مدوّنة أروى أبا الخيل @t_elm3 Channel on Telegram

مدوّنة أروى أبا الخيل

@t_elm3


خذ ما صفا ودع ما كدر
(مقالة كل ثلاثاء)

تويتر:
https://twitter.com/t_elm2
قناة القراءة -للنساء-:
https://t.me/+womNgEZXDz00MzM0

مدونة أروى أبا الخيل (Arabic)

تعتبر مدونة أروى أبا الخيل قناة تلغرامية رائعة تقدم مقالات ملهمة وجذابة بشكل أسبوعي. بإدارة المستخدم t_elm3، تُنشر مقالة جديدة كل ثلاثاء تدعوك لتأمل وتتأمل. يُعد شعار المدونة 'خذ ما صفا ودع ما كدر' مبدأ يرافق قارئ المقالات في رحلة التأمل والنمو الشخصي. يمكنك أيضًا متابعة أروى أبا الخيل على سناب شات وتويتر عبر الروابط التالية: سناب شات: https://www.snapchat.com/add/t_elm1 تويتر: https://twitter.com/t_elm2 إذا كنت امرأة تبحث عن المزيد من القراءة والاستمتاع بنقاشات ثرية، يمكنك الانضمام إلى قناة القراءة المخصصة للنساء على تلغرام عبر الرابط: https://t.me/+womNgEZXDz00MzM0 لن تجد مكانًا آخر يقدم لك هذا النوع من المحتوى الثقافي والروحاني بشكل مثير وملهم كما تفعل مدونة أروى أبا الخيل. انضم اليوم وابدأ في رحلة تأملك الشخصي!

مدوّنة أروى أبا الخيل

19 Nov, 20:39


(بصيرة المؤمن)

بسم الله الرحمن الرحيم

من عظيم نور التقوى إذا ملأ قلب العبد أنه يجلّي له الأمور ويكشفها، إذ الله فطر النفوس مستقيمةً على الحق والهدى، فإذا جلّى للقلب فوق ذلك نورُ القرآن وضياءُ التقوى، ظهرت له الأمور عياناً بياناً وانتفت عنه كل ظلمة، وإن كانت خافيةً على غيره.

والمتّقون متفاوتون في هذه البصيرة بقدر قوة إيمانهم، كما تتفاوت السُّرُج في الإنارة والكشف، وشُبِّه قلب المؤمن بالسراج.

وفي الشرع إشارات إلى ذلك، فقال تعالى: ﴿واتّقوا الله ويعلّمكم الله﴾، وقال: ﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فُرقاناً﴾، وقال: ﴿إن في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين﴾.

وقال النبي ﷺ: «الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء»، فمن اجتمع فيه النور والبرهان والضياء كان أقرب الناس إلى البصيرة ومعرفة حقائق الأشياء.

وقال ﷺ في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»، فمن كان الله معه كذلك كان أقرب الناس إلى الحق والسداد.

وقال ﷺ: «اتقوا فِراسة المؤمن، فإنه ينظر بنورِ الله».
وقال عمر رضي الله عنه: "اقربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تتجلّى لهم أمورٌ صادقة".

وتظهر هذه البصيرة والمعرفة في قول النبي ﷺ: «إن الدجال مكتوبٌ بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ»، فهذا أمرٌ ظاهرٌ للمؤمن دون غيره، بل ويظهر له وإن كان جاهلاً بحروفه! فدل على أن المؤمن مخصوصٌ بزيادة بيانٍ وانكشاف، خاصةً في الفتن، كما قال الحسن البصري: "العالِم يرى الفتنة وهي مقبلة، والناس لا يرونها إلا وهي مدبرة".

وعُرفت هذه البصيرة عن عمر رضي الله عنه، فقال النبي ﷺ: «قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ فعمر»، أي مُلهَمون مُخاطَبون بما يخفى على غيرهم.

ويجد مثل هذا كثيرٌ من المؤمنين، فتقع في قلبه أحكامٌ ومعانٍ لا يجد أدلةً عليها ولا يقدر على إبانتها، كتمييزه بين الصادق والكاذب دون دليلٍ ظاهر، وبين الولي والفاسق، وبين الحلال والحرام، وبين الحديث الصحيح والضعيف، إلى غير ذلك.

ولقوّة هذه الأحكام الواقعة في نفس المؤمن المتّقي عدّها ابن تيمية رحمه الله من الشرع في حقه، فقال: "القلب المعمور بالتقوى إذا رجّح بمجرد رأيه فهو ترجيحٌ شرعي، فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما بطن معه أن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله كان هذا ترجيحاً بدليل شرعي".
وقال: "إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحاً، وأُلهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهامُ مثل هذا دليلٌ في حقه قد يكون أقوى من كثيرٍ من الأقيسة الضعيفة والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتجّ بها كثيرٌ من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه".
ويقوّي هذا قول النبي ﷺ في حق المؤمن: «البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن له القلب».


فنسأل الله أن يرزقنا التقوى والهدى والبصيرة، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
أصل المقالة مقطع سجلته يوم الاثنين ٣ ربيع الآخر ١٤٤٠هـ، ثم حررته وتصرفت فيه وزدت عليه اليوم ١٧ جمادى الأولى ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

12 Nov, 20:23


(عشرة أوجه في الشبه بين نبيَّي الله يوسف ومحمد عليهما السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

اجتمع الأنبياء عليهم السلام على محاسن الصفات ومكارم الأخلاق، فهم إخوةٌ لعَلّات كما قال النبي ﷺ، غير أني أظن أن من أشبههم بنبينا محمد ﷺ يوسفُ عليه السلام، فأنزل الله عليه قصته عام حزنه، وخصه ﷺ في أكثر من موطن بقوله: «أخي يوسف».
فبدا لي أن أجمع أوجه تشابههما، وحصل لي منها عشرة أمور، وهي أكثر من ذلك، لكني اخترت أظهرها:

-الأول: الجمال، فيوسف عليه السلام أُعطي شَطر الحسن كما ذكر النبي ﷺ.
وكذلك وصَف الصحابة جمال محمد ﷺ، كما قال أبو هريرة: "ما رأيتُ شيئاً أحسن من رسول الله ﷺ، كأن الشمس تجري في وجهه".

-والثاني: الإشارة لنبوّته في المنام وتعليمه تأويل الحديث، فيوسف عليه السلام رأى رؤيا في صباه أوّلها أبوه يعقوب عليه السلام بالاجتباء والنبوة وتعليم تأويل الأحاديث، وصحّ تأويله لصاحبيه في السجن وللملك.
وكذلك محمد ﷺ أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكان يفسر لأصحابه رؤاهم، ويسألهم عنها: «هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟».

-والثالث: اجتماع أهله وقرابته عليه، فإخوة يوسف عليه السلام اجتمعوا يتآمرون إما على قتله أو إخراجه وإلقائه في أرض بعيدة، كما قال تعالى على لسانهم: ﴿اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً﴾.
وكذلك اجتمع قوم محمد ﷺ يتآمرون قبل هجرته إما على قتله أو حبسه أو إخراجه وإلقائه، كما قال تعالى: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يَقتلوك أو يُخرجوك﴾.

-والرابع: اتّهامه في عرضه، فيوسف عليه السلام اتُّهم بمراودته امرأة العزيز وسُجن ولبث في السجن سنين حتى أظهر الله براءته.
وكذلك اتُّهم محمد ﷺ في زوجته عائشة رضي الله عنها وتكلم فيها من تكلم، واغتمّ النبي لذلك شهراً حتى أنزل الله براءتها.

-والخامس: النصح دون سؤال، فيوسف عليه السلام لما سُئل تعبير الرؤيا عبّرها لهم وزادهم دون سؤال منهم أن نصحهم وقال: ﴿تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون﴾.
وكذلك كان النبي ﷺ ينصح أصحابه ويتحرّى الأصلح لهم دون سؤال منهم، فإذا جاءه رجل يريد أن يتصدق بماله كله قال له: «ابدأ بنفسك، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك»، وغير ذلك كثير.

-والسادس: الحرص على تبرئة النفس، فيوسف عليه السلام لما أمر الملك بإخراجه من السجن لم يشأ أن يخرج دون ظهور براءته، فقال لرسول الملك: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن﴾.
وكذلك محمد ﷺ لما زارته زوجته صفية وهو في معتكفه ثم قامت لتخرج خرج معها، فمرّ رجلان من الأنصار ورأيا النبي ﷺ مع امرأةٍ ليلاً، فأسرعا، فلم يشأ النبي ﷺ أن يتركهما دون تبرئةٍ لنفسه مما قد يخطر بنفوسهما، فقال لهما: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي».

