صوتُ امرأة يملؤه الخوف والجزع، كأنه نداء استغاثة وسط حشد لا يُبالي:
: وين محمد؟! وين محمد؟! قلبي يوجعني!
تجمدت الحركة للحظات، وتلاشى ضجيج السوق في أذني. التفتت الرؤوس، وتحولت العيون نحو مصدر الصوت، وهرع الناس نحو المشهد. اقتربتُ بدوري، لأجد امرأة أربعينية تتوسّط الحشد، وجهها يفيض بالفزع، دموعها تنهمر بلا توقف، وعيناها مغرورقتان. كانت يداها ترتجفان، تتلفت بجنون، تبحث في الوجوه عن ابنها الضائع، ونداءاتها تتكرر وكأنها ترفض أن تصدق أن طفلها الوحيد لم يعد إلى جوارها.
إلى جانبها، وقف رجل في الأربعين من عمره، ملامحه هادئة، نظراته ثابتة، لا ارتباك فيها ولا اضطراب، كان يراقب المشهد بصمت وسط الصخب، على عكس انهيار زوجته، وكأن عقله يسبق قلبه دائمًا، يزن الأمور بميزان الحكمة لا العاطفة.
في غمرة الزحام، وأثناء انشغالهما بالتسوق، اختفى محمد، طفلهما الوحيد، من بين أيدي والده، كأنه تلاشى وسط أفواج المشترين. لم يعد له أثر، ولم تحتمل الأم الفكرة، فبدأت تهيم في الممرات، تمسك رأسها بيديها وكأنها تحاول استيعاب الصدمة. كانت تصرخ بأعلى صوتها، تبكي، تخشى أن تفقد عقلها السيطرة، تستجدي المارة، تتوسل لأي يد تمتد لمساعدتها:
: ساعدوني! محمد ضاع! ولدي الوحيد! وينه؟!
تضاعف اضطرابها مع كل ثانية تمر دون أن يظهر، وكأن قلبها يخبرها أن الفقد قريب، نظراتها تائهة، خطواتها مضطربة، دموعها تنسكب بلا توقف، تسابق الزمن قبل أن يبتلع الفقد طفلها، التفّت حولها بعض النساء، يحاولن تهدئتها، تربّت إحداهن على كتفها، وقالت أخرى بصوت حانٍ:
: إن شاء الله نلقاه، السوق مليان عيال، يمكن يلعب في مكان قريب.
لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى قلبها، فقد كان الخوف يحتل كل زاوية فيه.
على الجانب الآخر، كان الأب مختلفًا تمامًا، لم يركض بجنون، لم يهتف باسم الطفل بهلع، ولم تجفل عيناه. ظلّ صامدًا وسط العاصفة، لم يفقد السيطرة، بل راح يمشي بين الممرات بعقلانية، يتأمل الوجوه، يتفحص الزوايا، يراقب بحكمة وكأنه يبحث عن دليل خفيّ لا تراه الأعين القلقة. لم يكن هدوؤه برودًا، بل إيمانًا بأن الحل لا يكمن في الهلع، وإنما في التركيز والتفكير المنطقي.
ومضت الدقائق ثقيلة، واستمر البحث طويلًا، حتى جاء صوت أحد العاملين معلنًا:
: في ولد صغير يلعب هناك لحاله في قسم الألعاب!
تدفقت الأقدام إلى هناك، وكانت الأم أول الواصلين، اندفعت كالسهم، لم تنتظر، لم تفكر، فقط هرولت بكل ما أوتيت من قوة. وعندما وقعت عيناها على صغيرها، توقفت، جثت على ركبتيها، وارتمت عليه تحتضنه بجنون. ضمته بقوة وكأنها تحاول التأكد أنه ليس خيالًا، أن صغيرها عاد إليها، أن قلبها لن ينكسر اليوم. راحت تغمره بالقبلات، تتحسس وجهه وأصابعه، تتحقق من أنه لم يُصب بأذى، ثم انفجرت تبكي بحرارة بين فرح العودة ورعب اللحظات الماضية.
في وسط هذه اللحظة الممتزجة بالدموع، ركزتُ على تصرف الأب، اقترب بهدوء، جلس القرفصاء أمام ابنه، مسح على رأسه بحنان، ونظر إليه وكأنه يخبره بأن كل شيء على ما يرام، ثم التفت إلى زوجته، نظر إليها نظرة طويلة مليئة بالفهم، دون أن يحتاج إلى كلمات ليخبرها أنه يعرف خوفها، لكنه كان يؤمن دائمًا أن العاطفة وحدها لا تكفي، وأن العقل هو من يقود السفينة إلى بر الأمان.
في تلك اللحظة، أدركتُ كم أن الأم تُحب بقلبها، بدموعها، بقلقها الذي يسبق المنطق، وبضعفها الذي يفضح قوة شعورها. أما الأب، فيُحب بصمته وثباته، وبقدرته على كبح الانفعال، بإيمانه بأن كل مشكلة لها حل، وأن العاطفة حين تفقد عقلها، تصبح عبئًا بدلًا من أن تكون نورًا.
كلاهما أحبا، لكن الحب ليس وجهًا واحدًا، بل له أشكال متعددة، ولكلٍ طريقته.
فكري محمد الخالد