السؤال:
عندنا أستاذُ فلسفةٍ في الثانوية مِنْ مدينةِ «عنَّابة» يسأل التلاميذَ: «إذا كان اللهُ قادرًا على كُلِّ شيءٍ فهل يستطيع أَنْ يخلقَ إلهًا أَقْوَى منه أو مِثْلَه؟» فكيف نردُّ عليه؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالله سبحانه وتعالى قادرٌ على أَنْ يخلق كُلَّ شيءٍ بدون استثناءٍ ممَّا يَسبِقُه العدمُ القابلُ للخِلْقَة، وهو ما يُسَمَّى بالمُمْكِنِ الجائز كالعالَمِ وسائرِ أجزائه، والمستحيلُ لذاته ليس بشيءٍ في الخارج وإنما في الذهن، أمَّا واجبُ الوجود ـ وهو اللهُ سبحانه وتعالى وصِفاتُه الذاتية القائمة به ـ فلا يُوصَفُ بإيجادِ نفسِه وإعدامها، أي: لا يُخْلَق ولا يُعْدَم؛ فهو الموجودُ الذي لم يَسبِقْه العدمُ، ووجودُه مِنْ ذاته لذاته لا مِنْ سببٍ خارجٍ ولا لعلَّةٍ خارجةٍ، وهو مَعْنَى قولِه تعالى: ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ﴾ [الحديد: ٣]، أي: ليس قبله شيءٌ ولا بعده شيءٌ، ولمَّا كان كذلك فلا يجوز أَنْ يُقالَ: إنَّ الله يخلق ذاتَه؛ لأنَّ الخَلْق هو إيجادُ الشيء مِنَ العدم، واللهُ تعالى لم يَسبِقْ وجودَه عدمٌ، كما أنَّ الذي يَقْبَلُ الخِلْقَةَ مُفتقِرٌ في وجوده إلى سببٍ مؤثِّرٍ فيه خارجٍ عن ذاته، وما كان يَسبِقُه العدمُ ويَقْبَلُ الخِلْقَةَ لا يكون مِثْلَ اللهِ ـ سبحانه ـ ولا أَقْوَى منه أبدًا ـ تعالى الله عمَّا يقولون ـ. فقَدْ بيَّن اللهُ تعالى بالدليل العقليِّ استحالةَ وجودِ آلهةٍ إلَّا الله، وهو ما يُعْرَفُ بدليل التمانع في قوله تعالى: ﴿لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ ٢٢﴾ [الأنبياء]، وقولِه تعالى: ﴿مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٖ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنۡ إِلَٰهٍۚ إِذٗا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ٩١﴾ [المؤمنون]، قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ: «لو قُدِّرَ تعدُّدُ الآلهةِ لَانْفرَدَ كُلٌّ منهم بما يخلق؛ فما كان يَنتظِمُ الوجودُ، والمشاهَدُ أنَّ الوجودَ مُنتظِمٌ مُتَّسِقٌ، كُلٌّ مِنَ العالَمِ العلويِّ والسفليِّ مُرتبِطٌ بعضُه ببعضٍ في غاية الكمال، ﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ﴾ [المُلْك: ٣]، ثمَّ لَكان كُلٌّ منهم يطلب قَهْرَ الآخَرِ وخلافَه فيعلو بعضُهم على بعضٍ، والمتكلِّمون ذَكَروا هذا المعنى وعبَّروا عنه بدليل التمانع، وهو أنه لو فُرِض صانعانِ فصاعدًا فأراد واحدٌ تحريكَ جسمٍ وأراد الآخَرُ سكونَه: فإِنْ لم يحصل مرادُ كُلِّ واحدٍ منهما كانا عاجزَيْن، والواجبُ لا يكون عاجزًا، ويَمتنِعُ اجتماعُ مرادَيْهما للتضادِّ، وما جاء هذا المحالُ إلَّا مِنْ فَرْضِ التعدُّد فيكونُ مُحالًا. فأمَّا إِنْ حَصَلَ مرادُ أحَدِهما دون الآخَر كان الغالبُ هو الواجبَ، والآخَرُ المغلوبُ مُمْكِنًا؛ لأنه لا يَليقُ بصفةِ الواجب أَنْ يكون مقهورًا؛ ولهذا قال: ﴿وَلَعَلَا بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ٩١﴾ [المؤمنون]، أي: عمَّا يقول الظالمون المُعْتَدُون في دَعْواهُمُ الولدَ أو الشريكَ عُلُوًّا كبيرًا»(١).
فالحاصل أنَّ قدرة اللهِ تعالى لا تتعلَّقُ بواجب الوجود لأنه ليس بمخلوقٍ، كما لا تتعلَّق بالمستحيلات ولا تَليقُ به ـ سبحانه ـ على جهةِ الفعل؛ لأنَّ المستحيل والمعدومَ ليس بشيءٍ ولا وجودَ له حتَّى يكون مشمولًا بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرُۢ ١٢٠﴾ [المائدة: ١٢٠؛ وغيرها].
علمًا أنه لا يَمتنِعُ على إرادة الله وقدرتِه شيءٌ على جهةِ العجز، سواءٌ كانَتْ مُمْكِناتٍ أو متضادَّاتٍ أو مُتقابِلاتٍ أو مستحيلاتٍ، وإنما لا تتعلَّق قدرةُ الله بالمستحيلات ولا تَليقُ به مِنْ جهةِ الفعل لأنها ليسَتْ بشيءٍ ولا وجودَ لها؛ فنُثْبِتُ لله سبحانه الإرادةَ والقدرةَ المُطْلَقتين؛ وننفي عنه ما لا يَليقُ به مِنِ اتِّخاذِ شريكٍ أو صاحبةٍ أو ولدٍ أو مُعينٍ.
والأصلُ عدمُ التعرُّضِ لمِثْلِ هذا، وهذا الرجلُ الذي يريد أَنْ يُثِيرَ الفِتَنَ سفسطائيٌّ مُغالِطٌ يُلْقِي الشُّبَهَ والشكوكَ، ويريد أَنْ يُزَحْزِحَ تلامذتَه عن العقيدة السليمة، والواجبُ الحذرُ منه ومِنَ الفلسفة اليونانية ومِنْ أصحابها ومُريدِيها.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
آثار العلامة محمد علي #فركوس