أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين @mouna_latifi_nassreddine Channel on Telegram

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

@mouna_latifi_nassreddine


هنا كل ما يخص أعمال وجديد الكاتبة منى لطيفي نصر الدين🌷🌷

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين (Arabic)

أهلاً بكم في قناة 'أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين' على تطبيق تليجرام! هذه القناة مخصصة لكل محبي أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين وتضم كل ما يتعلق بأحدث أعمالها وأخبارها. ستجد هنا مقتطفات من كتبها، تحليلات عن أسلوبها الأدبي، ومقابلات حصرية تكشف عن خلف الكواليس. منى لطيفي نصر الدين هي كاتبة موهوبة ومشهورة بأسلوبها الفريد وقدرتها على جذب القراء بقصصها الروائية الممتعة. إذا كنت من عشاق أدبها، فهذه القناة هي المكان المثالي لك لتبقى على اطلاع دائم بكل جديدها وتفاعل مع محتواها. انضم إلينا اليوم وكن جزءًا من هذه الجماعة الاستثنائية من محبي أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين! 🌷🌷

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


الحمد الله أنه هدأ رغم الحزن في نبرة صوته عبر الأثير:
- الحمد لله يا محسن .... الحمد لله.... أبلغ الرسالة كما أخبرتك بها ....ففيها مصالح أخرى ليس فقط لأختي.... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ماذا يحدث؟ هل حقا بهيج باع نفسه للشيطان؟ كنت أعلم بأنه ابتعد كثيرا وأن الشيطان يشده لحزبه لكن لم أفكر في السحر، السحر يا بهيج؟! الكفر يا بهيج؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا سبب تكدر خاطري وقلقي على بهيج وأخت يوسف بالذات! ماذا أفعل؟
- أين أنت يا نبيه؟
إنه ما يزال هنا، يجب أن يأخذني إلى جرير فبهيج لا أعرف له أرضا وهو الذي سيجده بإذن الله، لذا أمسكت بكف نبيه وقمتُ مع بينما أطلب منه بتمهل علّه يفهمني بسرعة:
- منزل جرير... خذني إلى منزل جرير.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


لم أذكر شيئا بعدها سوى أنني استيقظتُ لأجد نفسي عند جدتي والدة أمي الفقيرة المعدمة، كانت امرأة طاعنة في السن تسكن لحالها في بيت غرفتين حقيرتين. أشفقتُ على مرضها تكاد تتحرك من مكانها بمشقة يعطف عليها الناس في تلك القرية النائية بما جادت به قلوبهم وأخلاقهم، لم يكن هناك من يهتم بي وسرحتُ خلال الزقاق ألعب وألهو ومجهول داخلي يمنعني من السؤال والبحث عن والداي، وكأنني اقتنعت بأنني لن أراهما مجددًا...وحين توفت جدتي بعد ذلك بمدة قليلة، كنت قد أُصِبت بالجرب من شدة الوساخة والإهمال.
لن أكذب لو قلت بأن عودتي لكنف الوادي أنقذني، ليس من الجرب والعوز فقط بل من الضياع، لأنني لو لم أعد هنا بفضل الله لضعت لا محالة لكن البداية كانت صعبة، الشفقة في أعين الناس والازدراء في أخرى والشك في بعضها ملأ قلبي بالغضب والنكران فتمردت وقد ألِفت الحرية وجَوب الزقاق دون حاكم أو ضابط.
حفظهم الله من رقق قلوبهم نحوي فتحملوني حتى استعدتُ بعضا من أدبي وخُلقي، الفقيه عبد العليم وأسرته، الجدة جواهر، عمي وزوجته والدا زينة، مؤنس وأهله وحتى والده رغم عناده وبعض عيوبه، الحاج عبد البر أيضا... لن أنسى دور كل واحد منهم في حياتي ....والحقول!
الحقول كانت بفضل الله لي دعامة في الوقت المناسب، أحاطت نفسي الفتِيَّة حينها بكفن من حرير ناعم، طبطب علي واحتواني بليونة وخفة ساعدت في جبر خاطري المكسور.
يسألونني دوما عن سر عشقي للحقول؟
كيف لا أعشقها وهي العشق الأول لوالديّ قبل دمار حياتهما؟
كيف لا أعشقها وفيها وجدت السلوى دون شفقة أو إشعار بالدونية؟
كيف لا أعشقها وبين حشائشها وقع قلبي صريع هوى تقوى القلب؟
هنا وحيث أوقفتُ جراري اللحظة في حقل أبيها لأسلم عليه، كنت أراها قبل سنواتٍ في وسط عذابي وآلامي فكانت كالنفحة الدافئة وسط صقيع الشتاء القارس وكالنسمة الباردة وسط لهيب حرارة الجحيم.
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا حاج عبد البر.
أحببتها وأحببت كل شيء يتعلق بها، أولهم والدها عبد البر... من اعتبرني كابن له، أحبني، أكرمني وكان والدا لي من بين كُثر منّ الله بهم علي. في الحقيقة لا أستطيع أن أكون ناقما كليا على ما مضى ففي قعر الحرمان رزقني الله بالعوض.
- عليكم السلام ورحمة الله وبركاته... تعال هنا يا ولد لم أرك لأيام واشتقت إليك!
هززتُ بكتفي أمنحه البسمة المرحة بينما أمازحه كالعادة:
- أنت غبت عن الحقول، أما أنا فلا أغادرها.
أجل...لقد سكنتُ الحقول حرفيا في الشهريين الماضيين لا يخرجني منها سوى أذان الصلاة أقضيها في المسجد وأعود إلى الجنائن بسرعة... فِعلة ابن آل عيسى قلبت علي المواجع ومغادرته تلك دون وداع أثرت فينا جميعا.
- وأنت لا تسأل عني يا ولد! ولا تزورني لتعرف سبب غيابي.
حسنا هو محق، كلما مررت على حقله لأسال عنه أتجمد أمام نظرات ابنته الغامضة ثم أعود أدراجي ناسيا ما أحضرني من الأساس.
- ما بك يا حاج؟ ظننت بأنك مشغول ببيع محصولك في سوق المدينة.
جلس يمسد على ركبتيه بينما يجيبه ببشاشته المعهودة:
- لا بل قضيت الأيام في البيت... أصِبت بوعكة صحية.
قلقت وجلست جواره على ربوة صغيرة أسأله باهتمام:
- ما بك يا حاج؟ ... لم أعرف أنك مريض.
التفت إلي بوجهٍ طلق كعادته لا يكف عن تمسيد ركبتيه:
- يبدو أنني بدأتُ أشيخ، ووهنت ركبتاي... الحمد لله على تدليل تقوى لي ووصفاتها الطبيعية تحسنتُ بفضل الله.
هل يعقل لرجل أن يصاب بالغيرة من والدٍ على ابنته؟ أنا شعر بنار تشب في صدري حاليا ووددتُ لو كانت ابنتي أنا، لا بل زوجتي في بيتي تدللني أنا وتهتم بصحتي أنا.
- شفاك الله يا حاج.. ما تزال في أوج شبابك...أنت فقط تحب دلال بناتك.
ضحك ورمقني بمكر يشعرني بأنه فطن لما أخفيه ثم شاكسني بمرح:
- ومن يجد الدلال ويرفضه!؟ خِلفة الفتيات نعمة لا يعرف بقدرها سوى من ذاق حنانهن واهتمامهن.
عدتُ لهز رأسي بصمت أفر من تربصه بي، أتأمل ثياب عمله في الحقول، قميص بسيط بني مع سروال بنفس اللون.
تلك الفتاة ابنته أفقدتني هيبتي أمام والدها.
- إذن يا ولد متى ستسعد قلبي وتتزوج؟... لم تعد صغيرا!
هل ذكر الزواج؟ ماذا يعني بذلك؟ هل... هل فقد الأمل من ابنته؟ هل هذه طريقته ليتفادى الإحراج بدلا من أن يطلب مني نسيان أمر الزواج من ابنته؟ يا إلهي! لا!
اهدأ يا جرير! اهدأ واتبع أسلوبه المرح حتى تتيقن من نيته.
- أنت أدرى يا حاج بأن العروس ترفضني كل مرة أجدد فيها طلبي فأنزوي بعيدا لألعق جراحي.
ارتفع حاجبه بمكر مرح بينما قلبي أنا يوشك على التوقف.
- وما جزاء من يقنع العروس ويحضر لك موافقتها؟
ضحكتُ وقلبي ترتفع وتيرة سرعته بعد أن ظننت بأن خبرا كهذا سيريحني فزاد من توتري وحماسي، والتقطت كفه احتراما له أقبل ظهرها رغما عنه وأنا أجيبه بنبرة مرحة أخفي بها لهاثي:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


"محسن"

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159] [1]....ربي يا رحيم أنت أعلم بما في قلبي، أحِبهم يا ربي وأود لو كل واحد منهم يستقيم بأمرك، أخشى عليهم قبل نفسي التي لا أزكيها عليكَ يا ذا الجلال والإكرام، فالعُجْب في القلب حسرة والتكبر خُلق ذميم، أسألك الهداية لي ولهم وأن تًسعد قلبي باجتماعهم على التقوى والحق.
ربي ما به خاطري؟ لمَ لا أكل أفكر في بهيج، وأخت يوسف؟ هل تأثري بمصابها ما يجعل باطني ينشغل بها؟ لكن لو كان حالي يتعلق بالقلق فأنا قلق عليهم جميعا، فلمَ بهيج وسارة تحديدا؟!
ربي أنت نور بصريتي! اهدني إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيتي على طريقك المستقيم. رب اشفِ أختَ يوسف واربط على قلبها وارزقها الصبر على بلائها، فبلاؤها شديد وأنت الرحمن الرحيم، هي ذاقت النعمة وابتليت بالتمتع بها قبل أن تُبتلى بفقدانها وهو الأمر الشّاق لكنك الحكيم يا ربي.
كيف أجمع شمل أصدقائي وأشد على أزرهم وأنا أضعفهم؟! عليك توكلت يا خالق الخلق وإليك الملجأ والمنجى.
إنها رائحة نبيه!
- نبيه... هل أنت هنا؟
جيد لقد وصل إلي، ثبته الله على إيمانه وقدومه المبكر للمسجد.
ماذا يحدث؟ إنه يريد قول شيء ما!
- نبيه! .. ماذا هناك؟
لابد من أنه شيء ملح كي يضع كفاي على جانب رأسه بعد أن رسم دائرة على راحة يدي.
- الحلقة يا نبيه!
إنه يومئ بالإيجاب، من منهم يا ترى؟ وهل هناك أحد ما في المسجد؟
- لا أحد في المسجد!
هذا هو نبيه، يفهمني من مجرد تلفُّتي القلق فلا أريد إزعاج أحد يصلي أو يتلو القرآن، هذا بيت الله، ملاذ الناس لذكره وتلاوة كتابه.
- إذن يا نبيه بمن نبدأ؟ ... هل هو جرير؟
ليس هو، إذن من؟
- بهيج!
ولا هو، من يا ترى؟
- يوسف!
ما به يوسف؟ وما هذا الذي يفعله نبيه!
- لماذا تضع هاتفي على يدي يا نبيه؟ هل تريد أن أهاتفه؟
ماذا حدث يا ترى؟ حركات نبيه متسارعة وهو يضع هاتفي على أذني. أنا أسمع الرنين... هذا جيد! لقد قام بطلب رقمه لأن ذلك يأخذ مني وقتا.
- السلام عليكم.. محسن!
لابد من أن بسمة بلهاء ارتسمت على وجهي معبرة عن نبرتي المرتبكة:
- عليكم السلام يا يوسف... كيف حالك وحال أهلك؟
- لسنا بخير يا محسن!... لكن الحمد لله... نسأله الرحمة بنا.
يا الله سلم! ارتعد قلبي من القلق ولابد من أن نبيه يعرف مصاب يوسف.
- ما بك يا يوسف؟... ماذا هناك؟
هل أنفاسه محتدة؟ يوسف الحليم غاضب، رحماك يا الله.
- اسمعني يا محسن جيدا... كنت سأهاتف جرير لكن ترددت خوفا من حمقه عند الغضب لكن بما أنك هاتفتني فالله قد استجاب لدعائي وأنت المناسب لما أريده.
- نبيه طلب مني مهاتفتك.
حركتُ يدي لأبحث عنه فوجدتُ ركبته جواري أربت عليها بتمهل بينما نبرة يوسف التي تخللها بعض الحرج والخجل تتسلل لتملأ أذني:
- نبيه! حسنا هذا جيد... لابد من أنه عرف من شقيقته... المهم! أنا لا أستطيع القدوم الآن ولا في أي وقت قريب، على الأقل حتى أخلص أختي سارة من الوشم اللعين خلف عنقها... ما أوده منك يا محسن أن تبحث عن بهيج وتخبره بأنني غاضب منه جدا... وأقسم برب العالمين إن لم يُكفر عن خطئه أول شيء سأفعله حين عودتي هو التبليغ عنه وعن عائلته وسجنه بأي طريقة كانت فلقد وثقت به لآخر لحظة... ابنة عمه الحقيرة وأختها اتفقتا على أختي البلهاء المتهورة... شيراز رسمت وشما خلف عنق سارة على شكل طلاسم سحر يا محسن وبهيج يعرف!... حتى وإن لم يكن هو من فعل ذلك لكن سارة أخبرتني بأن بهيج رآه ويعرف.... أخبره بالحرف لأن هاتفه لا يعمل.... يوسف يخبرك بأنه يعرف كل شيء عنك وعن بنات عمك، وأنا سأعود... فمن الأفضل له أن يبدأ بإصلاح ما أفسده ... ولا يهمني كيف يفعل ذلك؟
إنا لله وإنا إليه راجعون! ربنا هون علينا....ربنا هون علينا!
- اهدأ يا يوسف!... أذكر الله واهدأ.
سمعتُ أنفاسه كيف تتلاحق ومحاولاته ليهدِّئها ثم زفر يجيبني بوجوم وخيبة:
- أستغفر الله العظيم وأتوب إليه .....أعتذر إليك يا محسن لكنني غاضب إلى حد لا أرى معه أمامي الآن.... الظلم صعب يا صديقي صعب... ومصابي في أختي ليته كان في أنا.
- استغفر الله يا يوسف.... الظلم ليس ظالما ومظلوما فقط... بل بينهما الله الذي سمح بوقوع الظلم من عدمه.. هنا نفكر بالسبب حتى سمح الله بوقوعه... لا أقول أن الظالم لم يذنب بل إن جزاءه مخيف إن لم يتب إلى ربه ويرجع المظالم ويحصل على عفو المظلوم لكن المظلوم أيضا يجب عليه مراجعة حساباته وعلاقته مع الله... والوشم حرام يا يوسف وملعونان الموشوم والواشم، وبما أن هناك إمكانية لإزالته فافعلوا ذلك ثم اجعلها تقرأ سورة البقرة يا يوسف.... داوموا عليها مع الصلاة والذكر، والله غفور رحيم وهو الشافي المعافي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


- أقبل يده ورأسه يا حاج...
ربت على رأسي يجيبني والبسمة الحانية التي لطالما خصني بها تتعلق بشفتيه:
- ليقدر الله ما فيه من خير، إن شاء الله أعود إليك غدا بالبشرى.
لابد أنه متأكد من موافقتها، هل لاختلافها مؤخرا علاقة؟
أتمنى أن ألمحها الآن في التو واللحظة، بل من الافضل لها أن لا ألمح طرفها إلا جننت وأقدمت على فعل غير لائق!
يا إلهي! إنها تفقدني هيبتي حقا!
رنين الهاتف أنقذني من نظرات الحاج اللامعة بتسلية فأجبت توأمي الملتصق بي مؤنس.... على الأقل جاء بفائدة هذه المرة:
- جرير!... تعال إلى البيت حالا! محسن ونبيه في انتظارك.
ثم أغلق قبل أن أفتح فمي، ذاك المجنون "هُراء الفلسفة" سأكسر رأسه....ماذا يفعل محسن في بيتي؟
- إلى أين يا ولدي؟
اكتشفتُ أنني هممتُ بالمغادرة دون توديع الحاج فتبسمتُ له مُحرجا أخبره:
- الفقيه محسن في بيتي يريدني في شيء ما، أستأذنك يا حاج.
أشار لي بتفهم فاستدرتُ مستأنفا خطواتي لكن خافقي ذكرني بشاغلته فعدتُ ألتفتُ إليه، قائلا له بارتباك واضح:
- سأنتظر البشرى يا حاج..
غادرت وضحكات الحاج ترافقني وتخبرني بأن البشرى لابد بإذن الله قادمة.
***
(منزل جرير)
"مؤنس"
النتيجة البائسة تأخرت، والشبكة الكريهة ثقُلت في هذه اللحظة بالذات وأنا أنتظر لائحة الناجحين في امتحان الالتحاق بمدرسة تكوين الأساتذة. لحد الآن لا أصدق بأنها تقدمت للامتحان بعد أن تخرجت قبل شهر من الجامعة ولقد ذهبتُ في يوم الامتحان خصيصا لكي أراها هناك وأتأكد من أنها حقا هناك.
لا أدري ما الذي يُشعل كل هذا الحماس والانتعاش داخل صدري؟ هل هو اختيارها لشيء له علاقة بي وأنا من اقترحته عليها أم لكون نجاحها المحتمل وبعد سنتين من التكوين فقط إذا حدث واختارت البلدة سيمكنها من العمل إلى جانبي؟! تدرِّس في الثانوية التي درست فيها وإلى جواري يجمعنا مكان واحد فألتقي بها كل يوم. قلبي المسكين يتفاعل مع أحلامي المجنونة فيقفز بقوة يكاد ينشطر لها قفصي الصدري.
رباه! كيف تحولتُ إلى مراهق يفتتن لأول مرة بفتاة فيهيم لهفة خلف كل ما يخصها حتى وهي ليست أمامه؟
أشعر بها وتشعر بي ونحن لا نتبادل حوارا خاصا واحدا، كل ما أريد معرفته عنها أو معها أصيغ به منشورا فأجد الرد كمنشور على صفحتها هي!
لعبة ممتعة وشيقة أعلمتني عنها أمورا كثيرة، ووجهات نظرها نحو بعض جوانب الحياة حتى أنني تجرأت يوما ونشرتُ تساؤلا عن طريقة التعامل مع أقارب تلقيتَ منهم صدمة العمر، لأجد بعد ساعة على جدار صفحتها منشورا توعويا عن تقبُّل الغير بكل عيوبهم مع محاولات الاصلاح والنصح باللين، وكلما كان الشخص قريبا كلما زاد حقه بالقرابة أن يُنصح ويُصطبر عليه.
قرأتُ منشورها مرات ومرات فانبثقت داخلي رغبة بالمحاولة بعد كل ما مررت به من استسلام للرثاء على الذات والضياع.
وهي تعلم جيدا كيف تسدد أهدافها لأن المنشور التالي كان عن أضرار المسكرات وأسباب تحريمها، اعترف أنها كانت ضربة موفقة منها بينما أشعر حينها كطفل مذنب، يغمره الخزي ودون وعي مني انطلقت أحشائي تلومني بسؤال محير فاجأني حقا! كيف أفكر فيها أو أشعر بما أشعر به نحوها وأنا لا أليق بها!؟
إن كانت شقيقتها علّقت ابن عمي في حبائلها لسنوات طوال ورفضته لعدم مواظبته على الصلاة في المسجد، فكيف سيكون حالي أنا الضائع السكير؟
حسنا لستُ سكيرا تماما، فأنا أشربها أحيانا كي أمنع نفسي عن الانتقام من والدي أو التسبب بفضيحة له! لكن هذا لا يمنع أن الناس لا يعرفون مصابي وكل ما يرونه من ظاهري أنني سكير ضائع لا يسكن حتى مع أهله متطفلا على ابن عمه في بيته، وهذا يجب أن يتغير إن كنت حقا أريد لهذا الشيء الغريب الذي ليس له مسمى أن يكون له مستقبل. وأول الطريق حلٌّ صائب مريح مع والدي!
ممممم أين أنتِ أيتها النتيجة البائسة؟ اظهري هيا اظهري!
لابد من أنها تغلي انتظارا هي الأخرى. أشفق عليها وقد مررت بنفس الوضع وها أنا أعيشه مرة أخرى وكأنني حقا المعني بالأمر. هل هذا حب يا ترى أم مجرد افتتان بشيء جديد مختلف؟
ومتى كانت لك تجارب يا أحمق؟ كل ما تبرع فيه الثرثرة على رؤوس الخلائق! غير أن صدمة والدك أخذت من عمرك سنوات فلم تلتفت يوما لفتاة، يبدو أنها استثناء.... وهي حقا كذلك.
لنجدد صفحة الوزارة للمرة التي نسيت عدها و...... لا نتيجة بعد! أف! لقد نسيت كيف أن النتائج تتأخر بشكل مستفز للأعصاب.
إنه جرس البيت.... من سيأتي الآن؟ هل هو نبيه؟
سأمسك بهاتفي لأراجع الصفحة كل حين.
فتحتُ الباب وكان فعلا نبيه لكن ليس بمفرده، وحينها قطبتُ حيرة وأنا أرحب بهما..... نبيه ومحسن.
***
(المسجد... جامع السلام)

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


- تركتُ نفسي لنقمتي، فأصبحتُ نزقا عصبيا كلما التمست تهورك ومحاولتك للتمرد، أعترف الآن بأنه كان تمردا طبيعيا لطفل كبر مشتتا بين جدتين متناقضتين كليا، ووالد مصدوم ومفجوع من فقد حبيبة لم يستطع التأقلم مع ابتلائه فيها، ولم يعش معها ما حلم به ثم تورط بعدها في زواج متسرع مدبر...لكنني لم أر فيك للأسف سوى عجزي عن تنفيذ وصية الحبيبة الراحلة... يا بهيج!
أطرقتُ برأسي أخفي دمعتي الحارقة لكنه لم يمنحني تلك الرفاهية، وهو يرفعه من ذقني لأجد ونيسة دمعتي تتدحرج على وجنته لتختفي بين خصلات لحيته الشقراء.
- هل تعلم ماذا كانت وصية والدتك؟
لا أستطيع! لا أستطيع!
- اسمعني من فضلك يا ولدي... لقد كبرت بما فيه الكفاية، وتعبت، ولن أقف مكتوف اليدين حتى أفقدك أنت الآخر.
تنفستُ بقوة لأمنع باقي دموعي من التدفق بقوة كما تشتهي، أحدق به بجمود. هل قلتُ قبل قليل بأن داخلي هوة من الفراغ؟ لقد امتلأ الفراغ بحمم من الكره والحقد وغضب عظيم.
- أوصتني بأن أعلمك الصلاة وأحفظك القرآن.... أن أعرفك على الله... وأقسمت علي يا ولدي، وتوسلت إلي بينما أنت رضيع لم تكمل اليومين جوارها على فراش الموت أن أعلمك دينك وأن أحدثك عنها وعن مدى حبها لك، وأخبرك بأنها دعت لك منذ أن اقترنت بي، وقبل أن تعلم بأنها سترزق بك... دعت لك بالصلاح والهداية.
لا أستطيع كتمان نحيبي، ليس بعد هذه الخسارة! اجهشتُ بالبكاء بحدة عصفت بثبات أعصابي فوضعتُ جبهتي على كتف والدي الذي ضمني إليه بقوة يكتم بكاءه بتجلد لم يشمل نبرته المتهدجة:
- ولذلك كانت جدتك جواهر تلاحقك في كل مكان تحارب أمي لتأخذك منها لتحقق وصايا ابنتها، وهي تعلم بأن الفتنة في عقر داري ستمنعني عن ذلك، ولذلك كنت عصبيا طوال الوقت، غير متحكم في نفسي أحارب فقط لأتوازن وأتمسك بديني، ومواجهة الفتنة التي تشدني دائما نحوها ... فنسيتك يا ولدي ... نسيتك وضيعت الأمانة ولم أدرك فداحة أخطائي إلا حين تخيلت فقدانك أنت الآخر كما فقدتُ والدتك من قبل... وكأن موت والدتي ذكرني بكل خسارة عشتُها في حياتي... سامحني يا ولدي!... سامحني!
تمالكتُ نفسي ومسحتُ دموعي بحدة آلمت بشرتي وكادت تجتث خصلات لحيتي القصيرة من جذورها وابتعدت عنه قليلا محافظا على صمتي أمنحه المساحة ليتمالك نفسه هو الآخر.
نظرتُ نحوه وكم آلمني ظهور السنوات المتراكمة على ملامح وجهه مختلطة بهموم ثقيلة فعلى عكس الكثير من بني جلدتي تعلمت أن البشر مجموعة من ضعفاء النفوس تعصف بهم الفتن، فمنهم القوي بالله يتصدى لها ومنهم من يظن نفسه قويا بغروره فيقع في فخ عدوه الأول والأخير....الشيطان.
- لا بأس ... لنهدأ وبعون الله كل شيء له حل وصرفة، قم واغتسل لتقابل ضيوفك.
أصابتني الحيرة، فمن سيأتي لمنزل أهلي بحثا عني؟
- كفاك هروبا من أصدقائك..
- أصدقائي؟!
تساءلتُ بدهشة تملكتني فأي أصدقاء هؤلاء الذين سيأتون بحثا عني هنا؟
- سألوني عنك كثيرا وكنت أتهرب منهم لأمنحك بعض الوقت من العزلة لكن محسن بدا لي قلقا جدا، وأنت لا تجيب أحد على الهاتف كما يقولون..
قمت من مكاني أجيبه والذهول يجتاحني، فلماذا محسن سيبحث عني؟
- أغلقت هاتفي قبل شهرين ولم أفتحه أبدا... محسن في بيتنا؟!
نهض هو الآخر بتثاقل يتنهد ثم قال له:
- جاء برفقة نبيه وجرير ومؤنس... وفواز أيضا!*
- ماذا؟
هذا غريب حقا.
- انتظر!
استدرتُ إليه متسائلا فأشار إلي ببعض الاستنكار المتردد:
- هل ستقابلهم هكذا؟
لم أكن في حاجة لأنظر إلى نفسي كي أفهم قصده لذا تلفّتُ حولي قبل أن أخطو نحو كومة من الملابس لأبحث بينها عن جلباب بيتي بسيط، سحبته وتوجهت إلى الحمام وعند بابه لم أنس الذكر الذي ذكرني به نبيه ويوسف فأنا في غنى عن أي تأخر بسبب الملاعين.
***
(محل العطور)
"فواز"
شعرت بالملل فتركت قناني العطر بينما أتأملها قليلا بشرود قبل أن أتحرك لمسافة قليلة لأستند بمرفقي لأتمكن من التفكير بتركيز في ما كنت أفعله الآن، هل حقا أنا أقوم بمزج عطر لتلك المرأة التي يبدو أن زواجي لم يلجمها عن محاولاتها التي كنت أصدها قبلا لا لشيء سوى أنها متزوجة!؟...هل حقا بدأت أرضخ لفكرة موافقتها هذه المرة بما أنها متزوجة... إنها متزوجة يا فواز؟! أجل ولن تفضحني وستسعى للسرية أكثر مني... لكنها متزوجة يا فواز؟! هل حقا ستجتاز هذا الحاجز أيضا؟! سأفعلها مرة واحدة لأثبت لنفسي أنني بخير، وسأتوب بعدها وأدعو الله كثيرا ليغفر لي ضعفي أمام شهوتي...لكنها متزوجة يا فواز!؟ تبا لها!
نظرت إلى القناني وأنا أستعيد طلتها التي جاءتني بها آخر مرة لتطلب مني بصريح العبارة غايتها وأنا في أشد حالاتي ضعفا أمام فتنتها وعدت لرثاء نفسي، أنا فواز الذي أحصل على كل شيء أريده وقتما أريده أُبتلى بزواج مع وقف التنفيذ، وبأمر من والدتي وأخي صاحب الضمير الحي، يظن زوجتي مجنونة مثل عروسه الأولى التي انتحرت في بيتنا.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


أذكرها جيدا.... لقد كانت معقدة ومنعزلة وهو أصر عليها وأرادها دونا عن الفتيات، رفضَته وضربها والدها ثم زوَّجها رغما عنها فانتحرت في بيتنا بعد أيام من العرس، طبعا لم نكن على علم بالتفاصيل إلا مع تورط الشرطة في الأمر والتحقيقات، وأنا كنت صغيراً ألتقط الأخبار بفضول الأطفال المتهور.
كنت متأكدا من أن حالة حفيظة لا تشبه حالة عروسه المنتحرة لذا كنت أتحين الفرص لأتقرب منها في غفلة منهم لأثبت لهم بأن ما حدث مجرد عارض جراء توتر العروس، وحين ظفرتُ بالفرصة فشلتُ كما لم يحدث لي يوما....إنها لفضيحة مخزية تلك التي منيتُ بها أمام زوجتي التي تحدّت نفورها الظاهر على وجهها رغما عنها لتتقرب مني، تحارب هي الأخرى فكان الفشل مني هذه المرة. إنها مصيبة ونزلت فوق رأسي ومنذ ذلك اليوم وأنا أتجنبها أفكر في ما حدث؟ هل هي كما تقول شقيقتي نحس وشؤم علينا؟! ومع ما حدث لجدتها والذي أعقبه مرض زوج شقيقتي المفاجئ في ركبتيه ثم ما حدث معي بدأتُ أصدق ذلك حقا، أم أن السبب حقا كما قالت والدتها الربط أو التحصين، ذاك التقليد المعروف بين صفوف النساء في بلدتنا، وكم كنت متفاجئا بأن شقيقتيّ خضعتا له ولم تقم أمي بإلغائه إلا قبل زواجهما بفترة بسيطة.
على العموم وأي كانت الأسباب أنا لن أقبل على نفسي الخزي حتى لو كان بيني وبين حفيظة، أنا لست عاجزا ولا مريضا وعلي إثبات ذلك لنفسي فأنا معذور، وبعدها أتوب إلى ربي وأكفر عن ذنبي وأتحدى الكسل الذي أصبح يرافقني عند تلاوة القرآن وقضاء الصلوات، كما يجب علي العودة لصلاة الفجر في وقتها ثم إن صبري على البلاء المتمثل في زوجتي يعد تكفيرا لذنوبي هو الآخر، سأصبر عليها حتى نجد حلا لعلاقتنا غير الطبيعية .... فقط لأطمئن على نفسي.
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أجفلتني النبرة واستغربت سماعها في محلي لذا رفعتُ رأسي للتأكد من صاحبها الذي لم يكن سوى محسن، يتأبط ذراع جرير ونبيه خلفهم مؤنس، فتركت ما في يدي مدهوشا وخطوت نحوهم أتساءل عن سر زيارتهم لي مجتمعين على غير العادة.
- عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
***
(الحقول)
"جرير"

لا يحلو لي التنفس سوى بين أحضان الطبيعة. أعشق عبير الشجر والزرع المختلط بالتراب والماء...إنها كتركيبة المخدر الأمثل لمزاجي، لا يفوقها جمالا عندي سواها...تقوى القلب!
آه لو سمعتني أناديها بتقوى القلب كيف سيكون ردها؟ أعلم جيدا كيف ستفهمها وسترد علي بكل جدية وحزم.... لا تزكي على الله أحد!
حميتها لن تمنحها الفرصة لتفهم أنها ساكنة قلبي المسكين واسمها تقوى، فماذا تكون سوى تقوى القلب؟!
كالعادة أغرقكَ القلب والخاطر في سيرتها التي تأتي مع كل ريح طيب للجنان....قم يا جرير إلى عملك وكف عن خيالك سيرديك قتيلا يوما ما!
تركت عُشي المنزوي وتوجهت نحو رفيقة دربي لم تخذلني أبدا، وحشي الحديدي كما يحلو لهم تلقيبها وأنا لا أعترض فهي حقا وحش حديدي، صبورة تتحمل جلافتي وتحتضن ضخامة جسدي ووجب علي تحصينها معي من كل عين لامة.
التربع على قمتها يمنحني الشعور بالسيطرة وأنا أقودها بين حفر الحقول، هي عشقي الثاني أو الثالث لأن حتما عشق تقوى يأتي قبل الحقول، تلك التي يفر إليها عقلي وقلبي كلَّ حين، يحلو لي التحدث عنها وكثيرا ما تدفعني إلى ذلك مؤخرا يكاد سلوكها الغريب أن يوقف دقات خافقي عن الصراخ بالحياة، لا أفقه معاني نظراتها الخاطفة ولا فحوى التساؤل المتلألئ على ضفاف مقلتيها الرمادتين حيث الملاذ. لو أجد السبيل إلى عقلها فأسبر أغوارها بل ليتني أجد السبيل إلى قلبها فأتأكد من ملكيتي له!؟
توقف يا جرير وعد الى ما يهمك أكثر الآن! دع العشق حيث الأمان وركِّز حيث يسود الخراب. ركز على قول راسل بأنه اقترب من حل لغز اضطراب عقل والدي وكيف استطاع الخواجا تدميره.
لا يعرف أحد عن السبب حتى راسل يحيره اللغز، لماذا تدخل الخواجا في علاج أحد جنود الجيش ليزيد من اضطرابه بدلا من علاجه؟ ما هي مصلحته؟
لا أحد يعرف حقيقة ما حدث سواي، ما يزال حديث والدي لوالدتي ليلتين قبل قتله لها عالق في عقلي يعذبني. لم أفهم في البداية لكن كلما كبرت استوعبت وتفهمت كما تفهمت سبب عنف والدي الذي أوصله إلى حد قتل زوجته.... الشك!
بعد أن أفضى إليها بكل ما يغم فؤاده وهو عليل النفس، مشتت الذهن يشك في كل من حوله حتى هي حبيبة قلبه! زوجته وأقرب الناس إليه. ما أزالُ أذكر كلماته لها قبل أن يطعنها بسكين اللحم في المطبخ، يتهمها بخيانتها له وبيعها له هي الأخرى للخواجا.
الخواجا! اسم ارتبط في كياني بالظلم والقتل. قتلها أمامي وأنا طفل صغير تعدى العشر سنوات بقليل، أتذكر نظراته الزائغة بعد فعلته وكيف ضمّها إليه يبكي ويصرخ بحرقة، أتذكر كيف نظر نحوي وأنا أنزوي خائفا مرعوبا انتظر دوري فرفع كفه نحوي لكنني لم أستجب له، لحظات طويلة تلك التي شلتني فيها الصدمة، أنظر إلى الجسد المكوم على الأرض قبل أن أعدو إلى الخارج بينما أصرخ دون وعي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


تخيلتُ للحظة أنها ستخجل من تطفلي لكن العكس ما حدث تماما وكأنني في حاجة لقيد آخر تعتقل به قلبي المسكين، والذي بسببه رضختُ أخيرا لما يحاول منذ فترة أن يبثه لي من شكوى، لقد سقط صريع هواها وانتهى الأمر، ذلك ما تأكدت منه وهو يكاد يقفز من صدري إليها ليطمئنها ويسكن من مخاوفها، ويؤكد لها بأن شقيقتها تحيا كابوسا وهميا ستستيقظ منه وتعود إلى طبيعتها.
كنت كالغارق أحارب لأنجو من تعلقي بحركات كفيها الصغيرتين وهما تتحركان بسرعة ولهفة كالتي طُبِعت على ملامحها الصغيرة الباكية تبوح لي بمخاوفها، رأيت ذلك داخل مقلتيها الحزينتين الدامعتين والخائفتين ترجوني المعرفة، العلاج، والحكمة أو هو فقط السلوى ما كانت ترجوه مني! فلماذا أنا بالذات؟
ولقد كان السؤال ذاته يتراقص على صفحة عيني شقيقتي، ولولا جدية وخطورة الموقف لقلبت اللقاء بيننا إلى سخرية وتندّر علينا وكلمات كثيرة بشأن عاطفة على ما يبدو لاحظت بداية اشتعال شرارتها بيننا لكن إشارات سلا اللاحقة ما حفر الهوة داخل أحشائي، وبعث بشعور غريب ليحتل كياني، وكأن الشمس بأشعتها المنعشة الدافئة حان وقت غروبها ليحل محلها الظلام بكل صقيعه المخيف.
- حجز والدي في رحلة الغد، سنعود جميعنا حتى يوسف، سارة في حاجة إلى فحوصات كثيرة واهتمام كبير ... سنعود جميعنا.
لن أنسى عذاب المعاني من حركاتها وهي تتجلى على سطح مقلتيها السابحتين في بركة تفيض بغزارة، كيف أنسى وقد شاركتها ألمها مع كل حركة مرتعشة من كفيها، وكل نظرة مؤلمة من عينيها إلى درجة أنني وفي لحظة مفاجئة سألتها عن مكان أخيها، وتركتها كما تركتُ قلبي عندها لأبحث عن يوسف!
تشاجرنا لأول مرة في حياتنا، يساورني الندم كلما تذكرت ذلك لكنني عانيت من الخذلان والخيبة بما فيه الكفاية ولم أتحمله من صديقي المقرب، نسيتُ نصف حديثي القاسي معه أو تناسيته لأنني لن أتحمل عبء تذكره هو الآخر، لكن نظراته المعذبة نُقِشت بماء المرارة على جدار قلبي كما فعلت بي نظراتها وهي تشير لي بوداع وشيك لا مفر منه حين افترقتُ عن أخيها لأجدها قد لحقت بي خوفا من شجارٍ توقّعَته. تلك الصغيرة تشعر بي، تقرئني ككتاب مفتوح ولو فقدتُ ذكائي وأصبحت أغبى البشر لما فاتتني حقيقة الرابط الخفي الذي يصل بيننا.
تلك الفتاة التي يخفق لها قلبي بقوة حتى في ظل غيابها الذي قرُب على تجاوز الشهرين! .... سلا آل عيسى، أُحِبها كما لم أحِب شخصا من قبل، على الأقل حب الرجل للمرأة التي يتمنى الظفر بها، لكن هيهات! فما أبعدها من امرأة كبعد المسافة بين غربتها في البلد الأجنبي وغربتي في وطننا! وكيف تكون امرأة وهي التي لم تكمل العشرين بعدُ بينما أنا قد أتممت عامي الثامن والعشرين!
آآه هذا جزاء من لا يحمد ربه على أقدراه، كنت أشكو من عقدي سابقا وها أنا ذا أذوق عذابا حقيقيا جعلني أكتشف بأن حياتي السابقة أفضل وأريح بكثير!
رحلت هي ورحل يوسف! وكم تغيرت الأحوال برحيلهما!
***
(البلد الأجنبي).
"يوسف"
- إيه! جوسيف!... يا صاح أنا أحدثك!
لم أدرك سهوي إلا حين شعرتُ بصديقي وشريكي في مشروعنا الصغير يربت على كتفي، رفعتُ رأسي عن حاسوبي بتعب لَمحه فعقّب عليه بحيرة:
- أنت متعب جو، وأنا بدأت أقلق عليك.
أزلتُ نظارتي وألقيت بها قرب حاسوبي المستقر على سطح طاولة مكتبي بينما أزفر بكآبة من صُلب صدري ومسدتُ أعلى أنفي، أهرب من نظراته المسلطة علي بتركيز ذكرني بنبيه!
تجاهلتُ الذكرى التي لا تفارقني وكل ما يصلني بها وأطرقتُ أمرر أصابعي على شاشة هاتفي.
- جو كُف عن التهرب مني.... ظننت بأننا أصدقاء؟ ما بك؟ ولا تقل أن مرض أختك فقط ما يدمرك نفسيا هكذا.
أصاب أكثر من هدف مؤلم فأرسلتُ إليه نظراتي المعاتبة ليستدرك بحزم يحاصرني به:
- لا ... لا تنظر إلي هكذا!... أنت مُدَمر فعلا! كنت أظن بأن زيارتك لبلدك ستمنحك السكينة التي تفتقدها هنا... لطالما شعرت بك تعاني غربة ما هنا، تحكي عن أصدقائك في أي مناسبة... فتبتسم بتلك الطريقة التي توحي بحنينك وشوقك لمكان يناسبك أكثر، ويناسب شخصيتك ومبادئك... ولأنني أقدرك كما تعلم... فأنا لن أنسى مواقفك معي على مدار السنوات، والثقة التي تكونت بيننا لم تأتِ من فراغ... أنت شخص مميز جو ولولا شعوري الذي أريده أن يكون مثل مشاعرك النقية في سبيل الخير فقط لما شجعتك على أن تزور بلدك لمدة طويلة بينما أنا أتحمل مسؤولية المكتب بما أن عمل البرمجة يمكنك القيام به من أي مكان على حاسوبك لكن ومنذ أن عدت بهذه الحالة السيئة والتي تسوء كل يوم عن الذي قبله بدأت ألوم نفسي جو... وهذا مؤلم جدا ... كألم انفصالي عن زوجتي.
حسنا هذا مضحك، لابد أن ابتسامتي الهادئة أراحت القليل من قلقه الحقيقي نحوي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


إستيفان لوكين....أحد زملاء الدراسة أو أقربهم بسبب ظروف معينة، كان ضعيفا خجولا فأضحى هدفا سهلا للتنمر والسخرية فلم يحظ بأصدقاء غيري حين قررت التقرب منه وقد رأيت فيه ضعف محسن وقلة حيلة نبيه ووهن جرير بسبب المرض. صاحبته وعلمته شيئا فشيئا كيف يثق بنفسه وكيف يعامل البشر ولا يمنحهم الفرصة ليهاجموه في مكامن ضعفه، فتعلق وتأثر بي إلى درجة أنه حرص على أن يشاركني نفس الفصل على مدار سنواتنا الدراسية وليس ذلك فقط بل اختار نفس المجال الذي اخترته في الجامعة، برمجة الحواسيب وحين تخرجنا وعمل كل منا في مكان مختلف تفاجأتُ به يقترح علي إنشاء مكتب صغير نعمل فيه لحساب أنفسنا.
ترددت حينها وشيء ما في أعماق أحشائي يخشى المزيد من القيود التي تربطني بهذا المكان، فتباعد بيني وبين حُلمي الصعب بالعودة والاستقرار في وطني، هناك حيث تركت كياني وقلبي الفتي ولم أحضر معي سوى الذكريات والكثير من الإحساس بالغربة.
- لا! ....لقد عدتَ إلى الشرود العابس!
إيستفان محق وأنا حقا أصبحت كئيبا أفتقد استقرار مشاعري، لم يسبق لي أن عشت فوضى مثل التي أنا غارق فيها الآن بل منذ أكثر من شهرين، غادرتُ الوطن ولم تغادرني الفوضى وكأن كل ما فعلته هو احضارها معي إلى هنا.
- جووو!
حسنا لقد فاض به ويستحق مني بعض الاحترام والتقدير لمشاعره، ألم يخبرني جرير من قبل بأن المشورة أمر جيد ومطلوب! سأفعلها إذن وأفصح عن بعض ما يؤرقني، قد أجد بعض الحلول من خلال تفكيره العملي.
رفعتُ رأسي نحوه لأجده محتلا لجانب طاولة مكتبي يغلق حاسوبي بينما يرمقني بجدية وتركيز عبر مقلتيه البنيتين الواسعتين، ينتظر بإصرار لن يتنازل عنه.
- تحدث إلي!
- سأخبرك إستيفان لكن افتح عقلك وحاول التفهم!
هز رأسه بتقبل متأهب فبدأتُ بفعل ما لم أجربه يوما من قبل، أن أفضي بمكنونات دواخلي لشخص ما، لم أفعلها مع أي من أفراد عائلتي ولا أصدقائي، لم أنشأ على ذلك. لطالما كنتُ الشخص الذي تُلقى عليه الحمول والمطلوب منه النضوج، لا أذكر متى كنت طفلا لا يهمه سوى اللعب حتى مع أصدقائي في الوادي كنت دائم الحرص على نظافة ثيابي وأناقتي تماما كما يُطلب مني.
- عدتُ إلى وطني بطلب من والدتي استيفان وليس كما تظن أنت للاستقرار هناك، لا أنكر رغبتي في ذلك وتخطيطي له... لكن توتر العلاقة بين أبي وأمي بسبب جارتنا في مسكننا القديم ثم قرارها بالعودة إلى الوطن تركني رهين التردد، فلم أذهب لوطني لأستقر فيه مع أن في أول أيامي هناك ولقائي بأصدقائي واسترجاع الذكريات أثر بي ومنحني شعورا ورغبة بالرضوخ لرغبتي أخيرا وتحقيق حلمي.... لكن العقبات أبت تركي لأقتنع بقراري... اكتشفتُ أن سبب عودة والدتي لم يكن من أجل سفاهة الجارة وابنتها وفعلتهما التي لا تغتفر مع سلا، بل لاسترداد حقها من أملاك والدتها رحمها الله والذي استولى عليه جدي بغير وجه حق مع حق خالها أيضا... وجدي هذا ابتزها مشترطا عليها زواجي من شقيقة زوجته بطلب وضغط من الأخيرة.
انتظرتُ ردا على أول اعترافاتي المخزية له، لكن صديقي كان هادئا تماما وهو ينصت إلي باهتمام.
- في البداية حاولت إقناع أمي بالعودة معي والإصلاح بينها وبين أبي المنزعج من قرارها وسفرها...طلبت منها أن تنسى أمر الإرث فنحن والحمد الله لسنا فقراء، ولو كنت كذلك لن أبيع نفسي مقابل المال لكن أمي كان لها وجهة نظر أخرى عن كوني رجل وزواج المصلحة لا يعد بيعا للنفس، ومع ذلك أصررتُ على رفضي.
تفاجأتُ من بسمته التي ظهرت على شفتيه وهو يقاطعني بقوله المازح:
- هل الفتاة بذلك السوء؟ أليست في مستوى تطلعاتك؟...أستطيع تفهم ذلك!
زفرت بكآبة أجيبه بما جعل معالم الصدمة تستولي على ملامحه:
- الفتاة جميلة لكن مظهرها وشخصيتها من النوع الذي يبث النفور في نفسي وليست هذه المشكلة، شقيقتها التي هي زوجة جدي تتحرش بي إستيفان! منذ أول يوم نزلتُ في بيت جدي لم تُرحني نظراتها ولا بسماتها الجريئة إلى أن صارحتني يوما لم يكن في البيت سوانا، وليس هذا فقط بل تسعى لتحقيق رغبتها بأي ثمن ... مجرد تذكر ذلك الحوار المقيت يدفع بالغثيان إلى حلقي.
رفعتُ يداي أمسح وجهي لعلّ الذكرى تندثر من خيالي، لساني وكأن عقدته حُلت، يسترسل دون توقف يُعبر عن جحيمي.
- سأخبرك بالخلاصة استيفان... زوجة جدي المحترمة تكبرني بعامين وتريد حمل طفل مني وهي على ذمة جدي، وإن لم أفعل ذلك ستؤذيني في أهلي.
- كيف تريد منك طفلا وفي نفس الوقت جدك يضغط عليك لتتزوج من شقيقتها بطلب منها؟ أليس هذا نوعا من التناقض؟
وها قد بدأت التعقيدات:
- لم أفهم الأمر جيدا قبل أن يلفت أحد أصدقائي المقربين نظري إلى أن شرطها ذاك ليس سوى ضمان لمهلة تحقق فيها مأربها مني، فأنا لم أكن لأوافق على زواج مصلحة، وحين فكرتُ جيدا في الأمر بدا منطقيا فجدي يعاني من مرض يُصعِّب عليه الإنجاب ومع تقدمه في السن يجعله مستحيلا، وهذه المرأة تفكر بطريقة خبيثة جدا...

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


أظن بأن جدي تزوجها من أجل الطفل، ولكي تكسب ثقته قررت منحه طفلا من دمه بأي طريقة أو لا أعلم حقا ماهي دوافعها الأخرى ليكون الولد من صلبي أنا بالذات، ما يهمني في الأمر أنني رفضتُ وهددتني، ولم أكن أعلم بمن تهددني حقا حتى صُعقنا بحالة سارة كما تعلم فقدت بصرها، ولا واحد من الأطباء الذين فحصوها توصلوا لسبب معلوم يبرر عماها، وجميعهم حولوها إلى طبيب نفسي.
صمت وأسندتُ ذقني على راحة كفي أتأمل صدمته وحيرته ومحاولته الاستيعاب حتى سألني بترقب:
- وما الذي تظن بأنها فعلته بسارة؟
وها قد وصلنا الى مربط الفرس، كيف سأشرح له؟ وكيف سأفسر إن كنت أنا أعاني من حيرة قاتلة!
- تحدث جو... ما يزال لديك الكثير.
شعرتُ بضيق فاستغفرت مستقيما بظهري ثم أخبرته:
- أظن بأنها سحرتها...
كان الصمت ثقيلا بيننا بشكل محرج فتراجعت أستدرك باستسلام:
- انس ذلك، لن تفهم!
وقبل أن أنهض من مكاني قبض على ذراعي وأعادني إلى مقعدي، يطلب مني بحزم عاد إليه:
- لا، لن أنسى وأنت ستشرح لي.
شعرتُ بشفتي تطبقان على بعضهما بقوة، وصدري يتضاعف ضيقه فنظر نحوي يحثني على التحدث:
- من الأمور التي أعلمها يقينا أنك لا تكذب أبدا، لذا تحدث جو وأنا سأصغي إليك.
الامتنان لمؤازرته الصادقة ذكرتني بمن تركتهم خلفي دون وداع فمسدت على موضع قلبي أهون عليه وجع الذنب والشوق:
- سارة ليست الأولى يا استيفان.... لقد تأكد لي من قبلها أن جدي وزوجته دمرا خال والدتي وابنه بالسحر... خال والدتي يعاني من غيبوبة لا تفسير طبي لها ... وابنه فقد عقله بطريقة غامضة غير مفهومة... وحين أخذته إلى بروفيسور متخصص في علم النفس أكد لي بأن السحر له دور كبير في حالته... ومع كل تلك الدلائل لم أصدق أو لم أستوعب.
نظرتُ إليه أبحث عن تفهم سأجده لديه كونه مثلي، إنسان قضى حياته في دراسة العلم وعالم المعلوميات:
- أصدق بوجوده لأنه مذكور في القرآن.... لكن لا أعلم!... ربما عدم مروري بتجربة سابقة وقضاء حياتي وسط العلم والمنطق والثوابت جعلني أستخف بأمر السحر.. ولا أصدق بتأثيره المدمر على الإنسان، وبالرغم من أن زوجة جدي أخبرتني بالحرف بأن حالة سارة لن تتحسن إلا إذا رضختُ لها ... ألقيت بكل شيء خلف ظهري وحضرتُ في اليوم التالي مع أهلي إلى هنا.... وها هي الأيام تمر تباعا وأختي سارة لم تتحسن بعد...إنه الجنون بعينه!
- حسنا، دعنا نفعل ما نبرع به، نحلل ونفهم ثم نستنتج!
رفع كفيه بينما ينتقل من مكانه ليحضر مقعدا عاد به ليجاورني خلف مكتبي، يعرض علي ما أعطيته من معلومات:
- إذن أنت تقول بأن السحر مذكور في كتابكم المقدس؟ وهذا يجعله بالنسبة لك حقيقة يجب أن تؤمن بها... كما تؤمن بجميع ما في الكتاب لأنه كما سبق وأخبرتني أنه كلام الله، كما أن السحر موجود في العالم يا جو، ولقد سبق لي رؤية أمور مفزعة، وفي الحقيقة أنا مثلك تجاهلتها تماما لكن دون إنكار تام فلا أحد يستطيع إنكار حقيقة وجود أمور غامضة بالنسبة لنا... ولها تفسير علمي بالتأكيد لكن لم نتوصل إليه بعد لذلك تبقى في حيز الغموض... لنعد إليك جو...أنت قلت لي يوما أن حقيقة الإيمان بالرب توجب عليكم الايمان بكتابه من بين أمور أخرى... إذن لماذا تواجه كل هذه الحيرة والكتاب يذكر السحر ويُقر بوجوده؟
لو كنت أعلم لأخبرتك حقا! يبدو أن جهلي تجلى على وجهي لذلك لوح بكفه وتجاوز الأمر.
- دعنا منكَ ولنتحدث في ما يهم... بما أن الطب عجز عن علاج حالة أختك... لما لا تستغل معرفتك بما في كتاب الرب لتعالج أختك وهكذا إن شُفيت سيزيد يقينك من كونه كان حقا سحرا، وتتخلص من هذه الحيرة التي تكاد تفتك بك.
هززتُ كتفاي، أشرح له:
- أبي وأمي يتناوبان على تلاوة الرقية على سارة كل يوم، وفي كل مرة تصرخ فيها وتهتز وكأن في داخلها شخص آخر حتى ينتهي الأمر بتعبها واستنزافها فاقدة الوعي.... الوضع يزداد سوء، وكلما استيقظت تصرخ بذعر حتى يضمها أحدنا فتستكين... لذا لا نستطيع تركها لحظة واحدة ونتناوب على مجالستها وإطعامها بالرغم من رفضها للطعام واستسلامها لنوبة كآبة مخيفة... أصبحت رؤيتها يا استفان عذابا يؤلم قلبي... أن أكون سبب معاناتها يدمرني... لا أعلم ماذا أفعل!... لا أعلم!*
لن أبكي أبدا لن أفعلها أمام أحد، تنفستُ بقوة وصديقي يرد علي باستنكار:
- لماذا تعتقد بأنك السبب؟ تلك المرأة وجدك لديهما مخططات شيطانية لعينة! وأنت ضحية كشقيقتك... انتبه إلي جو! .. فكر معي لماذا كلام الرب لم يساعدها إلى الآن، وأنت لا تنفك تؤكد لي بأنه شفاء...فلماذا ما يفعله والداك يزيدها سوء؟
إنها معضلة أخرى
- أولا سارة لا تساعد نفسها... ما تزال عالقة في حالة صدمة ولا تنصت لأحد منا...لطالما اتسمت بالعناد وبشكل مستفز وهذا من أسباب اتخاذهم لها كهدف سهل منذ البداية... فتاة غير ناضجة بعيدة عن الله توجه قوة شخصيتها في اتجاه خاطئ... تُتعبني دائما... تصلي مرة وتنسى مرات... تنام على سماع الأغاني وتفيق عليها... لا تذكر الله إلا قليلا... متهورة...

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


أراحني ذلك وساعدني على تحقيق عزلتي التي لم يزعجني فيها سوى الشياطين، غاضبين مني أو خائفين من فقد أحد جنودهم من بين صفوف أعدائهم، لكن لم يعد يهمني، لا شيء إطلاقا يهمني ولو كان الموت خلاصا مريحا ما تأخرت عنه ولاستدعيته بأطرافي لكن ذلك لن يشكل سوى نقطة رابحة للشياطين و بالرغم من إحباطي وعدم اهتمامي بشيء في هذا الكون ما أزال أشعر بكره لهم وحقد عليهم وأرفض أن يفوزوا بأي طريقة.
لا يعرف جرير أن نفسي قد اشمأزت مما أوقعتها به قبل موت جدتي بسنوات، لكنه فخ احتجت له الكثير من الشجاعة والكراهية لهم كي أقوم بأول خطوة لإنقاذ نفسي منه. لقد ظننت في وقت ما بأن قلبي مات ولم يعد رؤية شخص كعلوان يهيم على وجهه بين الطرقات أو فتاة كحفيظة آذت نفسها أو تدمرت حياتها وغيرهما من الضحايا يؤثر عليّ، فلا أحد بريء من مصابه وتجاهلت حقيقة ما يتكوم في نقطة عميقة داخلي إلى أن تفاجأت به كجبل شامخ قرر الانفجار في وجهي بحمم الغليل بعد وفاة جدتي، وحديث جرير الذي عرّى على جروحي وألقى عليها ملحا أجج من لهيبها بألمٍ لا يطاق.
- افتح يا ولدي!
اعترف بأنني صرتُ عاطفيا مؤخرا، فكلمة ولدي المُنسلة من فم والدي لأول مرة أرعدت قلبي كما فعلت كلمة صديقي من فم جرير.
- حسنا أنا آت...
كان علي اطعام جسدي على الأقل ليتخلص من هذا الوهن والدوار الذي يعزز رؤية هلاوس الملاعين.
فتحتُ الباب ليقابلني وجه أبي المهموم، يناظرني بتفحص قلق لم أقرأه على ملامحه من قبل لقد غير الزمن منه حقا، تغيرت حدة نظراته وهدأت عصبيته كلما لمحني كما ابيض رأسه الأشقر.
ارتعشت قدماي فتركت مقبض الباب عائدا نحو سريري الحبيب، الفراغ داخلي تتسع هوته ولقد مللت حقا وأشعر بالاختناق.
لحق بي ولدهشتي جاورني على السرير بهدوء يتفقد أرجاء الغرفة، هل رقت مقلتاه يا ترى أم أن نظري ما يزال متأثرا بسحر الملاعين! تلك المشاعر الغامضة والمتعاقبة على صفحة مقلتيه العليلتين حتى بهتت داخلهما لمعة الزرقة واقع حقيقي ملموس.
- هل تعلم بأن هذه كانت غرفتي ووالدتك قبل وفاتها؟
شعرت بقلبي تعتصره قبضة مؤلمة وأنا أرفع نظري إليه بذهول، كيف سأعرف ذلك؟ فأنا لم أر والدتي سوى في بعض الصور القليلة لدى جدتي جواهر، وخالتي عناية، وكل ما لدي منها كذكرى صندوقها الفضي.
- تركتها لك بعد وفاتها وغيّرت السرير فقط، الخزانة والمناضد كما هي....
جفّ حلقي وقسمات والدي تنضح ألما لم أشعر به من قبل، هل حقا أحب والدتي إلى هذا الحد، ووفاتها أثرت عليه أم أنني أتخيل ذلك؟ وهل حقا كنتُ غافلا عنه في ما مضى من السنوات؟
- أنظر إلي بني... لقد تعبت!
حسنا هذا غريب....وأنا كذلك لست على ما يرام.
- تعذبتُ في حياتي كثيرا... أحببت فتاة بكل جوارحي والموت خطفها مني، تركت لي ولدا لم أستطع حمايته ولا تربيته كما أوصتني به، وطلبت مني... حتى والدتي لم أراعها حق الرعاية مع أنني بذلت مجهودا لأردها عن ضلالها كما طلب مني والدي قبل وفاته والحمد لله التمست فيها تغيرا قبل أن تفقد عقلها أسأل الله أن يكون صادقا لله.
لابد من أن ذهولي مرسوم على وجهي بوضوح لأنه تبسم بمرارة، مسترسلا بمرارة:
- أعرف عن السحر كما كان والدي يعرف رحمه الله.... في عصرهم لم يكن هناك وعي ديني، كما لم يكن أغلب الناس على دراية بحقيقة بعض الأعراف التي تتناقلها الأجيال بجهل ...وحين صاحب والدي جدك من عائلة الفقيه عبد العليم؛ عائلة تناقلت بين أجيالها علم الشرع والفقه شرح لأبي أن ما تفعله والدتي حرام، ومنذ تلك اللحظة وهو يمنعها وينصحها لكن المصيبة التي وقعت على رؤوسنا كان ابتلاء أخي به، حاول منعه هو الآخر وفي النهاية هدده بالتبرؤ منه فرحل بعد أن تزوج من امرأة لا نعرفها... لم يحضر حتى عزاء والدي كما لم يحضر عزاء أمي الآن.
بلعتُ ريقي وجثة عمي تكتسح خيالي، فغمرتني موجة اشمئزاز وحقد ونفور نحو من يتحمل قسطا من الذنب لكن لا تبرير لنا، كل ذلك بما كسبت أيدينا.
- ذلك اليوم حين بُلِّغت بأنك وجدت جدتك في الحقول ميتة.
صمت ضاغطا على شفتيه وأنا ساكن لا أتحرك ولا أحيد بنظري عن وجهه، لا أعلم السبب، فهذا الرجل قد توقف عن ضمي منذ أن تجاوزتُ السبع سنوات من عمري، وتحول إلى ناقد لكل تصرفاتي، لا يلمح ظلي إلا وتعليق ساخر يغادر فمه مع نظراته المستخِفة.
- وبعدها حين رأيتك في المسجد... حالتك وملامحك! ....لقد كنتَ مصدوما... مبهوتا وكأنك تائه حائر... فعدتُ إلى البيت وانفردت بنفسي أفكر في حالك وبُعدك عنا وهروبك مني....من البيت في السنوات الأخيرة، ودون وعي مني استرجعتُ كل ما مضى فاكتشفت أنني حرمتك من والدك كما فقدتَ والدتك...
انقطعت أنفاسي وهو يمسك بكفي يضمه بين يديه بينما يكمل بحرقة استدعت الدموع لتحرق ضفاف مقلتاي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


والآن الأمر أسوأ.... رعبها من الظلام الذي تعيش فيه أدخلها في حالة إنكار لكل شيء... وهذا صعب إن لم تساعد نفسها وتتسلح بذكر الله والمحصنات وتقرأ القرآن وتصلي... صعب جدا علاجها من السحر الذي هو فعال لحد الآن لأنه ليس بمتناول أيدينا لنبطله، فتعكف الشياطين الحراس عليها يتأكدون من تفعيله... هل فهمت استيفان؟.. السحر هو تسخير الشياطين لتحقيق الرغبات بتقديم قربان يطلبونه من السحرة كأفعال مشينة بشعة يؤكدون بها على كفرهم بالله تقربا منهم... والآيات واضحة في القرآن... السحر موجود بكل خطورته ولا يمنعه سوى إرادة الله... فمن طبق قول الله في الوقاية والعلاج سلم من أذى شياطين الإنس والجن، ومن ترك نفسه لأذاهم فلا يلوم سوى اهماله.
- إذن ما سبب حيرتك جو؟
يسألني بحيرة بالغة فأفكر بأن هذا ما يضاعف من عذابي! لو فقط أستطيع التعبير عما في داخلي، فأنا لحد الآن مصدوم من اكتشافي لمدى تأثر هويتي بالمكان الذي نشأتُ فيه، عند أول امتحان تزعزعتُ واصطدمت بحائط من الشك والتردد، السحر مذكور في القرآن وأختي المتهورة لم تكن هدفا مُحصّنا كي تقاوم ذلك، إنها مثل الخال عبد التواب وابنه علوان تماما.
- آآه يا استيفان صدمتي في نفسي كانت أشد وقعا علي من صدمتي بما يحدث لعائلتي...لكنني حقا أحاول مع سارة لأقنعها بعلاج نفسها، وهي ما تزال مستسلمة لصمتها وكآبتها لكنني لن أستسلم، فقط لأطمئن عليها وسأعود إلى الوطن كي أبحث عن هذا السحر حتى لو اضطررت لقتل زوجة جدي.
- مهلا مهلا!
بدا القلق على محياه رغم بسمته المستغربة من حالي، وأوصاني بتحذير:
- اهدأ جو... أول الأمر يجب أن تريح عقلك وتنام جيدا، يجب أن تعيد شخصيتك الساكنة والمتفائلة... كنت تخبرني بأن سر ذلك استعانتك بالرب.... افعل ذلك... لتحارب يا جو... يجب أن تكون مستعدا، هادئا، وقويا.... وأنت يا صديقي... حالتك مزرية... فكيف ستساعد أحدا وأنت هكذا؟... تعرضتَ لصدمة وأزمة فمن الطبيعي أن تهتز قليلا خصوصا والأمر يضعك على مفترق طرق بين هويتك ونشأتك... فقط افعل كما تفعل دائما لتستعيد رزانتك... وهدوءك... وكمنطق عملي إن تعالجت شقيقتك من السحر بالطريقة المذكورة في كتابكم فهي نقطة لصالحه وهكذا ستتخلص من حيرتك إلى الأبد...فأنت إنسان في النهاية وهذا امتحانك!
نظرتُ إليه متفاجئا فضحك يستدرك:
- أُعيد عليك حديثك يا جو، أنا أجيد الاصغاء.
أتمنى حقا أن يُسلم استيفان يوما ما لأنه إنسان جيد، محب للخير والسلام رغم بعض العيوب فيه لكن من هو الكامل سوى الله؟ سأظل أدعو له وأطلب من محسن أن يدعو له بالهداية... محسن!
- ها هو الوجوم عاد مجددًا!.... ماذا كنا نقول؟
استيفان محق، يجب أن أستعيد نفسي وكل ما أقدمه لرواند إلى حد الآن المزيد من التشفي والتأكد لنصرها المحتوم.
مهما كانت صدمتي في نفسي يجب أن أتجاوزها وأتشبث بربي فهذا عهدي به عز وجل لا يتخلى عن متشبث به، وسيغفر لي حيرتي ويعينني.
لم أكد أهز رأسي بتصميم حتى رن هاتفي برقم سلا، التقطته أستقبل صوتها المثير للقلق.
- أخي تعال حالا! هناك أمر غريب يجب أن تراه.
انتفضتُ من مكاني وكل تفكيري ينصَب حول سارة:
- ما بها سارة؟
- كما هي أخي... هناك وشم خلف عنقها رأيته اليوم بعد أن سمحت لي بمساعدتها في الاستحمام، تعال حالا أخي! صورته وأرسلته لنهيلة وما أخبرتني به مخيف.
***
(وادي الحقول)
(بهيج)
يمكنكم فعل ما تشاؤون لترهيبي، كل هذا الذي أراه أمامي الآن من فوضى أعلم بأنها مجرد وهم تسحرون به عيني. لا تكتفوا بتحليق كل ما في الغرفة فوق رأسي ولا بإصدار أصوات مرعبة، والتسلل إلى كوابيسي أو حتى اتخاذ أشكال أشد الحيوانات افتراسا وبشاعة بل هاتوا جحيمكم بأكمله إلى هنا، كل ذلك لم يعد يهمني، لا أنتم ولا غيركم.
فراغ يملأ جوفي تماما كهذا الفراغ وسط العاصفة الوهمية فوق رأسي، على فراشي الذي لم يتغير منذ سنين وفي غرفتي الخاصة في بيت أهلي.
فجأة فقدتُ اهتمامي بكل شيء، عدتُ إلى المكان الذي لم أتخيل يوما أنه سيكون ملجأي بعد هروبي من العالم بكل ما فيه، غرفتي التي كنت أزورها لَمماً.
لذتُ بها، بفراشي تحديدا لأكتشف أنه المكان الوحيد الذي احتضنني بصمت ولطف واحتواء خال من الشروط ولمدة شهرين، وهو الوحيد الذي أشعر بأنه سيحتويني لأكثر من ذلك ودون سؤال ولا تذمر مما يحدث من غرابة حوله بسببي، تماما كما يحدث الآن بعد أن اختفت العاصفة فجأة كما ظهرت فأدرك أن هناك أحد ما قرب الباب:
- بهيج افتح! أريد التحدث معك.
انطلق الهواء هاربا من جحيم صدري أعجز عن التحرك من مكاني، ليس تحكما من أحد سوى عقلي الفاتر وقلبي البائس.
لماذا قرر والدي رؤيتي اليوم؟ لقد تفهموا حالتي على أنها حزن على وفاة جدتي ولم يزعجني أحد في خلوتي، فقط مرتين في اليوم يرسلون فيها الطعام والماء مع أحد إخوتي الصغار، يضعه على الباب بعد أن يمنحه دقتين.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


الفصل الثاني عشر
فأنا مسير في أمر لا أحاسب عليه، ومخير في كل أمر أحاسب عليه، قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].....عمر عبد الكافي.

(بعد شهرين)
(المدينة السياحية)
"نبيه"
طُرح علي السؤال مرات عدة من معارفي عن سر تعلقي بالصف الأول منذ أول سنة تم توظيفي في هذه المدرسة الخاصة بالصم والبكم. تعليم الأطفال أول الخطوات لإتقان لغة الإشارة شغفي الذي لا ينضب، فالمستوى الأول دائما الأصعب لشعور أغلب الأطفال بالنقمة على أحوالهم، عاجزون عن الفهم والاستيعاب فيفرغ أغلبهم الغضب في التمرد على محيطهم الذي لا يساعد ولا يؤكد لهم حقيقة أنهم طبيعيون، مادام الله عز وجل خلقهم كما هم وحاشا لله أن يخلق نقصانا أو عطبا فهو القائل سبحانه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)، الخالق هو العالم بالحكمة في كل ما يخلقه على شكل ما أو بخلقة ما، وما يبنى عليه البشر نظرية الطبيعي وغير الطبيعي هي نسبة الأغلبية، فلو كان أغلب البشر لا يسمعون أو لا يتكلمون أو لا يبصرون لكان ذلك هو المقياس الطبيعي ولأعتُبر الإنسان المخلوق بهم جميعا هو غير الطبيعي والخاصية الشاذة عن القاعدة، لا أعلم إن كانت نظريتي مفهومة! لست أحلل بشكل فلسفي مثل مؤنس لكن هذا ما تعلمته واستنجته من خلال ما سمعته من الفقيه عبد العليم الذي دأب على قولٍ نقشه داخل قلبي وعقلي*الدنيا امتحان، كل ما فيها يا نبيه منذ أن وقعتََ في رحم أمك وقد بدأ امتحانك لا يهم إن كنت تتحدث أو لا، تبصر أو لا، غني أو فقير، أنت مُبتلى بصحتك ومرضك بوالديك وأهلك ووسطك، كل ما تجد فيه نفسك فهو امتحانك، وثِق بالله أنه رحمة بك جعل امتحانك كما تعيش فلا تلتفت لأي من وساوس الشيطان وركز في حل امتحانك لتفوز* ذلك الرجل الذي لولاه بعد الله لكنتُ ضِعتُ بين عدم احتواء أهلي ووسطي جهلا منهم وليس عمدا وبين مستقبلٍ لم أكن أعلم بأنني قد أحقق فيه شيئا يمنحني قيمة بين الناس، فالأمر الآخر الذي استنتجته أن مجتمعنا للأسف لا يعترف سوى بلغة المال، لا يهم من تكون أو كيف تكون إن كان لك مركزا، وظيفة أو أموالا لكن حين يختفي كل ذلك تبدأ الأشياء الأخرى بالظهور وأنا بحالتي هذه لم أكن لأبلغ في سوق مجتمعي رقم الصفر لولا شهادتي ووظيفتي، هذا حقا ما يجعلني الآن بينما أنا جالس خلف مكتبي أتأمل الصغار وهم منهمكون في حل واجب أعطيته لهم كي أنزوي بنفسي قليلا، أفكر في مستقبلهم كيف سيكون؟ وهل ذكاء بعضهم المتقد سيُدفن ويُطمر بالتجاهل والاستخفاف لمجرد أنهم لا يسمعون أو لا يتكلمون أو كلاهما؟
ما أوجعها من سخرية أشعر بها الحين، وأنا أفكر في الذين يعتبرونهم طبيعيين ويتصفون بالنبوغ ومع ذلك لا يجدون احتواء ولا دعما يدفع بهم إلى سماء النجاح والتألق!
لكن على كل حال الله اسمه العدل سبحانه، سيتولى أمورهم كما تولى أمري.
آه! لقد كنت بخير ومتصالح مع عقدي! حسنا ليس كليا لكنني وجدت طريقة بفضل الله للتعايش، حتى أنني كنت أفكر صدقا في تقبل اقتراح أحد زملائي بأن أتقدم لإحدى الزميلات وأكوِّن أسرة خاصة بي، رغم غضبي الكامن داخلي ليس من أجلي على قدر ما هو من أجل الأستاذة التي لن تقبل بي سوى لأنني الاختيار المتوفر لديها من بين آخرين مثلي طبعا من الزملاء الأفاضل! وإن لم تفعل قد تنعدم فرصها في الزواج بغيرنا ممن يُعدّون طبيعيين فقط لأنها خُلقت لا تسمع ولا تتكلم!
يا للسخرية! مع كل هذا الغضب والتجاهل لكل العقد داخل نفسي المتعبة تعرفتُ على عذاب آخر مختلف وأشد قوة مما ظننته يوما يوجعني، يتركني أسيرا لتساؤلات جديدة والحقيقة أن شيئا ما مرعب ينبئني بأنني إن لم أجد الردود هذه المرة شافية لقلبي العليل قد أفقد الأمل في سعادة ما تزال دواخلي باحثة عنها بضراوة.
انتهت الحصة وتوقفت أفكاري المتدفقة دوما بفيض يجتاح كياني بالصورة الوحيدة التي أعرفها كمعنى للصخب لدي.
ودّعتُ الصبية ببسمة مُحبة، صادقة لا يراها سواهم في أغلب الأحيان فلا أحد أكثر منهم يستحقها، يكفي ما يعايشونه في حياتهم وسط هذا المجتمع العقيم كي أزيدها عليهم بعبوسي المقيت.
- نبيه مرحبا.
آآخ! ها هو أحد زملائي، أكثرهم بشاشة وتطفلا. الحقيقة لا أعلم إن كانت بسمته المستفزة ببهجتها المستمرة ما يثير حنقي نحوه أو تدخله الدائم في حياة من حوله!؟ نصّب نفسه أخا كبيرا للجميع هنا يثرثر فوق رؤوسنا، وحين أذكر كلمة يثرثر أعني بها الكثير من الإشارات حتى أنني أتعب من ملاحقة كفيه طوال حديثه الذي لا ينتهي... لكن هل أستطيع تجاهله؟ طبعا لا! والسبب معروف.
- مرحبا أستاذ البشوش.. كيف حالك اليوم؟
نعم...لقب عائلته كمظهره "البشوش" وها قد بدأت الثرثرة، ونحن على مشارف الباب الخارجي للمدرسة ولن أتمكن من الفرار مهما حاولت:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

