علم الفلسفة @azml9 Channel on Telegram

علم الفلسفة

@azml9


القناة خاصة بنشر دروس وكتب وابحاث ومقالات في علم الفلسفة (الفلسفة اليونانية،والفلسفة الإسلامية،والفلسفة الغربية)
@Azml9

علم الفلسفة (Arabic)

مرحبا بكم في قناة علم الفلسفة! هل تبحث عن فهم عميق لمفاهيم الفلسفة وتاريخها؟ هل ترغب في مناقشة الأفكار الفلسفية مع أشخاص مهتمين مثلك؟ إذا كانت إجابتك نعم، فأنت في المكان الصحيح! هذه القناة تهدف إلى توفير محتوى ثري ومفيد حول علم الفلسفة، سواء كنت مبتدئًا في هذا المجال أو متقدمًا. يمكنك الاستفادة من المقالات، الفيديوهات، والنقاشات التي تقدمها القناة لتعزيز معرفتك بعالم الفلسفة وتوسيع آفاقك. انضم إلينا اليوم وكن جزءًا من مجتمعنا المتحمس لتبادل الأفكار الفلسفية واكتساب المعرفة الجديدة. انضم إلى قناة علم الفلسفة الآن وابدأ رحلتك في عالم الفلسفة!

علم الفلسفة

27 Jan, 16:34


مركز تجديد للفكر والثقافة يبرم اتفاقية مع دار سبرنجر العالمية لترجمة كتاب حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي!

في خطوة نوعية تعكس التوجه نحو التوسع والتطور على الصعيدين العربي والعالمي، يعلن مركز تجديد للفكر والثقافة عن توقيع اتفاقية تعاون مشتركة بين #دار_تجديد_للطباعة_والنشر ودار النشر العالمية #سبرينجر (Springer)، وهي إحدى أبرز دور النشر في العالم.
تتضمن الاتفاقية شراء حقوق ترجمة ونشر أحد الكتب المتخصصة في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وهو مجال حيوي يكتسب أهمية متزايدة في عصر التكنولوجيا المتسارعة.

يعدّ هذا التعاون إضافة مهمة لمسيرة المركز، ويعكس حرصه على تقديم محتوى علمي متميز ومواكب لأحدث التطورات العالمية.
كما يساهم هذا الإنجاز في تعزيز حضوره على الساحة الثقافية والفكرية، ويدعم رؤيته في أن يكون رابطاً معرفياً يصل بين العالم العربي والمجتمع الدولي.

يأتي هذا الإنجاز في إطار جهود المركز المستمرة لتقديم إصدارات نوعية تُثري المكتبة العربية وتفتح آفاقاً جديدة أمام القراء والباحثين في المجالات الفكرية والثقافية.

علم الفلسفة

25 Jan, 18:58


. "#الحداثة_السائلة"

1_ الفكر الاجتماعي والثقافي

زيغمونت باومان، في كتاباته مثل الحداثة السائلة والحب السائل، يصف الحياة المعاصرة على أنها "سائلة" بسبب الانفصال المتزايد بين الأفراد والمجتمع. في الماضي، كانت الهويات الاجتماعية أكثر استقرارًا، وكان لدى الناس تصورات واضحة عن مكانهم في المجتمع، سواء من خلال العائلة، العمل، أو الدين. لكن مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية السريعة، أصبح الناس في العصر الحديث يواجهون تحديات في الحفاظ على استقرار هويتهم. العلاقات الإنسانية، مثل الزواج أو الصداقات، لا تعود ثابتة كما كانت في الماضي، بل تتسم بالمرونة والعدم الثبات، مما يعكس طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد.

2_ العمل والاقتصاد

في عصر الحداثة السائلة، تغيرت أسواق العمل بشكل كبير. الوظائف لم تعد مستقرة أو دائمة كما كانت في السابق. أصبحت الوظائف المؤقتة والعمل الحر والمرونة في ساعات العمل هي القاعدة، مما يساهم في عدم الاستقرار المهني والاقتصادي. هذا التغير لا يقتصر على الوظائف فقط، بل يشمل أيضًا الشركات التي لم تعد توفر الاستقرار الوظيفي الذي كان متوفرًا في الماضي، مما يجعل الأفراد في حالة من الترقب الدائم لمستقبل غير مؤكد.

3_ التكنولوجيا والاتصال

التكنولوجيا والعولمة أسهمت في تسريع التحولات. على سبيل المثال، من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن للأفراد أن يكونوا متصلين بالعالم بأسره لكنهم في الوقت ذاته يواجهون الانعزال الاجتماعي. التحولات الرقمية جعلت المعلومات والمعرفة تتدفق بشكل سريع ومتشعب، مما يخلق حالة من اللامبالاة والاضطراب المستمر في التفاعلات البشرية.

4_ التغير في القيم والمبادئ

في الحداثة السائلة، أصبحت القيم الفردية أكثر أهمية من القيم الجماعية. كل فرد أصبح يسعى لتحقيق ذاته بطرق تتناسب مع متطلباته الخاصة، دون التزام صارم بالقيم التقليدية أو الاجتماعية. هذا أدى إلى فقدان الإحساس بالاستمرارية الثقافية أو الثبات المبدئي.

5_ الفراغ الوجودي

واحدة من أبرز نتائج الحداثة السائلة هي ما يسميه باومان بـ "الفراغ الوجودي". فالتغيرات السريعة وفقدان الثبات تعني أن الأفراد غالبًا ما يعانون من الشعور بعدم الاستقرار والضياع، مما يخلق تحديات في فهمهم للمعنى الحقيقي للحياة أو اتجاهاتهم في المستقبل.


الخلاصة

الحداثة السائلة تشير إلى تحول المجتمع من حالة ثابتة إلى حالة متغيرة وسريعة. فبدلًا من أن تكون الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية قائمة على هياكل ثابتة، فإنها أصبحت تتميز بالمرونة والتغيير المستمر. ونتيجة لهذه التحولات، يصبح الأفراد في حاجة دائمة للتكيف مع التغيرات التي تحدث بسرعة في جميع جوانب حياتهم، مما يخلق حالة من القلق والتحديات التي تؤثر في هويتهم وعلاقاتهم.

بذلك، يمكن القول إن الحداثة السائلة تعكس حالة من التغيير المتسارع والمستمر التي تشهدها المجتمعات في العصر الحديث.

@Hussain_Mushriq

علم الفلسفة

24 Jan, 09:23


الموت بعيون أندريه كانت سبونفيل
يوسف اسحيردة

" أن تتفلسف معناه أن تتعلم الموت"
مونتاني بعد أفلاطون

" إذا كُنا لا يكون الموت، وإذا كان الموت لا نكون"
أبيقور

لا يتفق أندريه كانت سبونفيل مع اسبينوزا حين يقول أن "الإنسان الحر لا يفكر في الموت إلا أقل القليل؛ فحكمته تسوقه إلى إمعان التفكير في الحياة، لا الموت." ذلك لأن التفكير في الحياة يمر حتميا عبر التفكير في الموت، بما أن الحياة تحمل بصمته مثل ظل قادم من العدم. فلا يمكن الحديث عن الحياة ونكران ونفي أهم أبعادها في نفس الوقت : هشاشتها، قصرها، ضعفها...أن يكون تفكير الحكيم مُنصبا على الوجود عوض اللاوجود، القوة عوض الضعف، الحياة عوض الموت، أمر مفهوم. لكن كيف يُمكن التفكير في الحياة في حقيقتها دون التفكير أيضا في ما يعوقها أو يشكل نهايتها؟

كل ذلك جعل فكرة الموت تشغل حيزا كبيرا في تاريخ الميتافزيقا ، ولا يوجد فيلسوف واحد لم يتناولها أو يُعمل فيها التفكير، غير أن مواقف الفلاسفة تتوزع بين موقفين رئيسيين : الموت لا شيء (أبيقور)، أو هو ليس الموت (أفلاطون) وإنما حياة أخرى. التفكير في الموت معناه نفيه : هو عدم صِرف أو حياة أخرى، أي ليس الموت!

عدم أو انبعاث ؟ حياة أخرى، أو لا حياة إطلاقا؟ بين هذين الطريقين، بوسع كل واحد أن يختار، أو لا يختار - مثل الشكوكيين، مثل مونتاني -، يترك السؤال مفتوحا، كما هو في الحقيقة، وأن يسكن هذا الانفتاح الذي هو العيش. لكنها مع ذلك تظل طريقة للتفكير في الموت، بل ينبغي أن تكون كذلك. وإلا كيف يُمكننا الامتناع عن التفكير في ذلك الذي يُشكل - بالنسبة لكل فِكر، بالنسبة لكل حياة - الأفق الحتمي.

رغم كل ذلك، يعترف صاحب كتاب "مقالة صغيرة في الفضائل الكُبرى"، أنه اختار معسكره، عمليا على الأقل، فاحتمالية موت أحد أقاربائه تُحزنه أكثر من احتمالية موته الخاص. ذلك أن موته الخاص سيأخذ منه كل شيء ولن يأخذ منه أي شيء في نفس الوقت : لأنه لن يكون هناك أحد ليفقد أي شيء. على خلاف ذلك يظل موت القريب حقيقيا، محسوسا. ومع ذلك ينبغي قبوله هو الآخر كنوع من الوفاء للحياة باعتبار أن الموت جزء لا يتجزأ منها كما سبق القول.

فانون ومُحبين لفانين، هكذا هم نحن، وهذا ما يُمزقنا. لكن هذا التمزق هو ما يجعلنا بشرا، وهو أيضا ما يُعطي الحياة قيمتها العليا. لو لم نكن معرضين للموت، يتربص بنا في كل لحظة، أكانت الحياة ستكون ثمينة، نادرة ولا تُعوض؟ هذا لأن التفكير في الموت يجعلنا نغتنم كل فرصة في الحياة، كما لو أنها الأخيرة ربما.

علم الفلسفة

18 Jan, 09:07


#فلاسفة_إدغار_موران

يوسف اسحيردة

أكثر من أي مُفكر آخر، أثث إدغار موران مكتبته بعدد هائل ومتنوع من الفلاسفة «مثل نحلة تُنتج العسل من كل الزهور.»1 ذلك أن موران هو مُنْتِجُ فِكر، الفِكر المُعقد. أقربهم إليه؟ أولئك الأقدر على التعبير عن تعقيدات وتناقضات الحياة والناس، بما في ذلك تعقيداته وتناقضاته هو نفسه: «وهكذا فقد كُنت مدفوعا إلى صياغة فكر قادر على الاعتراف بتناقضاتٍ ومجابهتها دون توقف، هناك حيث لا يرى الفكر «العادي» سوى بدائل، واكتشاف حقائقي عند مُفكرين يتغذون على التناقضات:هرقليطس وباسكال وهيجل وماركس».

#هرقليطس

يعتبره موران، بجانب باسكال، الفيلسوف الأبلغ أثرا في مساره الفكري والحياتي. فيه وجد «التناقضات الأساسية التي يتعذر تخطيها»، والتي تغذى منها وأغنى بها مشروعه المُتمركز حول مفهوم التعقيد. مقولات هرقليطسية من قبيل «الخير والشر كلاهما واحد»، و«الطريق العلوي والطريق السفلي كلاهما واحد»، و«مُستيقظون، ينامون»، تحولت إلى ما يُشبه اللازمة في كُتبه ومقالاته وحواراته.

إن ما أبهر موران في هرقليطس، هو قدرته على الجمع بين فكرتين متضادتين، كان من المُفترض أن تُبعد إحداهما الأخرى. يتعلق الأمر بالمبدأ التحاوري، الركيزة الأساسية لفكر موران المُعقد.

لا يتذكر موران في أي وقت من شبابه اكتشف هرقليطس، قبل هيجل أم بعده؟ ومع ذلك فإنه يعترف قائلا: «يجب أن أقول إن تَحَاوُرِيَّتِي تظل أقرب إلى هرقليطس، وتختلف عن جدلية هيجل وماركس، التي ترى دائما إمكانية لتجاوز التناقضات.»

-#باسكال

صحيح أن موران قرأ باسكال مُبكرا، لكنه لم يكتشف إلا في وقت متأخر ما جعله أَمْيَلَ إلى باسكال من غيره: «لقد قرأت باسكال في وقت مبكر جدا، واليوم أفهم ما جعلني ويجعلني باسكاليا إلى الأبد: إنها الصلة والصراع المدهش والمتكامل بين الإيمان والعقل والشك؛ الصراع والتكامل اللذان كانا دائما خاصتي.»

إن عظمة باسكال تكمن، في نظر موران، في جعله من هذه الأضداد مصدرا خصبا، ذلك أن عند خصمنا قد يُوجد «جزء من الحقيقة أصبح مجنونا.» في كتابه العام صفر لألمانيا يتبنى إدغار موران هذه القناعة، ويُدافع، بعد انتهاء الحرب، عن الشعب الألماني ضد شيطنة مُعممة.

يرى سيد المنهج في إحساس باسكال الحاد بالتناقضات والمفارقات الإنسانية، بصمةأنثروبولوجيٍ عميق، شديد الوعي بتعقيدات الشرط البشري. تشهد على ذلك مقولات خاطفة من قبيل:«التفلسف الحقيقي يسخر من الفلسفة»، «إن البشر مجانين بالضرورة بحيث لا يفلتون من الجنون إلا بحركة مجنونة أخرى.» إدغار موران لم يقل غير هذا الأمر حين اعتبر الإنسان، في كتابه البراديغم المفقود، كائنا عاقلا ومجنونا في نفس الوقت (sapiens-demens).