-والسابع: رعاية الحرمات، فيوسف عليه السلام لما أراد تبرئة نفسه لم يصرّح بذكر امرأة العزيز وفعلها معه، ستراً لها ورعايةً لحرمة زوجها، فقال لرسول الملك: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن﴾.
وكذلك محمد ﷺ رعى حرمة عمر رضي الله عنه وهو في منامه، فروى عنه أبو هريرة أنه قال: «بينا أنا نائمٌ رأيتُني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصر، قلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرتُ غيرته فولّيتُ مدبراً».

-والثامن: الحيلة، فيوسف عليه السلام لما أراد إبقاء أخيه عنده أمر أحد خدمه أن يجعل السقاية في رحل أخيه، ليُظهر للناس أنه سارق، فيعاقبه ويأخذه عنده.
وكذلك كان محمد ﷺ يستعمل الحيلة في غزواته، فيُرسل السريّة يورّي بها عن غيرها، ويُشعر عدوه انشغاله بغيره ثم يباغته، ويحتال لمكانه ولما حوله.

-والتاسع: التغافل، فيوسف عليه السلام لما جعل السقاية في رحل أخيه وظهر للناس أنه سارقها قال إخوته متبرئين منه ومُظهِرين أنه على غير خلقهم: ﴿إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل فأسرّها يوسف في نفسه ولم يُبدِها لهم﴾.
وكذلك محمد ﷺ لما أظهر له الله إفشاء إحدى زوجاته لسرّه، لم ينبّئها بكل ما قالت، بل أسرّ في نفسه بعضه متغافلاً عنه، فـ﴿عرّف بعضه وأعرض عن بعض﴾.

-والعاشر: العفو، فيوسف عليه السلام آذاه إخوته أذى شديداً بتفريقه عن أبيه ورميه في البئر ووقوعه في الرقّ ودخوله السجن، فلما مكّنه الله ودخلوا عليه محتاجين وعرفوه واعترفوا بذنبهم عفا عنهم وقال: ﴿لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم﴾.
وكذلك محمد ﷺ أوذي من قومه أذى شديداً قبل هجرته وبعدها في نفسه وبلده وأهله وأصحابه، فلما مكّنه الله ودخل مكة فاتحاً ومثل أمامه قومه خائفين ذليلين قال لهم: «لا أقول لكم إلا كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء».


والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
١٠ جمادى الأولى ١٤٤٦هـ
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

05 Nov, 20:08


(عشر فوائد من الشدائد)

بسم الله الرحمن الرحيم

قد كتب الله سبحانه على الناس جميعاً الكدَر وتنغيص العيش ما داموا في الدنيا، من أبيهم آدم إلى آخرهم، كما قال تعالى لآدم وزوجه قبل نزولهما إلى الدنيا: ﴿فلا يُخرجنّكما من الجنة فتشقى﴾.

غير أن الله سبحانه فضّل المؤمنين على الكافرين عند الشدائد بنعمٍ تنزل عليهم معها إذا هم صبروا عليها، فقال لهم: ﴿وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم﴾، وقال: ﴿فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً﴾.

ومن هذه النعم والفوائد عشرة أمور:
-الأول: امتحان العبد حتى يُقيم الحجة على نفسه، أيستحق دخول الجنة أم لا، كما قال تعالى: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثَل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزُلزِلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾.

-والثاني: تكفير الذنوب، كما قال النبي ﷺ: «ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة».

-والثالث: رفع الدرجات، كما قال تعالى: ﴿إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾، قال الأوزاعي رحمه الله: "ليس يوزن لهم ولا يُكال، إنما يُغرف لهم غرفاً".

-والرابع: تمحيص المؤمن من المنافق، كما قال تعالى: ﴿ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب﴾، وظهر هذا في أكثر غزوات النبي ﷺ.
وقال الإمام الشافعي:
•جزى الله الشـدائد كل خيـرٍ
وإن كانـت تُغصّـصني بريقـي
•وما شُـكري لها حمـداً ولكن
عرفتُ بها عدوّي من صديقي

-والخامس: تخليص قلب العبد من التعلق بغير الله، فإنه إذا اشتدت عليه المصيبة، وأُغلق عليه كل طريق، وانسدّ أمامه كل باب، علّق قلبه بالله وحده وأخلصه له، فلجأ إليه وتوكل عليه وحده دون سواه، وهذا من لطف الله به أن دفعه إليه دفعاً.

-والسادس: تقوية العبد وتربيته وتعويده على الصبر، فمن ابتُلي بمصيبة وصبر عليها هانت عليه كل المصائب التي دونها، وقد تعظُم عليه هذه المصائب لو لم يُصَب بالعظمى قبلها، كما هانت على الصحابة كل المصائب بعد موت النبي ﷺ، فقال حسان رضي الله عنه:
•وهل عدلت يوماً رزيّةُ هالكٍ
رزيّةَ يـومٍ مـات فيه محـمدُ؟

-والسابع: استجلاب الدعاء، فإن العبد قد يغفل عن دعاء ربه سنين طويلة، فإذا نزل به البلاء توجّه إلى الله بالدعاء، وتحرّى له فضائل الأوقات، وألحّ به وتتبع أسباب إجابته، وكان دعاؤه خالصاً وقلبه راجياً مستكيناً، وقد يؤخر الله عنه الإجابة ليستكثر من الدعاء فينال فضائله.

-والثامن: إمالة العبد إلى الاستقامة وإنقاذه من الغفلة، كما قال تعالى: ﴿ولقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلهم يتضرعون﴾، وهذا من لطف الله بهم أن دفعهم إلى التضرع إليه، كما قال السعدي رحمه الله: "بالبأساء والضرّاء أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب؛ رحمةً منا بهم لعلهم يتضرعون إلينا ويلجؤون عند الشدة إلينا".
وقال تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليُذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾، ومن لطفه بهم كذلك فوق ابتلائهم ليرجعوا إليه أن أذاقهم بعض ما عملوا لا كله لئلا يهلكوا.

-والتاسع: إخضاع المؤمن وإزالة ما في قلبه من كبر، فإن الدنيا إذا ملأت قلبه أورثته الكبر، فإذا دخل البلاء على قلبه حقّر الدنيا عنده حتى يستكين ويخضع.

-والعاشر: تنبيه المؤمن إلى عدم الركون إلى الدنيا، فهو إذا ابتُلي بما مال قلبه إليه وانشغل به تيقّظ واستحضر زوال داره وصرف عمله إلى دار البقاء واشتاق إليها وعلّق قلبه بها.


فنسأل الله أن يلطف بأهل الشدائد ويُثبتهم ويُعظم لهم الفضل كما أعظم عليهم المصيبة، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٣ جمادى الأولى ١٤٤٦هـ
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

29 Oct, 20:46


(تكنيات العرب بالعصا عن غيرها)

بسم الله الرحمن الرحيم

مما عظّمته العرب وحفَلت به وعرفت قدره: العصا، فاستعانوا بها على كثيرٍ من مآربهم، وتزيّنوا بها في كثيرٍ من مواطنهم، وضربوا بها ما استطاعوا من أعاديهم.

وقال فيها الحسن البصري: "فيها ست خصال: سنةٌ للأنبياء، وزينةٌ للصلحاء، وسلاحٌ على الأعداء، وعونٌ للضعفاء، وغمّةٌ للمنافقين، وزيادةٌ في الطاعات".

وما ذكره العرب وعدّدوه من مآرِب العصا كثيرٌ مشتهرٌ ومجموعٌ في عدة مواطن، وأوصل فوائدَها عبدُ العزيز الحربي في كتابه (أم المآرب) إلى أكثر من ثمانين فائدة.
ولن تزال العصا في العرب بفوائدها إلى قيام الساعة، كما قال النبي ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجلٌ من قَحطان يسوق الناس بعصاه».

ولما كان للعصا هذا القدر عند العرب صاروا يُكنّون بها عن غيرها، وهي عادتهم فيما ألِفوه واشتدت ملاصقته لهم، والذي وقفت عليه من تكنياتهم بها عشرة، وشرطي فيها أن تكون كُنيةً عن أمرٍ لا تعلّق له بالعصا بل بغيرها، إذ يرِد في كلامهم ما ظاهره الكنية وهو وصفٌ لنفس العصا أو جزءٍ منها:

-الكنية الأولى: قَرْع العصا، وهو وقوع الحادثة، فيقولون: ما قُرِعت عصاً بعصاً إلا حزن لها قومٌ وسُرّ آخرون، أي: ما حدثت حادثة إلا ساءت قوماً وسرت قوماً.

