الصفحة الرسمية للشيخ أبي بصير الطرطوسي

من النَّاسِ من لا يتَّسعُ قَلبُه إلا لمحبَّةِ نَفَرٍ أو بضعَةِ أنفَارٍ، ثم بعدَ ذلك تَضيقُ عنده منَافِذُ ومَسَالِكُ المحَبَّةِ .. والمرءُ كلما اتَّسعَ قلبُه لمحبَّةِ أكبر قَدْرٍ من النَّاسِ، كان أقربَ لنهْجِ النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم في المحبَّةِ؛ الذي اتَّسعَ قلبُه لمحبَّةِ جميعِ المؤمنِين؛ مَن جاءَ قَبْلَه، ومَن عَاصَرَه، ومَن يَأتي بَعدَه، وإلى قِيامِ السَّاعَةِ .. كما اتَّسَعَ قَلبُه رَحمةً للبشَريَّةِ جمعَاء .. يحبُّ خَيرَ الهِدَايَةِ للنَّاسِ جميعاً!

المحبَّةُ؛ احتِرَامُ المحْبُوبِ، والاهتِمَامُ بِه، وليسَ ورَاءَ ذلك من المَحَبَّةِ إلَّا زَعْم اللِّسَانِ!

البَغْضَاءُ؛ لا يحتَاجُ إلى مَهَارَةٍ وعِلْمٍ، يخلافِ المحبَّةِ؛ فهي تحتَاجُ إلى مهَارَةٍ، وعِلْمٍ.

المحَبَّةُ؛ شَجَرَةٌ تحتَاجُ إلى مَن يَتَعَاهَدُها، والبَغضَاءُ فَأسُها!

المحبَّةُ غايةٌ، والبغضَاءُ وسيلَةٌ لتحقيقِ غايَةِ المحبَّةِ، وخلافُ ذلك؛ فالبَغْضَاءُ مَذمُومٌ بالنَّقْلِ والعَقْلِ.

اللهُ وَحْده المحبُوبُ لِذَاتِهِ، ومَا سِواهُ محبُوبٌ لغَيرِه.

يقول ابنُ القيّم في كتَابِه روضَةُ المحبِّين:" العالَم العُلْوي، والسُّفْلي إنَّما وجِدَ بالمحبَّةِ ولأجْلِها، وأنَّ حرَكاتِ الأفْلاكِ، والشَّمسِ والقَمَرِ والنجُوم، وحَرَكات الملائكة والحيوانات، وحركَةَ كُلِّ متحرِّكٍ إنَّما وُجِدَت بسبَبِ الحُبِّ "ا- هـ. قلت: من كان لا يملكُ في نفسِه ومشروعِه إلَّا الحِقدَ والكرَاهِيةَ لكلِّ ما هو سِواه، فهو يَسيرُ في الاتجاهِ المعَاكِسِ لحركَةِ الكَوْنِ .. وأنَّى لمثلِه أن يُكتَب له، ولمشروعِه النَّجاح والتَّوفِيق.

من كان صَادِقَ الوَلاءِ للهِ، ولرسُولِه، وللمؤمِنين، لا يضرُّه بعد ذلك اجتهَادٌ مُتشَابهٌ، أو خَاطِئ.

[ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ]؛ هؤلاءِ الذين يُؤذُون المؤمنِين والمؤمنَات، ليسُوا مِن المؤمنِين والمؤمنَات، إنما هم مِن الكافِرين، والمنافقِين، والفَاسِقِين؛ مَرضَى القُلُوب .. يُؤذُون المؤمنِين والمؤمنات لإيمانِهم، ولأنَّهم من المؤمنِين والمؤمنَات، فتُسيئهم الحسنَةُ التي تُصيبُ المؤمنِين، وتَسرُّهم السيئةُ التي تُصيب المؤمنِين، [ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ]؛ بغيرِ ما قالُوا، وما فَعلُوا .. يُشهِّرُون بهم بين الخلائِقِ، ويَنسبُون إليهم أمُوراً لم يفعلُوها، ولم يقولُوا بها، أو يَزيدُون عمَّا صدَر عنهم مِن قَولٍ وفِعل؛ فيُضَخِّمُون الأشياءَ، ويجعلُون مِن الحبَّةِ قبَّة؛ بُغيةَ التَّشهيرِ، والأذَى، [ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ]الأحزاب:58. وهؤلاء قد وقَعُوا في إثمٍ عظيمٍ؛ إثمُ الكذِبِ، والزُّورِ، والبُهتانِ، والظُّلمِ .. هذا فِيمَن يُؤذِي المؤمنين فِيما لم يَصدُرْ عنهم مِن الخطَأ .. فكيف بمن يُؤذِيهم، ويُشهِّر بهم لإيمانِهم، ولحسناتِهم، وجهَادِهم، ولأنَّهم يَأمرُون بالمعرُوفِ، ويَنهون عن المنكرِ .. فكيفَ بالذي يُؤذِي كبارَ أئمة العِلمِ؛ الذين شَهدَ لهم الناسُ بالعلمِ، والخيريَّةِ، والفَضْلِ .. ويقولُ فيهم ما ليسَ فِيهم .. لَا شكَّ أنَّه أشَد كذباً، وزُوراً، وبُهتاناً، وأشَد إثماً وعذاباً يومَ القِيامة .. وفي الحديث القُدسي:" إنَّ اللهَ قالَ: مَن عَادَى لي وليَّاً فقَد آذَنْتُهُ بالحَرْبِ "البخاري. وكان مِن السَّلَفِ مَن يَقُول:" إيَّاكُم وأذَى المؤمن؛ فإنَّ اللهَ يحوطُه، ويَغضَبُ لَه ".

مِن آثَارِ فِعْلِ المنكَرِ؛ الصَّدُّ عن إنكَارِ المنْكَرِ.

أمواتُ الأحيَاءِ؛ هم الذين يَرونَ المنكَرَ مَعرُوفاً، والمعرُوفَ مُنكراً .. فهؤلاء الذين يُقالُ عَنهم: لا حَيَاةَ لمن تُنَادِي .. ويُقالُ عَنهم: أموَاتُ الأحْيَاءِ!

[ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ]الأنبياء:79. فيه أنَّ الصَّغِيرَ يُمكنُ أن يَفهمَ مَسألةً أو مَسائلَ لم يَفهَمْها مَن هو أكبرُ مِنه .. ولَا يَعني ذلك أن الصَّغيرَ أَعلمُ، وأفضَلُ مِن الكَبِير.

[ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ]البقرة:197. مَا بعدَ الموت ـ يا عَبدَ الله ـ يَنتظرُكَ سَفَرٌ طَويلٌ، طَويل؛ له بِدَايَة، وليسَ له نِهايَة .. وإنَّه لَآتٍ لَا محَالَة .. فهَلَّا أعدَدْتَ له الزَّادَ الذي يُنَاسِبُه، والذي تتَقوَّى به على طُولِ سَفَرِك؛ ليسَ زَاد الطَّعَامِ، والشَّرَابِ .. ولَا زَاد الدِّرهَم والدِّينَار .. لَا .. وإنما زَادُ التَّقْوَى!

مَن يتَعامَلُ معَ الأفكارِ الجميلَةِ، النَّافعة، بطريقةٍ انتهازيَّة، نفعيَّةٍ؛ إن درّت عليه نفعَاً قَبِل بها، وأَقبَلَ عليها، وإن لم تدر عليه نفْعاً عاجلاً تخلَّى عنها، واستكثرَ عليها القَليلَ ممَّا يَملِك، وكأنَّها لا تَعنيه .. فهذا فيه شُعبةٌ مِن نِفاقٍ، ليسَ بمثلِه تحيَى الأفكارُ والمبَادِئ العظيمَةِ، وتُقام المشاريعُ النَّهضَويَّة الكبيرَة.

مهما كانت الفِكرَةُ قويَّةً، وجميلَةً، إن لم تُصَادِفْ قلباً يُؤمِنُ بها، ويُخْلِصُ لها، يَرويها مِن دَمِهِ، وعَرَقِه .. لن ترى النُّورَ، ولن يُكتَب لها الحيَاة!

