وهل يصح بناءً على ذلك تصنيفهم ضمن فئة الموالين للنظام دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير الظروف القهرية ومحددات البيئة السياسية التي كانوا يخضعون لها؟
في كتابه منطق العنف في الحروب الأهلية، قدم ستاثيس كاليڤاس ملاحظة تجريبية موثوقة استنادًا إلى دراسة معمقة لعشرات الحالات، حيث خلص إلى وجود ارتباط وثيق بين توزيع التعاون بين الأطراف المتحاربة ومستوى السيطرة الذي يحققه الفاعلون السياسيون، أي قدرتهم على فرض حكم حصري على مساحة معينة من الأرض، هذه العلاقة يمكن صياغتها كفرضية:
"كلما ارتفعت درجة السيطرة التي يمارسها فاعل سياسي في منطقة ما، ارتفعت درجة تعاون المدنيين مع هذا الفاعل السياسي."
تطرح هذه الفرضية تساؤلات حول العلاقة بين السيطرة والولاء السياسي، حيث تشير الأدلة إلى وجود علاقة سببية بينهما، إذا افترضنا أن المدن السورية X كانت مناطق سيطرة المعارضة بدلاً من Y، فهل كانت X ستصبح داعمة للثورة كما فعلتY؟
وهل تؤدي السيطرة إلى التعاون أم العكس؟
تشير الفرضية إلى أن الأنماط الأولية للسيطرة تتأثر بتفضيلات ما قبل الحرب والقدرات العسكرية، لكن مع تطور الصراع تصبح السيطرة عاملاً حاسمًا في تشكيل تعاون السكان، متجاوزة تفضيلاتهم السياسية قبل الحرب.
هذا الطرح يعيدنا إلى مفهوم "الولاء الجغرافي"، حيث تشير الديناميات السياسية في النزاعات إلى أن الانتماءات والتوجهات قد لا تكون نتاج قناعات أيديولوجية خالصة، بل انعكاسًا للوضع الميداني ومستوى سيطرة الفاعلين المحليين.
تذكر هذه الديناميكية بمبدأ "الناس على دين ملوكهم"، حيث تتبنى المجتمعات توجهات دينية أو سياسية بناءً على قرارات السلطة، وقد وصفت هذه الظاهرة أثناء الحرب الإسبانية بمفهوم "الولاء الجغرافي" الذي يشير إلى انحياز الأفراد للجهة التي تسيطر على مناطقهم، ملاحظة مماثلة ظهرت في النزاعات السودانية حيث تأثرت المواقف السياسية للسكان بسلطات الأمر الواقع.
تشير الأدلة إلى أن السيطرة السياسية قد تتجاوز التفضيلات السياسية للسكان، مما يجعل تفضيلات ما قبل الحرب مؤشرا غير موثوق وغير كاف لتفسير توزيع السيطرة أثناء النزاعات، بناء على ذلك لا يمكن الحكم على الأفراد ضمن إطار نمطي موحد، إذ إن سلوكياتهم غالبا ما تتأثر بالجهة المسيطرة وتتشكل وفقا لطبيعة المجتمع المحيط بهم.
وفي هذا السياق، تعد العدالة التصالحية نهجا مناسبا خلال المراحل الانتقالية في العديد من التجارب العالمية، حيث تركز على المصالحة وإعادة بناء النسيج الاجتماعي وإعادة دمج شرائح المجتمع لحفظ السلم الأهلي، أما بالنسبة للمتورطين بشكل مباشر في ارتكاب جرائم جسيمة، فإن العدالة العقابية تظل الحل الأمثل لضمان المحاسبة وإنصاف الضحايا وتشكيل حالة ردع.