إينَاسٌ

- 22 جُمَادَى الآخرة 1446 هـ
- 23 ديسمبر 2024
- ابنُ آدم يسعى -في مدة بقائه- إلى إتمام فرحته ونيل رضى ربه؛ وأنا لستُ في شيءٍ منّي أفرَح فرحي بإتمامِ إتقانِ القرآن، حِفظًا وقراءةً وعملًا وتعليمًا بإذنه عز وجل.
وما استلذّت مشغلَةٌ لذّةَ الاشتغال بالقرآن، إذ كانَ هو المُرويَ للغليل والمُنشِطَ للطلب، والباعث في الحثّ على دركِ العاليات، فكثّر قليلًا وقوّى ضعيفًا وأزكَنَ ساهيًا، والغُبنُ في البُعد، كما السُّعدُ في التمام. وكلٌّ قتيلُ محبوبهِ، والاصطفاءُ الحقّ أن تُختار لهذا المقام.
فالحمد لله على الخَوَلِ والسؤدد، والشكُرُ على الإعانةِ والمدد؛ قد أتممتُ كتاب الله حفظا وضبطا برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق.

الحمدُ لله الذي بنعمته تتمّ الصّالحات.🤍

خير ما يُكرم المرء به نفسه، وَضْعُها في مكانها الصحيح؛ ‏ألّا يُريق ماءها ولا يَستحسن لها الازدراء، يجُود بها عن مظانّ إذلالها ويربأ أن تتمرّغ في عكر السفَه، ‏أن يعرف مواطن مَجْدها فيُنير قناديلها، ويتفطّن لنقائصها فيخفت وقْع ضجيجها.

"نهارَك في بحر السَّفاهة تسبحُ
وليلَك عن نوم الرفاهة تُصبِح

وفي لفظك الدَّعوى وليس إزاءَها
من العمل الزّاكي دليلٌ مصحِّحُ

إذا لم توافق قولةٌ منك فعلةٌ
ففي كل جزء من حديثِكَ تُفضَحُ

تنحَّ عن الغايات لستَ من أهلِهَا
طريقُ الهُوَيْنَا في سلوكِكَ أوضحُ

إذا كنتَ في سِنِّ النُّهى غير صالح
ففي أيِّ سن بعد ذلك تصلحُ؟ ".

ولمّا ألّف أبو الحسن النيسابوري رحمه الله كُتُبَه الثلاثَة في التّفسير سمّى الأوّل "الوَجيز" والثّاني "الوسيط" أمّا الثّالث فسمّاه "البسيط" فهُو الوَاسِع الكَبير بين هذه الكُتُب.

#فائدة_لغوية

لم يرِد في لُغَة العرب أنّ "البسيط" يعني الهيِّن أو اليَسير بل تعني الوَاسِع الممتَدّ وعكسُها هو الوجيز.

قَال تَعالى: ﴿وَلَو بَسَطَ اللَّهُ الرِّزقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوا فِي الأَرضِ وَلكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبيرٌ بَصيرٌ﴾ أَي لَو وسّع الله الرّزق لعباده لبغوا في الأرض.

وَقال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصطَفاهُ عَلَيكُم وَزادَهُ بَسْطَةً فِي العِلمِ وَالجِسمِ وَاللَّهُ يُؤتي مُلكَهُ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ﴾ أي سعَة في العِلم وقُوّةً في الجسم.

قَال ﷺ: «إنَّ الله هو المسعِّرُ القَابضُ البَاسطُ الرَّازق». أي مُضيّق الرّزق وغيره على من شَاء كيف شاء ومُوَسِّعُه.

لستَ في منافسةٍ مع أحد.

أنت تُنافس نفسك ألف مرّة، تَغلِبِها إن صَدَقتَ أو تَغلِبُك، ليس مطلوبًا أن تشرح للنّاس تفاصيلك، أو تُقسِم لأحدهم أنّك تَغَيَّرت، ليس شرطًا أن يوافق الناس أفكارك، وأن تحصل على اتّفاق الجميع، لن تحصل عليه ولا يكُن همّك، اعمل بدائرة تأثيرك، بالثَّغر الذي تُبدِع فيه، استثمر كل لحظة، لا تلتفت لكلامٍ أو مساعدة، ما أقلّ الأيادي حين نحتاجها!

لا تركض لتشرح شعورك، أو تقفَ لأن أُذُنًا لم تستَمِع لك، أو تخجلَ لأنّك وحدك في الطّريق، لا يقتُل القَويّ إلا غفلته، وألّا يؤمن بما لديه.

نافس نفسك التي كانت، وانظُر أين ستكون.

بورِك القَلم.

