هذه المسألة رويت فيها آثار نذكرها إن شاء الله ثم نذكر فقهها:
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: « الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار» رواه البيهقي، وروى مثله من طريق أبي أُمامة رضي الله عنه، ولو صح هذا الحديث لكان فيه فصل المقال في هذه المسألة، ولكنه لايصح لأن فيه عون بن عمارة العنبري، وكذلك في رواية أبي أُمامة رضي الله عنه فيه عون هذا وقد تفرد وهو ضعيف كما ذكر ذلك البيهقي نفسه، ويرد بروايتيه وهو ضعيف.
كذلك روي في الباب أثر عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه كان يصبح حتى يُظهر، ثم يقول: والله لقد أصبحتُ وما أريد الصوم، وما أكلتُ من طعامٍ ولا شرابٍ منذ اليوم، ولأصومنَّ يومي هذا» رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
وهذا الأثر فيه: أنَّ ابن عباس قد قرَّر الصيام في النهار دون أن يكون قد نواه من قبل.
كذلك يروى عن أبي الأحوص عن عبد الله - بن مسعود رضي الله عنه قال:« متى أصبحتَ يوماً فأنتَ على أحد النظرين ما لم تَطْعَمْ أو تشربْ إن شئت فصم وإن شئت فأَفطر» رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، وروى البيهقي مثله.
وهو في معنى حديث عبد الله بن عباس، ففيه بيان جواز عقد نية الصيام في النهار، ، إن كان لم يأكل ولم يشرب بعد، وفيه إطلاق النية وعدم تحديدها بقبل الظهيرة أو بعدها .
كذلك روي عن أبي عبد الرحمن :« أن حذيفة بدا الصوم بعد ما زالت الشمس فصام» رواه الطحاوي في كتاب شرح معاني الآثار، وابن أبي شيبة والبيهقي، وروى عبد الرزاق عن سعد بن عبيدة قال «قال حذيفة: من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم».
فترى أن حُذَيفة صام بعد زوال الشمس من نهاره (أي: أنه عقد نية الصيام بعد الظهيرة) وأعلن ذلك في الناس.
ونحن بعد تضعيفنا لحديث أنس وحديث أبي أمامة مابقي من ذلك كلها آثار وأقوال وأفعال للصحابة، وكما سبق معنا في سلسة أدلة الأحكام أن أقوال الصحابة ليست بحُجة، وإنما قد يصح تبنِّيها وتقليدُها ونحو ذلك.
وأما في مثل هذه المسألة قد رويت آثار في تجويز إيقاع النية بعد الظهيرة، ولم يرو عن الصحابة آثار تعارض هذه الآثار أو تخالفها، سبق معنا أن ثلاثة من كبار الصحابة يجيزون عقد نية الصيام في النهار، وقيَّده ابن مسعود وابن عباس بأن لا يكون الشخص آنذاك قد أكل أو شرب، وذكر عن حذيفة جواز عقد النية بعد الظهيرة، والمطلق يُعمل به على إطلاقه ما لم يُقيَّد، وفي هذه المسألة لا يوجد تقييد، فقد ثبت كما سبق معنا في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لم يرد في الحديث تقييدٍ زمني أو تحديد للزمن الذي أكل فيه النبي ﷺ، كما في قولها في الرواية الأولى: (دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم)، وقولها في الرواية الثانية: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً)، وهذا دون أن يَرِدَ في هاتين الروايتين إن كان ذلك قد وقع في أول النهار، أو وسطه، أو في آخره، والمطلق يبقى على إطلاقه إلى أن يرد نص يقيده، و مادام أن أقوال الصحابة ليست حجة، فإن قول الصحابي لايقيد المطلق، ولايخصص العام، ولكنها آثار واردة على أن الصحابة كانوا يوقعون النية بعد الظهيرة، فيستأنس بمثل هذه الآثار، فإذا لم نجد مايقيد حديث عائشة ووجدنا آثارا من الصحابة تدل على أنهم كانوا يوقعون النية بعد الظهيرة، فنقول لابأس بذلك إن شاء الله أن يوقع المسلم النية في صوم التطوُّع في النهار ويكون ذلك في أي جزء منه، ولو كان ذلك بعد الظهيرة قبل غروب الشمس بساعة واحدة، لأن الحديث لا يصح تقييده إلا بدليل صحيح صالح، ولا دليل هنا يقيد به هذا الحديث.
بقيت معنا مسألة من مسائل النية وهي: هل تجب النية في رمضان لكل يومٍ من أيامه على حِدة، أم تُجْزِئ الصائم نية واحدة لجميع الشهر؟
فقبل ذلك اتفقوا على أن من نوى الصيام كل ليلة من شهر رمضان فصام فصومه تام كما ذكر ذلك ابن المنذر في كتابه الإجماع، فالمسلم الأولى به أن ينوي في كل يوم الصيام من أيام رمضان، أما مسألتنا هل يشترط ذلك أو لا يشترط، أو هل تجزئ نية واحدة عن كامل الصيام أو لاتجزئ يقول إسحاق: ( لا يشترط تجديد النية لكل يوم ويجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم الجميع)، وهو قول أحمد و مالك، كما قال ابن قدامة: "وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ تُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ، إذَا نَوَى صَوْمَ جَمِيعِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ،