بسم الله الرحمن الرحيم
من عظيم نور التقوى إذا ملأ قلب العبد أنه يجلّي له الأمور ويكشفها، إذ الله فطر النفوس مستقيمةً على الحق والهدى، فإذا جلّى للقلب فوق ذلك نورُ القرآن وضياءُ التقوى، ظهرت له الأمور عياناً بياناً وانتفت عنه كل ظلمة، وإن كانت خافيةً على غيره.
والمتّقون متفاوتون في هذه البصيرة بقدر قوة إيمانهم، كما تتفاوت السُّرُج في الإنارة والكشف، وشُبِّه قلب المؤمن بالسراج.
وفي الشرع إشارات إلى ذلك، فقال تعالى: ﴿واتّقوا الله ويعلّمكم الله﴾، وقال: ﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فُرقاناً﴾، وقال: ﴿إن في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين﴾.
وقال النبي ﷺ: «الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء»، فمن اجتمع فيه النور والبرهان والضياء كان أقرب الناس إلى البصيرة ومعرفة حقائق الأشياء.
وقال ﷺ في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»، فمن كان الله معه كذلك كان أقرب الناس إلى الحق والسداد.
وقال ﷺ: «اتقوا فِراسة المؤمن، فإنه ينظر بنورِ الله».
وقال عمر رضي الله عنه: "اقربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تتجلّى لهم أمورٌ صادقة".
وتظهر هذه البصيرة والمعرفة في قول النبي ﷺ: «إن الدجال مكتوبٌ بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ»، فهذا أمرٌ ظاهرٌ للمؤمن دون غيره، بل ويظهر له وإن كان جاهلاً بحروفه! فدل على أن المؤمن مخصوصٌ بزيادة بيانٍ وانكشاف، خاصةً في الفتن، كما قال الحسن البصري: "العالِم يرى الفتنة وهي مقبلة، والناس لا يرونها إلا وهي مدبرة".
وعُرفت هذه البصيرة عن عمر رضي الله عنه، فقال النبي ﷺ: «قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ فعمر»، أي مُلهَمون مُخاطَبون بما يخفى على غيرهم.
ويجد مثل هذا كثيرٌ من المؤمنين، فتقع في قلبه أحكامٌ ومعانٍ لا يجد أدلةً عليها ولا يقدر على إبانتها، كتمييزه بين الصادق والكاذب دون دليلٍ ظاهر، وبين الولي والفاسق، وبين الحلال والحرام، وبين الحديث الصحيح والضعيف، إلى غير ذلك.
ولقوّة هذه الأحكام الواقعة في نفس المؤمن المتّقي عدّها ابن تيمية رحمه الله من الشرع في حقه، فقال: "القلب المعمور بالتقوى إذا رجّح بمجرد رأيه فهو ترجيحٌ شرعي، فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما بطن معه أن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله كان هذا ترجيحاً بدليل شرعي".
وقال: "إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحاً، وأُلهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهامُ مثل هذا دليلٌ في حقه قد يكون أقوى من كثيرٍ من الأقيسة الضعيفة والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتجّ بها كثيرٌ من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه".
ويقوّي هذا قول النبي ﷺ في حق المؤمن: «البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن له القلب».
فنسأل الله أن يرزقنا التقوى والهدى والبصيرة، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أروى أبا الخيل
أصل المقالة مقطع سجلته يوم الاثنين ٣ ربيع الآخر ١٤٤٠هـ، ثم حررته وتصرفت فيه وزدت عليه اليوم ١٧ جمادى الأولى ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3