، ولبنان من الشمال، والبحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء من الجنوب والجنوب الغربي. هذا الموقع الفريد لفلسطين أعطاها أهمية سياسية بالغة على المستويين العربي والدولي "فمن جهة أولى تشكل فلسطين قلب الوطن العربي الكبير الذي يصل جزؤه الممتد في إفريقيا بجزئه الممتد في آسيا، مما جعلها دائما نقطة ارتكاز أساسية في أية عملية توحيد سياسية للأمة العربية.
ومن جهة ثانية تشكل فلسطين نقطة التقاء وانطلاق رئيسية في الجسر الممتد على معابر القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأوروبا، مما جعلها دوماً محوراً هاماً في مخططات حركة الاستعمار العالمية منذ البدايات المبكرة لهذا القرن" .
تلك الأهمية الجغرافية والاستراتيجية لموقع فلسطين أشار إليه اليهودي الصهيوني (ناحوم جولدمان) رئيس الحركة الصهيونية 1947 معترفاً به، ومضللاً للمسلمين عن حقيقة وجوهر الفكرة الصهيونية التوراتية، ومحفزاً الغرب على سرعة إقامة كيان العدو الصهيوني ودعمه وحمايتها للهيمنة على كل تلك المزايا، فقال: "لم يختر اليهود فلسطين لمعناها التوراتي والديني بالنسبة لهم، ولا لأن مياه البحر الميت تعطي بفعل التبخر ما قيمته ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن وأشباه المعادن، وليس أيضا لأن مخزون أرض فلسطين من البترول يعادل عشرين مرة مخزون الأمريكتين مجتمعتين، بل لأن فلسطين تشكل بالواقع نقطة الارتكاز الحقيقية لكل القوى العالم، ولأنها المركز الاستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم .