وقد أقبل أسيد بن حضير رضي الله عنه فقال:
«ارفق به يا رسول الله، فواللَّه لقد جاء اللَّه بك، وإن قومه لينظمون له الخرَز، ما بقيت عليهم إلا خرَزة واحدة عند يوشع اليهودي ليتوجوه، فما يرى إلا قد سلبته مُلكه».
وقال ابنه عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم مثلما قال أسيد رضي الله عنه:
«يا رسول اللَّه! إن أبي كانت هذه البحيرة قد استقوا عليه ليتوجوه، فجاء اللَّه بك فوضعه ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به يذكرونه أمورا قد غلب اللَّه عليها».
فقد كان عبد الله بن أبي بن سلول أوشك أن يتوج على أهل المدينة ويكون حكمه نافذًا فيهم، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلبه هذا كله، فبقي في نفسه عليه شيء من حب السيادة والأمر والنهي ولم يلتفت للهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد من ذلك رفقاء الضلال الذين زادوا في تذكيره ما كان سيؤول إليه أمره في السيادة لو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك أمر هذه البلدة، حتى انتهى أمره إلى النفاق والشقاق.
فانظر كيف أن الكبر وحب السيادة يمنع المرء من الإذعان للحق، والرضوخ لحكمه، ولا يزال هذا الشيء مستحكمًا من قلب الرجل حتى يهلكه.
ولذلك ترى هذا الداء منتشرًا في الناس على كل شيء ملكوه ولو هينًا كجماعة تأشبوا حوله، أو ترؤس يطلبه، أو رأيًا يميل إليه مع جماعته، أو غيره. ومتى ما استشرى هذا الداء في نفس امرئ إلا أهلكها.
وانظر كيف أن الناس يزينون الباطل للمرء يكون له اليد عليهم، فلا يزالون يمدحون أمره ويحمدون منه الثبات على ما هو عليه ولو كان باطلًا ويأخذونه بالتأويل والعذر حتى يأبى أن يرجع عما هو عليه، ويتعصب للباطل وينأى عن الحق.
والله سبحانه يعصمنا من بلاء النفوس وغلوائها ومهلكاتها.