وعند تمام تشكيل لغتهم وعلوّ مخيلتهم السمعية واستكانتهم للذة التأمل ببراعة العارف وتلذذ الشره المُغرق في المادية، خاطبهم ربهم بما يعرفون، باللغة ذاتها التي باعدوا بين ألفاظها ودلالاتها، والتي ازدادت رَهَافةً مع كثرة طرقهم إياها، حتى صارت نسيمًا هفهافًا يُعزيهم كلما زأرت عواصف أرضهم ولسعت أطرافهم رمالها المتطايرة. خاطبهم بما يعرفون حقًا، بما يجيدون ببراعة، بمزيج اللغة والتأمل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فصاروا يرددون: اللهم ارزقنا (لذّة النظر إلى وجهك).
هذه بالذات (لذّة النظر) مركزية في معرفتهم وأدوات تلقيهم للذة، فمن النظر في النجوم ومراقبة حركاتها إلى النظر في معالم الأرض والاستدلال بهما، حتى النظر في وجوه محبوباتهم بإجلالٍ مُفرط وتلذذ فاحش. يقول العباس بن الأحنف في هذا المعنى:
وأُقسِمُ لو أَبصَرتَنا حينَ نلتقي
ونحنُ سُكوتٌ، خِلتَنا نتكلَّمُ
وعلي بن الجهم قد أتى بمقلوب المعنى ويقول:
العَينُ بَعدَكَ لَم تَنظُر إِلى حَسَنِ
وَالنَفسُ بَعدَكَ لَم تَسكُن إِلى سَكَنِ
كَأَنَّ نَفسي إِذا ما غِبتَ غائِبَةٌ
حَتّى إِذا عُدتَ لي عادَت إِلى بَدَني
ولا زالت مركزية النظر قائمة حتى يومنا هذا في الشعر الشعبي بنفس الأهمية عند العرب الأوائل. فهذا بخيت العطاوي في هذا المعنى تحديدًا:
طرد النظر ما فيه عيبٍ عليّه
أبا تحلاّ بنت ماضين الأفعال
ياونتي يا سارة الوازعية
ونة معيد ساقه الفجر عمال
تقفي وتقبل فوق جال الركية
ومن الصلف خالي ظهرها من الحال
لاشدوا العربان ودوجر حنية
يبري لها قاعد بتسعين خيال
ولا عجب، فلم تتبدل الجزيرة العربية ثوبًا غير ثوبها، وهي التي صُنعت فيها اللغة وحُفظت لاحقًا، ووُلد لها الشعران فصيحه وعاميّه. ولم يزل أهلها يطرقون المعاني التي تكرسها بيئتهم وتخلقها ظروف معيشتهم باختلاف الأساليب والتراكيب.