التقيتُ قبل مُدَّةٍ شابَّاً مُتديناً, وجرَّنا الحديثُ إلى مواضيع شتى, وأخبرني أنَّهُ يُصلي صلاة الليل, وصدَّق النُّورُ الذي يتلألأ في قسمات وجهه, القولَ الذي نطقت به شفاهه, ولكنِّي حزنتُ له جداً,إذ إنَّه فشل في اجتياز الصف السادس الاعدادي ثلاث سنين متتالية.
وهذا حالُ كثيرٍ من شبابِنا المُتدينين, قمةٌ في الإيمان, وقاعٌ في العلم, وأنت تعلم أن الإيمانَ بلا علم لا يملك أدوات الإقناع, وقد يكون - هو نفسه - عرضةً للضياع حين تثورُ رياح الشك في قلب الإنسان, وتعصف بالقناعات القائمة على الوراثة والتربية.
لو كان هذا الشابُّ وأمثالُه يعونَ قيمة العلم لعلموا أنَّه قد يكون متعيِّناً عليهم طلبه - طبعاً هذه يُحددها الفقيه لا أنا - والسرُّ في ذلك أنَّ أنواع المتلقين لمعارف الدين ثلاثة:
الأول: من وصل إلى مرحلةٍ عاليَّةٍ في العلم الدينيِّ أو الحوزوي - عبِّر ما شئت - وهم يُدرِّسون كتب العقائد المتخصصة في الحوزة, ولكن يلتمسون فوائد علميَّةً راقية من لفتةٍ تفسيرية, أو نُكتةٍ في حديث, من فضلاء الحوزة وأساتذتها المحترمين, والفضلاء يعتبرون ذلك كنزاً ثميناً فلا يلقونه إلَّا عند أهله الفاهمين لدقائقه ورقائقه, وهم إذا استمعوا إلى خطيب منبر,أو إمام محراب, فهم في الغالب يطلبون الثواب ويبتغون الأجر, ولا يتوقعون فائدةً علمية,أو كنزاً معرفيا.
الثاني: وهم الكثرة الكاثرة من المجتمع, والأغلبية السَّاحقة منهم, من شيوخٍ وعجائز, وطبقاتٍ مسحوقة فقيرة من التعليم, مجدبةٍ من المعرفة, ولكن هم في الأعم أصحاب الفطرة السليمة, والنيَّات الخالصة وتكونان شافعاً لهم من التزلزل, وحصاناً من الريب والشك, ويؤثِّر فيهم الخطيب لأنَّهم لا يزالون يحترمون العمامة ويعتبرونها رمز النزاهة, ويقدِّسون الخطيب ويرونه مرآة الرسالة, والخطباء - أعزَّهم الله - لا يزالون يرفدونهم بنمير معدن الوحي, وزلال أرباب العصمة.
الثالث: الشباب المثقف, وخصوصاً الجامعيَّ منه, وهم وإن لم يكونوا الأكثرية الساحقة, ولكنَّهم الوسط الفاعل في المجتمع, ومن به تنقلب موازين البلد,إن خيراً فخير, وإن شراً فشر.
هؤلاء نجح الأعداءُ - إلى حدٍّ ما - في تشكيكهم بالخطباء العاملين, والعلماء الربانيين فلم يعودوا يسمعون لهم في كثيرٍ من الأحيان.
أضف أن البعض من الفضلاء وإن كان يملك علماً زاخراً, ومعرفةً ثرَّة, ولكنه فقيرٌ في أساليب الخطاب, وطرائق التواصل, فلا يصنع شيئاً معهم فكأنَّه يتكلَّم لغةً أخرى,أو أنَّهم قومٌ من الصمِّ.
ومن كان من الفضلاء من يستطيع التكلُّم معهم بلغتهم ليس لديه الوقت الكافي لانشغاله بتربية الطلاب, والتأليف, والدرس, والتدريس.
ما هو الحلُّ إذن؟
أن يقوم هذا الشابُّ المؤمن بالانهماك في الدَّرس العلمي الجامعيّ, فيكون طبيباً, ويصير مهندساً, أو استاذاً جامعيَّاً هذا الطبيب,أو المهندس,أو الاستاذ هم الأقدر على مخاطبة الشباب الحائر بلغتهم, ودفع عواصف الشك التي تتقلقل في صدورهم, ووأد بذور الفتن التي تُزرع في عقولهم, وإخماد نيران الريبة التي تُسجر في قلوبهم بلغتهم العلمية الهادئة, وخطابهم السلس المقبول؛ لأنهم يمتلكون عوامل النجاح الثلاثة : حرقة الإيمان التي تُلهب نار الغيرة على دينهم, والعلم الذي يقيم شاخص البرهان في ساحة خطابهم, ولغة التواصل التي يُقنعون بها مستمعيهم, فيردُّون بدليلٍ من علم الأحياء كثيراً من الطلاب عن الشك في الله إلى جادَّة التوحيد, ويُثبِّتُون ببرهانٍ في علم الكيمياء الغفير من المترددين الحيارى على سبيل الإستقامة.
ففي كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة الجامعية شاهدٌ على الله تعالى, في الطبِّ, والهندسة, وجسم الإنسان والفلك, وحتى في اللغة.
فالأستاذ الجامعي يؤثِّر كثيراً في طلابه؛لأنَّهم يجدونه شاخصاً علميَّاً ضخما يؤمنون بقامته.
وليس معنى هذا أن يكون الاستاذ الجامعيُّ بديلاً عن الحوزة والفاضل منها, بل هو يعمل تحت نظرها, ويستمد ثقافته الدينيَّة من علومها, فيرجع إليها عند وقوعه في العويص من المعضلات, والمشكل من المهمات, والتعاون بين المثقف الجامعيّ والحوزة من أجل تفعيل المسؤولية التضامنيَّة في الدفاع عن حياض الإسلام عقائدياً ومعرفيَّا.
فما على الشابِّ المؤمن أن يترقَّى علمياً فيرتقي بمريديه من طلبةٍ وتلاميذ إلى آفاقٍ عالية ويكون مصداقا لمن هدى الله به رجلاً واحداً ويكون ذاك خيراً له مما طلعت عليه الشمس, من الدنيا وما فيها؟