يتوافد إلينا كل يوم عشرات المرضى النفسيين، زارتنا في ذلك اليوم لأول مرة ولم نرها بعد هذا.. كان يبدو على جسدها النحول المفرط لا تدري أتحملها ثيابها أم هي تحملها، أطالت الصمت والنظر لزاوية المكتب حتى غادر الجميع ولم يبق سواها، نظرت إلي فوجدت لمعة غريبة على عينيها لم تنطق ببنت شفة ولكني قرأت الرجاء فيها فسمحت لها بالدخول للطبيب.
لم أكن أقصد أن أتنصت عليها لكنها كانت غريبة وأصابني الفضول نحوها
جلست على الكرسي وشدت على مقبضيه، يبدو عليها الخوف من ارتجاف قدميها
سألها الطبيب عن اسمها قالت: لا اسم لي ولا عنوان
هكذا أنا أتسكع في الطرقات بلا وجهة أرتاح عليها، أنا أيها الطبيب كما ترى ليس بحوزتي أي شيء ستسأل عنه
أجوب تائة حائرة بلا جوازٍ أو تصريح، وحقيبتي هذه لا تحمل سوى بقاياي وزاد قليل وآثار هوية، الجسدُ عارٍ إلا من ذكريات كانت يومًا واقعًا!!
تسألني عن قميصي؟!! كان لي هذا القميص ذي الجيبٍ المثقوب خبأتُ فيه ملامحي ورسالة!
متشردة أنا بلا مأوى أو وطن. بل كان لي وطن لكنه اغتصب ووضعوا بيني وبينه حواجز وأسوار.
تسألني من؟؛ أجيبك أني لا أعرف!
فقط كنت على الحدود أنتظر، أحلم بواقعٍ أجمل.
ثم أردف يقول أنها فجأة أخرجت قصاصات ورق مكتوب عليها أرقام وأكملت قائلة: كنت أعد الليالي ليلةً بعد ليلة، أمني قلبي أننا سننتهي ذات يوم، وسنتوقف عن العد ذات رقم، العمر طويل وما ضاع بعيدًا عنه سيبدأ من جديد فيه…
أرجعت قصاصات الورق إلى حقيبتها وقتلت دمعها ونظرت أخيرًا للطبيب قالت وصوتها يرتجف ومعه كان قلبي: شدني أحدهم من يدي بقوة وكأنه يحاول خطفي، شعرت أيها الطبيب بتمزق كتفي وهو يجرني بعيدًا عن الحدود، كأنني كنت أعرفه ولا أعرفه، يجرني بعيدًا ويقول تعالي إلي أنا أعدك بواقعٍ تستحقينه، أيها الطبيب لقد مزق ملابسي لم يكن يحاول أن يغتصبني لا، كان يحاول أن يأخذ مني جواز السفر عنوة. لا لا، لا تقل شيئًا أيها الطبيب أنا أعرف عمّ ستسأل: وهل استطاع؟ سأجيبك بالطبع: نعم أخذه، ثم صفعني على خدي وتركني… لم أفهم شيئًا!
وعدت أتبع دمعي وآثار خطوتي المغصوبة ووصلت… نعم وصلت.
وحينها خبأت الفتاة رأسها بين يديها ونشجت: لكن وطني حينها كان قد اُغتصب ووضعوا بيني وبينه الحواجز والأسوار، صرخ أحدهم من الأعلى علي وقال غادري هيا! طردني تصور أنك تُطرد من وطنك، تصور أنك تبحث فيك عن شيء يثبت أنك تنتمي له وأنك الأحق به ولا تجد.
لم أغادر، بل جلست القرفصاء تحت الأسوار العالية أصرخ حينًا وأضربها أخرى… أبكي أقول لعل دمعي يحطم ما بيننا… لا شيء.
فزعت حين رفعت رأسها ووجها محمر وعينيها تكاد تخرج من محجريها قبضت على صدرها وقلتُ في نفسي حينها: هلكت لا محال، وأنظر للطبيب لعله يقول شيئًا فلم يفعل. قالت: قلبي… وسكتت
ظننتها تستنجد تقدمت خطوتين ثم أردفت هي: قلبي نعم، ظننته الحل الوحيد، قلت إن أرسلته لوطني سيعرفني ويأذن لي بالدخول… تصور يا سيدي الطبيب أنني انتزعته ووضعته في صندوق البريد
خمسة أيام انتظرت فيها الرد ولم يصلني، قلت في نفسي ربما مات ساعي البريد، أو ربما خانني الوطن.
قال الطبيب أخيرًا: الأوطان لا تخون.
قامت هي عن كرسيها وغادرت مكتبه، نظرت إلي وقالت: بلى، إن كانت بشرًا.
#تامر_التويج