#هيجل

قرأ إدغار موران هيجل سنة 1942، في عز الحرب، قادما إليه من ماركس: «كان الأمر مُبهرا بالنسبة لي: اكتشفت فكرا يُجابه التناقضات ويقترح تجاوزها. اكتشفت أن التناقض يُشكل أساس الكائن والحياة والفكر»، ذلك أن موران نفسه كان يعيش مُمَزَّقًا داخل مجموعة من التناقضات: الإيمان، الشك، الأمل، اليأس. وإذا كان للبراكسيس الثوري (الماركسي) أهميته من أجل مغادرة سماء الأفكار ومجابهة واقع الحياة والموت الذي تفرضه الحرب، فإن هذه المخاطرة لم تكن ممكنة، في نظر موران، إلا باستدعاء هيجل وقوله في فينومينولوجيا الروح: «فقط من خلال المُخاطرة بحياتنا نُحافظ على حُريتنا.»

على المستوى المعرفي، لا يخفي إدغار موران تلبية الديالكتيك الهيجلي آنذاك لتطلعاته المُراهقة إلى «جمع ووصل مختلف حقول العلم والمعرفة، وكذا ربط ما هو مُنفصل.» إننا هنا بالضبط في عمق ما نذر موران حياته لأجله:التعقيد. ذلك أن هيجل، في رأي موران، هو «مُفكر التعقيد» الذي ألهمه إلى اكتشاف محدودية العقل الإدراكي، وتجاوزه إلى عقل ديالكتيكي أرحب، قادر على الاغتناء بالتناقضات عوض التخلص منها: هنا فقط أمكن لموران الشاب أن يهنأ بِتَوَزُّعِهِ الفلسفي بين الأنوار والنزعة الرومانسية.

#ماركس

إن ما جذب إدغار موران إلى ماركس هو تَمَثُّله لِـ«الماركسية كعِلمٍ إنساني أساسي وكشكل من المعرفة يسمح بخلق مُجتمع أفضل»، غير أن مركز ثقل ماركسية موران لم يكن هو الاقتصاد، بالرغم من دراسته للعلوم الاقتصادية وإيمانه بالدور التاريخي لِقِوى الإنتاج وصراع الطبقات، وإنما الأنثروبولوجيا: «قراءة مخطوطات 44، وخاصة المخطوط الاقتصادي-الفلسفي الذي كان له تأثير عميق عليَّ، حَوَّل بسرعة مركز اهتمامي نحو الأنثروبولوجيا». فَبِوحي من هذا النص تَوَلَّد في عقل موران فِكْرُ أُنثروبولوجي قائم على وحدة الثُنائية الإنسانية، أي على «الاقتران التضادي والتكاملي للطبيعة والثقافة في كل واقع إنساني.»

علم الفلسفة

18 Jan, 09:07


فلاسفة إدغار موران
👇👇

علم الفلسفة

18 Jan, 09:07


إنه التطلع نفسه والطموح ذاته إلى فكر جامع ومُعقد حتى قبل أن يتضح المفهوم في تفكيره ويكتب فيه مؤلفاته المُهمة. يتحدث إدغار موران عن سر انخراطه في الماركسية قائلا: «كانت ماركسيتي في الحال مُنفتحة ودامِجة. فهي لم تصرفني عن مدارس فكرية أخرى. لقد كانت تُطابق رغبتي حينها بمعانقة كل شيء، وتطلعي إلى كُلِّية للمعرفة.» وذلك عكس الماركسية الرسمية التي كانت «حَصْرِيَّة ومُسْتَبْعِدة». هذا ما يفسر إبقاء موران على أجزاء من ماركس حتى بعد مراجعاته الكبيرة، خاصة تلك التي تطرق لها في كتاب "نقد ذاتي".

ثم جاءت فكرة البراكسيس («الفلاسفة لم يقوموا سوى بتفسير العالم بطرق مُختلفة، في حين يتعين الآن تغييره») لتُعزز انخراط موران الشاب في المُقاومة والستالينية، وتضع حدا لوعيه الشقي: «يُبين ماركس الشاب أنه لا يُمكن حل المشاكل والتمزقات الفلسفية إلا في البراكسيس، الذي يجلب تجاوز الفلسفة.» هذا قبل أن يعي أن مفهوم البراكسيس، شأنه شأن المفاهيم الهجيلية، مفهوم مُضلل، يُتَرْجَمُ واقعيا بكلبية أخلاقية وضمور ذكائي.

1. هذا الاقتباس وغيره مما جاء في هذا الموضوع هو من كتاب إدغار موران "فلاسفتي".

علم الفلسفة

11 Jan, 19:46


https://youtu.be/Q0FTLxd-oJI?si=SX6-vwNJRYgvOzD_

■ أ.د. محمد رضا بهشتي - طهران
■ رئيس قسم الفلسفة - جامعة طهران

من مؤلفاته:
■ مسير الهرمنيوطقا - من هايدغر إلى جادامر
■ الحقيقة والسؤال
■ الفن الديني
■ الفلسفة المسيحية
■ ترجمة موسوعة علم الكلام والمجتمع لجوزيف فان أس

يتطرق ل :
■ الدهشة والحيرة في الفلسفة
■ ما هي بداية ونهاية الفلسفة ؟
■ مفهوم الحيرة بين أرسطو وأفلاطون

علم الفلسفة

09 Jan, 17:59


الخاتمة

يعد كتاب التباسات الحداثة مناسبة مهمة لاكتشاف عدد من خبايا تفكيكية دريدا، وخاصة موقفه من الحداثة وما بعد الحداثة، وهي الإشكالية التي خيمت على القرن العشرين، وتستمر بظلالها حتى اليوم، حيث يستنتج مؤلف الكتاب، أن دريدا كان من الرافضين لمعالم الحداثة وشعارات كما ذهب إلى ذلك عدد من مثقفي الألمان وفلاسفتهم، وخاصة هابرماس وماكس فيبر. لذلك، يكون دريدا أقرب إلى ما بعد الحداثة، رغم كل جهوده من الخروج عن كل تصنيف...

[1]- مانفريد فرانك ولد عام 1945، هو فيلسوف جيرماني، تركزت أعماله على المثالية الألمانية والرومانسية، وكذا الفلسفة الفرنسية الحديثة.

[2]- البنيوية حركة فكرية وأدبية أنتروبولوجية وثقافية جديدة، أصبحت تغزو المشهد الثقافي الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، وتدين لديسوسير.

[3]- ص 69

[4]- النبواني، خلدون، التباسات الحداثة، مؤمنون بلا حدود، المغرب، ص. 172

[5]- ص. 186

[6]- خلدون النبواني، التباسات الحداثة، نفسه، ص.189

علم الفلسفة

09 Jan, 17:58


بهذا نصل إلى الاستنتاجات التالية:

الاستنتاج 1: إذا كانت الحداثة مشروعا أو حقبة تاريخية، أو ذاتية وعقلانية، أو مجموع معايير كونية، أو قطيعة نهائية مع الماضي، أو تأليها للإنسان، أو سيطرة على الطبيعة، فإن دريدا الشاب سيكون وفقا لذلك رافضا تماما للحداثة بدون شك. أما إذا كانت، من ناحية أخرى، الحداثة مواصلة لقيم الأنوار، من خلال مراجعتها، ووعيا بالزمن، أو علاقة إشكالية بين الماضي والحاضر والمستقبل، أو شجاعة في التفكير أو تبشير بمستقبل قادم، فإن دريدا الكهل هو فيلسوف حداثي بامتياز.

الاستنتاج 2: مؤداه أنه إذا كانت ما بعد الحداثة تشكيكا بالسرديات الكبرى، ورفضا لأولوية اللوغوس والذكورة وتفكيكا للأنا وللمركزية، ودعوة للاختلاف وانتصار للهامشي، فسيكون آنذاك دريدا في فترة الشباب ما بعد حداثي على وجه التمام. وهكذا، وكما يرى أليكس كالينكوس أن دريدا الشاب ما قبل 1980، قد ساهم في خلق الجو الفكري الذي استطاع فكر ما بعد الحداثة أن يزدهر فيه، فجاك دريدا خلال هذه المرحلة كان يحوم حول ما بعد الحداثة، لكن في مرحلته الثانية، سيخفف من نقده للحداثة الغربية؛ وذلك بأن ينخرط في مواضيع الفلسفة العملية، ربما استجابة للنقد الموجه إليه، خاصة من فيلسوف التواصل، الذي ينظر للتفكيك مثله مثل فلسفة هايدغر، بلا أية منفعة اجتماعية أو سياسية.

6- الحداثة عند دريدا بوصفها وعيا بالزمن.

حول موقف دريدا من الحداثة، فإن النبواني سيتبع نفس محج هابرماس في كشفه موقف فيلسوف التفكيك، خاصة في الخطاب الفلسفي للحداثة. نفتتح موقفه من الحداثة بالقول، إنها في نظره تصور موروث من عقلانية الأنوار، لكنه لا يرفض الحداثة كوعي بالزمن، فما يرفضه هو الحداثة على طريقة هابرماس وماكس فيبر؛ أي تلك الأيديولوجية التي تؤطر الحداثة بتاريخ أوروبا وجغرافيتها.

الحداثة كإيمان بعودة المخلص

إن تفكيكية دريدا تنحدر عن الجينيالوجيا وفلسفة الأصل، فإن النزعة التبشيرية بعودة المخلص التي تظهر أطيافها في أعمال دريدا. إنها منحدرة عن مؤثرات فلسفية سابقة عليها، خاصة مع نيتشه، الذي حمل العقل مسؤولية انحدار الثقافة الأوروبية. لذلك، عمل على استدعاء الروح ما قبل السقراطية الطبيعية لبعث روح زمن جديد ووعي حديث، ومن ثم عول فيلسوف المطرقة مثل باقي الرومانسيين على عودة ديوزينيوس، ليحمل الوعد بالخلاص. وقد استند نيتشه في هذه المهمة على موسيقى فاغنر وفن شوبهاور، من أجل بعث روح التجديد، حيث رأى في فاغنر نفسه ابن لديوزينيوس. فرغم إعلانه موت الإله، فإننا نجد عند نيتشه نفسا تبشيريا شبه ديني، أو حسب تعبير المؤلف مسيحية مقلوبة بوصفها وعيا بالزمن. إنه زمن الخلاص القادم.

كما تظهر ملامح التبشيرية لدى هايدغر، وبما أن التبشير بمخلص سيأتي من الماضي لينقد الحاضر عنصر أساسي في المسيحية، فإننا نعثر على مقابله الفلسفي عند فيلسوف الغابة السوداء في فكرتين أحدهما تحيل على الأخرى، أولا ترقب الوجود المحجوب، ثم مفهوم الحدث، فحسب هابرماس. إن التبشير ينزاح من نيتشه نحو هايدغر، من فلسفة الفن إلى الأنطولوجيا، ومن العلم المرح إلى كآبة الوجود الرصين. هكذا نصل لفالتر بنيامين التأثير القوي الذي مارسه على دريدا، خاصة في قضايا العنف المؤسس للقانون وتراكب الأزمنة.

وفي علاقة بموضوعنا، سنجد بنيامين غير بعيد عن تصور بودلير للحداثة الاستطيقية، لكن الجديد عنده هو كسره لمطلقية الزمن البودليري وأزليته وجعله زمنا تاريخيا؛ ففلسفة بينيامين ترفض الخطية الزمنية من ماض يحيل إلى الحاضر ويؤسس للمستقبل؛ أي ببساطة رؤية ماركس وهيجل، بوصفه تاريخ اكتمال يسير بثقة كاملة بالتقدم التاريخي. وفي كتاب أطروحات حول فلسفة التاريخ 1940، يبتكر بنيامين مفهوم الحاضر-الراهن، الذي يشير إلى زمن صوفي بعيد مهما كان قريب، هو مفهوم جاء ليقدم به تصور جديد لحاضر يتجه نحو الماضي لا نحو المستقبل.[5]

فعكس الزمن هذا ليس ارتدادا أو تقهقرا، بقدر ما هو ذو حمولة صوفية يهودية، توثر الحاضر وتعلقه، لكي يترك فسحة لمرور المسيح المنتظر، هكذا يكون فالتر بنبيامين قد جمع بين الإشراق الصوفي اليهودي والمادية التاريخية، فيتأرجح قلمه بين واقعية تاريخية صارمة ولحظات حدس صوفي عصية على التاريخ وواقعة خارجه، أو كما يسمي بنيامين نفسه تبشيريته بأغنية ثورية في النضال من أجل الماضي المقهور والمضطهد. فيعبر هابرماس عن هذا الوضع بقوله: "وكما يلاحظ أدورنو، فقد تلاقى في ظروف القرن 20 التصوف مع التنوير مرة أخيرة عند بنيامين، وذلك بفضل الأدوات المفاهيمية للمادية التاريخية"[6].

6- دريدا والتبشير بالمستحيل

إن هذه التبشيرات التي تخترق التفكيك ليست وحيا ينتمي إلى أحد الأديان الإبراهيمية، وهو ما سينبه إليه دريدا بقوله إنه تبشير دون تبشيرية؛ أي إنه خلاص من دون مخلص أو مسيح مرتقب. فالمستحيل، يقدمه دريدا كمفهوم تبشيري يبشر به، وهو قريب من أن يكون فكرة ترونسندنتالية.

علم الفلسفة

09 Jan, 17:58


إن المستحيل عند دريدا هو غير المحدد، واللانهائي غير المتعين، والعصي كذلك على التحقق، واللامشروط، والذي لا يمكن التنبؤ به، وهي فكرة يستعيرها من بنيامين، ليؤكد أن المستحيل هو وعد مطلق. غير أنه سيحدث تحول في تبشيرية دريدا الكهل؛ أي في مرحلته الثانية، بمناسبة توجيه اهتمامه لمسائل الفلسفة العملية، حيث تصبح التفكيكية في هذا الطور تبشيرا ووعدا بالعدالة والديمقراطية القادمة.

فأثر اليهودية على دريدا ووعيه بالزمن أمر لاحظه الكثيرون، حيث قال هابرماس: "وعلى الرغم من كل نفي دريدا للأمر، فإنه يظل قريبا من التصوف اليهودي"، وقد اعترف هو نفسه؛ أي التعبير عن فكرة الزمن والوعي الصوفي، وخاصة في الفصل الخامس من كتابه الصوت والظاهرة، كما يضع دريدا في أكثر من موضع كلمة حقبتنا وتارة زماننا، وهو ليس استعمالا اعتباطيا، بل غرضه التوكيد على الطبيعة الإشكالية للفلسفة مع الحاضر أو الوعي بالزمن الحاضر.

