تأمّلاتٌ قرآنيّة في ذكرى شهادة السجين الحرّ موسى بن جعفر عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
(( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ))
تُعدّ ثنائية السجن والحبّ التي تشير إليها الآية الكريمة أعلاه ، من الثنائيات القرآنية المثيرة ، والمقارنات المذهلة في المعرفة الإلهية ، وسيتّضح من خلال بحثنا هذا أثرها العميق في حياة الإنسان المؤمن بجميع مستوياتها العقائدية والأخلاقية والشرعية.
لكن قبل الدخول في بيان معطيات هذه الثنائية القرآنية ، يجدر بنا أن نشير الى فكرتين مهمتين لهما غاية الإرتباط بالثنائية المذكورة .
▪️الفكرة الأولى : ويمكن أن نسمّيها بالفكرة الفلسفية ، وهي أن حقيقة الإنسان وجوهره إنما تكمن في جانبه المعنوي ، وهو روحه ونفسه ، وليس في جانبه المادي الذي هو بدنه الخارجي ، ومن المعلوم فلسفياً وعقائدياً أن الروح التي تمثّل العمق المعنوي والباطني للإنسان ، لا يمكن أن تحيط بها سجون الظالمين الظاهرية ، لأنها تنتمي الى عالم نوراني مجرّد أعلى ، وعليه فإن سجناء الحقّ وإن أحاطت بأبدانهم مطامير سجون الظالمين الدنيوية وظلماتها ، لكن أرواحهم تعيش الحرية المطلقة في عالمها الإلهي ، وتسمو في فضائها النوراني الذي يستحيل الإنفصال عنه !
في ضوء ذلك يمكن القول : أنه يستحيل على السجّان أن يسجن روح السجين ، ويسيطر عليها بين جدران زنزانته ، بالرغم من سيطرته المادية على جانبه البدني والظاهري ! أي أنه يعجز عن تقييد أو سلب حريّته الروحية حتى لو تمكّن من سلب حرّيته البدنية ! لكن ذلك يختصّ بالسجن الدنيوي ولا يشمل السجن الأخروي الذي يكون عقاباً إلهياً للفجّار ، كما قال تعالى : كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ، وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ .
▪️الفكرة الثانية : إننا نعلم أن السجن بمعناه الظاهري هو المكان الذي تسلب فيه حريّة الإنسان قهراً ، وبالتالي يمكن توسعة هذا المعنى ليشمل عدّة مستويات معنوية ينطبق عليها معنى السجن ، منها :
أولاً : السجن العقلي ، وهو جميع الأفكار والإدراكات الخاطئة التي تسلب حرّية التفكير الصحيح عند الإنسان وتكبّله بقيود الجهل ، سواء كان جهلاً بسيطاً أم مركباً ، مما يجعل الإنسان المُصدّق بهذه الأفكار الخاطئة والمنقاد لها ، سجيناً فيها ، ومحروماً من الإستنشاق في فضاء التفكير الحرّ !
ومما يندرج في هذا المعنى أيضاً ، الجهل بمعناه العام ، فهو سجن معنوي ، حيث يعيش الإنسان الجاهل حبيساً في زنزانة الجهل وظلمته.
ثانياً : السجن القلبي ، وهو جميع الإدراكات القبيحة والشهوات المنحرفة والأهواء الضالة والنوايا السيئة والشريرة التي تسيطر على القلوب المريضة ، مما يجعل الإنسان سجيناً مسلوبَ الحرّية قلبياً ومعنوياً ، حبيساً في زنزانة قلبه المريض المظلم ، محروماً من العيش في فضاء النور والسلامة والنوايا الطيبة والحسنة ! كما أشير لذلك في قوله تعالى : ( أم على قلوب أقفالها ) فهي كالسجون المظلمة الموصدة بالأقفال !
ثالثاً : ومما يمكن إدراجه هنا أيضاً ما ورد من أن الدنيا سجن المؤمن ! نعم هو سجن كبير جداً ، يجعلنا لا نشعر بأننا مسجونون فيه ! لكننا لو نسبناه الى عوالم الوجود العليا ، وقايسناه بنشآت الخليقة اللامتناهية في سعتها وكمالها وجمالها ، لأدركنا فعلاً أن الدنيا بالنسبة للإنسان المؤمن سجن حقيقي يجب التحرّر منه !
رابعاً : لو توسّعنا في المستويات المعنوية ودرجات القرب في عوالم الباطن وكمالات المعرفة الإلهية ، لأمكننا القول أن كل مرتبة من مراتب الكمال تعتبر سجناً معنوياً بالنسبة الى المرتبة التي فوقها في الكمال والقرب ، ومن هنا يسعى العارف الحقيقي السالك في منازل القرب والزلفى الى عدم البقاء في المرتبة الأدنى ، لأنه سيكون حبيساً فيها ، بالرغم من حقّانيتها وكمالها في نفسها .. الى غير ذلك من المستويات التي ينطبق عليها معنى السجن بصورة أو بأخرى .
إستناداً لذلك يمكن القول أن المعصوم عليه السلام سواء كان نبيّاً أو رسولاً أو إماماً أو وليّاً يعيش الحرّية المطلقة عقلياً وقلبياً وروحياً بصورة دائمة حتى لو وُضعَ في أعمق سجون الدنيا ومطاميرها المظلمة ! بل سيجعل من هذه السجون سُبلاً في تكامله وحرّيته الحقيقية وزيادة قربه من الله جلّ وعلا !
وبالرجوع الى موضوعنا الأصلي الذي إنطلقنا منه في مستهلّ البحث ، وهو ثنائية السجن وحبّ الله ، فيمكن القول أنّ حديث الحبّ في القرآن واسع في آفاقه .. عميقٌ في مضامينه .. مؤثّر في طرحه .. مختلفٌ في مستوياته .. متعدد في نتائجه وآثاره .. يظنّ القارئ أو الكاتب أنه أخذ حظاً وافراً منه ، فيجمع آيات الحبّ ويتوهّم أنه قد أحاط بها علماً واستوعبها فهماً ! لكنه عندما يمرّ عليها مرّة أخرى سرعان مايجد نفسه أنه حفظ شيئاً وغابت عنه أشياءُ !