الأفكارُ كالأشجَارِ؛ تَظلُّ يابِسةً ذَابِلَةً .. خيرُها مُنكَفِئٌ على ذاتِها .. إلى أن تجدَ مَن يحتَضِنها؛ فيَرويها، ويُحسِنُ رعايتَها.

الأفكارُ الجميلةُ النَّافِعة، عطاؤها عَظيمٌ .. لكن لا يمكنُ أن تُعطِيكَ شَيئاً من خَيرِها قبلَ أن تُعطيَها أنت أولاً مِن نَفسِكَ، ومالِكَ، ووقْتِك .. وعلى قَدْرِ ما تَعطِيها فهي تُعطيكَ.

[ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا ]؛ بالحججِ، والآياتِ البيِّناتِ، [ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ ]؛ أخرجْهم مِن ظلُمات الشِّركِ، [ إِلَى النُّورِ ]؛ إلى نورِ الإيمانِ والتَّوحِيد، [ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ ]إبراهيم:5. ذَكِّرهُم بالنِّعَم الكثيرَةِ التي أنعمَ اللهُ بها عليهم، والتي مِنها أنه تعالى أنجاهُم مِن ظُلمِ عدوِّهم الطَّاغِية فرعون، وفَلَقَ لهم البحرَ؛ فأنجاهُم، وأغرقَ فرعُون الطاغُوت، وجُندَه .. فإنه أدْعَى لهم لأن يَشكرُوا اللهَ، وأن يُطيعُوه ولا يَعصُوه .. فعادَةُ الناسِ ـ وللأسف ـ بعد انكشَافِ الغمَّة، ورَفع الشدَّةِ والبَلاءِ، وحلُول السَّعَةِ، والرَّخاءِ .. أنهم يَدخلون في مرحلَةِ بطَرِ العيش، ومرحلةِ النسيانِ مَا كان مِنهم، وما كان مِن نِعَمِ اللهِ عليهم أيَّامَ الشدَّةِ، والحاجَةِ .. فيحتَاجُون إلى التَّذكِير!

مَهْما كَثُرَت الآلَامُ، والمِحَن، لَا ينْبَغِي الانصِرَافُ عَنِ الكِتَابِ، والقَلَم.

[ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ ]الرعد:13. " وَيُرْسِلُ "؛ صِيغةُ مُضَارع؛ تُفيد أن الإرسَالَ مستمرٌّ في الحاضِرِ، والمستقبَلِ؛ يرسلها اللهُ على مَن يَشَاء، ووقتما يَشَاء .. والإرسالُ لم يتوقَّف في زَمَنٍ دُونَ زَمَن .. ألم نرَ ذلك بأعيننا؛ كيف أن الصواعِقَ تُرسَل، فتُصيبُ أشخاصَاً بأعيانِهم؛ في صُدُورهم، ورقَابِهم، ورؤوسِهم، فتحرقُهم، وتَقتُلُهم .. أليسَ في استمرارِ هذه الظاهرةِ الكونيَّةِ، كما أخبرَ القُرآنُ عنها دَليلاً على أنَّ اللهَ حقٌّ .. وأن القُرآنَ الكريم حقٌّ .. وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حَقٌّ ...؟!

[ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ]؛ الشِّركيَّة، [ فَصَدَّهُمْ ]؛ بتزيينِه لشركِهِم، [ عَنِ السَّبِيلِ ]؛ عن التَّوحِيد، [ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ]النمل:24. لشدَّةِ تزيين الشيطان لباطلِهم وشركِهم، وتحسينِه لهم .. فإنهم لا يَهتدُون إلى الحقِّ، ولا إلى عبادَة اللهِ وحدَه .. فإنَّهم يَرون الحقَّ باطِلاً، والباطِلَ حقاً!

ثَلاثةٌ مَن لم يتَّعِظْ بهنَّ لا يتَّعِظُ بشَيءٍ، ولو تنَاطَحَت أمامَ عَينَيه الجِبَالُ: القُرآنُ، والشَّيْبُ، والموتُ!

[ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ]؛ أيما جِدَالٍ في الباطِلِ؛ يُحقُّ باطلاً، ويُبطِلُ حقَّاً .. يُحلُّ حرَاماً، ويحرمُ حَلالاً .. يَنصرُ ظَالماً، ويَخذلُ مظلوماً .. هو ممَّا يُوحي به شياطينُ الجنِّ، إلى إخوانِهم من شيَاطينِ الإنسِ، ليُجادِلُوا المؤمنِين، [ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ]؛ فيما يجادلوُكم به، وتَابعتمُوهم عليه، ورددتم حقَّ التَّحليلِ، والتَّحريمِ، والتَّحسِين، والتَّقبيحِ لغيرِ اللهِ، [ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ]الأنعام:121. بطاعَتِكُم لهم؛ فقد أشركتُم بعدَ إيمانِكُم، واتخذتم آلهةً ومشرِّعين معَ اللهِ .. ولَا يُفلحُ المشركُون .. هذه النتيجَةُ ـ وهي الوقوع في الشركِ والكُفرِ ـ هي التي يَسعَى إليها الشياطينُ مِن وراءِ هذا الجدَالِ، وهو مَا يُريدونَه، وليسَ إرادَةِ الخيرِ لكُم .. وسَواءٌ أكلتم مَا حَرَّم اللهُ، أم لم تَأكلُوا!

[ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ]طه:120. هذه الشجرةُ كأيِّ شجرةٍ؛ ليسَ فيها مَا يُميِّزُها عن أشجارِ الجنَّةِ، سوى أنَّها يُمنَع مِن الأَكلِ مِنها .. ففي الجنَّةِ مِن الأشجارِ، والثمارِ، والخيرَاتِ ما هو خَير مِنها بكثيرٍ .. وبالتَّالي لَا يمكن أن تجذبَ آدمَ إليها معَ نَهي الخَالق له عن الأكلِ مِنها .. والشيطانُ الرَّجيمُ ـ عَدُو آدَم، وعدُو ذُريَّته مِن بعدِه ـ أدرَك ذَلك .. فأخَذَ يُزينُ الشجرةَ لآدَم، ويَصفُها بخصَائِص، وصِفَاتٍ ليسَت فيها؛ تجعَلُ آدَمَ مَشدُوداً للأكلِ مِنها .. فوصَفَها ـ وهو كَذُوب ـ بأن من أكلَ مِن هذه الشجرةِ يُكتَبُ له الخُلدُ؛ فلا يموتُ أبَداً، ويُعطَى مُلْكٌ دَائمٌ لا يَنقضِي أبَداً .. وهذا مَعنى تَستشوفُه النُّفُوسُ، وتَرغبُه .. فضَعُفَ آدَمُ؛ فصَدَّقَ عَدُوَّه الكَذُوب، وأكلَ مِنها .. وهكَذا حَالُ الشَّيطانِ معَ كلِّ باطلٍ ـ وإلى يومِ القِيامَةِ ـ ليجعلَه رائجاً، ومُستسَاغاً، وحتَّى لَا يبُور، يُضفِي عليه ألقَابَ وأوصَافَ المدِيح .. ويَصفُه بمَا ليسَ فِيه، ويُسميه بأسماءٍ تَستحسنُها الآذَانُ والأذْوَاقُ!

ليس بين العَبْدِ ورَبِّه نَسَبٌ ولَا رَحِم؛ إنَّما هي الأَعْمالُ؛ فمَن عَمِلَ خَيراً، فليَحْمَد اللهَ، ومَن عمل شَرَّاً، فلا يَلُومَنَّ إلا نفْسَه.

للسِّلمِ خِطَابُه، وللحَربِ خِطَابُه .. وللهَدْمِ خِطًابُه، وللبِناءِ خِطَابُه .. ومَا قَبلَ النَّصْرِ، ليسَ كما بَعدَ النَّصْرِ والفَتْحِ .. ولكلِّ مرحلَةٍ خِطَابُها الذي يُنَاسِبُها!