أَمَا —والله— إنه لَيُخيل إليَّ أن واوَها أُخذت من الوَجْد، ودالها من الوعد، وألفَها من الدار، وعينَها من الدمع، فكان أولها لهيبًا، وآخرها نحيبًا، ثم كان افتراقُ حروفها نذيرَ الفراق، فأخلف الوعد وبعدت الدار. [•••]
وما أعاني من حسرة في صباحي، ولوعة في مسائي، حتى عُدت أضنَى من جفن الحبيب، وأقل من نوم الرقيب.
فيا فوز لو أبصرتني ما عرفتني
لطول نحولي بعدكم وشحوبي
[شعر العباس بن الأحنف]
الوداع، لعلي ما رأيت نعمة في نقمة، ومنحة في محنة، أو بؤسًا في نعيم، وروحًا في جحيم، إلا في موقف التوديع، ومشهد التشييع. فلو رأيتني حينذاك لرأيت يسراي على قلبي مخافة أن ينشق الصدر عنه، فإذا أنا صريع، ويمناي تتعرف معالم الترف ومعاهد النعيم، من حبيبي الراحل وأنيسي الظاعن، فإذا رأيت ثم رأيت وحشة وأنسًا، ونعمة وبؤسًا، ورأيت عينًا لم تشغلها الدموع عن النظر، ولا أغناها النظر عن الدموع، فهي ناعمة بائسة، وآملة يائسة، وضاحكة باكية، وطائعة عاصية. [•••]
الوداع، إنه كالعشق، يجعل الجبان شجاعًا، والبخيل سخيًّا، فقد كنت أجبن عن لقاء من أهوى، فجرؤت يوم البين على سلامه، وحديثه وضمه وعناقه، وكان بخيلًا بملاطفتي ومجاملتي، فسخا يوم ذاك، وحياني وفداني.
لم أنس إذ ودعته والتقى
ذا البدن الناعم والناحل
كأنما جسمي على جسمه
غصنان ذا غض وذا ذابل
يا رب ما أطيب ضمي له
إليَّ لولا أنه راحل
[شعر لابن بقي القرطبي]
لقد كنت في شك من حبه إياي، ورفقه بي، وعطفه عليَّ، فكنت أُغالب الدمع، وأُصانع الحزن، أما اليوم، فقد عرفت مكانتي عنده، ومنزلتي لديه، فلينزل الدمع غير مدافع، وليغلب الحزن غير منازع.
ووالله ما أدري أيغلبني الهوى
إذا جَدَّ جَدُّ البَيْن أم أنا غالبهْ
فإنْ أستطع أغلب وإنْ يغلب الهوى
فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
[من شعر عبد الملك الحارثي]».
—هذا من كلام زكي مبارك (١٨٩٢-١٩٥٢)، في كتابه البدائع، فصل «في موقف التوديع» (أما الأشعارُ فقد نسبتُها إلى أصحابها)، وهو فصل لا يظهر في الطبعة الثانية المَزِيدة من الكتاب.