هكذا يلاحظ النبواني كيف أن موقف دريدا من الحاضر سيبدأ بالانكشاف أكثر منذ التسعينيات من القرن الماضي؛ وذلك مع تحوله إلى الفلسفة العملية، وجعل التفكيك فاعلا إيجابيا في الفكر، لكن أيضا في القانون والدين والأخلاق، وبخاصة في السياسة، ونختم هذا بكلمة لجون لوك نانسي شارحا موقف دريدا من الحاضر بقوله: "مرة أخرى إنها الحياة، ليست الحياة المؤجلة للغد، ولكنها تلك التي تنتهي الآن؛ أي مملكة المعنى، وهي حقيقة أكثر من طاقة أي لغة، وأضخم من قدرة الفهم، أو حتى التأمل على ضبط المعنى".

علم الفلسفة

09 Jan, 17:58


قراءة في كتاب
التباسات الحداثة للدكتور خلدون النبواني

1- دواعي اختيار الكتاب

إن اختيار كتاب التباسات الحداثة له دواع متعددة؛ أولا لأنه يتضمن أطروحة حديثة حول مسألة الحداثة الغربية، حيث لم يمر على نشره في العربية إلا بضع سنوات قليلة (2021). لذلك، فهي فرصة للتعريف به وبمؤلفه السوري خلدون النبواني أستاذ الفلسفة المعاصرة في السوربون، والقارئ النهم للتفكيكية. وثانيا، فالكتاب ليس ترجمة بالمعنى الحرفي، بل هو تأليف ثان بلغة الضاد قام به المؤلف مثلما فعل ديكارت مع تأملاته تماما، بعد أن أصدره أول مرة بالفرنسية، ثم ثالثا، تتمثل أهمية الكتاب في تحقيق، ولو جزئيا، حلم دريدا في كتابة مؤلف يضمن فيه تاريخا مقارنا للتراث الفرنسي والألماني لهيجل وماركس، والمقارنة بين مآسي البلدين وهواجسهما، وثقافتهما. أما ما يتعلق بموضوعنا، فيأتي دور الكتاب في تأويل موقف دريدا من الحداثة، وتصنيفه هل هو حداثي أم ما بعد حداثي، هذا الرجل، الذي يقول عنه ريشارد رورتي إنه الفيلسوف الأكثر قراءة، والأكثر ترجمة في العالم كله، وأنه أروع وأهم عبقري من بين الفلاسفة المعاصرين، ولأنه ينفلت من كل تصنيف، حتى إنك لا تجد لديه مواقف واضحة من هذا الموضوع مثل آخرين كبودريار أو ليوتار اللذين انتسبا لتيار ما بعد الحداثة صراحة، وإن كانت أطروحات هابرماس حول الحداثة معروفة، لكن المستجد هو التركيز على السجال الذي دار بينه وبين دريدا، والذي يزيل النقاب على كثير من أطروحات الفيلسوفين.

2- أحداث 1968 والبنيوية الجديدة

نتذكر هنا أحداث 1968، حيث شهدت فرنسا ثورة على جميع المستويات سياسية واجتماعية وثقافية؛ وذلك حينما خرج الطلاب والعمال وبجانبهم أساتذة الجامعات لشوارع باريس للمطالبة بالإصلاح الشامل، والدعوة إلى إصلاح الجامعة الفرنسية التي وصفوها بالمحافظة والتقليدية، ونحن نتذكر كيف أن الجامعة الفرنسية، على المستوى الفكري خلال النصف الأول من القرن العشرين، قد عرفت تكلسا وتقوقعا حول أقطاب ثلاثة؛ هم برنشفيك وبرغسون وديكارت. أما القرن 19، فقد كان في حالة استقالة كاملة وفراغ فكري مهول حسب غوسدورف في دراسته عن التأويلية؛ فالمؤلف يراها ثورة من الهامش على المركز، الهامش الذي أصبح قوة بنبغي الاعتراف بها. في هذا الجو المليء بالاحتقان، ستخلق جامعة فانسين من أجل استقطاب المثقفين الهامشيين، كما ستدرس فيها الفلسفة لأول مرة بكيفية مختلفة، حيث ستظهر ما بعد البنيوية، أو البنيوية الجديدة، التي يعرفها مانفريد فرانك[1] بالعناصر التالية:

- أولا اعتبار البنيوية الجديدة لنفسها على خطى هيجل ونيتشه، فكرا ما بعد ميتافيزيقي.

- ثم إن هذا الفكر الما بعد ميتافيزيقي هو أيضا فكر لاحق على البنيوية.

وقد اعتبرت بنيوية جديدة؛ لأنها ارتبطت ارتباطا حاسما بالبنيوية[2]، ولا تفهم بلا هذا الأصل[3]؛ فالبنيوية الجديدة هذه تمثل موجة فلسفية ذات هوية فرنسية لن تلبث أن تتعولم وتتمركز، لكن ما علاقة البنيوية الجديدة بالتفكيك؟ وبما بعد الحداثة؟ نسترشد هنا بمانفريد فرانك الذي كرس ثلاثين سنة لدراسة البنيوية الجديدة، وله كتاب مهم يحمل هذا العنوان، حيث يقول: "أنه مع حركة 1968 ظهرت أسماء دريدا ودلوز وليوتار على واجهة المسرح الثقافي الفرنسي، كما تحول بعض البنيويين أمثال لكان وألتوسير وفوكو إلى ما بعد البنيوية"، حيث ظهرت كلمة تفكيك عام 1976 في كتاب دريدا في علم الكتابة، هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فإن فرانك يربط ما بعد البنيوية بما بعد الحداثة، ويقول في هذا الصدد: "في سعينا لتقديم تعريف للبنيوية الجديدة وقعنا على مفهوم ما بعد الحداثة الغريب"، ويتابع تحليلاته بالقول إن البنيوية الجديدة تعتبر نفسها تفكيرا مشروطا بإغلاق الحداثة، وإذا ما كانت الحداثة تشير إلى حقبة الثورة الكوبرنيكية، فإن ما بعد الحداثة هي شرط لاحق على موت الميتافيزيقا، هكذا يستنتج النبواني أن الإغلاق الدريدي ينتمي لفترة ما بعد الحداثة التي لا تبدأ إلا عندما تغلق الحداثة مسارها وتعلن نهايتها. لذلك، فالكثير يعدّ دريدا عراب ما بعد الحداثة.

3- مفهوم الحداثة بين الألمان والفرنسيين

يذهب الكتاب إلى أن إشكالية الحداثة وما بعد الحداثة هي إشكالية تخص الفكر الألماني الحديث والمعاصر أكثر من الفكر الفرنسي، حتى إنه ما كان يمكن تصور ما بعد الحداثة لولا مفهوم الحداثة الألماني بامتياز، فرغم إشارة ليوتار المتقدمة من خلال كتابه شرط ما بعد الحداثة، فإن الحداثة وما بعدها ابنة الفلسفة الألمانية، فتاريخيا وجينيالوجيا ولدت الحداثة الفلسفية مع هيجل، وهذا لم يحصل في فرنسا، ففي أحسن الأحوال هي ظهرت كإشكالية فنية وليست فلسفية كما رأينا مع شارل بودلير في القرن التاسع، حينما وصف الحداثة بوصفها مطمح رسام الحياة الحديثة.

علم الفلسفة

09 Jan, 17:58


إن متأملا يلاحظ الوعي الفريد لدى الألمان بالزمن، حيث كان كانط من السباقين إلى التساؤل عن التنوير وتحديد ماهيته. أما نيتشه، فقد كان من الفلاسفة النادرين الذي انتبه إلى جدل التنوير والمآلات العكسية لأحلام الحداثة. ولذلك، حينما سئل مشيل فوكو في حوار عام 1983 حول البنيوية وما بعدها، قاطع فوكو جيرارد روليه بسؤاله عما بعد الحداثة قائلا: "ما هي تلك التي تدعى ما بعد الحداثة؟ إنني لست على دراية بها". وحتى حينما نشر ليوتار كتابه عام 1979، فإنه لم يحدث ضجة في فرنسا، وربما فوكو لم يطلع عليه، بل أثار ردود فعل لدى الألمان بخاصة، فحتى ذلك الوقت، وباستثناء ليوتار، لم يكن الفرنسيون يتناولون الحداثة كمشكلة فلسفية، ونفس الأمر مع دريدا الذي لا نجد عنده مفهوم الحداثة أو ما بعد الحداثة في كتاباته، ومواقفه من هذه الإشكالية يتم تأويلها واستنتاجها لا غير.

4- دريدا بين الحداثة وما بعد الحداثة

إن دريدا قد امتنع طويلا على إطلاق أي حكم حول الحداثة أو ما بعدها؛ ذلك السجال الألماني الفرنسي الذي أقحم فيه بدون رضاه، فلن تجد لديه أي تصريح حول انتمائه، بل كان يتهرب من كل انتماء، وإن كان قد ظل قريبا من ليوتار الذي أعلن ميلاد ما بعد الحداثة، كما أنه كان من نفس جيل بودريار الذي انضم لما بعد الحداثة في السياق الأمريكي. لكن عددا من النقاد يوسعون من طائفة ما بعد الحداثة، لتشمل كل من سار في نقد تقاليد الأنوار، أو كشف حدود العقل ومآلات العقلانية، أو قدم قراءة جديدة لنصوص تعتبر مؤسسة للحداثة، بالتالي فما بعد الحداثة ترحب بحرارة بدريدا وتفكيكيته، خاصة وأن فلاسفة كبار بحجم هابرماس، خاصة في كتابه الحداثة مشروع لم يكتمل، يحشر دريدا ضمن فكر ما بعد الحداثة، وبتعبيره في فئة المحافظين الشبان بقوله: "وهذا الخط، أي خط ما بعد الحداثة، يمتد في فرنسا من جورج باتاي عبر فوكو ودريدا، وفوق الجميع تحلق روح نيتشه الذي بعث من جديد في السبعينيات".[4]

من جهة أخرى، فتفكيك دريدا لنصوص مؤسسة للحداثة الأوروبية، مثل محاولة في أصل اللغات لروسو وعمل نحو سلام أبدي لكانط ومبادئ فلسفة الحق لهيجل، قد أوقع الشبهة بدريدا بصفته ما بعد حداثي رافض للحداثة، غير أن أعمالا أخرى تؤكد بالواضح أن الحداثة لم تكن هدف تفكيكية دريدا، بل استهدف أساسا الميتافيزيقا الغربية منذ ميلادها مع سقراط وأفلاطون حتى اليوم. بهذا يبدو، كما رأيتهم، أن موقف دريدا من الحداثة وما بعدها ملتبس؛ لأنه لم يعلن ولاءه لا للحداثيين ولا لما بعدهم.

علم الفلسفة

09 Jan, 17:58


قراءة في كتاب
التباسات الحداثة للدكتور خلدون النبواني

علم الفلسفة

06 Jan, 16:14


المشكل الذي طرحه شوبنهاور أن الإنسان لا يستطيع أن يكون حرا فعلا إلا عندما يكون وحيدا. ولو ترجمنا هذه القول على مستوى مسألة الآخر، فسنقول إن الإنسان لا يستطيع أن يكون حرا إلا بلا آخر. طبعا، نحن لا نلوم شوبنهاور على هذا، لأن له الأساس الفلسفي الذي يقيم عليه هذا النوع من الطرح، لكن شوبنهاور ليس معلما كبيرا للإنسانية من هذه الزاوية، فهو فيلسوف لا يؤسس مجتمعا، وبحسب تصنيف الفلاسفة، نجد فلاسفة يعدوننا بنوع معين من المجتمع أو من التعايش بين الناس، وهم يشبهون في هذا الأنبياء، كما نجد فلاسفة لا يعدوننا بأي شيء عدا أن نصبح متآلهين أو متوحدين أو فنانين، وقد كتب ابن باجة (1130-1095) كتابا حول "تدبير التوحد"...