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أتباع سنة سيد الأنام، وجعل لنا في السلف الصالح قدوةً وعبرة، وبعد:

فإني ما رأيت أسخف عقلًا، وأضل رأيًا، وأقل نضجًا من غثاء الحركيين المتحزبين الحالمين، الذين يظنون بجهلهم أن نصر الأمة مرهون بتحزبهم وتقديسهم لبعض الرموز والشخصيات التي يزعمون أنها تسعى لنصرة الأمة، لمجرد أنها تتخذ من ذلك شعارا تدندن حوله. يتبعون الأخبار ويتفاعلون معها بلا بصيرة، ويعيدون نشر المنشورات الرائجة بينهم، وخبرٌ يذهب بهم وآخر يأتي بهم، اليوم على رأي وغداً على نقيضه، همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، تغلبهم عواطفهم وتسوقهم الشعارات والأناشيد.

فإذا ما ناقشت أحدًا منهم، وجدته مترددًا غير مطلع على ما يلزمه من العلم، وإذا سئل عن موقفه كان آخر قوله: "إني غير مطلع كثيرًا". فقلت: ما دمت غير مطلع، أمسك عليك لسانك، ولا تنطق بما لا علم لك به، فلا تقرفنا وتضحك الناس عليك وعلينا. اجتهد في طلب العلم وتحصيله من كتاب الله وسنة رسوله وآثار السلف الصالح، وتعلم الغاية من خلقنا، وما الأمور العظيمة التي نوالي ونعادي عليها، وما مفهوم الإصلاح في ديننا، وما منزلة التمكين والنصر الدنيوي فيه، ولا تفعل شيئًا حتى تعلم حكم الله فيه.
ودع عنك خطابات الجماعات الحزبية وشعارات الأحزاب السياسية، ولا تقبل كلامًا من معاصر إلا بدليل من الكتاب والسنة وآثار السلف، فما وافقهم فخذ به، وما خالفهم فاضرب به عرض الحائط ولا كرامة. واعلم أن أكثر الذين يتكلمون اليوم ويحركون العامة من السياسيين والإعلاميين والمفكرين، ليس لهم من العلم شيء، بل هم مغتصبون فكريًا.

تدعون نصرة الأمة وأنتم كلما نطقتم، أتيتم بالعجائب والغرائب، فكيف ينصر بكم الدين وأنتم تخالفونه في كل خطوة؟ أخطاء عقدية بالجملة، تهوين من العقيدة وتمييع للخلاف فيها، قلة أدب مع السلف وحط من قدر أهل العلم، اختلاط ومعازف ومخالفات لا تعد ولا تحصى.. ثم تهاجمون كل من خالفكم في هذا الباطل ولم يمكن من المقولبين ضمن القطبع مثلكم، قلتم: لماذا لم تتكلم عن هذا؟ أقول: ليس لك أن تلزم غيرك بما ترى أنه واجب عليك، وليس لك أن تجعل من الحشد العاطفي وكثرة الكلام دليلا على نصرة الأمة.

فوالله لن نكون أتباعا ولا مطبلين لأحد مهما كان، ونتقرب إلى الله بهذا، فما قاله السلف نحن خلفه بإذن الله حذو القذة بالقذة، وإن كان يخالف رأي الجماهير ولا ينساق لعواطفهم، ولا نخاف في ذلك لومة لائم. ولسنا نخالف عنادا أو حبا في المخالفة، ولكن اتّباعًا لما دل عليه كلام السلف، سواء وافق كلام هؤلاء المتصدرين المعاصرين وما يتبعهم فيه أتباعهم أو خالفه، و لا ذنب لنا إن كان أكثر الحق يأتي في مخالفتهم، والله المستعان.

#فائدة_لغوية

الفعل أبدلَ أو استبدل، أو بدّل.

هذا الفعل وما تصرّف منه يحتاج إلى شيئين: مأخوذ ومتروك، و لا تدخل بَاء الجرّ إلّا على المتروك.

قَال تَعالى: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» فالمُستبدَل هو الخير وهو المتروك.
وقَولُه تعالَى: «ومَن يتَبدَّلِ الكُفرَ بالإيمَانٍ فقَد ضَلَّ سَوَاء السَّبيلِ»

وهذه المُلاحظة دَقيقة يُخطِئ بها الكثير، وقد تخفى على الكُتّاب فيُدخلون "الباء" على المأخوذ عكسَ المقصود.

اللّهمّ استعمِلنا ولا تَستَبدِل بِنا.

"من شاء عيشًا هنيئًا يستفيدُ به
في دينه ثمَّ في دُنياه إقبالًا

فَلينظُرَنَّ إلَى مَن فوقَه أدبًا
ولينظُرنَّ إلَى من دونه مالًا".

قال ابن بطال رحمه الله: «هذا الحديث جامعٌ لمعاني الخير؛ لأنّ المرء لا يكون بحال تتعلَّق بالدين من عبادة ربّه مجتهدا فيها إلَّا وجدَ من هو فوقه؛ فمَتى طلبت نفسه اللّحاق به استقصر حاله، فيكون أبدا في زيادةٍ تُقرّبه من ربّه، ولا يَكون على حال خسيسة من الدُّنيا إلّا وجدَ مِن أهلها مَن هو أخسُّ حالاً منه.

فإذا تفكّر في ذلك علم أنّ نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممّن فُضّل عليه بذلك من غير أمر أوجَبَه، فيلزم نفسه الشّكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معادِه».