-والثانية: صلابة العصا، وهي الجلادة والقوة، قال ابن بري: "يُقال إنه لصلب العصا، أي صلب في نفسه وليس ثَمّ عصا"، وتُستعمل في الذم والمدح، فإذا اعتدلت الصلابة كانت مدحاً، وإذا خرجت عن اعتدالها كانت ذماً، كما قال الراجز:
صلب العصا بالضّرب قد دمّاها
تـــودُّ أن الله قـــد أفـــنــاهـــا
وقال آخر مادحاً:
نـشّـطهـا ذو لِـمّـةٍ لم تُغـسَّلِ
صلب العصا جافٍ عن التغزّلِ

-والثالثة: ضعْف العصا، وهو اللين، عكس الأول، ويُستعمل كذلك في المدح والذم، فإذا اعتدل وكان رِفقاً وإشفاقاً كان مدحاً، وإذا خرج عن اعتداله وكان عجزاً ووهناً كان ذماً، كما قال الأول:
وأنت بـذات السـدر من أم سـالـمٍ
ضعيفُ العصا مستضعفٌ متهضمُ
وقال الآخر مادحاً:
ضعيفُ العصا بادي العروقِ ترى له
عليـها إذا ما أمْحَـل النـاس أصبُـعاً
أي أثراً حسناً إذا افتقر الناس.

-والرابعة: شَقّ العصا، وهو الفُرقة، كما قال النبي ﷺ: «من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يُريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه».
وكنّوا عمن قُتل في هذه الفتنة التي تُفرّق الناس بـ(قتيل العصا)، فقالوا: إياك وقتيل العصا، أي إياك أن تكون القتيل في الفتنة التي تُفارق فيها الجماعة.

-والخامسة: إلقاء العصا، وهو الإقامة وترك السفر، كما قال مضرس الأسدي:
فألقت عصا التَّسيار عنها وخيّمت
بـأرجـاءِ عذبِ الماء بِيـضٍ مَحافِرُه
وقيل:
فألقت عصاها واستقرّت بها النوى
كـمـا قَـرّ عيـناً بالإيـاب المـسـافـرُ

-والسادسة: عبد العصا، وهو من سهُل انقياده لضعفه وذلّه، كما قال بشر بن أبي خازم:
عبـيدُ الـعـصـا لـم يـتّـقـوك بـذِمّـةٍ
سوى سيب سعدى، إن سيبك واسعُ

-والسابعة: جَنيب العصا، وهو المنقادُ لما كُلِّف، فالجنيب المجنوب، أي المنقاد، يقولون: أصبح فلانٌ جنيبَ العصا.

-والثامنة: قَشْر العصا، وهو إظهار ما في النفس، يقولون: أقشَرَ له العصا، أي كاشفه وأظهر له العداوة.

-والتاسعة: رأس العصا، وهو صغير الرأس، كما قال سويد بن الحارث في عمر بن هبيرة الفَزاري -وكان صغير الرأس-:
مَن مُبلغٍ رأسَ العـصا إنّ بيـنـنا
ضغائنَ لا تُنسى وإن قَدُم الدهرُ
وقال أبو العتاهية في رأس والبة ورؤوس قومه:
رؤوس عصيٍّ كُنّ من عود أَثلةٍ
لها قادحٌ يَفري، وآخـر مُخرب

-والعاشرة: عصا الدين، وهو السيف، كما قال الفرزدق في مدح هشام بن عبد الملك:
رأيـتُ بني مـروان جـلّـت سيـوفُـهم
عَشـاً كان في الأبصار تحت العمـائم
عصـا الدين والعُودَين والخاتمَ الذي
بـه الله يُـعـطـي مُـلـكـه كــل قـائـمِ
والعودان: العصا والمنبر.


والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢٦ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

22 Oct, 19:16


(تفضيل العرب الموتَ في المعركة على الموتِ حتفَ الأنف)

بسم الله الرحمن الرحيم

مما خالفت به العربُ سائرَ الأمم عند المعارك والحروب: حبُّها للموت قتلاً وفخرُها به، وإباؤها عن الموت في الفراش وتسابُّها به.

فقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: "كانوا يتمادحون بالموت قَعْصاً، ويتهاجَون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلانٌ حتفَ أنفه".

والموت قَعْصاً أي: قتلاً من رميةٍ أو ضربة.
والموت حتفَ الأنف أي: من غير قتل، فجاءه حتفُه -وهو موتُه- من أنفِه، قال أبو أحمد العسكري: "إنما خص الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفَسه، لأن الميت على فراشه من غير قتل يتنفس حتى ينقضي رمقه، فخص الأنف بذلك، لأن من جهته ينقضي الرمق، أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض تخرج روحه من أنفه، وروح الجريح من جراحته".

وأول من سبك هذه العبارة النبي ﷺ، ثم صارت من أمثلة العرب، فروى عبد الله بن عتيك عن النبي ﷺ أنه قال: «من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، وإن لدغته دابةٌ فمات فقد وقع أجره على الله، ومن مات حتفَ أنفه فقد وقع أجره على الله، ومن مات قَعْصاً فقد استوجب الجنة».
ثم قال ابن عتيك في قوله «حتفَ أنفه»: "وإنها لَكلمةٌ ما سمعتها من أحدٍ من العرب أولَ من رسول الله ﷺ"، يعني قبله.


فتفاخَر العرب بالموت قَعْصاً وتمنّوه واستعذبوه واستحْلَوه، ونزّهوا أنفسهم عن الفرار عنه والموت في غيره، وهو معنى قولهم: "استقبال الموت خيرٌ من استدباره".

فقال زُهير في مدح قومه:
•وإن يُقتَـلوا فيُشـتفى بدمائـهم
وكانوا قديماً من مناياهمُ القتلُ

ومن المشهور نسبته إلى السّمَوأل قوله:
•وإنا لَقـومٌ لا نرى القـتلَ سُـبّـةً
إِذا مــا رأتـهُ عـامــرٌ وسَـلــولُ
•وما مات منا سيدٌ حتـفَ أنفِـهِ
ولا طُـلَّ منـا حيـثُ كان قتـيـلُ
•تسيل على حدّ الظّبات نفوسُنا
وليس على غير السّـيوف تسيلُ

وقال أبو تمام في رثاء محمد الطوسي:
•فتىً مات بينَ الضربِ والطعنِ مِيتةً
تقـوم مَقـامَ النصـرِ إن فاتـهُ النصـرُ
•وقد كان فَـوتُ المـوتِ سهـلاً فَـرَدّهُ
إليـه الحِفـاظُ المُـرُّ والخُـلُـقُ الوَعـرُ

وقالت امرأةٌ من بني عبد القيس في مدح قومها:
•أبَوا أن يفِـروا والقَـنا في نحـورهـم
ولم يبتغوا من خشية الموت سُلّماً
•ولـو أنّـهـم فــرُّوا لَـكــانــوا أعِــزّةً
ولكن رأوا صبراً على المـوت أكرمـا

وأما استعذابهم الموت في الوغى ولذّتهم به فمنه قول أبي تمام:
•يستعـذِبون منايـاهم كأنـهـمُ
‏لا يخرجون من الدنيا إذا قُتِلوا

وقال البحتري:
•تسرَّع حتى قال من شهِد الوغى
لـقـاءُ أعـادٍ، أم لـقـاءُ حـبـائـبِ؟

وقال كذلك:
•يمشون تحت ظبا السيوفِ إلى الوغا
مشيَ العِـطاش إلـى بـرودِ المـشـرَبِ

وقال الحارثة الغداني:
•وإنا لتستحـلي المنايا نفوسُنا
وتترك أخرى مُرّةً ما تـذوقُـها

ولمّا حضرت المنيةُ خالدَ بن الوليد رضي الله عنه وهو في فراشه بكى وقال: "لقد حضرتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبرٌ إلا وفيه ضربةٌ بسيف أو طعنةٌ برمح أو رميةٌ بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتفَ أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".
ولعل الله قدّر له الموت على فراشه لمّا سماه النبي ﷺ سيفَ الله المسلول، فلا يُكسر سيف الله في المعركة، كما ذكر بعض العلماء.

ولما بلغ عبدَ الله بن الزبير مقتلُ أخيه مصعب رضي الله عنهما قال: "إن يُقتل فقد قُتل أخوه وأبوه وعمه، وإنا والله لا نموت حتفاً، ولكن قَعْصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف".


