وقف على الجرف ينظر للسماء الرصاصية و قد توارت شمسها خلف الضباب خوفاً، إنها المرة الأخيرة التي سيرى فيها العالم ينبسط أمامه كأنه لا يخفي شيء و يفتح له ذراعيه مستقبلاً إياه بدمعة حزينة، دقائق أخرى بات المطر يغطي رؤيته بعباءة فضية تعكس نظراته الهائمة.
أغلق عينيه و ترك نفسه يندمج مع المشهد حوله، و خطا إلى الامام. خطوة، اثنتان، ثلاث، ثم إلى الفراغ..
امتد الزمن كلحن من نوتة غير منتهية بينما يقترب من الأرض شيئاً فشيء، شعر بالبرد فالخوف فالحنين، فتح عينيه و قبل أن يكسر القاع بسنتيمترات معدودة رآها..
النافذة مفتوحة و السيارة تعدو بخفة على الطريق السريع، الهواء يداعب الشجر بينما الشمس تعبر بخيوطها الذهبية من بين أوراقه فتستلقي على العشب. نظر إليها من خلف المقود و قد ارتسمت على وجهه ابتسامة دافئة، و كأنه يراها بحماس المرة الأولى. التفتت إليه بدورها و هي تثرثر بسعادة، أدارت المذياع فانطلقت أغنية دمدما كلماتها سوية و تشابكت أيديهما على وقع الموسيقى فتمايلت بشغف، بتلك البساطة و الرقة، و كأن اللحظة هذه لن تنتهي أبداً، و كأن الطريق جعل من اللانهاية درباً يسير عليه يسرق الوقت من الساعات فلا يقطعه سيف الختام..
لكنه الآن قد قُطع بشفرات الواقع، و باتت تلك الرؤية بعيدة بقدر ما هي قريبة. مع بلوغه الأرض تشتتت رؤياه و غشى غبار ضحكاتها عيناه، فتح ذراعيه بدوره ليودع العالم، بعناق سرمدي و كل الكون يعزف حداده على ما فُقد من أحلام.. تمتم بأنفاسه المنقطعة رسالته للريح: ما ذهبتُ الا لكي أعود، سأجدكِ مرة أخرى لأكتب مصيرنا بحبر لا يموت، سأعود مع الشمس التي لا تنطفئ، و مع القمر أشق درب السواد أملاً أحيي به عالم الأموات فأحيا مع أمنية جديدة مع وجود أخف ألماً.
Luna Dann
23/3/2024
3:32 am
#بين_الواقع_والخيال