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ ﷺ قال: «إذا نَظَرَ أحدُكُم إلى من فُضِّل عليه في المَال والخلق فليَنظُر إلى من هو أسفلَ منه ممَّن فُضّل عليه»
وزاد مُسلم: «فهُوَ أجدرُ ألَّا تزدَروا نِعمة الله علیکُم».

#فائدة_لغوية

-عند دخول حروف الجر على "مَا" الاستفهامية تُحذف منها الألف، مثل: بمَ تنصح؟

- أمَّا "ما" الموصولة بمعنى "الذي" فلَا تُحذف منها الألف، مثل: ﴿لَعَلّي أَعمَلُ صالِحًا فيما تَرَكتُ﴾

قَال شیخ الإسلام ابن تیمية رحمه الله متحدّثا عن بعض خصائص أهل السُّنة:

«ومن المعلُوم أنَّ أهل الحديث يُشاركون كل طَائفة فيما يتحلَّون به من صفات الكَمال، ويمتَازون عنهم بما ليس عِندهم؛ فإن المُنازع لهُم لابدَّ أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى، مثل المَعقول، والقياس، والرّأي، والكلام، والنّظر، والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة، والمخاطبة، والوجد، والذوق ونحو ذلك …
وكل هذه الطّرق لأهل الحديث صفوتُها وخلاصتُها؛ فهم أكملُ النّاس عقلًا، وأعدلهم قياسًا، وأصوبهم رأيًا، وأسدُّهم كلامًا، وأصحُّهم نظرًا، وأهداهُم استدلالا، وأقومهم جدلًا، وأتمهم فراسةً، وأصدَقُهم إلهامًا، وأحَدُّهم بصرًا ومكاشفة، وأصوَبهم سمعًا ومخاطبة، وأعظَمُهم وأحسَنُهم وجدا وذوقا.

وهذا هو للمسلمين بالنِّسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السّنّة والحديث بالنّسبة إلى سائر المِلل؛ فكلّ من استقرَأَ أحوال العالم وجد المُسلمين أحدَّ وأسدَّ عقلا».

ثم إنَّهم أعلَى النّاس همّة، وأكثَرُهم حرصًا على تطلاب المعالي، ونشدان الكمالات، والبُعد عن السّفاسف والمحقرات.
ومن أعظم مظاهر علوّ الهمّة عندهم حرصُهم على طلب العِلم، ونشرِه بين النَّاس.
ولا أدلّ على ذلك من حال عُلماء الحديث، الذين كانوا يواصلون في سبيل طلَبه كلال اللّيل بكلال النّهار، ويقطَعون لأجله المفاوز والقِفار، بهمّة لا تني، وعزمة لا تنثني، وبنفوس أبيّة، وهمم عليّة، لا تقنع بالدُّون، ولا ترضى من ذلك بالقليل، حتى حفظَ الله بهم الدّين، فنفوا عنه زيفَ الغالين، وانتحال المبطلين، فاستمرَّت الشّريعة بذلك غضّة طريّة، تتناقَلها الأجيال، وتنهل من ينبوعها العَذب، ومعينها النمير الصّافي.

أهل العقيدة السَّليمة أهل السُّنة والجماعة هم خيار النّاس وأفاضلهم؛ فما من خصلة حمد إلَّا ويمتَازون بها، وما من خصلة ذمٍّ عند بعض أفرادها إلّا وعند غيرهم أعظم وأطمَّ منها.

فهُم أعظم النّاس اهتماما بالكتاب والسُّنة، وتسليمًا لنصوص الشّرع، وتعظيما للسّلف الصّالح.
وهم أهل العدل، والوسطيّة، والأمانة العلميّة، وحُسن الخلق، وسعة الأفق.
وهم أهل الدّعوة إلى الله، والجِهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

وهم أهل الجمع بين النّصوص، والجمع بين العِلم والعمل، والجمع بين الرّحمة واللّين، وبين الشّدة والغلظَة.
وهم أبعد النّاس نظرا، وأكثرُهم للمعاذير التماسًا، وأكثرهم للحقّ رجوعا، فلا يأنَفون من سماع الحقّ، ولا تحرج صدروهم من قَبوله، ولا يستنكفون من الرّجوع إليه، ولا يتلَبثُّون في الأخذ به.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

انسحابك من سباق دنيوي يُدار على غير ما جاء به دينك وما تمسكت به من آثار أسلافك، أكرم لك وأصون لدينك، وأشد بقاءً لسلامة قلبك من أن تتبع هوى النفس طمعًا في نصرٍ زائف. واعلم –وفقك الله– أن هذا النصر الذي تراه بعينك، وإن كان في ظاهره غلبةً، فهو في حقيقته سرابٌ وضياع، فما كل نصرٍ يتحقق بمخالفة الحق إلا وهو هزيمةٌ مقنّعة، وما كل خسارةٍ دنيوية في ظاهرها مع الثبات على الحق إلا وهي نصرٌ صريح، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

الجزء الثّاني ولله الحمد.