فتحي المسكيني

علم الفلسفة

27 Dec, 18:35


اللاوعي في فلسفة كارل يونغ / بقلم العالم البولندي بوغسواف ياشينسكي
"يجد كارل يونغ ان النفس مكونة من ثلاثة عوامل أساسية : الوعي المشروط بصلاته مع ال( هوego )، واللاوعي الفردي ثم عناصر معينة من اللاوعي الجماعي. وهذه العوامل هي في حالة مواجهة وتكامل في الوقت نفسه، أي التاثير المتبادل لهذه العناصر هو في حالة مدّ وجزر دائميين. فمرة يهيمن العنصر العقلاني ويدفع اللاعقلاني صوب اللاوعي، وأخرى يسود اللاعقلاني متبادلا الأدوار مع الآخر.
ويميز يونغ النفس الخارجية ectopsyche التي تكون العلاقة السائدة فيها علاقة النفس بالعالم الخارجي ، كما هناك النفس الداخلية - endo التي يكون المحور في فهمها علاقة النفس باللاوعي. وهكذا يتكلم يونغ عن موقفين بسيكولوجيين سائدين : المنفتح على الخارج extravertive والمرتد الى الداخل - intro . وكما نرى فهذه البنية للنفس المنشطرة الى عنصرين يتكاملان تارة و يستثني أحدهما الآخر تارة أخرى ، يكملها عامل دينامي هو اللبيدو ، هذه الطاقة النفسية المتوترة بين النقيض والآخر.
ويعني هذا كله أن تلك الطاقة لاتوجد حيث يحقق النقيضان التوازن أو إذا تجمعت في إحدى حلقات هذا التضاد كل القوى التطورية للنفس ، بعبارة أخرى فأن طاقة اللبيدو تزول في حالة التوازن النفسي التام. فعنصرها المحرّك هو الحركة والتذبذب وليس فقط بين المتضادين المذكورين بل كذلك صوب الخارج ، وحينها تكون العملية عملية تكييف النفس للوضع الجديد.
ويكرر يونغ تأكيده الذي يفيد بأن جميع مضامين النفس تخلق عقدها الخاصة ( وليس بالمعنى الفرويدي بالطبع ) ، فهذه هي أحوال وجود مستقلة لا تخضع لإرادة الوعي. وكما قلنا فالنفس تسعى صوب الإكتمال وبلوغ كل أحوال التحقيق ذروتها. وهذا هو دافعها التطوري الأكثر أولية. إلا أن المشكلة تتمثل بإختيار معيار هذا التطور المتوجه صوب الإكتمال. بالنسبة ليونغ تحقق النفس إكتمالها حين تخمد وتزول فيها شتى أنواع الثنائيات dualisms ويتحقق ، فيما بعد ، تكاملها التام على مستو جديد أعلى. وهذه النفس التي يسميها يونغ بالمملوءة تؤدي إليها عملية التفرد individualization أي التعرف التدريجي على مضمون اللاوعي. وهذا الطريق خبره يونغ ذاته وكتب عنه في كتابه الأحمر المعروف ، وهكذا نصل الى مفهوم اللاوعي الجماعي. والحق أن يونغ لم يفرق في المرحلة الأولى ، بينه وبين اللاوعي الفردي إلا أنه يتخلى فيما بعد عن مثل هذا التقسيم ويركز على مفهوم اللاوعي الجماعي فقط. و الأكيد أنه يصعب إيضاح معناه التعريفي ، فيونغ يحدد إدراك وفهم هذا اللوعي عبر سياقاته وما يحصل من أحوال تعقيد أثناءها. وهكذا يقول إن هذا اللاوعي هو مجموعة نماذج أولية archetypes تكون بمثابة وجود مستقل لايملك الصلات بال( هو )، وفي أضعف الأحوال ، بمعنى العلاقات القائمة على مبأا العلة والنتيجة. كذلك يؤكد يونغ بأن اللاوعي الجماعي بحد ذاته ليس طيبا ولا شريرا. إنه قائم فوق القيم ويحافظ على حياده أزاءها.
في سني النضوج يكتسب اللاوعي الجماعي ، عند يونغ ، الصفات الإيجابية ، فهو وجود يسميه بالنفس اللاشعورية psychoid لدى الإنسان. وهذا اللاوعي الجماعي هو كالهواء الذي نتنفسه أي أنه ضروري للحياة بالرغم من أننا لانفقه هذا الشيء ، تماما كالناس العائشين في المدينة الذين لايعرفون منظرها العام إلا إذا كانوا في مشارفها. ومثل هذه المدينة التي تلفها غمامات الهواء هي لاوعي يونغ الجماعي الذي يشمل كل شيء : المادة المعدومة الحياة وجميع أشكال الحياة على السواء. ويكون الطريق الى المشارف حيت يمكن مشاهدة هذا المنظر الحياتي هو طريق التفرد. وعادة يغذ الفرد السير فيه وكذلك الجمع البشري. حينها يسمي يونغ هذه العملية بالتموضع objectivization اي وضع مرآة ترنو من خلالها المنظومة المجتمعية ولربما الجنس البشري كله ، لكنه ينبغي في البدء إدراك أن هذا الدور ليس هو ذاته ، فالشيء الجوهري هو : من يقوم بهذا الدور.
يسمي يونغ هذه المرحلة الأولى من التفرد بمرحلة ( القناع persona ) و ( الظل ). و أيّ شيء هو هذا ( الظل )؟ إنه كل ما يزيحه القناع من منطقة اللاوعي ولكنه لايعيق العيش الخالي من النزاعات مع الآخرين. و بعدها ندرك وكلنا دهشة أننا عشنا في قفص جنسنا ، فحقيقة أنني رجل أو أنني إمرأة تحدد مسالة إدراكي للعالم كما تقرر درجة التوتر وتوزع طاقات نشاطي. فالان أرى الذكورة و الأنوثة. وأيّ شيء هناك عدا مشروطياتهما؟ أنا أريد الآن أن أحس و أجرب هذا الشيء. والآن لا أنظر الى ما ورائي، فأنا أقل وزنا إذ أن أثقال الحياة لا تلقى على كاهلي. وها أنني بلغت المحطة الثالثة في طريقي ( الطريق الى الذات ) - أرى وجه الإنسان المسّن و المغطى بالتجاعيد والجالس مستقيما. فهيئته هي هيئة شاب على الرغم من أنه يحمل تجربة ألف عام. كذلك ارى من هذا القرب الإبتسامة الرقيقة التي تشطب حياتي السابقة. الآن أحس بالبعد الذي يفصلني عن إدراك المنظر الذي تركته.

علم الفلسفة

27 Dec, 18:35


ولاشيء أمامي الآن غير القمة برغم أنني راغب بالبقاء هنا والى الأبد حيث الدفء والإلفة.لا أعرف أين نهايتي وأين بداية العالم - اهذا الشيء هو الذات؟. بالنسبة ليونغ يكون بلوغ الذات المرحلة الأخيرة لكامل طريق التفرد. ومن غير الممكن الإنصياع الى هذه الحالة بإستخدام الكلام المنطقي ، فهذا يعني إنطفاء شتى حالات التضاد والتوتر في حين أن الكلام هو توتر بين الفكر واللغة.
إن كامل مفهوم اللاوعي الجماعي الذي أرسى يونغ عليه فلسفته يبين الكثير من نقاط الشبه مع نظرية أدوارد فون هارتمان E.von Hartmann القائلة باللاوعي الناشط بصورة غائبة. ولربما يكون الأمر متعلقا بإكتشافين حصلا في آن واحد.
كذلك أنا لا أملك الأدلة على أن يونغ قد قرأ هارتمان. والنماذج الأولية التي تملأ ذلك الوعي هي بلاشك إنجاز أصيل يعود الى يونغ. والآن أيّ شيء هو هذا النموذج الأولي؟. إنه نموذج ماقبل الأحوال - أحوال التصرف والسلوك والقانون الخاص الذي يشق ، في بحر اليومي وبشكل واضح ، طريق الحياة ومبدأها وفكرتها الأساسيتين، صائغا شكلها من سلسلة احداث تبدو كما لو أنها حصلت صدفة. لكن يونغ يحذر من ان النموذج الأولي ليس بفكرة ما محددة ، فهو لا يعبر عن شيء ولاينطق بأيّ شيء أيضا. بإختصار فلهذا النموذج طبيعة شكلية وليس مضمونية. إنه شكل لما قبل ( الوجود ) يحمل ميسم التجارب الماضية لكل الجنس البشري.
وبهذه الصورة يكون هذا النموذج ذاكرة لطبقات الإرتقاء evolution الماضية ، لكن من أجل أن يقدر على النشاط بصورة فعلية والتأثيرعلى نفس الفرد وبث طاقة معيّنة ينبغي أن يملأ بالمضمون ( الحياتي ). حينها يصبح جسدا له كينونته. وهنا يشرح يونغ مشكلة تفسيرية دقيقة وهي : هل بقدرة نماذج اولية معينة أن تجذب مضامينا بشكل ما ؟ فإذا كانت قادرة ينبغي النظر الى حياة الفرد بشكل مغاير.
في مثل هذه الحالة يتحول النموذج الأولي الى وجود فعلي وقائم يمنح ذاته القدرة المناسبة. وهكذا لن يكون مجرد أثر لتجارب الجنس البشري السابقة بصنع أشكال السلوك بل وجودا معينا وفوق طبيعي . وعلى الرغم من أنه غير واع فهو يؤثر بصورة فعلية في النفس من خلال مضامين معينة مسجلة فيه. و بذلك فالنموذج الأولي هو ، على السواء ، إستعداد disposition وميل الى شيء أو أنه ( شيء )، وجود معين فوق شخصي. وبهذه الصورة المقتضبة يكون بالإمكان إلقاء الضوء على تطور مفاهيم يونغ في موضوع النماذج الأولية.
يكتب يونغ أنه إذا ( مليء) النموذج الأولي بمضمون الحياة ، يتحول حينها الى رمز معين ، وهذه المرتبة هي أحد مفاتيح اليونغية. وفي الوعي الدارج يحصل الخلط بين الرمز والإشارة في حين أن يونغ يقوم بتفرقة دقيقة بين هذين المفهومين. فالإشارة تخص الواقع المعروف ( المدلول هو واضح من خلال الدال ) في حين أن الرمز يتوجه صوب الواقع غير المعروف حيث المدلول هو خارج نطاق الكلام والمنطق العقلي. بإختصار يكون الرمز جسرا الى السماء / أنظر إستعراضات نظريات الرمز في المؤلف الرائع لجلبير ديران G.Durand ( المخيلة الرمزية ) / وبإنتباه شديد يصف يونغ فكرة الرمز. فهو يدرك بأنه يكشف عن مسلك للإتصال بوجود يفوق الحياة بل الحياة الشارطة ، وهنا نرى مرة أخرى ، الإختلاف الأساسي بين نظريته و التحليل النفسي لدى فرويد. لايكون اللاوعي ، عند يونغ ، شيئا شريرا ، أي عكس ما هو في مفهوم فرويد ، كذلك فليس الرمز ، وكما أراد فرويد ، مظهرا لتفكير أوطأ بل على العكس : إنه شيء مهم وجوهري ومرغوب فيه. فبفضله نتمكن من أن نعيش الإتصال باللاوعي الجماعي والبدء بعملية التفرد.
إلا أن الفارق التفسيري بين فرويد ويونغ والذي يخص وظيفة الرمز ودوره الفعلي في حياة الفرد النفسية هو شيء هامشي كانت تربته الخلافات الشفهية حسب، تكون عاقبته المباشرة مفهوما آخر للثقافة مغايرا. فلدى فرويد تكون ظاهرة الثقافة المعقدة و ذات الطابع الخاص ، قد سيقت ، في واقع الحال ، صوب المحددات determinants الفيزيولوجية و الطبيعية في حين أن هذه الظاهرة تكون لدى يونغ مدركة ( بكسر الراء ) لقضايا الروح. فهنا يتم منح خصوصيات الثقافة وظيفة تجاوز transcendent صوب اللاوعي. أو ليس من المحتمل أن الإنسان قد تأنسن وسما ومنحت الحياة معناها الصحيح بفضل هذه المفاهيم ؟.
كان يونغ يقسّم الرموز الى فردية تملك دلالتها عند شخص معين هو في طريقه صوب تحقيق الفردية ، وأخرى جماعية توفر المعرفة لكل المجموع البشري. وأنا كنت قد إستخدمت عن عمد ، فيما يخص الرموز الجماعية ، مجاز المرآة التي ينظر الجنس البشري الى ذاته فيها. إنه مجاز مستعار من هيغل وكان قد إستخدمه في ( الأستيتيكا ). وبإعتقادي يكون ممكنا أن نلاحظ هنا أحوال تماثل معينة : الروح الهيغلي المطلق الذي نلقى تعبيره في أعمال الفن يقوم بوظيفة هي مشابهة لعمل اللاوعي الجماعي اليونغي.

علم الفلسفة

27 Dec, 18:35


وكان يونغ قد كرس مكانا كبيرا للفن في تأملاته، ونحن نفهم الاسباب إذا تذكرنا مفهومه عن الرمز . ونجد تأملاته الرائعة المكرسة للشخصية الخالقة أي سرّ الكاتب الذي يجرّ ال ( هو ) الخلقي ( بفتح الخاء ) وراءه ، ذلك الظل الحياتي لعدم التكيّف الأبدي ، ما زالت تثير الإهتمام والقلق في الوقت نفسه. ويجد يونغ أن الفن إما أن يكون رمزيا وإما بسيكولوجيا. فالأول يتميز بالميل الى التعبير الخارجي
ومادته هي الرؤى المتوجهة صوب اللاوعي الجماعي ، أما الثاني ( ويسميه يونغ بالعرضي symptomatic ) فيتميز بالأسلوب الإستبطاني في تشكيل المادة النفسية ، إذ يستمد الإلهام بالدرجة الرئيسية من حياة الإنسان الواعية ، وهنا نقدر على الكلام عن ( الجمال ) و ( الجمالية ) و ( الشكل الفني ).
إن الفن الرمزي يهدم هذه القوانين أو لايكون هدفه الحفاظ عليها. إلا أنه خلاق ، فبين جميع الوظائف التي يؤديها الفن تلقى الوظيفة الرمزية لدى يونغ التقدير حيث يرى أن المهمة هي التعرف من خلال الرموز. فمهمة الفن هي تطوير الجانب الإنفعالي في الشخصية. أما مهمته كمانح للذائقة والمتعة والمذاق فتكون آخر الوظائف.
إن هذه المقولات التي تنبع ، عضويا ، من كامل مفهوم يونغ ، تكون مهمة للأستيتيكا المعاصرة. والملاحظ أن كبار معلمي الإنسانية أمثال غاندي وتولستوي قد عاملوا بهذا الشكل الظاهرة الفنية أي مجال تكوين الشخصية. وقال المهاتما غاندي : بالنسبة لي لايقدّم الجانب الخارجي أيّ قيمة على الإطلاق عدا حالة واحدة وهي حين يقوم بمساعدة الداخل. وفي كل فن حقيقي يتم التعبيرعن النفس.
بإعتقادي أن يونغ وتولستوي قادران على تكرار هذا الراي.
وليس الفنان وحده يتوجه صوب اللاوعي الجماعي حين يخلق عمله. فالمتلقي لايكرر بشكل ما ، عملية الإلتزام النفسي ذاتها ، إذ أنه يتلقى الفن حدسيا قبل كل شيء، و يرى فيه النماذج الأولية للاوعي الجماعي. ويقف كلاهما امامه عند التعامل مع العمل الفني الرمزي وليس كفرد بل كممثل للبشرية كلها. فالأنا الفردية تختفي كي تفسح المكان لنشاط اللاوعي بنماذجه الأولية. ولايخبر الفن الرمزي عن النفس ( كما هو الحال في الفن البسيكولوجي ) بل يستفزها من أجل أن تتسامى فيما بعد.
أكيد أن يونغ قد قدّم بنظريته الشهادة على الفلسفة الحديثة ، حين تكلم عن الإنسان الذي يكون بدوره الإشكالية الأهم في الفكر الحديث."

علم الفلسفة

25 Dec, 12:42


بأيّ معنى يكون الإله بمثابة "الأب" للعالم أو للبشر، الذي صنع الموجودات؟ الذي يحرّك الموجودات ولا يتحرك؟ وبأيّ معنى يمكننا أن نفكّر في إله - شخص، يحب ويغضب؟ أو إله يختار شعبا بعينه ويعقد معه "عهدا" دون غير من الشعوب؟ وهل يمكن استنباط معنى الله من معدن فكرة، تخطر بالبال؟ بال الكوجيطو البشري - وكل كوجيطو هو بشري - الذي نجح في إثبات وجوده في فطرة ذاته بناء على أفكار واضحة ومتميزة يستمدّها من نفسه العميقة؟ وهل يحمل النوع البشري حاجة ماسة (جينية مثلا) إلى الإيمان بالآلهة؟ إلى أيّ مدى يمكن التعايش الميتافيزيقي بين إلهين أو بين مجموعة من الآلهة؟ أيّ معنى فلسفي لأن يكون المرء ملحدا بهذا الإله أو ذاك؟ أو حتى بجميع الآلهة؟ متى كانت الفلسفة إيمانا أصلا؟

وخاصة: هل يموت الإله كما بشّر بذلك نيتشه، وهو يتمثّل بأنشودة مسيحية عن المصلوب؟ هل ثمّة معنى فلسفي للتفكير في ما أطلق عليه هيدغر الثاني اسم "الإله الأقصى" أو الأخير(der letzte Gott)؛ أي جملة إمكانية معنى الألوهية المتاح في أفق السؤال عن حقيقة الكينونة في عصر التقنية؟ وأيّ معنى فلسفي يمكننا أن نعزم على التفكير فيه متى أخذنا بأطروحة "نزع السحر عن العالم" (فيبر)؟ ما الوجاهة الفلسفية للكلام عن انسحاب الألوهة من واجهة البشر الحاليين، كما أشار إلى ذلك هيدغر الأخير؟ وأخيرا، - كيف هو حال "الله" بعد عودة الديني؟ أليس الله بطلا دينيّا تهمّه عودة الأديان إلى التحكم في مصير البشر، ليس فقط على مستوى شكل الحياة، بل على مستوى طريقة الموت أيضا؟ هل ثمّة صلة أو وجه قرابة أكيدة بين الله والقتل باسم الله؟ بين الألوهية والعنف؟ بل بين الله وبين المؤمنين به أو المتكلمين باسمه؟

وما الفرق بين مواطن له إله؟ ومواطن "بلا إله"؟ واللغات الغربية، تساوي بين "ملحد" و"بلا إله"؟ بين مواطن ينظر إلى نفسه بوصفه "رعية" ومواطن يرفض منزلة الرعية ويطالب بأن يُعامل، باعتباره "شريكا" مدنيا في الحكم؟ وأيّ دور لمفهوم الإله في أيّ نزاع سياسي حول السلطة؟ أو حول الجمال؟ أو حول العلم؟..........

ولكن ما هو أصل معنى الإله ودلالته؟ بل كيف دخل الإله إلى الفلسفة أصلا؟

يقترح كلّ من برغسون وهيدغر طريقتين طريفتين لتخريج أصل فكرة الإله/السبب في الفلسفة، وهما طريقتان تبدوان لأوّل وهلة على تباين كبير، والحال أنّهما تعودان جميعا إلى اجتهاد من نفس الجنس، وإن كانتا تصدران من منطقتي تفكير جدّ متباعدتين.

مثال 1: الإله /الأيدوس

في الفصل الرابع من كتابه مصدرا الأخلاق والدين، ينبّهنا برغسون إلى أنّ الفلاسفة لا يملكون أيّ طريق موصلة إلى تخريج مسألة وجود الإله أو طبيعته؛ وذلك أنّ تلك الطريق توجد أصلا في أفق آخر. فإذا كانوا لا يحكمون على شيء ما بأنّه موجود إلاّ متى شهدوا أنّه مدرَك أو يمكن أن يُدرك في تجربة فعلية أو ممكنة، فإنّ مشكل الإله سوف ينقلب بالضرورة إلى سؤال عن إمكانية معرفة موجود ما يختص بالتميّز عن بقية الموجودات الأخرى بأنّه "لا يمكن أن تبلغ إليه تجربتنا"، ورغم ذلك هو لا يقلّ "فعلية" عن الموجودات التي لدينا؛ هذا الموجود يُشار إليه باسم الإله.

علينا أن نلاحظ أنّ لفظة "الإله" لا تشير هنا إلى المعنى المتداول له بين الناس، حيث يفترض برغسون، ساخرا، أنّه لو حدثت معجزة ونزل هذا الإله في "حقل التجربة"، وذلك "ضدّ رأي الفلاسفة"، فإنّ النتيجة أنّه "لا يمكن لأيّ شخص أن يتعرّف عليه"! وإذا كان إله الدين ميزته الأولى أنّه "يستطيع أن يدخل في علاقة معنا"، فإنّ هذا هو بالتحديد "ما يعجز عنه" إله أرسطو، وهو إله الفلاسفة من بعده.

ما هو هذا الإله الفلسفي؟

من المعلوم أنّ أرسطو قد حدّد الإله بوصفه "محرّكا أوّلا"، ووصفه في ماهيته بأنّه "العقل الذي يعقل نفسه" أو بلغتنا الحديثة "التفكير الذي يفكّر في نفسه". كيف استطاع أن يجمع بين الأمرين؟ ولم سمّى ذلك إلها؟

تعود العلة في ذلك، في رأي برغسون، هيمنة نظرية "المثل" الأفلاطونية على الفلاسفة منذ أرسطو؛ وذلك أنّ العلاقة بين الإله والعالم لدى أرسطو هو العلاقة بين المثال والشيء حسب أفلاطون.

لكنّ وجه الطرافة في عمل برغسون هو محاولته إرجاع هذه المفاهيم الفلسفية اليونانية إلى معجم الحياة اليومية الذي يقوم الفكر الفلسفي على استبعاده. فالإنسان العادي يسعى دوما إلى التغلّب على معطيين لابد أن ينتصر عليهما، هما: الكثرة والتغيّر. الأشياء كثيرة، ولا يمكن أن نعرفها إلاّ إذا وقفنا على وجوه من "التشابه" الدائم بينها رغم تكثّرها؛ والأشياء متغيّرة، ولا يمكن أن نعرفها إلاّ إذا التقطنا لها "مناظر ثابتة" رغم تغيّرها. هذا الجهد هو أصل "الأفكار" التي لدينا عن الأشياء في الوقت الذي لا تكفّ فيه هذه الأشياء على السيلان والتفلّت من قبضتنا.

لكنّ الأمر الخطير في ذلك هو أنّ تلك الأفكار التي هي نتاج "للصناعة البشرية"، سوف يتمّ "تخزينها في اللغة" بشكل يضفي عليها نحوا من الاستقلال والتجريد.

علم الفلسفة

25 Dec, 12:42


بعد كلّ هذا العمل الذي أنجزه المجتمع الإنساني وفرغ منه، يأتي الفيلسوف متأخّرا ويصاب بإعجاب وانبهار بسحر هذه "المنظومة من الأفكار" التي يجدها مخزونة ومثبّتة في اللغة ومقطوعة عن أصلها الحسّي المتكثّر والمتغيّر.

ما هو الاستنتاج الذي سيقوم به هذا المتفلسف الذي ظهر بعد أن انتهى عمل المجتمع؟

إنّه يتصوّر أنّ الأفكار هي "نماذج" ثابتة، ينحصر دور الأشياء المحسوسة في "محاكاتها" من أجل أن يكون لها معنى. فجأة أصبحت الأشياء الزائلة والمتكثّرة تجري وراء ثبات الفكرة ووحدتها. وهكذا افترض أفلاطون أنّ مثال المثل، أي مثال الخير، هو في الحقيقة يفعل في الوجود لأنّه "يسحر ويجذب" الأشياء المحسوسة بفضل "كماله". وهذا هو معنى فكرة "الصانع" (dēmiourgos) الأكبر الذي صنع العالم بمحاكاة المثل.

ولكن إذا كان أفلاطون لم يجعل مثال الخير هو الصانع للعالم، فإنّ أرسطو قد حوّل "العقل الذي يعقل نفسه" إلى إله هو محرّك أوّل للعالم. من أين أتت هذه الفكرة؟

ينبّهنا برغسون إلى أنّ "إله أرسطو ليس له أيّ قاسم مشترك مع ما كان يعبده الإغريق". ولا شبه له مع إله التوراة. لكنّ الغريب هو أنّ الفلسفة اليونانية لم تبحث عن أصل هذا الإله، التي جاءت من "انضغاط كلّ الأفكار في فكرة واحدة". ولم تقف على أنّ هذا الأفكار إنّما "تصلح قبل كلّ شيء لتهيئة فعل الفرد والمجتمع في الأشياء، وأنّ المجتمع هو الذي يوفّرها للفرد لهذا الغرض، وأنّ رفع عنصرها الخالص إلى مصافّ الألوهية إنّما يتمثّل بكلّ بساطة في تأليه المجتمع"، وهي لم تنتبه إلى أنّ الرغبة في تبسيط العمل وتيسير التعاون بين بني البشر هي التي تكمن وراء "ردّ الأشياء إلى عدد صغير من المقولات أو الأفكار التي وقعت ترجمتها في شكل ألفاظ".

إنّ ما تاهت عنه الفلسفة هو أنّ كلّ فكرة هي "خاصية أو حال ثابت" وقع انتزاعه من "صيرورة" و"حركة دائبة" في نطاق "مزاولة الصناعة" التي هي ركيزة "الذكاء الإنساني" عامة، فليس التفكير غير عملية "تثبيت لمحطات" افتككناها من حركة الواقع، وهذه "اللحظات من التوقّف" و"السكون" اعتبرناها هي "الواقع والجوهري" الذي يساعدنا على الفعل في الأشياء. وهكذا، نحكم على ما "ديمومة" الحركة بأنّها "تقهقر للوجود" ونحكم على الزمان بأنّه "حرمان من الأبدية".

كلّ هذه العناصر تكمن في رأي برغسون في تصوّر أرسطو للألوهية.

يقول: "إنّها تتمثّل في تأليه كلّ من العمل الاجتماعي الذي هو تحضيري بالنسبة إلى اللغة، والعمل الفردي للصناعة (fabrication) التي تتطلّب أمثلة أو نماذج: إنّ أيدوس[1] (مثال أو صورة) هو ما يقابل هذا العمل المضاعف؛ فشأن مثال المثل أو عقل العقل أن يكون عندئذ هو الألوهة ذاتها."

وإنّ عدم التحرّر من هذا الأصل الخفي لفكرة الإله لدى الإغريق هو الذي جعل الفلسفة الحديثة تسقط في مشاكل لا حلّ لها حول وجود الإله وحول طبيعته.

مثال 2: الإله /اللوغوس

في الفصل الثاني من كتابه الهوية والاختلاف، والذي عنوانه الهيئة الأنطو-ثيو-لوجية للميتافيزيقا، وفي معرض ندرة حول منطق هيغل، يقترح هيدغر أن نقف عند إشارة مثيرة أطلقها هيغل إلى أنّ "الإله هو الذي له الحقّ الذي لا جدال فيه في أن نبدأ به" في تخريج ماهية العلم المطلق، يعني الفلسفة، ولكن لماذا الإله بالتحديد؟

يفترض هيدغر أنّ السؤال الجدير بالطرح هو: "كيف دخل الإله في الفلسفة؟"؛ ذلك أنّ الفلسفة ليست دينًا، وعلى ذلك هي لا تتورع عن اعتبار الإله هو الموضوع الأوّل لها. وعلينا أن نؤرّخ لذلك، متى أردنا أن ندرك ماهية القول الفلسفي بما هو كذلك، وخاصة طبيعة علاقته بالأديان.

يقترح هيدغر أن نعود إلى الوقوف على الكيفية التي تمّ بها بلورة ميدان بحث مستقل خاص بالفلاسفة. هذا الميدان هو منذ اليونان القول في الموجود بما هو موجود؛ وذلك هو تعريف الميتافيزيقا: إنّها "السؤال الذي يقصد الموجود بما هو كذلك وفي جملته. والكلّ الذي تؤلفه هذه الجملة هو وحدة الموجود، التي توحّد بصفتها الأساس المنتج".

في هذا التعريف بالذات أبصر هيدغر بشيء "غير مفكَّر فيه" يثوي بعدُ في ماهية الميتافيزيقا، وعلينا مساءلته. ولذلك، فكلّ قول معاصر في الإله، إمّا أن يخوض في هذا الجانب غير المفكّر فيه أو فليصمت، وليس من طريقة لهذا الخوض غير الانخراط في مناظرة عتيدة مع التراث الذي جعل تفكيرنا في الإله ممكنا.

إنّ أوّل شيء ينبغي تسجيله هو أنّه ما كان للإله أن يدخل إلى ماهية الفلسفة لو لم تكن بها وداخلها حاجة جوهرية إليه. علينا إذن أن نقوم "بخطوة إلى الوراء" أي أن نتحرر قليلا مما تقوله الفلسفة عن نفسها اليوم، حتى نستبصر ما قيل في ماهيتها ولم تشعر، كيف ذلك؟

يعتبر هيدغر أنّ حرص فيلسوف مثل هيغل على عرض ماهية الوجود في نطاق "المنطق" كمقام مطلق للعقل هو علامة على قرار بعيد علينا استجلاؤه. إنّ "المنطق" هو الصيغة العليا من معنى "اللوغوس" اليوناني، وقد تحوّل إلى "أساس" يعلّل به معنى الموجود ومن ثمّ يؤسّسه.

