قِلَّةُ الاطِّلاعِ على كُتُبِ السَّلَفِ، والاكتفاءُ في طَلَبِ العِلمِ بآراءِ المُعاصِرينَ، مع التَّعصُّبِ الأعمى لهم، واعتبارِ أقوالِهم في مَنزلةِ الوَحْيِ المُنَزَّلِ، من أعظمِ صُوَرِ الخِذْلانِ والانتِكاسِ عن مَنهَجِ الحَقِّ. فالعِلمُ لا يُؤخذُ مِن أفواهِ قومٍ اختَزَلوا مَعانيَ الشَّريعةِ الغَرَّاءِ، ولا يُقاسُ بالتَّقليدِ دون تَدَبُّرٍ أو تَمحيصٍ، بل بالتأمُّلِ في نُصوصِ الوَحيِ وأقوالِ الأئمَّةِ، وتَمييزِ الحَقِّ مِن الباطِلِ، دون غُلُوٍّ أو تَحَزُّبٍ.
أفما أنعمَ اللهُ عليك بعَقلٍ تَزِنُ به بين المَواقِفِ، فتَعْرِفُ مَتَى تَجِبُ النُّصْرَةُ لأخيكَ وإن خَالَفَكَ في الفِقْهِ أو العَقيدةِ أو اجتِهادِ الدِّينِ؟ أَوَلَيسَ مِن تَمامِ الفَهمِ أن يُبنَى الوَلاءُ على الحَقِّ لا على الأَشخَاصِ؟ فإن كانَ المؤمنُ مأمورًا بأن يَنصُرَ أخاهُ ظالمًا أو مَظلومًا، أفلا ينبغي أن يكونَ أُفُقُ المسلمِ وَاسِعًا، بعيدًا عن مَهاوي التَّعَصُّبِ، فيَنتَصِرَ للمَظلومِ ويُرشدَ الظَّالِمَ، وإن خالفهُ في جُزئياتِ الدِّينِ؟
العاقِلُ لا يَحْجُبُه تَعَصُّبٌ، ولا يُقيِّدُه تَقلِيدٌ، ولا يَنغلِقُ على رَأيِ شيخٍ أو عالِمٍ مهما بَلَغَ عِلمُه، بل يَتَفَقَّهُ في أقوالِ السَّلَفِ والخَلَفِ، ويُميِّزُ بين المُحكَمِ والمُتَشابِه، والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ، مُتَجَنِّبًا فِتَنَ الهَوى والغُلُوَّ الذي أَهلَكَ أُمَمًا سالِفَةً. فالدِّينُ قائمٌ على ميزانِ العَدلِ والرَّحْمَةِ، لا على التَّعَصُّبِ لرأيٍ، ولا على تَقديمِ الهَوى في صُورةِ اجتِهاد. والعَقلُ السَّليمُ يَترفَّعُ أن يَكونَ عَبْدًا لرأيِ رَجُلٍ، بل يَستضيءُ بِنُورِ الوَحيِ، ويَتبَعُ الحَقَّ حيثُ كان، غيرَ مُستَوحِشٍ مِن قِلَّةِ السَّالكينَ، ولا مُتأثِّرٍ بكَثْرَةِ المُخَالِفينَ.
ولْيَعلَمْ مَن ألقى السَّمعَ وهو شَهِيدٌ، أنَّ الدِّينَ لا يُقامُ إلا بالامتِثالِ لأوامرِ اللهِ ورسولِه، لا بالتَّحَزُّبِ والتَّقليدِ، وأنَّ الخِذلانَ كُلَّ الخِذلانِ أن يَجْعَلَ المُسلِمُ هَواهُ دَليلَه، أو يَتَّخِذَ الرِّجالَ أربابًا مِن دونِ الله. فالطَّريقُ المُستَقيمُ واضِحٌ لمن أَخلَصَ نِيَّتَه للهِ، واتَّبَعَ الحِكْمَةَ التي قال فيها السَّلَفُ: "الحَقُّ لا يُعرَفُ بالرِّجالِ، ولكنِ اعرفِ الحَقَّ تَعرِفْ أهلَه".
وَاللَّهُ المُستَعان، وَهُوَ وَحْدَهُ الهادي إلى سَبِيلِ الرَّشاد.