ولما جاء الإسلام ألبس هذه القِتلة لُبسةً شريفة، وهي الشهادة في سبيل الله، وأثنى على أهلها وأثبت لهم الحياة والرزق وأوجب لهم الجنة، فبلغت شجاعة الصحابة رضي الله عنهم باجتماع هذين الأمرين مبلغاً عظيماً لم يُر مثله، وأحسنَ خالد بن الوليد رضي الله عنه في وصفهم بقوله في رسالة كتبها إلى ملوك فارس: "أسلِموا، وإلا فأدّوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة".


فنسأل الله أن يُظهر في أمتنا الإقدام والشجاعة الذي تهابها به أعداؤها، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
١٩ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

17 Oct, 20:00


(المقالة المئة، النجدية)

بسم الله الرحمن الرحيم


لما خلق الله تعالى البلاد ومايَز بينها، خصّ نجداً بما لم يُعطِه غيرها، فاختار لها من جزيرة العرب أعاليها، وتخيّر لها من أعاليها أوسطها، فاجتمع في محلّها الشرفان، العلوّ والتوسط.

ثم لم ترتضِ نجدٌ علوَّ المكان حتى تاقت إلى علوّ المكانة، فكانت مهد العروبةِ والمجد، وموطن العشق والوَجد، وأرض العلوّ والجَدّ، وعرف لها ذلك القريب والبعيد، فسمّاها المستشرقون كذلك (قلب جزيرة العرب) "the heart of arabia".


وهذه مقالةٌ كتبتُها بمناسبة إتمامي مئة مقالةٍ في هذه المدونة، ولطولها جعلتها في ملفٍ لتكون أوضح للقارئ، هذه هي:

مدوّنة أروى أبا الخيل

08 Oct, 20:25


(التشبيه بما لم يرَه المتكلم والسامع)

بسم الله الرحمن الرحيم

من عادة العرب إذا أرادوا المبالغة في الوصف مدحاً أو تقبيحاً وغيرهما أنهم يُشبّهون بما لم يرَه السامع ولم يعلم وصفه، مع علمه بشدة حسنه أو قبحه أو صفةٍ ظاهرةٍ فيه.

-كتشبيه جميلِ الوجه بالملَك، وتشبيه الحسناء بالحورية، مع أن المتكلم والسامع لم ير الملائكة ولا الحور، لكن لمّا كانت شدة حسنهما معلومةً، كان مِن البلاغة الوصفُ بهما لمن برع جماله، لأن الذهن يتصور بوصف الملَك والحور أجمل ما يستطيع، فلا تحدّه صورةٌ رآها ولا وصفٌ سمعه، هذا مع اختلاف آراء الناس في الحُسن والجمال، فيتصوّر بهما كلّ أحدٍ ما يعدّه من جمال.
وهو كما في قوله تعالى عن النسوة في قصة يوسف: ﴿قُلنَ حاشَ لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملَكٌ كريم﴾.

-وكتشبيه ما يوجب الخوف والهلع بالغُول والسَّعالي، والعرب تزعم أنهما من الجن ولم ترهما.
وهو كقول امرئ القيس في وصف رماحِه وتشبيه حدّتها وإفزاعها بأنياب الغول:
أيقتلني والمَشرفيُّ مُضاجِعي
ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أغـوالِ
وقول بعضهم:
لقد رأيـتُ عجـباً مُـذ أمـسا
عجائزاً مثل السعالي خمساً
يأكُلنَ ما في رحلـهنّ همـساً
لا تــرك الله لـهـنّ ضـرســـاً
ولا لقـيـنَ الدهـرَ إلا تـعـسـاً
فيذهب الذهن بهذا الوصف إلى ما شاء من الشناعة والخوف.

-وكتشبيه ما يُئس منه بما أخذته العنقاء، وهي بزعم العرب طائرٌ عظيمٌ لها عنقٌ طويل، إذا انقضّت على شيءٍ وأخذته غربت به فلم يرجع، فقالوا في أمثالهم: "حلّقت به عنقاءُ مُغرِب"، أي ذهبت به.
وقال بعضهم:
إذا ما ابنُ عبـدِ الله خلّـى مكـانهُ
فقد حلّقت بالجودِ عنقاءُ مُغرِبُ
فتقع في النفس شدةُ اليأس بهذا الوصف.

-وكتشبيه ما يُكثِر الجولان والدوران في الليل بقُطرُب، وهو بزعم العرب دابةٌ تجول الليل كله لا تنام، فقالوا في أمثالهم: "أسهر من قُطرب"، و"أجولُ من قُطرب".
وهو أصل تسمية قُطرب النحوي، فقد كان يُبكر إلى مجلس سيبويه فلا يفتح الباب إلا وجده، فقال له: "ما أنت إلا قُطرب ليل"، فبقي له لقباً.

-وكتشبيه شديدِ القُبح والبشاعة بالشيطان، كقوله تعالى في وصف شجرة الزقوم: ﴿طلعُها كأنه رؤوس الشياطين﴾، والسامع لم يرَ الشياطين حتى يرى رؤوسها، لكنه يعلم شدة قبحها، فيذهب ذهنه إلى أشد ما استطاع من البشاعة.


أروى أبا الخيل
٥ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

01 Oct, 19:11


(يسر فهم الشريعة)

بسم الله الرحمن الرحيم

المشهور عند عامة المسلمين يُسر أحكام الشريعة ورُخَصها ومراعاتها للضعف والجهل والنسيان والإكراه والاضطرار وغيرها.
غير أنه ثَمّ يُسرٌ آخر أقل شهرةً وأعظم، وهو يُسر فهمها لكل أحد، حتى تتضحَ للأمّي كما تتضح للعالم، وبنى النبي ﷺ كثيراً من الأحكام على ذلك مراعياً الأميّة في تيسير فهمها، وهذا واقعٌ في العقائد وفي الأحكام.

• أما يُسر فهم العقائد فإن الله تعالى لم يُنزل أصول دينه بمعانٍ لا يفهمها إلا حادّ الذهن دقيق النظر، بل كان النبي ﷺ يعرِض ما أُنزل عليه أمام عامة الناس فتكفيهم جميعاً لغتُهم في فهمه، وكان يعلّم الواحد من أصحابه الدين ثم يرسله إلى البلاد ليدعو أهلها دون حاجة إلى بيانٍ وتفصيلٍ من النبي بنفسه؛ لاستغناء شريعته عن ذلك بشدة الوضوح.

ومن يُسرها أن الله لم يكلّف أهلها بفهم تفاصيل الغيب، بل أمرهم فيها بالإيمان دون الخوض، وهذا من أعظم الوجوه، فلا يُشق على العبد بتكليفه فهم الغيب وتصوره حتى يُقبل منه إيمانه، بل إن أعظم مطلوبٍ منه هو التسليم مع التعظيم، كما قال النبي ﷺ: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ».

وعلى ذلك بنى أهل السنة اعتقادهم في صفات الله وأفعاله سبحانه، فأوجبوا فهم معانيها التي لا تخفى على عربي، ووكلوا كيفيتها إلى علم الله سبحانه إيماناً وتسليماً، بل إن أهل السنة -ليُسر فهم العقيدة ووضوحها- جعلوا اعتقاد عوام المسلمين الذين على فِطَرهم معياراً للعقيدة الصحيحة، حتى تمنى الموتَ عليها بعضُ أساطين علم الكلام.

وما ورد من الأمر بتحديث عامة الناس بما يعقلون لئلا يُكذَّب الله ورسوله، والنهي عن الخوض عندهم في مسائل دقيقة في الاعتقاد، فهو حق، لكنه في مسائل لا يحتاجون إليها في صحة إيمانهم، وأما ما يحتاجون إليه فهو اليسير القريب.


• وأما يُسر فهم الأحكام فإن الله تعالى علقها على أمورٍ ظاهرةٍ لا تحتاج منهم إلى تعلمٍ وتدقيق نظر، وإن خفي عليهم الظاهر علّقها على أمرٍ تقريبي، وهذا واقعٌ في أركان الإسلام فضلاً عن غيرها.

-ففي الشهادتين جعلهما أول واجبٍ على العبد دون تكليفه بفهم دقيق مسائل الاعتقاد، وجعل التلفظ بهما عاصماً لدم المسلم وعِرضه، وأمر المسلمين بالأخذ بظواهر الناس عند الحكم عليهم، ولم يكلّفهم فهم ما في نفوسهم.

