التنبيه على تـصـحـيـح الآداب، فإننا جميعًا لا نخلوا من الحاجة إلى تصحيح الأدب، فإنه بابٌ من أبواب المعاملة بين العبد وبين ربه، وبين العبد وبين غيره من الخلق.
فينبغي للإنسان أن ينظر في آدابه التي يَتَخـلَّق بها؛ فإن الإنسان إذا كان على أدبٍ جَـمّ؛ فــتـح الله عز وجل له أبواب العلم، وهيأ الله عز وجل له من شيوخه من يُِـلَـقّـنُـه العلم، ويُرضِـعُه العـلـمَ إرضـاعًـا، حتى يـرسـخ في قلبه ويستقر فيه.
وأما قليل الأدب، فإن الله عز وجل لا يجعل في قلبه علمًا.
وصلاح الأدب عنوان سعادة المرء وفلاحه، وسوء الأدب عنوان شقاء المرء وبواره، كما ذكر ابن القيم في منزلة الأدب في كتاب مدارج السالكين.
وينبغي أن يتأدب الإنسان مع أقرانه، ومعلمه، وكُتبه، ولا يتساهل في هذه المسائل.
ولمّا كان الأمر بالتعميم؛ لم أشأ كل مرة أن أقول: يا فلان افعل كذا؛ ليستفيد عموم الإخوان من هذا الأمر على وجهه.
فمن الخطأ -مثلًا- أن بعض الإخوان يأتون بكتبهم، فيقذفونها على الأرض، وهي كتب فيها آيات وأحاديث، وأقلُّ ذلك أن يضعها الإنسان وضعًا لطيفًا.
وقد دخل إسحاق بن راهويه -مع جلالته- وكان مُغضبًا أو متعبًا ومعه كتاب، فقَذَف به عند الإمام أحمد على الأرض، فقال أبو عبد الله مُغضبًا: أهـكـذا يُـفـعـل بـكـلام الأبـرار؟
فكيف إذا كان الكلام الذي تضمنته هذه الكتب ليس كلام الأبرار؛ وإنما كلامَ الجبار سبحانه وتعالى، وكلام سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن يتلطف طالب العلم في أدبه مع كتبه، وألا يضعها حال الدرس والقراءة على الشيخ في الأرض؛ بل تـكـون مَـحـمـولـةً بـيـن يـديـه؛ لأن هذا حـقـيـقـة تـعـظـيـم الـعـلـم، ومـن عَـظّـم الـعـلـم رجــعَ العلمُ عليه بالتـعـظـيـم، ومن لم يرفع إلى ذلك رأسًا؛ حُـرم العلم، ولم يدخل قلبَه شيءٌ منه.
ومن الأدب أيضًا: أن يحرص الإنسان على آداب الجلوس في حلقات العلم، ومن السنة فيها أن يجلس الناس فيها حِلَقًا حِلَقًا، أما التفرق والتشرذم؛ فهذا على خلاف السنة التي جاءت في أحاديث كثيرة.
وينبغي لطالب العلم أن يجلس جلسةً يجمع فيها نفسه على معلمه —[اقطعوا إرسال الجوالات يا إخوان، هذا الجوال بالذات أكثر من مرة]— ينبغي لطالب العلم أن ينتبه إلى جلسته في مجلس الدرس، فيجمع جلسته ليجمع قلبه على العلم، ولا ريب أن بعض الإخوان قد يلحقهم عذر في ألم ظهورهم أو طول الدروس، وأعلم أنا أنهم معذورون، فإن هذه الدروس قد تكون طويلةً، ولــكــن إذا كـانـت الـنـفـوس كــبـارًا؛ تـعـبـت فـي مـرادهـا الأجـسـام.
وإذا لم يصبر الإنسان على التعب والمشقة في طلب العلم، مــع أنـهــا والله لـذّةٌ عـلـى الحـقـيـقـة، فإن الإنسان إذا عَمَرَ قلبه بلذات المعارف؛ أشغلته عن كل عِلَّة.
وقد لقيت شيخنا علامة حائل رحمه الله، الشيخ سليمان السكيت، وكان رجلًا مصابًا بإدرار البول، الذي يحتاج صاحبه إلى الخروج بين الفينة والفينة اليسيرة ليقضي حاجته، فكنت إذا جلست إليه وقرأت عليه وتكلم في العلم؛ ربما جلس عندي أربع ساعات طِوال، وقال لي:
(يا صالح؛ إن معي مرض الإدرار، ولكنك إذا جئتني فقرأتَ علي في العلم؛ شَغَلَني ما أجد من العلم عما أجد من الألم).
فتأمل مزيد ما يجده الصادقون من لذات العلم التي تصرف عنهم عِلل الأبدان، فينبغي على الإنسان أن يتأدب.
واعلموا أن ما يظنه بعض الإخوان من أن هذه الآداب مزيدُ تَشَدّد وتَشَقّق وإظهارٍ للصرامة؛ كل هذا من الباطل والدَّجل، بل هذه آداب سَنِيّة، وأخلاق حميدة مضى عليها من مضى من السلف -رحمهم الله تعالى- ومن أدركنا من أهل العلم.
وليس هذا من الشدة؛ بل هذا من الحزم، والحزم: معاملة كل أحد بما يُصلحه، وطالب العلم لا يُصلحه بأن يُبْطَحَ له المجلسُ بَطحًا، ويَمدّ رجليه، ويتكئ على جنبه، ثم يَفغَرُ فاه، ويضع كتابه على الأرض، ويريد أن يطلب العلم!
والله إذا كان هؤلاء هم طلاب العلم؛ فحقيقٌ بأن يُصفَعوا على وجوههم؛ لأنهم لن يكونوا محلًّا للعلم، بل سيكونون وبالًا على العلم كما نراه اليوم، فإن من حضر المجالس على سوء الأدب، ثم صار عنده مسألة من هنا، ومسألة من هنا؛ رأيت من سوء ديانته، وعدم معرفته بالعلم؛ ما يشهد به العارفون الموقنون، وهو مسكين يظن أنه على علم عظيم.
تنبيهات في ختام برنامج الدرس الواحد الثالث.
في آخر مجلس الدرس المتمم للثلاثين: (وصية نافعة لعموم أهل العلم والإيمان، للعلامة فيصل آل مبارك).
الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي
وفقه الله وسدده وأحسن إليه.