علم الفلسفة

25 Dec, 12:42


وليس المنطق غير التفكير الذي يقدّم الأساس الذي يؤسّس القول في الموجود بإطلاق. كذا انفلق اللوغوس اليوناني إلى معنيين حاسمين: اللوغوس بما هو قول عقلي، واللوغوس بما هو أساس أو علة أو سبب عليه يقوم وجود الموجود.

كيف ينسحب ذلك على الميتافيزيقا؟

من أجل أنّ الميتافيزيقا تفكّر في الموجود بما هو كذلك، أي بما هو كلّ، فهي تفكّر فيه بمعنيين متمايزين: من جهة، هي تفكّر في وجود الموجود من جهة ما هو صادق صدقا كلّيا على كلّ موجود، ومن جهة، من جهة ما هو الأساس الذي هو أعلى من كلّ موجود. وجود الموجود هو في نفس الوقت ما هو كلّي منسحب على كل موجود، وما هو أساسي هو أعلى وأكمل وأسمى وأقوى من كل موجود. بذلك، تكون الميتافيزيقا هي "التأسيس الذي ينزّل الأساس منزلته، ويكشف عن سببه وفي آخر المطاف يعلّله". وفي هذا المعنى، ينبغي أن نفهم معنى "لوجيا" في عبارة "أنطو-لوجيا". لوجيا من لوغوس ولكن في معنييه: لوغوس بما هو، من جهة، قول في جملة الموجود بما هو كذلك، ومن جهة، تأسيس لهذا الموجود داخل الوجود في جملته. إنّ العنوان الكبير هنا هو فهم الوجود في ضوء اللوغوس أو بما هو في ماهيته لوغوس.

هذا الازدواج استلف له هيدغر من كانط عبارة أنطو-ثيو-لوجيا، قاصدا بذلك بيان دخول الإله إلى الفلسفة بوصفه استجابة لماهية السؤال الفلسفي عن وجود الموجود وليس انحرافا لاهوتيا أصاب الفلسفة من خارج.

ولكن ما هو مستقبل الآلهة؟ أو أيّة علاقة مناسبة بين الفلسفة وبين التصوّف ما بعد الحديث الذي صار يداهمنا في مفردات ولغات شتى؟

لقد بدأ لنا أنّ الفلسفة منذ كانط قد حاولت استكشاف ميدان الألوهية كما هي تجربة ممكنة في أفق البشر، وليس كما ترويها السرديات الدينية التي فقدت شطرا حاسما من وجاهتها، وهو موقف قاد المتفلسف إلى استشراف جملة من الملامح الطريفة في معنى الإله، نذكر منها خاصة أنّ الإله "مثال" يؤدي دور السبب دون أن يكون سببا (كانط)، وأنّه عنصر كلّي لتجربة الوعي فيه تقف على أنّ واقعة "موت الإله" المسيحية هي البنية النموذجية لتجربة الألوهية (هيغل)، وأنّ "الإلهي" ما يزال ممكنا ما وراء حدث موت الإله المسيحي، إذ هو لا يعدو أن يكون موتا للإله الأخلاقي فحسب(نيتشه)، وأنّ "الله هو طاقة" صوفية في قلب أيّ كان وأنّ المشروع الحقيقي للتألّه لم يبصر به إلاّ نوع من المتصوّفة الذين دعونا إلى خوض غمار البحث عن "إنسانية متألّهة" (برغسون)، وفي نهاية المطاف أنّ علينا أن نلقي بنظرنا فيما أبعد من مزاعم الحداثة في العلمنة ونزع القداسة عن العالم، لأنّ "فرار الآلهة" (هيدغر) من وجه العالم البشري هو الخطوة اللازمة لتحقيق المنعطف نحو إمكانية انبجاس "الإله الأخير" في أفق الحقيقة الذي نرنو إليه.

[1]- باليوناني في النص.

علم الفلسفة

25 Dec, 12:42


كيف دخل الله إلى الفلسفة؟
- فتحي المسكيني

سأل هيدغر مرة قائلا: "كيف دخل الله إلى الفلسفة؟"، والمعنى هو: هل الله مسألة فلسفية أصيلة في الأمر الذي قامت من أجله الفلسفة منذ أوّل أمرها، أم هو مشكل عرض لها من خارج واضطرت إلى إقامة التفكير المناسب حوله؟ هل توجد شرعية أصيلة للقول الفلسفي في معنى الله أم هو قول يحتاج إلى تبرير صلاحيته أو إلى تعليل الحاجة الوجودية إلى الخوض فيه؟

يُقال الله على وجوه شتّى: فهو "موجود" طُرحت الأسئلة حول ماهيته (أرسطو، الفارابي، ابن سينا) ولطالما أُقيمت الأدلة على وجوده (ابن رشد، ديكارت، سبينوزا)؛ وهو "اسم" تارة يُحرّم النطق به، كما عادة اليهود، وتارة هو خالق تبلغ أسماؤه المئة، كما هو حال المسلمين؛ وهو لدى المحدثين "فكرة" رأى ديكارت أنّها تخطر في الذهن من الذات نفسها، وذهب كانط إلى أنّها فكرة ترنسندنتالية تنبع من طبيعة العقل ولا تأتيه من أيّة جهة غريبة عنه، وقال هيغل إنّها فكرة تأمّلية تقود تاريخ العالم؛ بل هي لدى نيتشه "شخص" سردي ومفهومي يبدو أنّه مات في ضمير أوروبا، وصار ينبغي اختراعه من جديد، وعلى البشر أن يشرئبّوا إلى "علامات" آتية على ألوهة من نوع آخر، "فكم من آلهة جديدة ما تزال ممكنة"، كما كتب في بعض شذراته الأخيرة.

موجود واسم وفكرة وشخص سردي أو مفهومي أو علامة، إلخ...قالت اللغات جميعا شيئا ما يشبه الله - وحسب ابن عربي كل اسم على معبود من المعبودات هو بوجه من الوجوه ضرب من الإله - ومن ثمّ، فإنّه لا يمكن لأيّة جماعة أو ثقافة ولا يحق لأيّ شعب أن يحتكر معنى الله أو مفهوم الله أو اسم الله. ينتشر معنى الألوهية في كل الثقافات، فليس لمعناه حدود لاهوتية أو دينية جاهزة أو نهائية أو وحيدة؛ ويمكن لأيّ عقل متفلسف أن يبني فكرة الله بناء مفهوميا، ولا تخلو فلسفة كبيرة من تصوّر ما عن فكرة الله؛ كما يحق لأيّ شعب أن يسمّي شيئا في أفق كينونته باسم الله أو الربّ أو الإله، أم ما شاء من التسميات التي يمكن أن تدلّ عليه أو تشير إليه حسب مزاج سردي أو أخلاقي مفرد وغير قابل للتوريد أو التصدير. وفي الهند، يبلغ عدد الآلهة المئات أو الآلاف؛ فهل في ذلك أيّ دليل قاطع على تهافت معنى الألوهة في أفقها الأخلاقي؟ وبعبارة أخرى: هل ثمّة فرق فلسفي حقيقي بين إله وثني وإله توحيدي؟ نعني أيّ فرق في ماهية كلّ منهما؟ وليس في اعتقاد المؤمنين بهما من الجهتين.

لا تهتم الفلسفة منذ أوّل أمرها وطبقا لمقصودها الخاص، بأيّ دين بعينه، ومن ثمّ لا يوجد أيّ اتفاق فلسفي مسبق حول وجود هذا الإله أو ذاك، ولا حول حقيقته أو ماهيته أو مفهومه. يبحث المتفلسف في ما يرى العقل البشري بعامة في حقبة ما وفي أفق ثقافة ما أنّه جدير بان يُقام السؤال عنه بوصفه هو "الله" في أفق الإنسانية الحالية. وما لا ينجح المتفلسف في بلورة معنى "كلّي" عنه، فهو ليس من الفلسفة في شيء، بل هو قيمة ثقافية. والكلي هو ما يحقّ لأيّ عقل من عقول الإنسانية أن يشار في البحث فيه وامتحانه بشكل مفهومي. وهكذا، فإنّ إله الفلاسفة هو ذاك التصوّر الذي تجوز معاملته بوصفه مفهوما كلّيا، نعني قابلا للامتحان الإشكالي في أفق الإنسانية بما هي كذلك، وليس في نطاق هذه الثقافة أو تلك.

والإنسانية حين تتفلسف هي لا تطرح على نفسها من الأسئلة إلاّ ما يقبل الامتحان الكلي لدى أيّ نوع من الناس. ما هو الله؟ هو سؤال كلّي. أمّا السؤال: هل المسيح إله أم لا؟ فهو سؤال لاهوتي وخاص بجماعة روحية محدّدة، وفي أفضل الأحوال هو تساؤل ثقافي. ومن ثمّ، فإنّ البحث في ماهية الله أو في معنى الإله أو في مفهوم الألوهة، إلخ...هي مهامّ نظرية فلسفية، وليست سجالا لاهوتيا أو نزاعا حضاريا أو خصومة هووية. كلّ شعب يحق له أن يخوض معارك حول مصادر ذاته، ومنها المعارك حول وجود الله أو صحة النبوة أو قدسيّة الكتب الدينية أو حقيقة الوحي أو معنى الإيمان، إلخ... لكنّ الشعوب لا تخوض معارك فلسفية أو نزاعات تأويلية حول مفهوم الله أو فكرة الإله. تحرير فكرة الله من الأديان القائمة، أكانت وثنية أو بدائية أو توحيدية، هي نفسها مهمة فلسفية من الطراز الرفيع.

والسؤال الهادي هو: أيّ معنى للألوهة يمكن أن ينجم عن البحث الفلسفي بما هو كذلك أي بقطع النظر عن أيّ دين ودونما حاجة إلى أيّ تملّق جماعوي مثل الذي وقع فيه ابن رشد حين خاطب "معشر المسلمين" دون سواهم؟ أيّ مفهوم عن الإله يمكن أن يتكوّن في أفق العقل الفلسفي بمجرده؟ وهل ثمة حاجة فلسفية أصلية للبحث في معنى الألوهية؟ - حاجة فلسفية محضة للبحث في المقدّس بما هو كذلك؟ وذلك بصرف النظر عن أيّ تجربة إيمانية أو التزام لاهوتي أو دعوة دينية في مجتمع بعينه.

وهل ثمة اليوم معنى لعبارة من قبيل "الإله الصانع"؟ أو "المحرك الأول"؟ أو "الإله الشخصي"؟ أو "إله قومي"؟ أو "فكرة الله" أو "دين الإنسانية" أو "الإله الواحد" أو "الإلحاد"؟ أو "موت الإله"؟ أو "نزع السحر عن العالم"؟ أو "الإله الأقصى"؟ أو "انسحاب الآلهة"؟ أو "عودة الديني"؟

علم الفلسفة

14 Dec, 09:23


"إن ما تعلمناه من التجربة والتاريخ هو أن الشعوب والحكومات لم تتعلم قط أي شيء من التاريخ، و حتى لم تتصرف على أساس المبادئ المستنبطة منه".

— هيجل

علم الفلسفة

14 Dec, 09:22


المُعجزة الإغريقية: بين الواقع والأسطورة

فرونسوا دورتيه

ترجمة يوسف اسحيردة

يرجع الفضل في تعبير «المعجزة الإغريقية» إلى إرنست رينان. فعندما زار المؤرخ اليونان في شبابه، فَتَنَهُ الأكروبوليس. «بالنسبة إلي، المُعجزة الإغريقية شيء لم يُوجد سوى مرة، ولم يسبق مُشاهدته أبدًا، ولن يُرَى مرة أخرى، ولكن مفعوله سيستمر إلى الأبد»، هذا ما كتبه في ذكريات طفولته وشبابه (1883).

بعد ذلك، غَدَت «المُعجزة الاغريقية» عبارة مُبتذلة تُشير إلى الانفجار الكبير المُدهش الذي كانت اليونان بؤرته نحو القرن الخامس قبل الميلاد. ينبغي الاعتراف بأنّ القائمة مُثيرة للإعجاب. الأكروبوليس والبانثيون ليسا سوى الآثار الباقية (المَرْئِيَّة) لعصر ذهبي لا مثيل له في التاريخ القديم.

في أسفل الأكروبوليس بأثينا، كانت المسارح تكتظ بجمهور يأتي لمشاهدة تمثيليات من جنس مُختلف: تراجيديات إسيخيلوس أو سوفوكليس أو يوربيديس، أو كوميديات أرسطوفانس. أما المعابد فقد كانت مُزينة بتماثيل فخمة تأتي الساكنة لمشاهدتها بإعجاب. في الشوارع، يُمكن للمرء أن يلتقي بسقراط وهو يُعطي دروسه لمن يُريد سماعه. بعد ذلك بقليل، وغير بعيد عن الأغورا، أسَّسَ أفلاطون مدرسة أطلق عليها اسم الأكاديمية، كما أقام أرسطو الليقيون في ضاحية المدينة.

لاحقًا، أنشأ إبيقور مدرسته في بناء رائع مُحاط بحديقة، مَدْفُوعَ الأجر من قبل دَاعِمِيه الأغنياء. أما الرواقيون فقد كانوا يُدَرِّسُون قرب الرواق، وهو عبارة عن أعمدة مُزينة برسوم جدارية تقع في أغورا أثينا، حيث كان زينون وأتباعه يتناقشون ويُعَرِّفُون بأفكارهم.

إنّ في أثينا حيث ظهر جنس دراسي جديد، الهِستوريا، الذي تُرجِمَ بطريقة مُتسرعة قليلًا إلى كلمة «تاريخ». إذا كان هيرودوت قد سُمي ب «أب التاريخ»، فإنّ كتابه الاستقصائي حول الحروب الميديَّة لا يهدف فقط إلى دراسة الماضي: بما أنه يصف مناطق زارها (لهذا السبب فهو أيضًا عالم جُغرافِي)، ويهتم بعادات شعوب؛ مثل الفُرس والسكيثيين والمصريين (ما يجعله أب الأنثروبولوجيا). كما أنه يُحلل شكل نظامهم السياسي، وبالتالي فهو أيضًا أب علم السياسة…يكفي القول إنه أب الإثنوغرافيا والجغرافيا والعلوم الاجتماعية بصفة عامة.