-وفي الصلاة علق مواقيتها بالظواهر التي لا تحتاج في فهمها إلى تعلم، وجعل ما بين المشرق والمغرب قِبلةً إن خفيت على المسلم.

-وفي الصيام علق دخول الشهر وخروجه على رؤية الهلال، فإن تعذرت رؤيته علقه على تمام الشهر، فلم يكلّفهم بفهم عدٍّ ولا حساب، كما قال ﷺ: «إنا أمةٌ أميةٌ لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا»، يعني مرةً تسعة وعشرين ومرةً ثلاثين.

-وفي الحج وسائر الأيام المشهودة علقها على اجتماع الناس عليها، فيطمئن الشاكّ ولا يُكلّف فهم غير ذلك ليعلم وقتها، كما قال ﷺ: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحّون»، وقال: «يوم عرفة اليوم الذي يعرِّف فيه الناس».

-وفي سائر الأحكام عالج الاضطراب في الفهم عند وقوع الشك بما يجلّي الحكم ويُظهره ظهوراً بيّناً، وهو الاعتماد على اليقين، فإذا شكّ العبد في شيءٍ من عباداته واقترب منه الخفاء في الفهم جاء الأمر بالرجوع إلى اليقين ليُعيد للعبد يُسر الفهم ووضوح الحكم، فيَظهر له حكم الله ظهوراً بيّناً باعتماده على يقينه، ويَعلم أن الله لم يكلّفه بغير ذلك.


وأشار الشاطبي إلى هذا المعنى في كتابه الموافقات عند كلامه على أميّة الشريعة، فقال: "ومنها [أي من القواعد] أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقّلها؛ ليسعه الدخول تحت حكمها، أما الاعتقادية فأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور، مَن كان منهم ثاقب الفهم أو بليداً، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ…وأما العمليات فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال بالتقريبات في الأمور، بحيث يدركها الجمهور، كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم، كتعريفها بالظلال وطلوع الفجر والشمس وغروبها وغروب الشفق، وكذلك في الصيام في قوله تعالى: ﴿حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود﴾…وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين، وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور، فلا يصح الخروج عما حُد في الشريعة، ولا تطلّب ما وراء هذه الغاية، فإنها مظنة الضلال، ومزلة الأقدام".


فنسأل الله سبحانه كما يسّر لنا فهم شريعته أن ييسّر لنا امتثالها والعمل بها، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢٨ ربيع الأول ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

24 Sep, 20:18


(ما أصل كلمة "نحن"؟)

بسم الله الرحمن الرحيم

قبل سنواتٍ عدّةٍ كنتُ في درسٍ لشيخٍ يشرح فيه النحو، فبلغ باب المبتدأ والخبر، ثم ذكر أنّ المبتدأ قسمان: ظاهرٌ ومضمر، وذكر المضمرات وأمثلتها.

ثم قال: "والتحقيق أنّ المبتدأ في الضمير: (أنا، ونحن، وأنتَ، وأنتِ، وأنتما، وأنتم، وأنتنّ)، هو (أن)، وما اتّصل به حرفٌ لا محلّ له من الإعراب وُضِع للدِّلالة على المخاطَب، فيُقال مثلًا في (أنتَ) عند وقوعه مبتدأً: (أن) مبتدأٌ مرفوع، والتاء حرفٌ لا محل له من الإعراب وُضِع للدِّلالة على المخاطَب".

فاستغربتُ هذه الفائدة، وأعدت النظر في تلك الضمائر أجرّب فيها هذا الإعراب وأنظر كيف يكون الحرف بعده، وأسكلت علي تاء المتكلّم، إذ كيف تكون حرفاً لا محلّ له من الإعراب وهي إذا اتصلت بالأفعال كانت ضميراً متصلاً؟
ثم وقفت على الضمير (نحن)، واحترت في مبتدئه كيف يكون؟ وما الحرف الذي يدلّ فيه على جماعة المتكلّمين؟
وبقيت على هذه الحال منشغلةً حتى انقضى الدرس.

وبعد انقضائه بحثت عن المبتدأ في الضمير (نحن) كيف يكون؟ لأنه أكثر ما شغلني، فلم أجد جواباً، ثم رأيت من يُعرب هذه الضمائر كما ذكر الشيخ سوى الضميرين (أنا، ونحن)، فلا يجعل المبتدأ فيهما (أن)، بل يجعل الكلمة كلها في محل رفع المبتدأ.

ثم انشغلتُ عن المسألة وتركت البحث فيها، وبعد مدة قصيرة أخذتُ في تعلّم بعض الكلمات العِبريّة، ولمّا أتيت إلى الضمائر وجدتُ الضمير (نحن) في لغتهم يُقال له (أَنَحْنُ)، فحضرَت تلك المسألة في بالي مسرعة، وحضَر معها سؤال: هل يُعقل أن يكون هذا الضمير كباقي إخوته بهمزة في أوله إلّا أن العرب أسقطتها؟ فبحثت في معاجم اللغة العربية ولم أجد شيئاً، ورجعتُ إلى اللغة السيريانيّة لأنظر، فوجدت الضمير فيها دون همزة كالعربية، وانقطع الخيط الذي ظننته موصلاً لي إلى أصل الكلمة الأول.

ثم انشغلتُ مرةً أخرى عن المسألة وتركت البحث فيها، وبعد مدة قصيرة كذلك سمعتُ جدتي لأمي تكلم أحداً وتقول له: "إيه أَنْحن قايلين لهم…"، فانتفضت من مكاني لذلك، وتركت ما في يدي وأسرعت إليها وأنا أتذكر أن هذه كلمتها المعتادة إذا أرادت قول (نحن) غير أني لم أنتبه! وسألتها: منذ متى وأنتِ تقولين (أَنْحن)؟ فاستغربت وقالت: "من عمر الدنيا وأَنْحن نقول أَنْحن"!
من عمر الدنيا؟ ليت السند بذلك متصل حتى أصل إلى جواب المسألة.


وبعد هذا ما زالت المسألة مشكلةً عندي إلى الساعة..
هل يُقال إن أصل الضمير (نحن) هو (أنحن)؟ فإنّ الهمزة ثابتة في أول باقي الضمائر، وفي اللغة العِبرية شقيقة العَربية، وفي بعض اللهجات.
أم يُقال إنها لغةٌ في (نحن) وليست أصلاً لها؟
أم يُقال إنها لا وجود لها في العربية أصلاً وإنما اخترعتها بعض اللهجات المتأخرة؟

الله أعلم.


أروى أبا الخيل
كتبت المقالة أول مرة ظهيرة الثلاثاء ١ من ذي القعدة ١٤٤٣هـ، ثم نشرتها بعد تعديل يسير اليوم ٢١ ربيع الأول ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

17 Sep, 18:40


(عشرة أسباب من القرآن لسلب الرزق)

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرتُ في المقالة السابقة عشرة أسباب من القرآن لجلب الرزق، ولما كان الرزق كذلك من أعظم ما يسعى الإنسان إلى بقائه وزيادته، جمعتُ من القرآن عشرة أسبابٍ أخرى يُسلب بها الرزق، ليجتنبها المؤمن ويحذر منها، وهي:

-الأول: جحد النعم، فقال تعالى: ﴿وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكانٍ فكفرت بأنعُم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾.

-والثاني: الاغترار بالنعم واعتقاد بقائها، فقال تعالى على لسان صاحب الجنة: ﴿ودخل جنته وهو ظالمٌ لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً*وما أظن الساعة قائمة ولئن رُددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلَباً﴾، ثم عاقبه الله بقوله: ﴿وأُحيط بثمره فأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاويةٌ على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربّي أحداً﴾.

-والثالث: الطغيان في النعم بالإسراف فيها واستعمالها فيما يكرهه الله، فقال تعالى: ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحِل عليكم غضبي﴾.

-والرابع: نسبة النعم إلى النفس، فقال تعالى على لسان قارون: ﴿قال إنما أوتيته على علمٍ عندي﴾، ثم عاقبه بقوله: ﴿فخسفنا به وبداره الأرض﴾.

-والخامس: الإعراض عن شكر النعم، فقال تعالى: ﴿لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آيةٌ جنتان عن يمينٍ وشمالٍ كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيبةٌ وربٌّ غفور*فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرِم وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتَي أُكُلٍ خَمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل*ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور﴾.

-والسادس: التحول من حال خيرٍ إلى حال شر، فقال تعالى بعد ذكره عقاب آل فرعون: ﴿ذلك بأن الله لم يكُ مغيّراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.

