ما أعظم مُصاب الأمة و نكبتها حين يرتقي علماؤها عن هذه الحياة، وما أشدّ الظُّلمة التي تُغطي سماء الأمة حين تختفي عنها النجوم التي تضيئها، يتأمّل الواحد كثيرًا في حال أمتنا ويتساءل؛ كيف هو طريق النهوض والخلاص من هذه الدوّامة المريرة، والانكسارات المتتالية، فيجد القرآن - كعادته - مُجيبًا عن التساؤلات، وصانعًا للتصورات
(وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)
وإن كان الأنبياء هم التجسيد الأسمى لمعاني السماء، فإن العلماء هم ورثتهم، السائرون على نهجهم، والباعثون في هذه الأمة الحياة، والباثّون بعلومهم مصابيح الخير التي بها يُعرِّفون الخلق بالحق، وما تهاوت أمةٌ من الأمم إلا بغياب علمائها، واندراس معالم نور النبوّة فيها، وتهوّك الناس في الأمور الجليلة العظيمة، بأفهامٍ بليدة سقيمة.
وإن هذه السنوات، إن صحّ أن تُعنوَن فهي سنوات "غياب العلماء" وانتقالهم من مساحات سدّ ثغور الأمة، إلى ساحات البرزخ التي ينالون فيها - بإذن الله - مآل أعمالهم وجهادهم وصبرهم في سبيل الدعوة والعلم.
وإنني هنا أعدّد بعض الجُمل التي أسأل الله أن يستنهض بها الهمم، ويُعلي فيها نفوس أبناءِ أمة عانت من البلاءات سنين عددًا، وأزمنةً مددا، وهي ما زالت تحتاج إلى أبنائها الصادقين البررة، الذي يُقدّمون مهرَ عزّتها و ثمن تمكينها.
الوقفة الاولى: إن من أبشع أمراض أمتنا هي حالة الغثائية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حالةٌ ترزحُ فيها الأمة بالأعداد الكبيرة، دون النفوس المُقْدِمة المُقبِلة، وهذا الداء قد شخّصه النبي صلى الله عليه وسلم بسببين، حُب الدنيا وكراهية الموت، وإن على من أراد أن يسلك سُبل المعالي وأن يُقدّم للأمة أن يُخلّص نفسه من هذه الأسباب ليرتفع من حُكم المرضى إلى حُكم الأصحّاء.
الوقفة الثانية: وكما أن أمتنا مُبتلاةٌ بضعف العاملين، فإن هذه القلّة العاملة، يتخطّفُها الموت وغيرُه مما يستلزم وقفةً صادقةً مع النفس في محاولة أن يسدّ مسدّ هذه القامات والمقامات، فليُحدّث كل واحدٍ منا نفسه، أين موضعه من ملءِ هذا الفراغ العظيم لأمتنا المكلومة!
الوقفة الثالثة: في أن من الواجبات اللازمة على أبناء الأمة اليوم، أن يُكرموا علماءهم، ببثّ علومهم، ونشرِ تراثهم، والسعي في تصدير هؤلاء الأعلام! فإنّهم قد أدّو واجب العلم، وعلينا تأدية واجب الدعوة والتبليغ، وإن التفريط في هذا هو من خوارم العقل، وقواطع البركة، ومزالق الغَواية!
الوقفة الرابعة: في أن سيرة هؤلاء الأكابر ممن جمعوا بين العلم والعمل، متى تمّ إغفالها، وتناسيها، والتلهّي عنها بمُلَحِ العلم ونوادره، فإنه يوشكُ أن تبقى الديار بلا علماءَ ربّانيين، ولا فقهاء عامِلين، فكيف ترشُد الأمّة بعالمٍ يحدّثها عن اختلاف الخفّاش والقرّاء، ولا يقودُها في مواطن الأزمات واللحظات المُلِمّات!
وقد بلغني أن الشيخ كان يُكربُ لكروب الأمة، وتتبدّل رسَمات وجهه فَرَقًا على أمة نبينا صلى الله عليه وسلم
الوقفة الخامسة: وفاةُ الآحاد من الناس مؤلم، ووفاة العلماء غايةٌ في الإيلام، بل هي آلام كثيرة ومصائب متتالية، يُصاب فيها عموم الأمة، فهذا عقلٌ فُقِد، وتراثٌ أُغلقت سنابِل عطائه، وتاريخٌ توقفت أقلامه عن التدوين، فلئن كان تعزية أهل الميّت في ميّتهم من جملة المستحبات؛ فكيف تعزية الأمّة بموتِ علمائها وسادتها وأئمتها!
إنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمر رُشد
اللهم واجعلنا أبناء بررة، نقدُر لأهل العلم قدرهم، ونعرف لهم منزلتهم، واجمع لنا أدب توفية حقوقهم وهمّة السّير على طريقهم.
عبد الرحمن.
لاثنَي عشر ليلةٍ بقِين لشهر جمادى الأول من عام ١٤٤٦ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم