سألته وقد أحست بتخشبه لثانية فأجابها وهو لا يزال حائرًا:
_يدي لا ترتجف.
وانتهى، وضع ببنصرها الخاتم فسارع داوود بمد علبة تحوي الحلقة الفضية لها، وفي بساطة تناولتها لتضعها في بنصره فشعرت برجفة أخرى أشد من سابقتها..
وبلا إنذار، وعلى غير توقع منها.. ما أن انتهت حتى أمسك بيدها ثانية ليحتكرها بين يديه معًا!
نظرت له في تعجب غير مُدركة باضطراب يتعاظم ويتفاقم لديه..
كلما مرت عليه لحظة وهو يستشعر نعومة كفها أحس وكأنه ذهب في رحلة خالصة الحنان، واعدة بالدلال.. فلماذا أبدًا قد يرغب بالعودة؟!
_بالمناسبة، أنت تبدو اليوم أكثر جاذبية.
بلا مقدمات قالتها فنظر لها ورد بصوت أجش:
_وأنتِ..
وبتر عبارته فتطلعت له في تلهف، ليبتسم ويتابع غارقًا أكثر وأكثر في تأثيرها:
_أنتِ _كما كنتِ منذ رأيتكِ للمرة الأولى_ فارسة شجاعة أماطت اللثام عن قلبي ليهذي باسمها، حورية مغناج لا أطيق صبرًا حتى أتنعم بقربها، ومحاربة صبور تواصل هجومها عليّ رغم أنني بالفعل قد استسلمت لها!
فغرت شفتيها ذاهلة ورفعت كفها الحرة لتجس جبهته في قلق، ضحك فضحكت بالمثل ثم علقت في تعجب:
_الحُمى ثانية؟! ظننت أنني سأموت قبل أن أسمع منك عبارة دافئة واحدة أثناء وعيك!
وجمت ملامحه لوهلة ثم سألها في قلق:
_هل نال منكِ السأم بالفعل؟
لاحظت الانزعاج البادي في عينيه فأجابته بكل ما ملكت من قدرة على منحه الطمأنينة:
_أنا لن أسأم منك إلا إن قمت أنت بما يدفعني بعيدًا عنك.
زفر مطولًا وقد ارتخت حدة تعبيره، ثم عَقَّب عاتبًا:
_أتعنين مثلما فعلتِ عندما خاصمتِني لما يزيد عن الشهر؟
حركت كتفيها وأجابته في دلال:
_كنت أُنفذ رغبتك وحسب.
هز رأسه رفضًا وقال بنبرة طل منها الندم:
_لم أرغب يومًا بابتعادكِ عني حتى حين طلبته منكِ، غيابكِ هو آخر ما قد.. أستطيع تحمله.
والتردد الذي طال عبارته الأخيرة ساعدها على إدراك الصعوبة التي يعانيها حتى الآن..
إنه.. خائف!
لا يزال الفقد يُثير خوفه، لا تنفك فكرة رحيل من يحب تنزع منه الأمان وتلقيه من قمة اطمئنانه في سفح ذعره!
والنظرة المُلِحة في عينيه لم ترض بها، آلمها رجاؤه الصامت فعمدت إلى المزاح وقالت مُصطنعة الزهو:
_لهذا أَجْبَرْتَك على الزواج بي.
ونجحت.. حين زوى ما بين حاجبيه يرمقها في استنكار أدركت أنها نجحت، وتأكدت أكثر حين عَلَّق مُحتجًّا:
_أجبرتِني؟!
أومأت برأسها في إصرار فرنت ضحكته عالية لأول مرة، اختلجت دقات قلبها وامتثلت _مُتحمسة_ لانغماسها أكثر وأكثر في هواه!
ونظر لها مُجددًا ليتابع في استخفاف:
_حمقاء يا آيشا! باللحظة التي خبرتِني فيها عن نيتك بالسفر رجحت احتمال زواجكِ بشقيق صديقتكِ ذي القرط ذاك، لِذا كنت أفكر فعليًّا في الحل الذي سأمنعكِ به.
اتسعت ابتسامها وظهر انتشاؤها في نظراتها فسألته في فضول:
_تُرى هل توصلت إليه؟
التمعت عيناه ببريق مُفاجئ جعل الارتجاف من نصيبها هي هذه المرة، ثم في جدية، ودون أن يحيد عنها ببصره.. قال في خفوت، مُتمهلًا، يسمح لها بفاصل للاستيعاب بين الجملة والتي تليها كي تملأ خلاله ما لم يصرح به:
_وثيقة زواج وشيخ وشهود... كوخ بمنأى عن الجميع... تحيط به الجبال... تعلوه سماء رحبة... يطل على بحيرة... وأنا وأنتِ وحدنا هناك، و....
وبتر عبارته فاستأنفت سحب أنفاسها، ثم استحثته في لهفة:
_لماذا توقفت؟! و.. ماذا؟
لم يُجبها مُكتفيًا بابتسامة مُستمتعة فيما احتل المكر عينيه كما نبضت نظراته بالحياة، فتابعت تُشاكِسه:
_خبرني يا مراد، ربما تتفق نيتك مع الصورة بمخيلتي.
ضحك مُجددًا وداعب باطن كفها بإحدى إبهاميه، ثم علق مُفتعلًا اللوم:
_قليل من الحياء يا آيشا، الجميع ينظر إلينا.
_ما لي والجميع؟! أنا زوجتك أنت! وما لي والحياء؟! أنا بالفعل زوجتك!
وعبارتها الأخيرة نزلت على أذنيه كأعذب ما سمع يومًا..
هي عائشة.. زوجته، حبيبته، شريكة أحلامه، وصاحبة قلبه..
هي آيشا.. ابنة عمه التي نسي ذكراها بمرور الأعوام ليُفاجئ بها حية نابضة، رجعت وأهدته رغبة أخرى في السعادة!
مال على أذنها وأغمض عينيه حين لمست إحدى خصلاتها خشونة وجنته، ثم همس مُتعهدًا:
_فيما بعد، قريبًا سأجعل الصورة ملموسة، محسوسة، حقيقية.. تلتصق بذهنكِ وقلبكِ إلى الأبد."
#لا_تردي_ناشدا
#سعاد_محمد