26 Dec, 15:01


- الحمد لله... كنت أبحث عنك لأخبرك عن الأستاذة منيرة...نصحتك كثيرا بشأنها لكنك ظللت تماطل إلى أن أفلتت من بين يديك.
كنت على وشك الهروب فعليا مهما ظهر تصرفي غير لائق لكن آخر حديثه أثار اهتمامي لأول مرة.
- الأستاذة تم عقد قرانها أمس...
هذا غريب، هل هناك زميل آخر قرر الزواج بها؟ ولم أكن في حاجة للسؤال أبدا مع الأستاذ البشوش.
- زوجتي أخبرتني بأنه من معارفها يقطن في نفس الحي الذي تقطن فيه....
أها! لهذا لم أعرف بالأمر، زوجة الأستاذ البشوش لمن لا يعرف هي زميلة أخرى لنا تعمل في الإدارة. تفاجأتُ من اقترابه مني ليتابع حركات يده المتوارية وكأنه سيفضي إليّ بسر خطير:
- العريس أستاذ الرياضيات في الثانوية المجاورة، وهو رجل طبيعي..
يا إلهي! كيف سنقنع مجتمعنا العقيم بأننا طبيعيين إن عجزنا عن إقناع أنفسنا؟! وأنا بالتأكيد لن أجادله في أي كلمة أخسر بسببها ساعة ثرثرة أخرى، لذا ابتسمت له بلطف قدر الإمكان ورفعت كفاي أمنحه الرد المجامل:
- مبارك لها، قدرها ونالته كما سأنال قدري أنا الآخر، أستأذنك أستاذ البشوش.. يجب أن ألحق بحافلة الوادي...السلام عليكم ورحمة الله وبركاته....*
أحمد الله أن بُعد بلدتي يُعد تبريرا مقنعا يجنبني الحرج أغلب الأوقات، تحديدا أكثرها ثقلا واستفزازا لهدوء أعصابي.
حركتُ قدماي مستغربا بعض الراحة المحملة بنفحة أمل، شعرتُ بهما هناك في العمق نحو خبر زواج الأستاذة منيرة. والحقيقة أنها ليست الأولى التي برهنت على أننا من استسلم لأسوار من الوهم شكلناها نحن أفراد المجتمع ورضينا بطوقها حول أعناقنا، فهناك غيرها من الصم البكم أو المقعدين أو الأكفّاء شاركوا حيواتهم مع أناس ممن تم تصنيفهم بسُلم المقاييس البشرية بالطبيعيين وجمعتهم بهم قصص حب واقعية نجحت ونجحت معها علاقاتهم الزوجية، ومنهم أيضا من حققوا إنجازات علمية وأبدعوا في مجالات مختلفة وأثبتوا جدارتهم وتفوقهم للعالم أجمع لكن تلك الأسوار المقيتة تنبثق داخل كل فرد منا بسبب ما نسمعه أو نراه من بعض رموز السلبية والجهل المستفحل بمحيطنا أو بكل بساطة نابع من تشوهاتِ دواخلنا. تشوهات قاومتُها وساعدني في ذلك بعد الله أشخاص عدة، الفقيه وابنه محسن، جرير ومؤنس، لكل منهم دور مهم في ما أصبحت عليه الآن بفضل الله وحتى يوسف البعيد.... يوسف! على ذكره الذي لا أنساه أبدا لمحتُ الصغيرة ابنة آل عيسى القاطنين في المدينة السياحية، وكعادتي تأملتها بينما هي واقفة مع صديقة لها تنتظر دورها لتستقل حافلة المدرسة، تُحدثها ببسمة جميلة وعينان تتقدان ذكاء وحماسا، فأبحث في ملامحها عن أخرى تقرُبها وأشتاق إليها. رباه! كم أشتاق لرؤيتها ولو من بعيد كما أرنو الآن قريبتها الصغيرة باسمة آل عيسى!
فقط لو ألمح طيفها بين أزِقّة الوادي أو تُجالس شقيقتي وسط بيتنا!
ماذا حدث لي؟ قبل أن أقابلها كانت الحياة أكثر بساطة والعُقد أكثر استسلاما لسُباتها الموسمي ما لم ينكُثها وجع جديد!
قبل أن أقابلها كنتُ ألمح الصغيرة فأتذكر يوسف أما بعد دخول أخته حياتي أصبح قلبي يدق من مجرد مرور شبح كيانها زائرا لخاطري، وهل هي زيارات بالفعل أم سكن دائم لا يسجل غيابا أبدا؟
كيف أضحت رؤية طالبة صغيرة مؤثرا هكذا فقط لكونها من دمها وتذكرني بها؟ وهل أحتاج لمن يذكرني بها؟
آه لابنة آل عيسى وما جعلتني أعيشه وأشعر به نحوها ثم رحلت تاركة خلفها الفراغ المميت، والظلام الكئيب!
فلم يعد للجدران قيمة ولا للأزِقّة رونقا فقده بفقد توقعي للقياها عبرهم كلما سلكتُ دروبهم. حتى منزلنا فقد الروح التي أحضرتها معها إليه لأزداد حبا وتعلقا بأرجائه الحامل لعبير وجودها، رحلت وأخذت كل شيء معها فماذا تركت لي من بعدها!؟
تلك البريئة الصغيرة بحجمها والكبيرة بذكائها واختلاف شخصيتها!
غادرتُ المدرسة أخيرا ولحقتُ بالحافلة، أستقلها بينما أسترجع آخر مرة رأيتها فيها. ليتني لم أخرج من غرفتي تلك اللحظة وقد شعر قلبي بمالكته تملأ المكان بعبق أريجها الخاص!
ليتني لم أتسلل للمرة الأولى في حياتي لأتلصص على فتاة وأشبع عيني منها! وهو الذنب الذي دفعتُ ثمنه سريعا وأنا ألمح دموعها التي فطرت قلبي إلى شقين، جمّدت قدماي مكانهما وشلّت جسدي عن التحرك. فقدتُ الإحساس بالمكان والزمان، وكل ما كنت أعيه بكاؤها الشبيه ببكاء الأطفال الصغار، شفتان مقلوبتان ووجنتان محمرتان وعينان تقطران ألما وخوفا، مزقتني وأعادت إلي ذكريات أليمة كانت فيها نهيلة طفلة صغيرة لا تفقه بعد معنى الموت الذي حرمها من والدتها فجلست تبكي بنفس الطريقة، بحُرقة ودموع غزيرة تنادي والدتها دون مجيب.
كم كان الأمر مؤلما لقلبي، سالبا مني لحظات طوال حتى استيقظت من سكرة صدمتي وحاولت التركيز على شفتيها المحمرتين جراء بكائها الأليم فلم أستطع جمع كلمة واحدة عليهما وهما يحملانني عبر غمامة مختلفة لم تخطر على بالي يوما ما، فنهرتُ نفسي بقوة واستغفرت ربي ثم تقدمت نحوهما، يدفعني القلق القاتل عليها.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

22 Dec, 14:52


- يخبرك بأن لدخول الحمامات آداب تمنع الحجاب عن الانكشاف، وتحول بينك وبين الخروج منه بهذا الشحوب و...غير متوضئ.
فغر بهيج ما بين شفتيه يحدق بنبيه قبل أن يحدثه بنقمة:
- أعرف أنك ضليع بأمور لا أفضل التحدث فيها الآن، فقل ما لديك مباشرة، وكف عن التحذلق.
زفر نبيه بأسف ثم بدأ يحرك كفيه بسرعة وجدية:
- يخبرك بأن ما سيقوله لك من المفترض بكل مسلم معرفته لأنه من ضمن الأذكار المشروعة، فردد الكلمات التي سأخبرك بها وأنت تدخل الحمام بقدمك اليسرى فالخلاء لا يدخل إليه باليمنى، لكن تلك الكلمات آمن بها من قلبك...وصدق بها موقنا بقدرة الحافظ الذي هو الله.
توقف نبيه يطالبه بتأكيد فمسد بهيج جبهته، ناظرا إلى يوسف مرة أخرى يتأمله بذنب أشعل من ريبة الأخير، هناك ما يعرفه بهيج ويخفيه عنه، ما هو يا ترى؟
- حسنا! ... ما هي الكلمات؟
إشارة واحدة تلك التي صدرت عن نبيه نحو يوسف الذي اختار إرجاء ما يفكر به لاحقا ليعلمه أو الأحرى يذكره بذكر دخول الخلاء:
- بسم الله... اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ منِ الخُبثِ والخَبائثِ.
بلع يهيج ريقه ولوهلة ظن بأن لسانه سيخذله ولن ينطق بهن لكن ظنه خاب من حسن حظه ونطق بالكلمات بخفوت قبل أن يشير نبيه بحركات جادة ترجمها يوسف:
- إياك أن تنسى التصديق بها، صدق وآمن بأن الله الحافظ عز وجل، وادخل بقدمك اليسرى وحين تخرج قدم اليمنى.
هز رأسه وأولاهم ظهره يغمض عينيه هامسا من صميم قلبه المرعوب لله الذي يحول بينه وبين نفسه:
- يا رب....بسم الله...اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ منِ الخُبثِ والخَبائثِ.
ودخل مغلقا الباب عليه، يتلفت بعينيه متفقدا أركان الحمام وكأن هناك من سينبثق له من العدم، انتظر لحظة اثنتان ثلاثة ووصل إلى العشرة ولا يبدو أن شيئا ما سيحدث، ارتفع حاجباه بدهشة صادقة وتحرك بسرعة ينوي الوضوء.
خرج من الحمام يحمل آثار الوضوء فرفع نبيه كفيه يحيه بمرح مازح ومؤنس يترجم له بحديث ماكر:
- ألف ألف مبارك عليك يا بهيج!
رفع كفه يبسطها في وجوههم بعبوس مستنكر، فتدخل فواز زاجرا بغضب بينما يلمح أحدهم مقبلا عليهم:
- يكفي عبثا وكأنكم أطفال صغار.
- سيحملون الجدة رحمها الله إلى المسجد!
هتف الشاب يبلغهم فتأهبوا جميعهم لينطلقوا.
***
(المسجد... جامع السلام)
الرهبة لا تغادر قلبه، ترافقه داخلا إلى رحبة المسجد ينظر هنا وهناك فتعود الذكريات لتغزوا مواطن الحنين داخل قلبه المتوثب بجنون. هناك كانت حلقته مع أصدقائه، يلهو بحاجبيه وقسمات وجهه كل حين خلف لوح الحفظ الخشبي خاصته ثم استدار يفكر، هناك كان يفر من جرير أو نبيه حين يوقع بهما في مشكلة مع الفقيه أو يستفزهما بوقاحته، وضحكاتهم الصبيانية البريئة تملأ مسامعه كنغمة سلسة تتسلل عبر أذنيه كسمفونية عذبة تُروح عن قلبه لهيب العذاب.
- مرحبا بك بني! إن كان الموت ما أحضرك هنا فرب ضارة نافعة... بيْد أن الموت ليس بضارة إنما هو حق.
جفل بهيج على صوت الفقيه عبد العليم الناظر إليه ببسمة محبة، مرحبة، ودافئة تماما كما كان...لكم يشبهه ابنه محسن!
- لم أخبر محسن بعد بأنك هنا، لأنه إن عرف سيترك المسجد ويخرج للقياك، وقد يطلب مني الصلاة بالناس، لذا تعال معي.
أطبق على كفه قبل حتى أن يفتح فمه بالاعتراض وارتفع أذان الفجر مُعلنا عن بداية يوم جديد، خلقه الله ليشهد على حاملي الأمانة، ينذرهم بأن الحياة امتحان، بضعة أيام منتهية لا محالة، فأين هم الكيِّسون ذوي الفطن؟
جف حلقه وتوقف على عتبة الباب الداخلي للمسجد، فالتفت إليه الفقيه محتضنا كفه بلطف كما يناظره.
- أنا ... أنا....
انحسرت الكلمات داخل جوفه والفقيه يهز رأسه متفهما فيخاطبه بخفوت ين:
- أنت لم تنس، فقط تحتاج إلى تذكير... توكل على الله، وادخل وستتذكر كل شيء... قلبك يحفظ الذكرى داخله فقط يحتاج للتحفيز... هيا .. بسم الله...
لحق به مستسلما وانتصب واقفا قرب الفقيه على يساره أصدقاؤه باستثناء محسن الإمام.
أرسل نظراته بعيدا حيث يقف والده، وبالرغم من وهنه وحزنه الذي أضاف إلى مظهره المزيد من السنوات، إلا أنه كان ينظر إليه بين الفينة والأخرى، وكأنه يتأكد مما يراه ويتوسل إليه أمرا ما تجاهله في تلك اللحظة وعاد يرمق أمامه، يجاهد ليتذكر ما تعلمه في صغره فلم يسعفه عقله الجامد إلا ببضعة أمور قليلة، يغمغم بها ثم ينطق بحرقة تنبض له عروقه الهادرة بدماء حارة تسيل بهيجان مخيف... يا رب!
وكما أخبره الفقيه ما إن عرف محسن بوجوده أو الأصح شعر به كما يتعرف دوما على وجودهم من عبير أجسادهم الخاص، ترك مقدمة الصفوف متلمسا طريقه إليه، باسما بسعادة صادقة لا تشوبها شائبة، يعزيه في مصابه ويربط على قلبه، تاركا لوالده إمامة المصلين في صلاة الجنازة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