إنّ ابتكارات ثقافية كثيرة أخرى طبعت هذه الفترة المُتْرَفَة: الطب (أبقراط)، الرياضيات (فيثاغورس، زينون)، أو أيضًا فن الخطابة (بروتاغوراس).

#نهاية_المُعجزة

ومع ذلك فالمؤرخون اليوم قد تخلّوا عن فكرة «مُعجزة إغريقية»؛ أولًا لأنّ الابتكارات الثقافية لم تظهر فجأة من اللا مكان. فالرياضيون والفلكيون والأطباء قد استملكوا معارف علماء مصر وبلاد ما بين النهرين. المُبرهنات الرياضية المنسوبة إلى طاليس وفيثاغورس كانت معروفة مُسبقًا لدى علماء الهندسة لقرون قبلهم.

زِد على ذلك أنّ هذه المعجزة لم تكن فرقعة نارية مُحددة في مكان واحد. فالدينامية الثقافية قد امتدّت عبر عدة قرون وشملت أربعة مراكز كبرى على الأقل: من ملطية (السواحل التركية) إلى الإسكندرية (مصر) مرورًا بإيطاليا. مَدْعَاةٌ للشك أيضًا، الفكرة القائلة بثورة عقلية نقلت الذهنية الإنسانية من «الأسطورة إلى العقل». ينبغي بشِدَّة تنسيب هذه السردية المُؤسِّسَة التي استُخدمت في كثير من أشكال التأريخ العلمي والفلسفي.

قبل الإغريق، كان المهندسون والتقنيون والنُّسَّاخ والفلكيون والأطباء في الهند وبلاد الرافدين، يعرفون تمام المعرفة تحكيم العقل. في المقابل، لم يقطع الإغريق بشكل مُباغت صلتهم مع الفِكْرٍ الأسطوري والسحري. فقد ظلّت الميثولوجيا جزءًا من الزاد الثقافي للشباب الأثيني الذي كان يرتاد المدرسة: كانوا يعرفون عن ظهر قلب قصص زيوس وأثينا وأخيليس وهيرقليس.

كما أنّ الإغريقيين قد استمروا طويلًا في ممارسة طقوس دينية وتقديم قرابين على غرار أسلافهم، بجانب ممارسة العرافة واستشارة الكهنة (كهنة مبعد دلفي). أما الفيثاغوريون فقد شَكَّلُوا طائفة باطنية نباتية كانت تُقدس الأعداد، وفيثاغورس نفسه كان يتباهى بصنع المُعجزات. حتى سقراط –الذي كان يزعم أنه لا يعرف شيئًا– كان يُؤمن إيمانًا راسخًا بجنة الفلاسفة. دون نسيان حديقة أبيقور حيث كانت تُمارس عبادة الأسلاف.

ينبغي العثور إذًا على معيار أكثر دقة للانتقال من الأسطورة إلى العقل من أجل تحديد جِدَّة الفكر الإغريقي. ذلك أنّ الجِّدة أمر لا غبار عليه على كل حال. وهكذا يُمكن القول إن استقصاءات هيرودوت حول تاريخ الحروب الميدية ليس لها نظير عند مُدَوِّنِي وحكواتيي الفترات السابقة. كما أن دراسات أرسطو حول الحيوانات أو الدساتير السياسية، تُمثِّل أشكالًا بحثية أصيلة.

علم الفلسفة

14 Dec, 09:22


بدا إذًا أنّ الفكر قد تحرر من اهتماماته التطبيقية. كما تحرر من مواضعاته. في أعماله الكوميدية، لا يتردد أرسطفانس في السخرية من السلطات القائمة وانتقادها، الأمر الذي يصعب تخيله بالنسبة إلى الموظفين النُّسَّاخ القدماء وباقي «مُعلمي الحقيقة» في اليونان القديمة. هكذا يدعو مارسيل ديتيان حاملي العلم في ذلك الوقت.

اختلاف رئيسي مع الفترات السابقة يهم أولًا المنهجية الحجاجية والبحث عن الأدلة التي نجدها سواء في الفلسفة، أو في التاريخ، أو في الرياضيات. فرق آخر يتعلّق بالبحث عن نماذج مُفَسِّرَة. في علم الفلك على سبيل المثال، كان أهل بلاد الرافدين مُهتمين بمراقبة ووصف تحركات النجوم، ورصد أيّ انتظام في تحرّكها، لكنهم لم يُنتجوا نماذج من أجل تفسير تحرك الأجرام السماوية كما سيفعل الإغريق لاحقًا، من أرسطو حتى بطليموس.

كما أنّ طب أبقراط لم يعد ينحصر فقط في فَهْرَسَةِ الأمراض والعلاجات. بل أصبح يبحث عن أسباب وعلاجات بعلاقة مع نموذجٍ للجسم وقواه الخفية (كما هو الحال في نظرية الأخلاط الأربعة).

#ماذا_حصل؟

فرضيات كثيرة تَتَوَاجَهُ من أجل محاولة تفسير الثورة الذهنية (عوض المعجزة) التي قام بها الإغريق. المؤرخ جوفري لويد استعرضها في كتابه “أصول وتطور العلم الإغريقي (1979)”. هناك خمسة تفسيرات كُبرى تتكرر بانتظام في نظره:

أولًا: الازدهار الاقتصادي للمدن

التطابق بين القوّة الاقتصادية والعصر الذهبي للفكر، ظاهرة جَلِّيَّة في كثير من فترات التاريخ. هكذا كان الأمر سلفًا في بلاد ما بين النهرين، وهكذا سيكون عليه لاحقًا في زمن الإسلام الأنواري، والنهضة، وعصر الأنوار. جوفري لويد يستبعد هذه العلاقة البسيطة للغاية. صحيح أنّ الثروة شرط مهم لازدهار الأفكار. صحيح أنّ الوسائل ضرورية من أجل بناء المكتبات، وتمويل المراصد الفلكية، وإعالة المجموعات العلمية والفنية.

غير أنّ مصر وبابل تُقدّمان اعتراضًا نحو القرن السادس قبل الميلاد، هذان المنطقتان «كانتا أغنى وأقوى من أيّ مدينة من المدن الإغريقية بما لا يدع مجالًا للمقارنة». أكثر من ذلك، كانت الإمبراطورية الفارسية تدعم الفنون والعلوم دون أن يعرف الفكر فيها نفس ما عرفه من انتشار في اليونان في ذلك الوقت.

ثانيًا: التطور التكنولوجي

في بلاد ما بين النهرين، استدعى مَسْح الأراضي ازدهار الهندسة. كما أنّ التجارة شجعت على تطور الرياضيات. هل بالمثل يحق لنا القول إنّ ازدهار العلوم في اليونان كان سببه ظهور تقنيات جديدة؟ جوفري لويد يستبعد هذه الفكرة بدعوى غياب ابتكارات أساسية للإغريق في هذا الشأن مقارنة بالبابليين والمصريين.

ثالثًا: التهجين الثقافي

كانت اليونان تتواجد في مفترق ثقافاتٍ؛ وبالتالي فهل مَكَّن تقاطع المعارف وتماسُّها من منح دينامية للأفكار الجديدة؟ جوفري لويد يعترض: الفرس كانوا أيضًا مُتواجدين في مكان إستراتيجي لتقاطع الثقافات، بين الهند، وبلاد ما بين النهرين، ومصر، وأوروبا. غير أنّ العلماء الفرس لم يُطَوِّرُوا علومًا أو فلسفة.

رابعًا: ازدهار الكتابة

كانت الكتابة موجودة سلفًا منذ زمن طويل. إلّا أنّ مَعْيَرَةَ الأبجدية، وإنشاء المكتبات، وتأليف أولى الكتب نحو القرن الخامس قبل الميلاد، من شأنه أن يكون قد سَهَّل عملية تراكم المعارف والتفكير المعقول، كما سبق للأنثروبولوجي، جاك كودي، أن فسَّر ذلك في كتابه “العقل الكتابي (1977)”.

يتعلّق الأمر هنا، بالنسبة إلى جوفري لويد، بأثر جدي يستحق الاقتفاء. بدون ثقافة مكتوبة، من غير المُرجح أن يكون بإمكان العلم والفلسفة أن يقوما بقفزة إلى الأمام. تراكم المعارف يفترض مكتبات كبيرة، عِلْمًا بأن أعمالًا كتلك التي تعود إلى أفلاطون أو هيرودوت غير ممكنة إلّا باللجوء إلى الكتابة.

ومع ذلك، فإذا كانت الكتابة تُشكل شرطًا ضروريًا، فإن هذا الشرط ليس كافيًا. سبعة قرون قبل الميلاد، كان الملك الآشوري، آشوربانيبال، قائدًا مُثقفًا يملك مكتبة غنية (ننوى) دون أن يكون ذلك كافيًا لانتشار الفلسفة والعلوم في إمبراطورتيه.

خامسًا: إقامة الديمقراطية

هذه الفرضية الأخيرة تحظى بتأييد جوفري لويد. في نظره، «البحث عن الأدلة» مُرتبط بالبنية السياسية للمدن الإغريقية. في أثينا كان نقاش الأفكار دائم الحضور سواء في مسائل السياسة، أو الدين، أو القضاء. من أجل الإقناع، ينبغي ممارسة الحِجاج والبرهان، وتقديم أدلة. من هنا ازدهرت تشكيلة عريضة من «تقنيات الكلام»: الخطابة، والترافع القضائي، والجدل، وفنيات سجالية (هدفها مُحاصرة الخصم داخل تناقضاته)، وأخرى تَحُثُّ على النقاش النقدي والبحث عن الدليل. في كل مكان، أصبح ضروريًا «تبرير» ما يُقال. في المجال القضائي مثلًا، تشتغل المحاكم بلجان مُحلفة تبت في القضايا في جلسة تناظرية.

علم الفلسفة

14 Dec, 09:22


هذا الارتباط الوثيق بين النقاش الديمقراطي وظهور الفلسفة، رغم جاذبيته، يصطدم أيضًا باعتراضات: لقد كانت الديمقراطية فترة قصيرة في التاريخ الإغريقي (بِضع عشرات السنين في أثينا)، في حين أنّ الفكر الإغريقي قد ظهر قبل ذلك وبعده بكثير، بما في ذلك داخل مدن لا تمتّ للديمقراطية بصلة.

إنّ طاليس وأناكسيمادنر اللذين أسَّاسَا علم الطبيعة في مدينة مَلَطْيَة، وفيثاغورس والفيثاغوريين الذين كانوا يُقدسون الأعداد، لم يكونوا حقًا خبراء في النقاش التناظري. فمن أجل الدخول إلى الطائفة، على المرء أن يبقى صامتًا ويستمع إلى المُعلّمين لعدة سنوات!

وبالتالي نجد أنفسنا تحت إغراء التطرّق إلى فرضية أخرى مُجددًا: ليس مُستبعدًا أن تكون «المُعجزة الإغريقية» ثمرة تَمْكِين «طبقة مُبدِعة» (فلاسفة، وأدباء، وفنانون)، التي مع بقائها قريبة ومرتبطة بِسُلْطَة (هي مثل الزبون لها)، لم تعد خاضعة لها كما كان النُّسَّاخ وباقي «مُعلمي الحقيقة القدماء».

هذه الطبقة المُبدعة شَكَّلت مجموعة جديدة مُستقلة أصبح بإمكانها أن تكشف أفكارها وإبداعاتها، دون أن تكون تحت وصاية أحد. سقراط كان مُعلمًا للشبيبة الأثنية، لكنه كان حرًا في تعليمه. أرسطو الذي كان ابن طبيب مَلَكِي، تَمَكَّن من الاستفادة من شيء من الحرية من أجل نشر دراساته البيولوجية. أما المسرح الذي ينحدر من تمثلات دينية، فقد استطاع التحرر منها مع أرسطوفانس ويوربيديس، إلخ.

من أجل التَّحَقُّق من هذه الفرضية، ينبغي مقارنة كيف صاغ مُنتجو الأفكار (الفلاسفة، والعلماء، والأنبياء، والكُتَّاب) أعمالهم في عصور وأمكنة أخرى: العصر الذهبي الإسلامي مثلًا.

