بعد أن أتممنا صلاة الظهر، توجهت إلى أحد متاجر الحلويات القريبة، منتظرًا أن يفتح صاحبه الأبواب، وقفت على الرصيف، أترقب اللحظة الصامتة التي تسبق الفتح، بينما كان الهواء الساخن يغمر الشارع بلهيب الشمس، طاغيًا على الأجواء.
ومع ذلك، كان هناك هدوء غير مألوف يسكن المكان،
بينما كنت أتابع حركة الناس، لفت انتباهي رجل ثلاثيني يقف بسيارته الفارهة، بدا عليه الغرور واللامبالاة معًا، مرتديًا ملابس أنيقة تلمع تحت أشعة الشمس.
كان وجهه خاليًا من التعبير، وملامحه تحكي قصة رجل يعيش في عالمه الخاص، كأن كل ما حوله لا يستحق حتى أن يلتفت إليه.
فتح باب سيارته، وأخرج منها بعض الأكياس المليئة بالقمامة، ثم رماها على الأرض بلا اكتراث.
تناثرت الأكياس على الإسفلت ببرود، وكأنه ألقى بمبادئه وأخلاقه معها، موجهًا رسالة صارخة عن التهميش وعدم الاكتراث بالبيئة والآخرين.
على الجانب الآخر، كان هناك عامل نظافة متواضع، يرتدي زيًّا بسيطًا تبدو عليه آثار العمل الشاق، يحمل أدواته التي، رغم قدمها، لا تزال تؤدي مهمتها بإتقان.
بدأ العامل بجمع القمامة التي ألقاها صاحب السيارة، بحركات هادئة ورشيقة، بهذا المشهد الذي أصبح جزء من روتينه اليومي المتكرر، التقط الأكياس البلاستيكية المتناثرة، وانتقل بخفة من جانب إلى آخر، مستمرًا في عمله الصامت الذي لا يلحظه الكثيرون
لكن صاحب السيارة، وكأن الشارع ملك له وحده، عاد بعد لحظات، فتح الباب الخلفي، ثم بدأ يرمي المزيد من النفايات في المكان نفسه: علب مياه فارغة، أكياس بلاستيكية، وعلب سجائر مهملة، رغم أن حاوية القمامة لم تكن تبعد عنه سوى بضع خطوات.
كان المشهد مؤلمًا؛ فالقاذورات كانت على مقربة من المكان الصحيح، لكنه اختار أن يسيء إلى الفضاء العام بإهماله الفاضح.
راقب صاحب المحل الموقف، فتقدم بهدوء وقال بصوت مؤدب:
الحاوية هنا، إذا أردت التخلص من النفايات، ثم أشار بيده إلى الحاوية القريبة، وأضاف بابتسامة خفيفة رغم الموقف..: لا تتعب العامل، فهو صائم مثلك ومثلي.
لكن الرجل، الذي لم يكن لديه أدنى إحساس بالمسؤولية، رد ببرود:
لا شأن لك...ثم أضاف ساخرًا: ولولا هذه القمامة، لما وجد هذا العامل عملًا!
شعرت بمرارة وغضب يعتصران قلبي، وباحتقار شديد إزاء تصرف ذلك الشخص، وتجاهه وهو يتحدث بهذه الألفاظ وهذا المنطق، بينما تابع العامل عمله بصمت، قال صاحب المحل بصوت مغمور بالحزن: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني صائم.
صوته محملاً بخيبة الأمل، كأنه يعبر عن أسى تجاه هذا الاستهتار وانعدام الاحترام.
وقفت أرقب المشهد، ذلك الذي قد يمر على البعض كلمح البصر، مجرد حدث عابر في زحام الحياة، لكنه أمام عينيّ كان يتجلى كصفحة من كتاب الحكمة، يكشف درسًا عميقًا في معنى الاحترام.
عندها، تسللت إلى فكري حقيقة قاسية؛ بعض الناس لا يرون أولئك الذين يجعلون حياتهم أكثر راحة، كأنهم جزء من الخلفية الباهتة لمسرح يومهم، وجودهم مسلم به، لكن قيمتهم تظل غير مرئية. أولئك العمال، الذين يكدحون بصمت، لا يسعون إلى التقدير، لكنهم في جوهر الحياة أعمدة لا تستقيم من دونهم، وما يقدمونه، وإن لم يُحتفَ به، يظل أثمن مما يدركه كثيرون.
وفي تلك اللحظة، أدركت أن التأثير الحقيقي لا يحتاج إلى سلطة أو مجد، بل يكمن في بساطة الفعل، في احترام الآخرين ولو في أدق تفاصيل حياتهم، في أن نراهم بعين التقدير لا الترفّع، فربما يكون ذلك هو الفارق الحقيقي بين إنسان وآخر.
فكري محمد الخالد