22 Dec, 14:52


وفي المقبرة راقبهم وهم يوارون التراب على جدته وكم أثر ذلك على قلبه، فبالرغم من كل ما عاشه من تخبط لم يتوقع أن طريقة موت جدته ستهز كيانه هكذا، يشعر بها شماتة مخزية تلك التي منّوه به وبها، لكن لمَ هو مستغرب؟!
ألم يفعلوا ذلك بعمه قبلا؟ وهو كالغبي إنقاد خلفهم... خلف وهم السلطة والجاه الواهم وما هو إلا ضلال وضياع!
أولها تغرير أوسطها ذل وآخرها شماتة!
آآآه! أنّ بوجع حقيقي وهو يلمح رأس جدته يختفي تحت التراب، فربت يوسف على ذراعه يواسيه، فاستدار نحوه وتأمله بغموض للحظات سبقت همسه المقتضب قبل أن يغادر بخطوات سريعة، متلافيا خلفه رجلا اسودت نظراته بإدراك متأخر، فلو نحى غضبه جانبا لتوصل إلى فكرة واضحة بنفسه:
- أخبرهم بأنك موافق على الزواج بشيراز، فقط قم بتلك الخطوة.
***
(منزل أهل فواز)
بخطوات تعبة أقبل على والدته ثم جلس متنهدا جوارها، يتأمل انحناءها على رأس عكازها فسألها بإشفاق وهم جاثم بثقله على الصدور:
- هل استيقظت؟
ردت على بكرها دون أن تنظر إليه فقط ترنو قبالتها بنظرات واجمة، وسط بهو صغير قرب مدخل الطابق الثاني والمؤثث بأثاث بسيط وأنيق، مكون من أريكة وكرسي جلدي بينهما طاولة منخفضة من البلور السميك.
- لا! صليت وقرأت القرآن جوارها ثم خرجت هنا أنتظركم، أين هو؟
أرخى الحبيب ظهره على مسند الأريكة، يجيبها بوجوم:
- لمحته متوجها نحو محله، لابد من أنه يريد الانفراد بنفسه قليلا.
هزة رأس صغيرة تلك التي لمحها ولدها عليها قبل أن تبوح له بنفس النبرة الفاترة:
- نحن في مأزق يا ولدي..
وافقها القول ثم استفسر منها:
- هل تشكين في معرفة أهلها بمصابها، وأخفوه عنا؟
ملامحها المتجعدة بفعل الزمن والهمّ لا يغادر الجمود في محياها وهي تجيبه:
- تلك الأمور لا تظل مستورة يا ولدي، ونحن نعرف أهلها حتى قبل ولادتها، ولم نسمع عنها خبرا.
ثم مالت نحوه فقط بمقلتيها الغائرتين غمّا دون وجهها المستند بذقنه على ظهري كفيها المحيطين برأس عكازها:
- الأولى رحمها الله سمعنا عنها ومنها ولم نصدق، وأنت أصررت.....
أخرج نفسا ملتهبا ونبض قلبه بقوة، منذ أن شاهد بعينيه ما حدث والذكريات لا ترحمه، تتوالى على ذهنه بهجوم كاسح تنكث جروحه وتعتصر أوجاع قلبه وهو الذي ظن بأنه نسي.
- ماذا سنفعل أماه؟
جعدت جانب فمها، ترد عليه بقلة حيلة:
- لا نستطيع ردها لأهلها فنسيء لسمعتها وندمر حياتها، أنا لا أستطيع تحمل ذنب كذاك، وفي نفس الوقت... لن نسمح لفواز بلمسها حتى لا تؤذي نفسها، وفواز ابني وأخوك... نحن أكثر من يعرفه...
ثم اعتدلت تقرب وجهها من وجه ولدها بلحيته مشذبة الأطراف تتخللها بعض الخصلات البيضاء، تبث إليه مخاوفها وقد أضعفها الهم وأوهن عظمها الكبر:
- ولذلك نحن في مأزق يا ولدي، في مأزق حقيقي!
منحها نظرة مشفقة ولمسة داعمة على كتفها يطمئنها برقة دافئة:
- في الأولى لم نصدق ولم نهتم.. لكن الآن نحن نصدق، ونهتم... الحل موجود بفضل الله، والقرآن شفاء للصدور وطارد للشياطين... معركتنا الحقيقية هي التأثير عليهما ليستقيما، وحين يستقيمان على أمر الله بصدق تستقيم أمورهما ... فقط يجب أن نحتاط ونأخذ بالأسباب.
هزت رأسها ممتنة لسندها والداعم لظهرها المنحني والمنهك، تعقب بإعياء:
- الله المستعان يا ولدي ... الله المستعان.
***
(مساء)
(منزل الخواجا العائلي)
ران عليهم الصمت مكتفين بتبادل النظرات المترقبة من بينهم رواند التي تفاجأت بمكالمة زوجها، يأمرها بالحضور حالا برفقة أختها وما كادت تتعذر بعزاء جدتها حتى أخرسها بتتمة الجملة المثيرة لكل حواسها بتأهب حارق.
يوسف طلب من جده اجتماع العائلة بوجود شيراز، ماذا يريد؟ وإلى ما يخطط ؟ اتصلت بالأبله ابن عمها مرات عدة دون رد وهي في طريقها إليهم، مستسلمة لجهلها الذي لم تتعود عليه.
وها هي جالسة جوار شقيقتها التي لم تكف هي الأخرى عن طرح الأسئلة منذ أن أبلغتها بوجوب حضورها، تنتظر آخر فرد لم ينضم بعد إليهم. رفع يوسف رأسه عن الأرض حاسما فوضى أفكاره واستقام مستقبلا سلا العائدة من غرفة شقيقتها، تقول لهم بحزن وقلق:
- لا تستطيع النهوض من الفراش، الدواء أتعب معدتها.
هز يوسف رأسه وعاد ليؤكد على قوله السابق لوالدته:
- سآخذها غدا إن شاء الله إلى متخصص، ما فعلتماه اليوم ليس كافيا، والدواء كما رأيتِ لم يناسب معدتها، يجب أن نحصل على نتائج التحاليل ونذهب بها إلى متخصص في المدينة.
أومأت له والدته الجالسة بأناقتها المعهودة، توافق على قراره، فتدخل جده يقول له بنفاد صبر لم يظهره:
- لماذا جمعتنا يا يوسف؟ لدي عمل تعطل بسبب واجب العزاء اليوم.
أخفت رواند تبرمها، مولية تركيزها لمن شملهم بنظرة غامضة انتهت إلى شيراز غير المستقرة في مقعدها من التوتر:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

22 Dec, 14:52


- آنسة شيراز.... هل تقبلين الزواج بي؟
تلات شهقات فرت من حناجر الفتيات، رواند المصدومة وأختها المصعوقة وسلا المبهوتة. أما والدته فتجمدت على وضعية البلاهة ولم يكن السعيد فيهم سوى من شعر بحلمه يدنو من راحة يديه وبين ذراعيه... جده الخواجا، قام من مكانه ضاحكا يضم جسد يوسف المتصلب نفورا يبارك له بكل سعادة توشك عل إفقاده هيبته:
- مبارك عليك بني... أسعدت قلبي جدا.
بلعت شيراز ريقها ترمق أختها بنظرات هلعة أثلجت صدر يوسف الذي تأكد من أنه على بداية الطريق الصحيح لكن جرس الباب مع صرخة سلا المبتهجة شوشا تركيزه:
- بابا....!
استدار بسرعة آلمت عنقه، ينظر نحو الباب ليتأكد من وصول والده.
- صلاح الدين؟
نطقت بلقيس بدهشة ساهمة والمفاجآت تتسلمها تباعا وقامت تخطو نحوه بينما هو ما يزال يستقبل أحضان وقُبل ابنته المسرورة برؤيته.
- يوسف أخبرني بأنك ستأتي آخر الأسبوع بابا!
تساءلت سلا بفرحة لمعت لها مقلتاها فرد عليها متجاهلا نظرات زوجته المجروحة وهي آخر من تعلم بخبر قدومه:
- وجدت موعدا أبكر فحجزت التذكرة... كيف هي سارة؟
سأل يوسف الذي كان قد اقترب منه، خلفه جده القائل بترحاب سعيد:
- حمدا لله على سلامتك يا صلاح الدين، جئت في الوقت المناسب.
اكفهرت ملامح يوسف برفض، فلم يحسب حساب حضور والده في ذلك التوقيت بالذات وهو الذي لم يخبره عن قراره بعد ولا أبعاده.
- سلمك الله... لماذا يا ترى؟
رمقهم باستفسار فهمّ الخواجا بإخباره لولا صرخة سارة المرعبة أثارت فزعهم وهرولوا جميعهم نحو غرفتها، وكان أول من وصل إليها والدها الذي صدم بمظهرها المزري، بشرتها الشاحبة ونظراتها التائهة تتحرك في الغرفة بتخبط وكأنها... لا، مستحيل! فكر والدها وهو يتلقفها بين ذراعيه، يسألها بلهفة ليُفند خاطره المخيف:
- ما بك صغيرتي؟... سارة!
رفعت رأسها تبحث عنه بمقلتيها الضائعتين، متشبثة به بقوة بينما تندس داخل حضنه هاتفة بخوف وتشتت:
- بابا... أنت هنا... بابا لقد جئت... ساعدني بابا... أنا خائفة!... لا أعلم ماذا حل بي؟
أبعدها قليلا ليتفحص ملامحها الشاحبة، يسألها تحت أنظار الجميع المراقبة للوضع بقلق بالغ باستثناء الشقيقتين المتناظرتين فيما بينهما بغموض عابس:
- ما بك صغيرتي؟ ما الذي يؤلمك؟
حركت كفيها المرتعشتين بعشوائية حتى وجدت وجه والدها وضمته باكية، تجيبه بما حل عليهم بصاعقة أنكى من كل ما سبق واعتبروه مصيبة:
- أنا لا أرى شيئا بابا ... كنت أعاني من ضباب يغشى بصري الأيام الماضية.. ظننته مجرد تعب وسيزول لكن فجأة لم أعد أرى سوى الظلام ... الظلام يا بابا.... وأنا مرعوبة!
ظللهم الصمت، يشل أطرافهم عن التصرف ولم يفعل يوسف سوى أن التفت نحو رواند التي منحته نظرة خبيثة متشفية تخبره عبرها بأنها ما تزال هي الرابحة، والسباقة بخطوة على طريقهما المظلم وأنه لا فكاك له منها أبدا.... مهما حاول!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

22 Dec, 14:52


- هل تخفين عني شيئا يا صفاء؟
ازداد يقين تقوى من وجود شيء ما في قلب أختها للأستاذ من رد فعلها المرتبك والاحمرار الزاحف على صفحة بشرتها السمراء، رغم انكارها المتوتر:
- أنا!... ماذا سأخفي عنك؟... ماذا تقصدين؟
عبست تقوى، تجيبها بترقب لردود أفعالها:
- لا أعلم... شيء ما يخص الأستاذ مؤنس.. مثلا!
تصلبت قسماتها بينما تمنحها نظرة مصدومة كادت أن تلغي شكوكها لولا تلك اللمعة على صفحة عينيها الرمادتين.... تعرفها جيدا ولا تصدر عن أختها إلا حين تحب شيئا ما بكل قوتها، وترغب به من صميم قلبها فلا يسعفها ترددها وضعف ثقتها بنفسها بالسعي خلفه ولا التعبير عن حبها له إلا من خلال نظراتها المشعة بحماسها المكتوم داخلها.
همت بفتح فمها لكن صوت دق الباب الخارجي باستعجال حاد سلب اهتمامها كما فعل مع باقي النسوة. فتحته إحداهن فظهرت امرأة أخرى يصحبها شقيقها الواقف خلفها تهتف بلهاث:
- يا خالة جواهر، نوال تهاتفك منذ مدة أنت وعناية، ولا واحدة منكما ردت عليها.
كانتا قد اقتربتا منها تحدقان بها بحيرة تجلت في نبرة الجدة القلقة:
- ماذا حدث يا ابنتي؟ لقد كنا مع نوال طوال اليوم، وأوصلنا ابنتها إلى بيت عريسها... ماذا هناك؟
قبضت المرأة في مثل سن عناية على صدرها تتمالك أنفاسها، فانطلقت الكلمات من بينها متقطعة:
- لقد وجدوا الخالة زهرة في الحقول ميتة يا خالة جواهر!
توالت الشهقات المصدومة من أفواه النساء والمرأة تكمل بخوف ووجل:
- نوال تطلب منك القدوم لتُغسلي والدتها يا خالة، لأن ولا واحدة من المغسلات قبلت بأن تغسلها خوفا من مظهرها.
تلجلجت الجدة جواهر قليلا فأسندتها ابنتها وحفيدتاها تدعمانها من الجانبين وحين لمحت المرأة ذلك قالت لها بنبرة مشفقة:
- تجلدي يا خالة، يجب أن تُغسل المرأة لتدفن... إكرام الميت دفنه وبسرعة... كنت سأفعلها لوحدي لكن قلبي ارتعش بقوة من مرآها، لو أتيت معي سأكون أكثر إقداما وأساعدك.
هزت الجدة رأسها تهمس بخفوت واجم:
- إنا لله وإنا إليه راجعون...
ثم رفعت رأسها تجيبها بحزن:
- انتظريني قليلا سأغير ثيابي وأجدد وضوئي...الله المستعان.
لحقت بها تقوى لتوقفها عند الدرج تسألها بخفوت متردد:
- جدتي...هل.... أقصد...
ترددت في طرح سؤالها فلا الوقت مناسب ولا الظرف لكنها تلك المواقف التي تصيب الإنسان بالاضطراب، وهي لم تتعود على السكوت في معرفة الحق. نظرت إليها جدتها بهم عظيم واستفسرت منها:
- ماذا هناك بنيتي؟ الوقت يداهمنا.
تأملتها بإشفاق ثم طرحت عليها السؤال بسرعة وخفوت:
- لماذا ستغسلينها؟ أليس الس...
سكتت يتملك منها التوتر والخجل ثم تابعت أمام نظرات جدتها المتوقعة لبقية سؤالها:
- أقصد لا يجوز شرعا تغسيلها ولا الصلاة عليها ولا حتى دفنها في مقابر المسلمين.
تكدرت ملامح جدتها ولمعت مقلتاها بحسرة عظيمة ثم أمسكت بكفها التي لطالما ألفتها تقوى صلبة بحنو دافئ، تلتمس فيها الآن رعشة وهي تجيبها بنفس الخفوت:
- هذا إن تم إقامة الحد عليها بنيتي، كما أنها لم تجاهر يوما بكفر أو تقول بأنها غير مسلمة ليشهد عليها الناس، وكانت تحضر صلوات العيد وقبل أن يضطرب عقلها بسنتين شهدنا حضورها صلوات الجمعة وبعض حلقات النساء الخاصة بالموعظة، ونحن لنا الظواهر بنيتي، كما أن الرجال غير مطلعين على ما تفعله بعض النساء بحجة التقاليد...
صمتت بهم ثم تابعت:
- فإن فقدت عقلها على توبة تقبلها الله ورحمها وغفر لها *وإن كان خلاف ذلك فهو العزيز الحكيم*.... وإنا لله وإنا إليه راجعون...
تركتها تردد كلماتها الأخيرة فتنفست تقوى بعمق تضم خديها بخوف وحزن.
***
(منزل أهل بهيج)
توالت الدقائق تلحق بعضها بسرعة لم تشعر بها الجدة جواهر، وهي تقوم بعمل سبق وقامت به مرة واحدة في حياتها، عند وفاة ابنتها. لم تسمح حينها لأحد بأن يراها أو يلمسها وتجلدت بالصبر المهلك للقلوب والمذهب للعقول، مستعينة برب رحيم لا ينسى عباده في عقر بلائهم.
منحت وجه زهرة نظرة أخيرة قبل أن تحجبه عن الدنيا وما فيها فلم تجد المرأة التي عرفتها طوال حياتها، تلك التي كبرت معها على أرض الوادي ونشأت برفقتها جيرانا دون أن تجمعهما صداقة حقيقية بسبب الاختلافات الواضحة في طبعيهما، بالرغم من ذلك أصرت الأقدار على جمعهما بنسب رفضته لأسبابها الخاصة ورضخت بعدها حبا بزوجها الذي كان صديقا لزوج زهرة، فلا زوجها ولا ابنها البكر ابتليا بذاك الذنب العظيم...وتلك المرأة التي سترت وجهها الآن بثوب أبيض هو آخر ما سترتديه من هذه الدنيا، يصاحبها إلى قبرها وإلى يوم يبعثون لم تجد فيها أي ملمح لامرأة كانت تعرفها!
هل يغير الموت معالم البشر؟
هل لمغادرة الروح جسدها كل ذلك الأثر؟