-والسابع: المعصية، فقال تعالى لآدم وزوجه لمّا عصياه بالأكل من الشجرة: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعاً﴾ أي من الجنة.
وقال تعالى في آية أخرى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس﴾.

-والثامن: الربا، فقال تعالى: ﴿يمحق الله الربا ويُربي الصدقات﴾.

-والتاسع: البخل، فقال تعالى عن أصحاب الجنة: ﴿فانطلقوا وهم يتخافتون*ألّا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين﴾، وعاقبهم الله بقوله: ﴿فطاف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون*فأصبحت كالصريم﴾.
وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وأما من بخل واستغنى*وكذّب بالحسنى*فسنيسره للعسرى﴾.

-والعاشر: الإعراض عن ذكر الله، فقال تعالى: ﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً﴾، أي ضيقة.


فنسأل الله أن يُديم علينا نعمه ويقينا شر زوالها، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
١٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

10 Sep, 19:48


(عشرة أسباب من القرآن لجلب الرزق)

بسم الله الرحمن الرحيم

من أعظم ما يطلبه الإنسان ويسعى إليه ويجدّ فيه: الرزق، فليس في الدنيا أحدٌ يستغني عن طلبه، بل أكثر الناس يجتهدون في تلمّس طرقه ويتفننون في حيل الوصول إليها.

ومما يغفل عنه كثيرٌ منهم أن الله سبحانه أخبر عن نفسه أنه الرزاق الذي بيده الأمر كله، فيهب من يشاء ويفتح له، ويمنع من يشاء ويُمسك عنه.

ثم إن الرزّاق سبحانه -لطفاً بعباده- أخبرهم بالطرق التي توصِلهم إلى رزقه إذا هم تمسّكوا بها، فالسبُل التي دلّ عليها الغنيّ الوهّاب، أولى بالسلوك من سائر الأسباب.

ومما وقفت عليه بعد التتبع من أسباب الرزق المنصوص عليها في القرآن عشرة:

-الأول: الإيمان، فقال تعالى: ﴿ولو أن أهل القُرى آمنوا واتّقَوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض﴾.

-والثاني: التقوى، فقال تعالى: ﴿ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً*ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾.

-والثالث: الصلاة، فقال تعالى: ﴿وأْمُر أهلك بالصلاةِ واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك﴾.

-والرابع: الاستغفار، فقال تعالى: ﴿فقلتُ استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً*يُرسِل السماء عليكم مِدراراً*ويُمدِدكم بأموالٍ وبنينَ ويجعل لكم جنّاتٍ ويجعل لكم أنهاراً﴾.

-والخامس: الإنفاق، فقال تعالى: ﴿وما أنفقتم من شيءٍ فهو يُخلِفه وهو خير الرازقين﴾.

-والسادس: التوكل، فقال تعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم﴾.

-والسابع: الدعاء، فقال تعالى: ﴿فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له﴾.

-والثامن: الشكر، فقال تعالى: ﴿وإذ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم﴾.

-والتاسع: العمل، فقال تعالى: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذَلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه﴾، وقال: ﴿وهُزّي إليكِ بجذع النخلة تُساقط عليك رُطباً جنيّاً﴾.

-والعاشر: سكنى الحرم، فقال تعالى: ﴿أولم نمكّن لهم حرماً آمناً يُجبى إليه ثمرات كل شيءٍ رزقاً من لدُنّا﴾.


فنسأل الله أن يوفقنا لسلوك هذه الطرق، ويفتح لنا أبواب رزقه، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٧ ربيع الأول ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

03 Sep, 19:47


(موقف)

بسم الله الرحمن الرحيم


في أحد أيام معرض الكتاب بالرياض العام الماضي ١٤٤٥هـ-٢٠٢٣م كنت واقفةً في إحدى الدور أنظر في كتابين وأقارن بينهما لأختار أحدهما، وطال نظري وتأملي، فأحسست بحركةٍ خلفي ثم صوتٌ يناديني، فالتفتّ فإذا بفتاة واقفة ومن خلفها فتاةٌ أخرى تنظر، فكلمتني القريبة مني وقالت: أتنوين شراء هذا الكتاب؟
فظننت التي معي آخر نسخة وأنها تريدها، فقلت: نعم محتارة بين كتابين، تريدين أحدهما؟
فقالت: لا لا، ولكن صديقتي تريد أن تشتري لكِ كتاباً.
فاستغربت ونقّلت نظري بينها وبين صديقتها وقلت: ليه؟!
فاقتربت صديقتها -وفيها خجل- وقالت: والدي رحمه الله كان يحب القراءة، وكان كلما أُقيم معرض الكتاب زاره واشترى منه، فصرت أتذكره بحلول هذا المعرض كل عام، فأخذت عهداً على نفسي أن أزوره كلما أُقيم كما كان يفعل والدي، وأن أقصد الدور التي يحبها، وأشتري منها عدة كتب لمن أظنه جاداً في قراءتها، وأنوي بذلك إيصال الثواب لوالدي، وإبقاء قراءته بعد موته -ولو كانت نيابةً عنه-.

فأثّر فيّ كلامُها والله، وتعجبت من فنّها هذا الذي سلكته في البر، ودار بيني وبينها حوار، ثم نظرتُ إلى الكتابين واخترتُ أقربهما إلى مسائل الدين الخالصة، ومددته إليها وقلت: نعم، اشتري لي هذا.
ففرحت فرحَ المُهدى إليه، وأخذته وأسرعت إلى طاولة الحساب ودفعت ثمنه، ثم مدته إلي وودعتني، وذهبَت.

ولم أزل أنا إلى الآن كلما تذكرت موقفها، أو نظرت إلى كتاب والدها، دعوت له ولها، فرحمه الله وغفر له، ويسر لابنته من يتفنن في برّها كما فعلت.


أروى أبا الخيل
٣٠ صفر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

27 Aug, 18:39


(إنزال الناس منازلهم)

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحكمة والعدل في التعامل مع الناس إنزالُهم منازلهم، فلا يُسوَّى بين العزيز والذليل، ولا بين الخادم والمخدوم، ولا بين الشريف ومن دونه، بل يُعامَل كلٌّ منهم بحسب منزلته، فيُخاطَب هذا بحسب حاله وهذا بحسب حاله، ويُعطى هذا القدرَ الذي يلائمه وهذا القدرَ الذي يلائمه، ويُعاقَب هذا العقابَ الذي يناسبه وهذا العقابَ الذي يناسبه، ما لم يكن في حدٍّ من حدود الله.

فإنّ ذوي الملك والشرف والجاه والحسب والعلم والفضل يأنفون من أن يُسَوَّى بينهم وبين من هو دونهم، بخلاف غيرهم، وقد راعى الشرع والعقل ذلك، فأمر به النبي ﷺ في قوله: «أنزِلوا الناسَ منازلهم»، أي عاملوا كل أحد بما يناسب قدره ويلائم حاله، وقال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»، أي لا تؤاخذوا ذوي الشرف والمكانة إذا وقعت منهم زلّة لم تُعهَد عنهم كما تؤاخذون غيرهم، فإنّ لكل أحدٍ قدراً.

وفعل ﷺ ذلك في مواضع كثيرة:
- منها يوم فتح مكة لمّا قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، ولا فرقَ بين دار أبي سفيان وغيرها من الدور، لكن النبي خصّه بما يناسب شرفه بين قومه ولم يعامله كباقيهم.

- ولمّا وقعت جويرية بنت الحارث بنت سيّد بني المصطلق في أسر المسلمين لم يُعاملها ﷺ كباقي السبي، فهي ابنة سيّد بني المصطلق ولها شرفها وحسبها، بل اختصّها بأن يُخيّرها بين أن تبقى على حالها أو يعتقها ويتزوّجها، فاختارت الزواج برسول الله وصارت أمّاً للمؤمنين.

- وكذلك لمّا جاءت سبايا قبيلة طيء وغنائمُهم إلى النبي ﷺ وفيهم سفّانة بنت حاتم الطائي، فقامت سفّانة أمام رسول الله وقالت: "يا محمد، لقد هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيتَ أن تُخلّيَ عنّي ولا تُشمتَ بي أحياء العرب"، ثم ذكرت خصال أبيها الحميدة، فراعى النبي ﷺ منزلتها وشرفها وحسبها ولم يسوِّ بينها وبين غيرها من السبايا، وقال لأصحابه: «اتركوها فإنّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق»، ثم قال: «ارحموا عزيزاً ذلّ، وغنيّاً افتقر، وعالماً ضاع بين جُهّال».