Hors-séries Sciences Humaines n°29 – janvier-février 2024

علم الفلسفة

14 Dec, 09:22


المُعجزة الإغريقية: بين الواقع والأسطورة

فرونسوا دورتيه

ترجمة يوسف اسحيردة

علم الفلسفة

12 Dec, 13:51


الفلسفة هي حُب الحكمة؛ فإذا كنت تعتقد أنك تحب الحكمة، فإن الفلسفة هي المجال الذي يُفترض أن تدرسه. ولكن ما هي الحكمة التي تُعلِّمُنا إياها الفلسفة؟ بالنسبة إلى سقراط، وتقريبًا كل الفلاسفة القدماء الذين جاءوا من بعده، الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة تتعلق بما قد يعني عيش حياة بشرية طيبة. وكان بديهيًّا في معظم الأفكار الفلسفية القديمة أن الحياة البشرية الطيبة تكون أيضًا حياة سعيدة. وفي إطار هذا التصوُّر — الذي يوجد تعبيرٌ واضحٌ عنه لدى أرسطو، ولكنه يكون مفترضًا من قِبل المدارس الهلينستية اللاحقة مثل المدرسة الرواقية — فإن الفلسفة تسمح بتحقيق أعلى درجة من السعادة، وهي حياة التأمل الزاهد؛ ومن ثَمَّ فإن الفلسفة هي الحياة التأملية، الحياة التي توضع قيد الاختبار والفحص، ويصير الافتراض أن الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش. فينبغي أن تشكِّل الفلسفة البشر، لا أن تعلِّمهم وتوجِّههم فحسب.
يمكن للمرء أن يتصوَّر كتابًا حول الفلسفة القارية، يبدأ تاريخ هذا الموضوع في حوالي عام ١٩٠٠ بنشر كتاب هوسرل «مباحث منطقية»، وهو ما يُطلِق عليه هايدجر العملَ «الثوري»، الذي بدأ التقليد الذي يُسمَّى الفنومينولوجيا. ويمتلك هذا النهج ميزةَ تذكيرِ القراء بأن التقسيم المعاصر (أو في الواقع، الفجوة الواسعة) المتمثِّل في الفلسفة التحليلية والقارية، هو في جوهره تقسيمٌ بين التقاليد المستوحاة من الفلسفة الثورية في المنطق واللغة لِجوتلوب فريجه — مثل الأعمال المبكرة لِفيتجنشتاين، والوضعية المنطقية لحلقة فيينا وفلسفة اللغة الأنجلو أمريكية — وبين تلك المستمَدة من المواجهة النقدية مع فنومينولوجيا هوسرل، مثل الوجودية والتفكيكية. وكان يوجد تواصُل كبير بين فريجه وهوسرل، وفي عام ١٨٩٤ نشر فريجه مراجعةً نقدية متعمقة لكتاب هوسرل الأول؛ «فلسفة علم الحساب» (١٨٩١)، أدَّتْ إلى تغيُّر كبير في وجهات نظر هوسرل حيال العلاقة بين المنطق وعلم النفس؛ بمعنى أن المنطق لا يمكن — كما كان يعتقد هوسرل في البداية — أن يُرَد إلى علم النفس.

ما هي الفلسفة القارية؟

الفلسفة القارية هي اسم لفترة تمتد لمائتَيْ سنة في تاريخ الفلسفة، تبدأ بنشر الفلسفة النقدية لِكانط في ثمانينيات القرن الثامن عشر. وحفَّز ذلك ظهورَ الحركات الفلسفية الرئيسية التالية:
(١) المثالية والرومانسية الألمانية وما تلاها (فيشته، وَشيلينج، وَهيجل، وَشليجل، وَنوفاليس، وَشلايرماخر، وَشوبنهاور).
(٢) نقد الميتافيزيقا (أو ما وراء الطبيعة) و«سادة الشك» (فيورباخ، وَماركس، وَنيتشه، وَفرويد، وَبرجسون).
(٣) الفلسفة الوجودية والفنومينولوجيا الألمانية (هوسرل، وَماكس شيلر، وَكارل ياسبرس، وَهايدجر).
(٤) الفنومينولوجيا، والهيجلية، واللاهيجلية الفرنسية (كوجيف، وَسارتر، وَميرلو-بونتي، وَليفيناس، وَباتاي، وَدي بوفوار).
(٥) التأويلية (ديلتاي، وَجادامير، وَريكور).
(٦) الماركسية الغربية ومدرسة فرانكفورت (لوكاتش، وَبنجامين، وَهوركهايمر، وَأدورنو، وَماركوزه، وَهابرماس).
(٧) البنيوية الفرنسية (ليفي-شتراوس، وَلاكان، وَألتوسير)، وما بعد البنيوية (فوكو، وَدريدا، وَدولوز)، وما بعد الحداثة (ليوتار، وَبودريار)، والنسوية (إيريجاري، وَكريستيفا).
تعمل الفلسفة القارية كنوع من الأرشيف النصي الكبير لمشكلاتٍ فلسفية محددة السياق؛ فأية مشكلة فلسفية معاصرة مهمة سوف تؤدي بالمرء إلى استدعاء نصٍّ ومجموعةٍ من المفاهيم من هذا الأرشيف. وطريقة مضي المرء قدمًا من الناحية الفلسفية تكون بالنظر إلى الماضي بطريقة جديدة.

بعبارة أخرى، بالنسبة إلى الفلسفة القارية، فإن المشاكل الفلسفية لا تسقط من السماء جاهزة، ولا يمكن التعامل معها كعناصر في خيال لا تاريخي من «الفلسفة الدائمة». وقراءة المرء لنص فلسفي كلاسيكي من هذا التقليد لا تأخذ شكلَ نقاشٍ على العشاء في الجامعة، بقدر ما تكون في صورة اجتماع مع شخص غريب من أرض بعيدة بدأ المرء للتوِّ فهمَ لغته، وبصعوبة. أتذكر — بحرج شديد — تقديمَ بحثٍ إلى بعض الفلاسفة في إحدى الجامعات البريطانية الكبرى بعد بداية مسيرتي الأكاديمية بقليل، وعلى العشاء، وبعد تحمُّل حديثي الطويل حول تغيُّر معنى مفهوم الذات من أرسطو إلى ديكارت إلى هايدجر إلى دريدا، سُئِلت: «لماذا لا يمكنني قراءة أعمال ديكارت كما لو كنتُ أتناول العشاء معه، تمامًا مثلما أتناول العشاء معك؟» أجبتُ بأن ديكارت تُوفِّي قبل ٣٥٠ عامًا، بعد أن رأى رأي العين الفوضى الشديدة التي نتجتْ عن حرب الثلاثين عامًا، وأنه كتب باللاتينية والفرنسية، وأنه استخدم أجناسًا أدبية معينة مثل مقال السيرة الذاتية (في عمله «مقال عن المنهج»)، والممارسة الروحية (في عمله «تأمُّلات في الفلسفة الأولى»)؛ ولذلك، استنتجت أنه لا يمكن للمرء أن يطَّلِع ببساطة على كل تلك العوامل ليقرِّر ما إذا كانت حججه صحيحة أم لا.

علم الفلسفة

12 Dec, 13:51


ولا حاجة بي إلى قول إنني فشلت في إقناع مُحدثي وغيره من الضيوف على العشاء، ولكن المشهد مع ذلك مفيد في توضيح وجود اختلافات بيننا في النهج الفلسفي.

وهذا يعني أن المشاكل الفلسفية — نصيًّا وسياقيًّا — «متجذرةٌ»، وفي الوقت نفسه «منفصلةٌ». وهذا المزيج من التجذر والانفصال ربما هو ما يفسِّر السبب في أن المشاكلَ التي تبدو هامشيةً، الخاصةَ بالترجمة واللغة والقراءة وفهم النص والتفسير وتأويل التاريخ، لها هذه الأهمية الكبيرة في التقليد القاري. بطبيعة الحال، هذا غالبًا ما يترك المرء معرَّضًا للتهمة الغريبة بأنه يسلك مسلكًا «أدبيًّا» بدلًا من المسلك «الفلسفي»، كما لو كانت افتراضاتُ الفيلسوف لها علاقة شفَّافة ودون وساطة بالتجربة؛ وهي الرغبة التي يبدو أنها تقوم على ما سمَّاه ويلفريد سيلرز «وَهْم المعرفة الموهوبة»، وهي فكرة أن المعرفة الفلسفية تقوم على نحو واضح وصريح على الأمور التي نكون على دراية بها على نحوٍ مباشِر أو تكون «مباشرةً أمام العقل».

يمكن القول إن المسألة المحورية للفلسفة في التقليد القاري هي مسألة الممارسة؛ وهذا يعني حياتنا الراسخة تاريخيًّا وثقافيًّا كأنفس متناهية في عالَم من صنع أيدينا. وهذه المسألة هي التي تدفع الفلسفة نحو نقد الأوضاع الحالية؛ حيث إن الظروف لا تؤدي للحرية، ونحو المطلب التحرُّري المتمثِّل في تغيير وضع الأمور؛ الحاجة لإحداث تحوُّل في ممارسة الفلسفة أو الفن أو التفكير أو السياسة. ولعل هذه الحقيقة تبدأ في شرح ميزة للفلسفة في التقليد القاري ربما تكون محيِّرة، وهي موضوع «الأزمة» الذي يجري — بأشكال مختلفة — مثل نهر جوفي عبر تقاليد المثالية الألمانية والماركسية والفنومينولوجيا والتحليل النفسي ومدرسة فرانكفورت. ويمكن العثور على فكر الأزمة هذا أيضًا في مناطق ذاتية الوعي ثقافيًّا وسياسيًّا على نحوٍ أكبر في التقليد التحليلي؛ على سبيل المثال: يتضح هذا الفكر في البيان الرسمي الرائع الذي ظهر في عام ١٩٢٩ لحلقة فيينا، والذي سأناقشه في الفصل السادس. ويدعو كاتبو هذا البيان إلى تصوُّر علمي للعالم والتغلب على الميتافيزيقا، معتبرين ذلك عنصرًا أساسيًّا في التحول الديمقراطي الاجتماعي الراديكالي للمجتمع.

في جزء كبير من التقليد القاري، تُعَدُّ الفلسفة وسيلةً لنقد الحاضر، لتعزيز وعي تأملي للحاضر على أنه في أزمة، سواء أكان يُعبَّر عن ذلك كأزمة إيمان في عالم برجوازي متحفِّظ (عند كيركجارد)، أم أزمة العلوم الأوروبية (عند هوسرل)، أم أزمة العلوم الإنسانية (عند فوكو)، أم أزمة العدمية (عند نيتشه)، أم أزمة نسيان الكينونة (عند هايدجر)، أم أزمة المجتمع البرجوازي الرأسمالي (عند ماركس)، أم أزمة هيمنة العقلانية الأداتية وسيطرة الطبيعة (عند أدورنو وَماكس هوركهايمر)، أم أيًّا كان التعبير عنها. وتؤدِّي الفلسفة باعتبارها تأمُّلًا ثاقبًا حيال التاريخ والثقافة والمجتمع إلى إيقاظ الوعي النقدي؛ ما يسمِّيه هوسرل تنشيطَ تقليدٍ مترسبٍ. وبتوسيع هذا أكثر قليلًا، فإن مسئولية الفيلسوف — بصياغة هوسرل «خادم البشرية» — هي «إنتاج» الأزمة؛ ممَّا يؤدِّي إلى إرباك التراكم البطيء للرواسب القامعة للتقليد من أجل نقد تاريخي منشط، سيكون أُفُقه عالَمَ حياةٍ متحرِّرًا. والفلسفة في التقليد القاري لديها هدف تحرُّري. وبالنسبة إلى الفيلسوف، الأزمة الحقيقية ستكون الموقف الذي لا يتم فيه الوعي بوجود أزمة؛ وفي مثل هذا العالم، لن يكون للفلسفة أيُّ هدف بخلاف أن تكون نوعًا من الفضول التاريخي أو الإلهاء الفكري، أو وسيلةً فنية لشحذ المنطق السليم لدى الفرد.

القصة التي حاولتُ سردها في هذا الكتاب هي كيف يمكن ربط هذا التمييز بصورة تاريخية أكثر إثارةً للاهتمام؛ حيث يمكن رؤية الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية كتعبيرين حيويين لمشكلة «الثقافتين»: التفسير العلمي مقابل التأويل الإنساني، والمنهج التجريبي العلمي المتبع لِبنثام وَكارناب في مقابل المنهج التأويلي الرومانسي لِكولريدج وَهايدجر. وكان زعمي أنه عندما لا يُفهَم هذا الوضع الثقافي على نحوٍ صحيح، فإننا نخاطر بأن نعلَق في مواجَهةٍ غير مثمِرة — وضارة في الواقع — بين العلموية من جهة، والظلامية من جهة أخرى. وللفهم الصحيح لمشكلة الثقافتين في الفلسفة، علينا أن نفهم المسارين المتباينين اللذين اتخذتهما الفلسفة بعد كانط، والمشاكل المختلفة التي اكتنفت ذلك. لقد حاولتُ أن أرسم مخططًا للجانب القاري للقصة، من خلال التركيز على موضوع أزمة التفكير بعد كانط ووصف إشكالية العدمية التي تثيرها. وآمل أنه بمجرد أن تصبح هذه القصة واضحة ونكون قد تعلَّمنا التغلُّب على أي مذهبية باقية، فإننا قد نبدأ في المضي قدمًا على المستوى الفلسفي لمواجهة القضايا ذات الاهتمام الفكري العميق والدائم، مثل تلك المتعلقة بالفجوة بين المعرفة والحكمة.

علم الفلسفة

12 Dec, 13:51


وأخيرًا، هذا هو ما أريد أن أقدمه على أنه وعد الفلسفة، وعد يمكن أن نأمل في الحفاظ عليه: أن الفلسفة قد تشكِّل جزءًا أساسيًّا في حياة الثقافة، في كيفية تحاور ثقافةٍ ما مع نفسها والثقافات الأخرى. الفلسفة هي تلك اللحظة من التأمُّل النقدي في سياق محدد؛ حيث يُدعَى البشر إلى تحليل العالَم الذي يجدون أنفسهم فيه، والتشكُّك فيما يُرَى أنه يقع ضمن الحس السليم في المجتمع المحدد الذي يعيشون فيه، من خلال طرح أسئلة في صورة عامة بأكبر قدر: «ما هو العدل؟»، «ما هو الحب؟»، «ما معنى الحياة؟» وبصياغة أكثر بساطة، يتمثَّل الأمل في أن يكون لوجهات النظر المختلفة التي يمكن أن تولِّدها هذه الأسئلة — من خلال الدراسة والمناقشات — تأثيرٌ تعليمي وتحريري. وكما أشار ستانلي كافيل، الفلسفة هي التعليم الذي يناله البالغون. ولكن هذا ليس جديدًا؛ فهو وصف للفلسفة ما كان ليكون مفاجئًا بالنسبة إلى سقراط.

بقلم سايمون كريتشلي

علم الفلسفة

11 Dec, 15:02


مقــال: #الخطاب و #الحقيقة: إشكالية #الباريسيا (1) (المحاضرة الأولى والثانية/ جامعة كاليفورنيا- بيركلي)
بقلــم: #ميشيل_فوكو
ترجمة: #حسام_جاسم

2,327

subscribers

126

photos

3

videos