بقدر إنكارنا على المنهج الإرجائي الذي يتساهل في المنكرات العامة، ويتقاعس عن إنكارها، ويُلبّس في ذلك ويُحرِّف حتى يزهد في القيام بالإنكار الواجب، فضلًا عمن يبرر ويعتذر، أو يشتغل بالإطراء والمدح المطلق أو بما يخالف الواقع، أو في غير وقته
فإن إنكارنا على المنهج الخارجي الذي يتخذ المنكرات العامة ذريعة لزعزعة الأمن، والتهييج، والتأليب لقلب أنظمة الحكم والثورة والخروج، أعظم وأكبر
وهذا هو الواقع
فإن بعض الناس لا يقصد بالإنكار تحذير الناس من المعاصي والمنكرات، وصيانة المجتمع، والحفاظ على وحدة الجماعة بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بل يقصد أمرًا آخر:
فمنهم من يسلك مسلك الخوارج، فيقصد بالإنكار الدعوة إلى الخروج والثورة والفوضى، وإيغار الصدور، وشحن القلوب، وهذا حال كثير من المغردين، وبعض الحسابات في وسائل التواصل، وهو حال الفرق المبتدعة، والجماعات والأحزاب التي تنتهج النهج الثوري
ومنهم من يقصد الشماتة، أو الانتقام، أو الانتصار لمن يعظمه ويغلو فيه من الدول أو الرؤساء
ومنهم من هو متأثر بالحملات الدعائية ضد بعض الدول والحكومات الإسلامية
ولا يخفى أن المحافظة على الجماعة، ووحدة الدول، وصون الإمامة، من أصول الإسلام الكبار
ولذلك جاءت الأحاديث في التحذير من منهج الخوارج بما لم تأت بمثله في المرجئة ولا قريبًا منه
والأصل أن المنكرات العامة كالحفلات والغناء والرقص والتعري وشرب الخمر والربا لا تبيح الخروج والثورة بحال، ولا السعي في إضعاف وحدة الجماعة بالتهييج والتأليب وإيغار الصدور، ولا الاستهانة والجرأة على مقام الإمامة والسلطان
والنصوص قد دلت دلالة صريحة على أن الخروج وقلب أنظمة الحكم بالثورة أعظم إثمًا، وأشنع جرمًا، وأقبح فعلًا، وأشد نكارة من انتشار المعاصي والذنوب والرقص والعري، بل الخروج أعظم من مجرد انتشار البدع غير الكفرية
ومن ذلك نهيُ النبي ﷺ الصريح عن الخروج والثورة عند ظهور المنكرات وشيوعها، في بيانه الضابط المبيح للخروج بقوله: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان)
والمنكر مهما ازداد قبحه باعتبار الزمان، أو المكان، أو الحال، أو الفاعل
فلا يجوز أن يُنكر بما يتضمن التهييج والتأليب، وتفكيك الجماعة، وعدم صون الإمامة، لا سيما إن كان الخير الظاهر في الدولة والمجتمع أعظم من الشر الواقع، كالبلاد التي يعلو فيها التوحيد على الشرك، والسنّة على البدعة، والطاعة على المعصية، كحال المملكة العربية السعودية ونحوها
ومن أمثلته الواقعة:
الأبواق التي علت أصواتها في المطالبة بتدويل الحرمين، متجاهلة جهود المملكة في خدمة الحرمين الشريفين بما لم يقع مثله في التاريخ إلا في عهود الإسلام الأولى
وتلك التي تدعو إلى الخروج والثورة في البلاد الإسلامية متذرعة بالمنكرات العامة، كحال كثير من الحسابات التي لا شغل لها إلا معايب المملكة العربية السعودية وبعض الدول دون غيرها، وقد وصف الشافعي حال هؤلاء بقوله:
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ… وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
وقد بلغ ببعضهم الحال أن يصدق كل ما قيل في المملكة بدون تثبت وتدقيق
فصار حالهم كحال اليهود الذين قال الله فيهم: (سَمّاعونَ لِلكَذِبِ أَكّالونَ لِلسُّحتِ)
فالواجب على دعاة الحق وقاصدي الخير أن يميزوا بين الأمور، وأن يزنوا المسائل بميزان الشرع، فيقدموا ما قدمه، ويأخروا ما أخره
وخير الأمور أوساطها
فأهل السنّة في باب المعاصي والمنكرات العامة والخاصة وسط بين الخوارج والمرجئة
فلا يخدعنّكم ويستجرينّكم المبتدعة والثوريون
ولا يُلَبِّسنّ عليكم المرجئة المُتَنَفِّعُون
ومن استقرأ النصوص، وسبر أحوال السلف، ونظر في هدي العلماء الربانيين بصدق وإخلاص وزهد في الدنيا وزينتها، استبان له الطريق المستقيم، وظهر له الحق المبين، فإن الحلال بيّن والحرام بيّن، والمشتبهات مردّها إلى الشرع وإلى أهل العلم والإيمان، ومن شك في شيء لم يُقدم عليه
والله الهادي إلى سواء السبيل
خطبة سابقة في فضل الدولة السعودية
youtu.be/9tO0N3wLzmk?si…
مقالة سابقة في الرد على من طالبوا بتدويل الحرمين
al-jasem.com/archives/2420