وتبعه على ذلك خلفاء المسلمين، فلمّا دوّن عمر رضي الله عنه دواوين العطاء رتّب الناس بحسب منازلهم، فجعل عطايا أهل بدر خمسةَ آلاف خمسةَ آلاف، وعطايا من بعدهم إلى الحديبية أربعةَ آلاف أربعةَ آلاف، ثم تنقص بحسب ما أدركوه من المشاهد، بل وحتى نساؤهم متفاوتون بحسب قدر رجالهم، فعطاء نساء أهل بدر خمسُمئة خمسُمئة، وعطاء نساء من بعدهم إلى الحديبية أربعُمئة أربعُمئة، ثم تنقص كما تنقص عطايا رجالهم، وجعل فرضَ العباس عمِّ النبي ﷺ اثنا عشر ألفاً، وبدأ به لمكانته، وفرضَ لزوجات النبي ﷺ عشرة آلاف عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين لمحبّة رسول الله لها.

ولمّا خرج إبراهيم المهدي على المأمون ثم تمكّن منه المأمون قال له: "إني شاورتُ في أمرك فأشاروا علي بقتلك، إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل لِلازم حُرمتك".


وهذه مسألةٌ دقيقةٌ ودالّةٌ على حكمةٍ ومعرفةٍ وحسنِ إمارةٍ وسياسة، وفيها العدل الذي من جهله ظنّه ظلماً، غير أنها تحتاج إلى حكيمٍ يميّز مواضعها، وقال فيها ابن القيم: "هذا بابٌ عظيمٌ من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالم وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد".


فنسأل الله أن يزيدنا حكمةً وعقلاً، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
أصل المقالة مكتوبٌ عندي قبل ثلاث سنوات في اليوم ٨ ربيع الأول ١٤٤٣هـ، ثم حررته ونشرته اليوم ٢٣ صفر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

20 Aug, 18:08


(عشر مسائل مبنية على وجوب فهم القرآن بفهم العرب)

بسم الله الرحمن الرحيم

من المتقرر أن القرآن لا بد أن يُفهم كما فهمه العرب الذين أُنزل عليهم، وإن تغيرت الأحوال واختلفت المعاني، لأنه لا بد أن ينزل مُخاطِباً لهم بما يفهمون، وتنبني على ذلك عشر مسائل لا يجوز فيها الخروج عن فهمهم:

-الأولى: ألّا يُفهم بغير معانيهم، كتفسير بعض الباطنية الصراطَ المستقيم في قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ بالإمام، وتفسير فرعون في قوله تعالى: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ بالنفس، حتى قال بعضهم: "اعلم أن كل ما ورد عليك من كتاب الله عز وجل من ذكر الجنات والأنهار والنخيل والأعناب والزيتون والرمان والتين وجميع الشهوات وما شاكلتها فهو دال على الأئمة عليهم السلام ثم على الحجج ثم على الدعاة على المستجيب البالغ".

-والثانية: ألا يُفهم بغير استعمالهم، كتفسير قوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش﴾ بالاستيلاء، فالعرب لم يرد عنها استعمال الاستواء بالاستيلاء.

-والثالثة: ألّا يُفهم بغير دلالات ألفاظهم، كقوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾، فإنها نزلت في فتح مكة لما أخذ النبي ﷺ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ثم رده إليه، لكن حكم الآية بوجوب أداء الأمانة عامٌ في كل شيء، فإن العرب إذا أدخلت الألف واللام على الجمع (الأمانات) قصدت العموم.

-والرابعة: ألّا يُفهم بغير تراكيبهم، كتفسير قوله تعالى: ﴿إلى ربّها ناظِرة﴾ أي: منتظرة، من الانتظار، فالعرب لا تفهم من تركيب الجملة هكذا غير النظر، لتعلق حرف الجر (إلى) بقوله (ناظرة)، فالعرب إذا قالت: (ناظرٌ إلى الشيء) أرادت النظر، وذا قالت: (ناظرٌ الشيءَ) أرادت الانتظار.

-والخامسة: ألّا يُفهم بغير أساليبهم، كتفسير قوله تعالى: ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فيكفر﴾ بالتخيير المانع من الدعوة والقتال، فمن أساليب العرب في التهديد التخيير بين أمرين يعلم السامع تحريم أحدهما.

-والسادسة: ألّا يُفهم بمجازٍ لا يخطر ببالهم، كتفسير قوله تعالى في أصناف أهل الزكاة: ﴿وفي الرقاب﴾ برقيق النفس، وأنه ممن يستحق الزكاة ليُعتق نفسه من شهوته، وهو تأويلٌ بعيدٌ لم تفهمه العرب، بدليل فعل النبي ﷺ والصحابة في قسمة الصدقات، وهذه المسألة يقع فيها كثيرٌ ممن تكلف الاستنباط والتدبر.

-والسابعة: ألّا يُفهم بخلاف ما كان من أحوالهم وعاداتهم، كقوله تعالى: ﴿وهو يُجير ولا يُجار عليه﴾، فمن عادات العرب أن السيد العظيم إذا أجار أحداً لا يُخفَر في جواره ولا يُجير عليه مَن هو دونه لئلا يفتات عليه، والمقصد شدة التعظيم كما تعدّ العرب في ذلك تعظيماً.

-والثامنة: ألّا يُفهم بما حدث من اصطلاحٍ بعدهم، كتفسير قوله تعالى: ﴿كل ذلك كان سيئُه عند ربك مكروهاً﴾ بالكراهة المصطلح عليها في الفقه وأصوله، فالعرب تفهم منها التحريم.

-والتاسعة: ألّا يُفهم بمعزِل عما شهدوه سبباً لنزوله، ووقع ذلك في زمن الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه لمّا شرب قدامة بن مظعون الخمر وشهد عليه بعض الصحابة، فقال له عمر: يا قدامة إني جالدك، فقال قدامة: والله لو شربتُ كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، فقال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناحٌ فيما طعِموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات..﴾ الآية، فقال عمر: ألا تردّون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أُنزلن عذراً للماضين وحجةً على الباقين، فعذرَ الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرَّم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر رجسٌ من عمل الشيطان..﴾ إلى آخر الآية الأخرى.

-والعاشرة: ألّا يُفهم بمعزِل عن بيئتهم، فمما ذكره الله من نعيم الجنة الخمر، وهو دالٌّ عند العرب على شدة النعيم، فلا يخطر في النفس استقباحه كما اعتاد المسلمون استقباحه في الدنيا.


فنسأل الله أن يرزقنا حسن فهم كتابه، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
١٦ صفر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

13 Aug, 19:45


(أثر الطاعة والمعصية في البلاد والأمكنة)

بسم الله الرحمن الرحيم

كما أن الإنسان يتأثر بمكانه في أطباعه وأخلاقه وأفكاره ولغته، فكذلك المكان يتأثر تأثراً آخر بطاعة صاحبه وعصيانه.

فمن فضل الطاعة على المكان أنها تُنزل عليه السكينة والطمأنينة والبركة، ولذلك استحب بعض العلماء الصلاة في المسجد القديم؛ لتأثره بطول العبادة فيه.
وإذا اعتاد العبد موضعاً يصلي عليه، ألفه مصلّاه وأنس به، حتى إذا قُبِض وفقده موضعه بكى عليه، كما قال علي بن أبي طالب: "إذا مات العبد الصالح بكى عليه مصلّاه من الأرض ومصعد عمله من السماء".
بخلاف الكافر الذي لا يبكي عليه شيء، كما قال تعالى عن آل فرعون: ﴿فما بكت عليهم السماء والأرض﴾، وقال ﷺ بعد أن قرأ الآية: «إنهما لا يبكيان على الكافر».

وبقدر زيادة العبادة يزيد حسن أثرها، حتى يصل إلى تحريك أفئدة الناس نحو مكانها، وإلى نزول الأمن فيه، فلا يُختلى خلاه ولا يُعضد شوكه ولا يُنفر صيده ولا تُلتقط لقطته.


ومن شؤم المعصية على المكان أن اعتيادها فيه تُبعد أهل الطاعة عنه، حتى يصل شؤمها إلى منع العبادة فيه، كما روى أبو داود عن ثابت بن الضحاك أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً بموضع بُوانه، فقال له النبي ﷺ: «هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد؟» قالوا: لا، قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قالوا: لا، فقال ﷺ: «أوفِ بنذرك».
وبوّب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لهذا الحديث باب (لا يُذبح لله بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله)، وذكر من مسائله: "أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة".

وكذلك تأثرت البلاد التي عُصي الله فيها حتى أهلك أهلها، كبلاد عاد وثمود ولوط وشعيب، فلا يزال شؤم عصيانهم وتعذيبهم فيها إلى قيام الساعة، ولذا نهى النبي ﷺ عن الدخول إليها إلا مع البكاء اتقاء شرها، فقال فيما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي ﷺ لما نزل حِجر ثمود قال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
وفي البخاري أنه ﷺ قنّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.

وأبلغ من ذلك أنه بلغ أثر العصيان والتعذيب مياه الآبار، كما روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: "نزل رسول الله ﷺ عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور, وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة".


فنسأل الله أن يجعل مساكننا وبلادنا أرض طاعة وعبادة، ويرينا أثرها، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٩ صفر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

06 Aug, 20:38


(أثر العيش والمكان في طبع الإنسان)

بسم الله الرحمن الرحيم

مِن أعظم ما يؤثر في طبع الإنسان وخُلقه وفكره وتصوره ولغته: عيشُه ومكانُ إقامته، حتى قيل: الإنسان ابن بيئته.

-فمن المُشاهَد من تأثير ذلك في الطبع أن سعة العيش ورخاءه يورث اللين، وضيق العيش وضنكه يورث القسوة، وأن سهولة المكان ورطوبته يورث الرفق، ووعورة المكان وقفره يورث الشدة، ومن أشهر ما يُضرب مثالاً لذلك قصة علي بن الجهم مع الخليفة العباسي المتوكل.

-ومن تأثير ذلك في الخُلق أن من كان عيشه بين أهلٍ كرماء شرفاء أخذ طبعهم، ومن كان بين أهلٍ بخلاء وضعاء أخذ طبعهم، وهو مستقر عند الناس جميعاً، كما استنكر قوم مريم عليها السلام مجيئها بولدٍ دون نكاح وقالوا: ﴿يا أخت هارون ما كان أبوكِ امرأ سَوءٍ وما كانت أمكِ بغيّاً﴾، فكان هذا -لعظمته بمخالفته أثر عيشها عليها- مع تكلم عيسى في المهد معجزةً دالةً على صدقه.
وهذا التأثير مُطّردٌ في كل خلُق حتى يصل إلى الدين، كما قال النبي ﷺ: «كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».
ومن المُستنبط أن سعة المكان تورث العطاء والإقدام، وضيقه يورث الإمساك والإحجام، كما أورثت الصحراءُ العربَ الكرم والشجاعة.

-ومن تأثير ذلك في الفكر أن من كان عيشه غنىً استحسن شراء الزينة ونحوها بثمنٍ غالٍ، ومن كان عيشه فقراً استقبحه وسفّه أصحابه.
ومن كان مُلابِساً أمراً أحسن تصوره والحكم فيه، ومن بَعُد عنه ضعُف تصوره فبالغ فيه أو هوّنه.
ومن غلب على أهل بلده الشدة استقبح أفعالاً لا يستقبحها من غلب على أهل بلده اللين، كما قال عمر رضي الله عنه: "كنا معشرَ قريشٍ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قومٌ تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبتُ على امرأتي فراجعتني، فأنكرتُ أن تراجعني".

-ومن تأثير ذلك في التصور أن الشمس عند العربي أبلغ مثال على القسوة لشدة حرّها، وهي عند الغربي أبلغ مثال على الحنوّ لدفئها، والمطر عند العربي أبلغ مثال على الفرح لإغاثته به، وهو عند الغربي أبلغ مثال على الحزن لتأذيه منه.
ومنه أن البدوي ينسب نفسه إلى قبيلته لتنقله، فهو أقوى تعلقاً بها، والمدني ينسب نفسه إلى مدينته لاستقراره، فهو أقوى تعلقاً بها.

-ومن تأثير ذلك في اللغة أن من لان عيشه وسهُل مكانه رقت لغته حتى يُميل أكثر حروفها، ومن اشتد عيشه وغلُظ مكانه خشنت لغته حتى يُفخم أكثر حروفها، ويدخل تأثير ذلك في مفردات اللغة، فمن قرأ معجم لغةٍ تصوّر بمفرداتها عيش أهلها وطبيعة مكانهم.


فمن فهم ذلك حرص على العيش الحسن والمكان الحسن؛ لئلا يتأثر بالقبيح، ولذلك نهى النبي ﷺ المؤمن عن أن يبيت بين ظهراني المشركين.

ومن فهمه كذلك لم يحتد ويغلظ على المخالف؛ لعلمه بشدة تأثير العيش والمكان على الطبع والخلق والتصور والفكر واللغة، فكما أنك باجتماع كل ذلك فيك ترى الحق معك، فكذلك مخالفك يرى باجتماع كل ذلك فيه أن الحق معه.


والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢ صفر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

مدوّنة أروى أبا الخيل

30 Jul, 20:59


الصورة (٣): عمدة التفسير لأحمد شاكر، دار الوفاء المصرية.

مدوّنة أروى أبا الخيل

30 Jul, 20:59


الصورة (٢): صحيح البخاري، الطبعة السلطانية.

مدوّنة أروى أبا الخيل

30 Jul, 20:59


الصورة (١): مصحف المدينة النبوية.

مدوّنة أروى أبا الخيل

30 Jul, 20:46


(الخلاف في نقط الياء آخر الكلمة)

بسم الله الرحمن الرحيم

معلومٌ أن حروف العربية كانت خاليةً عن النقط، ثم أدخلها أبو الأسود الدؤلي ببراعةٍ لضبط الحروف وتمييزها للعجم خاصة.

ودخول النقط فيها كان بالتدريج، فبدأ بالحروف الملتبسة كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، وغيرها، وكانت بعض الحروف تُنقط حال وصلها بغيرها لالتباسها، ولا تُنقط حال تطرفها لتميّزها برسمها، كالفاء والقاف والنون والياء، فالفاء والقاف إذا توسطت الكلمة التبست دون نقط، وإذا تطرفت ظهر الفرق بينها، وكذلك النون والياء إذا توسطت التبست، وإذا تطرفت ظهرت، كما قال ابن درستويه في كتاب الكُتّاب: "ومنها [أي الحروف] ما استُغني عن نَقطه في حال انفراده؛ لمخالفته غيره في الصورة عند انفراده، وأُلزِم النقط عند اتصال ما بعده؛ لاشتباهه في هذه الحالة بغيره، وذلك أربعة أحرف: الفاء والقاف والنون والياء".

ثم دخل النقط على هذه الحروف حال تطرفها كذلك، عدا الياء، فلم يزل خلاف مدارس الخط والكتابة فيها إلى الآن، فالمدرسة المصرية ترسمها حال تطرفها دون نقط، كياء المتكلم تُرسم عندهم هكذا (كتابِى)، وحرف الجر هكذا (فِى)، وعلى ذلك مطابعهم الآن، وعليه رسم المصحف.
[انظر الصور المرفقة]

فإذا التبست الياء بالألف المقصورة التي على صورة ياء فرّقوا بينهما إما برسم الكسرة تحت الحرف قبل الياء، نحو (علِى)، ورسم الفتحة فوق الحرف قبل الألف المقصورة، نحو (علَى)، أو رسم ألف خنجرية قبل الألف المقصورة، نحو (علىٰ).

وهذا الذي كان مستقراً عند متقدمِي العربية قبل انتشار نقطها، كما قال الخليل الفراهيدي: "الياء إذا وُصلت نُقطت تحتها اثنتين؛ لئلا تلتبس بما مضى، فإذا فُصلت لم تُنقط".

أما عامة المدارس غير المصرية -وأشهرها مدرسة الشام- فاستحسنت نقط الياء المتطرفة؛ تفريقاً بينها وبين الألف المقصورة التي على صورة ياء، واشتهر ذلك حتى صار الغالب، وصار ترك نقطها مستنكراً أو مستغرباً عند من لم يعلم سبق الخلاف وآراء المدارس وما عندهم من قوة رأي وحجج، كهذه المقالة التي كتبها الدكتور المصري محمد الجوادي في الانتصار لطريقتهم في ترك نقط الياء المتطرفة:
https://www.aljazeera.net/blogs/2019/6/26/عبقرية-الطريقة-المصرية-في-كتابة-الياء


فمن نقطها تبع مذهباً معتبراً، ومن تركه تبع مذهباً قوياً كذلك، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢٤ المحرم ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3