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

22 Dec, 14:52


أم تُراه الزمن من غيرها خلال السنوات القليلة الماضية؟
تنهدت، تغمغم بإشفاق:
- أدعو الله أن تكوني فقدت عقلك على توبة نصوح...أو توحيدا يشفع لك ما قد تؤخذين به فسقا يا زهرة، وأنا الآن أخشى أن أدعو لك بالرحمة كما فعلنا مع من رأيناه على ذنبه الكبير وتغاضينا عنه ندّعي الرفق في غير مكانه فلقينا ما لقيناه وما نزال من تجاهلنا للحق والحدود... أستغفرك يا ربي وأتوب إليك.
رفعت رأسها إلى المرأة الوحيدة التي ارتضت بمساعدتها، تشير لها كي تبلغهم بأنها جاهزة. ترددت المرأة في خطواتها ثم عادت وكأن في فمها حديث مكتوم فقامت الجدة جواهر تبعدها نحو عتبة الغرفة:
- تريدين قول شيء ومنذ مدة.... تحدثي؟
بارتباك رفعت كفيها تفركهما ببعضهما قبل أن تنطق بما تريد معرفته بخفوت وجل:
- كنت أريد سؤالك ع... عن الخالة زهرة.
صمتت المرأة فسألتها الجدة بخفوت وترقب:
- ما بها؟
تلكأت تنتقي كلماتها ثم ألقت بها مرة واحدة:
- سمعت النساء يتهامسن بأن هيئتها تغيرت بعد موتها وأصبحت أشد مممم، وعليه قررن أنها من أصحاب ...الن...
- ششششش!
نهرتها الجدة جواهر بينما تمسك بكفها، ترد عليها بضيق وخفوت:
- يا إلهي! كيف يستطعن قول ذلك وفي هذه اللحظات؟
انتفضت المرأة تجيبها باندفاع خافت:
- لكنك رأيت بنفسك و...
بترت كلمتها والجدة جواهر تزجرها بحدة، تحذرها بصرامة:
- ما ترينه من الميت وأنت تغسلينه يجب أن تستريه، الستر واجب علينا سواء على الحي أو الميت... أستري الناس فيسترك الله... وهؤلاء الذين يصدرون أحكاما على الناس ويتألون عليه، أخبريهم بأن الله هو الحسيب، وهو من يرحم أو يعاقب... نحن لا دخل لنا في ذلك... كل واحد منا يراقب أعماله ويحمل هم نفسه!
أطرقت المرأة برأسها خزيا وخجلا فربتت الجدة على ذراعها، تضيف بنبرة رقت عن الحزم الذي كانت عليه قبل قليل:
- أخبريهم بأنها جاهزة... هيا!
استدارت الجدة جواهر عائدة إليها تهمس بتضرع:
- اللهم ارحمنا برحمتك... اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا أجمعين أحياء وأمواتا.
***
- ستدخل لتتوضأ وتصلي على جدتك، ولن أعيد كلامي مرة أخرى!
هتف بها جرير على رأس بهيج الجالس مقرفصا، يستند على جدار في الحديقة الأمامية لمنزلهم، يتطلع قبالته بوجوم بينما يجيبه بجفاء رافض:
- ابتعد عني يا جرير.
زفر المعني بضجر والتفت إلى فواز يوجه له الحديث بعد أن تفقد ساعته تحت أنظار بقية أصدقائهما المراقبين للوضع:
- تحدث إليه أنت... قد يسمعك، الفجر يقترب والجنازة سيصلى عليها بعد الصلاة المفروضة.
تبسم فواز يسأله بتهكم:
- ولماذا تظن بأنه سيصغي إلي؟ لقد بات يصاحبكم مؤخرا أكثر مني.
رفع جرير حاجبه الأيسر معقبا بسماجة:
- حقا!
- أها!
رد عليه فواز بنفس السماجة فتأهب جرير وكأنه سيهجم عليه ليتدخل مؤنس بنبرة ممازحة، وهو يحول بينهما:
- اهوووو يا عريس مزاجك سيء ولك كل الحق في ذلك والعذر!
شدد على حروف آخر كلمة وهو يرمق جرير بتحذير تراجع على إثره الأخير ليسحب بهيج بقوة يوقفه على رجليه، ينظر إلى عينيه الذابلتين:
- أدخل توضأ وقف إلى جوار والدك، لقد تأثر جدا بطريقة موت جدتك، بعد كل اهتمامه وحرصه عليها تسللت منه وتوفيت بعيدا عنه هل تتخيل مدى احساسه بالعجز الآن؟... كن رجلا ولو لمرة واحدة في حياتك ثم غدا عد إلى سيرتك الأولى إن أردت ذلك... ولن أوجه لك أي كلمة أخرى!
نفض بهيج يدي صاحبه عن ذراعيه يزمجر بخفوت غاضب:
- أنا رجل!
فنظر مؤنس صوب ابن عمه يخبره ببرود من بين فكيه المطبقين حنقا:
- أنت لا تساعد هكذا.
مط شفتيه ثم بسط ساعديه مشيرا له بأن يتفضل ويتصرف، فزفر مؤنس بعبوس ثم اقترب من يوسف يهمس له:
- حاول معه يا يوسف.
أفاق المعني من ملكوت سهوه وتقدم من بهيج ليخاطبه بلطف مشوب بغم:
- ألن تصلي على جدتك يا بهيج؟
حاصره يوسف بنظرات تخفي بين طياتها العتاب والخيبة بينما بهيج يفكر في أمر آخر كليا؛ يفكر في عبد التواب خال والدته وابنه علوان وسارة... فقد لا يكون له علاقة مباشرة لما يحدث لهم لكنه يعرف وهذا بحد ذاته ذنب ثقيل وبشكل ما صدره أضحى ضائقا بكم الذنوب التي اقترفها، يشعر بها جبالا فوق ظهره توشك على قصمه في أي لحظة فإن كان غير مذنب في ما يحدث لأهل يوسف فهو تسبب بأذية غيرهم بالتأكيد.
- حسنا سأفعل...
تنهد بقلة حيلة فهتف جرير بذهول ممتعض:
- معقول!... سؤال واحد منه ووافقت!؟
نفخ بهيج بقنوط ومسح مؤنس على وجهه باستياء فرمق يوسف جرير بنظرة ذات معنى فتراجع بصمت.
تحرك بهيج نحو الحمام الخارجي فلن يدخل بيتهم بالتأكيد حيث سيسمع بكاء النسوة ويرى ضعف وحزن والده، وحين أوشك على عبور عتبة باب الحمام شعر بأحد ما خلفه، استدار فوجد نبيه يرمقه باستفزاز.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

22 Dec, 14:52


- ماذا هناك؟
أشار له لكن كما هي العادة لم يفهم منه شيئا فالتفت نحو يوسف باستفسار، فجاورهما تاركا جرير خلفه يكتم بسمته الماكرة والتي دفعت بمؤنس لمعاتبته بتهكم:
- استلمتماه أنتما الاثنان.... أعانه الله!
كرر نبيه حركاته ببسمة مكتومة شبيهة بخاصة جرير، ويوسف يترجم بنبرة خافتة خجلا احمر له خداه فلم يستطع جرير كبت ضحكته واستدار نحو الحائط رافعا كفه يخفي به فمه، ومستغفرا أمام فواز الذي يضم ذراعيه إلى صدره، مكتفيا بالمراقبة الصامتة والممتعضة تماما كمؤنس:
- يخبرك بأنه... أنه ... مممم... يريد مرافقتك إلى الحمام ليتأكد من أنك ... أنك... حممم توضأت يقصد!
أشار له نبيه بتأنيب لأنه لم يترجم الكلمة الصحيحة والتي هي أول خطوات الوضوء، لحاجة في رأسه فما يعرفه أغلب أهل الوادي أن عائلة نبيه لهم باع في المعرفة بعالم يجتنب الكثيرون منهم ذكره خوفا أو تجاهلا، فهز يوسف كتفيه يكاد يختفي من الإحراج.
- هل تمزح؟
سأله بهيج من بين نظراته الضجرة والتعبة فأومأ له نبيه مؤكدا، ليستطرد الأول بعبوس جاد:
- ابتعد عني يا نبيه!... أسلم لك.
هم بالاستدارة لكنه توقف حين حرك نبيه كفيه مجددًا ليزفر يوسف بقوة قبل أن يترجم بنفس الخفوت المتردد:
- لا تلم سوى نفسك!
ضيق بهيج عينيه على نبيه الذي هز كتفيه مؤكدا على قوله ثم حرك رأسه الضائق بأوجاعه ودخل إلى الحمام يصفق بابه بقوة، تحدث بعدها مؤنس ساخرا بتعقيبه:
- ألف مبارك يا رفاق لننتظر النتيجة.... لمَ لم يرافقه أحدكم ليساعده أيضا؟
أشار نبيه إلى نفسه دلالة على أنه حاول، فتبسم له مؤنس بسماجة وجرير يتدخل مشاكسا لفواز الظاهر عليه وكأنه بركان يوشك على الانفجار في أي لحظة:
- هناك مَن يفترض بنا انتظاره والاطمئنان عليه هو الآخر، ولقد انشغلنا عنه ولم نقدم له النصح.
التقط فواز المعنى والتفت إليهم بينما مؤنس يواجهه بسخريته المعهودة:
- وأي نصح ذاك الذي سنقدمه له؟ لا أنت ولا أحد من صف العوانس هؤلاء له تجربة سابقة حسب علمي، ولا لاحقة على حسب ما أراه من أحوالنا!
ضغط فواز على شفتيه بقوة ونبيه يشير له بشيء ما يبدو أنه فهمه خطأ أو كما يقال *صاحب البثرة يتحسّسها كل لحظة*، فسأله بتحفز:
- ماذا قلت يا نبيه؟ لا أسمح لك...
ارتفعت حواجبهم دهشة وجرير يسأله باستنكار:
- وهل فهمت إشارته؟ لم أفهم أنا الذي اعتدت التفاهم معه... فما حرك به يديه لغة الإشارة، لا يفهمها سوى يوسف والفقيه عبد العليم.
تجمد فواز مكانه ناظرا إليهم بترقب، ويوسف يخبره بهدوء:
- قال أن جرير أضحى لديه حس فكاهة غريب عليه مؤخرا.
ارتفع عنق فواز برأسه يرمش بحرج فحل الصمت بينهم يدّعون انتظار بهيج الذي ما إن أغلق باب الحمام حتى استولت الرعشة على عروقه وغمرت البرودة جسده من أخمص قدميه إلى أعلى قمة في رأسه، فشيطانه يجري منه مجرى الدم، هكذا يفعلون حين يأتونه على هيئتهم الحقيقية، لم يسبق له أن رآهم على حقيقتهم بل إما متمثلون في هيئة بشر أو حيوانات، أما حقيقتهم فلا يراها البشر سوى ما سمعه عن الأنبياء الذين كشف الله لهم الحجاب.
تسمر مكانه يحاول التنفس برتابة، منتظرا الهمس الذي لم يتأخر:
- لن تتوضأ!
أغمض مقلتيه، محركا رأسه يمينا وشمالا قبل أن يرد عليها بنفس الهمس:
- جدتي ماتت!
- لا يهمني!
هدرت النبرة داخل أذنيه فاعتصر مقلتيه يقاوم الصداع في رأسه:
- أريد أن أصلي عليها..
همس بوجع فأتاه الرد ماكرا:
- لا بأس!.. صل عليها من غير وضوء.
فتح مقلتيه يرمق الفراغ بحقد أسود قبل أن يهمس مجددًا:
- إنها ميتة، وأريد الصلاة عليها ... مرة واحدة فقط!
- فكر جيدا!... إنها ميتة كما قلت، وهذا يعني أن لا شيء تفعله ينفعها.... لا شيء سينفعها بعد الآن! فلماذا لا تطيعني وأحقق لك رغباتك؟
احتد تنفسه، يقول بغضب نفثه من بين نواجذه:
- لا أريد شيئا سوى الصلاة على جدتي!
اشتدت به الرعشة ورفع ذراعيه يطوق بهما نفسه، وكأن هناك تشنج سيغزو بدنه يصاحبه صداع يؤلم رأسه مع الهمس الخبيث:
- احذر عقابي ...سأؤذيك وأؤذيها.
- سارة لا تعني لي شيئا!.. ابتعدي عنها!
يكاد رأسه ينفجر من ضغط الهمس الخبيث:
- سأؤذيها أولا ثم أدمرك، فأنت لي ..ملكي أنا...
نفض رأسه وهم برفع قدمه لكن التشنجات حالت بينه وبين قدميه وأضحتا كجبل راسي مكانه لا يتزعزع وكذلك حال بدنه المتشنج، حاول وحاول دون جدوى يطغى عليه تاريخ رضوخه لشياطينه موهنا بذلك جميع دفاعاته، بينما وتيرة الصداع تتصاعد داخل خلايا رأسه حتى استسلم بانهزام وتنفس بقنوط، يقول بغل:
- حسنا... سأخرج!
وفي لحظة خاطفة تحرر جسده واستدار ليفتح الباب بعد أن نفض أطرافه كلها يستعيد إحساسه بها. قابله وجه نبيه المتبسم ببرود فعض شفته السفلى يناظره باستياء، فأدار نبيه نظراته صوب يوسف وأشار له بشيء ما ترجمه الأخير بحيرة وريبة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:09


التجميع

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


بلعت ريقها تنظر إلى زينة وصفاء التي توقفت عن البكاء بعد أن سمعت ما سمعته تماما، إذن لم تكن تتوهم ولم تكن تحلم، ما يحدث أمامها حقيقي وما سبق وحدث بعيدا عنها يحدث أمامها بل قربها، وهي! هي نسيت كل شيء! م... ماذا يجب أن تفعل؟
- م... ماذا تقولين حفيظة؟
نطقت بتقطع تحاول نفي ما هو واضح وضوح الشمس عن قرب منها، لكن الرد منها كان قاطعا لا يترك للشك مجالا من بين شفتي حفيظة المتشنجتين ككل أطراف جسدها تتلوى كثعبان متألم:
- لست حفيظة، أنا مراقب السحر، أدخلوني جسدها ولن أغادر سوى بموتها.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


تنهدت ثم توجهت لتسخن الشاي وتجهز الكؤوس بينما تفكيرها يأخذها إلى من شغل قلبها منذ سنوات حين كانت تلميذة في فصله تتلقى منه علم الفلسفة بطريقته الفريدة بين السخرية والجدية. سَحرها بعقده الغامضة وثقافته الواسعة، يعلم شيئا من كل شيء، ويهوى القراءة في كل العلوم والتفكر في كل قول.
لطالما راقبته عن بعد وعن قرب، وهو لم يراها سوى تلميذة خجولة ملتزمة بحدود كثيرة أحاطت بها نفسها ولم يعرف بأنه كسر كل تلك الحدود ليصل إلى مهجة قلبها وامتلكه بنقاشاته المبهرة لها، فحين يتحدث في الدين يستدل أمام طلابه بتفاسير الأئمة الأربعة وكبار الصحابة كما يحكي لهم عن سيرهم، وحين يخوض في علوم أخرى يستدل بأقوال علمائه المسلمين منهم والكفار والملحدين، فيقف من يصغي إليه مفغرا فمه ببلاهة حائرا من تناقضاته قبل أن يحسم الأمر وينصحهم بقوله الجاد الذي لم ولن تنساه أبدا...*حددوا هويتكم وتمسكوا بها جيدا، ولا تسمحوا للازدواجية بأن تتسلل إلى قلوبكم، إن كان الإسلام هويتكم فاملؤوا قلوبكم باعتقادكم بالله، ولا تسمحوا للتردد يصيبكم بهذا الارتباك من مجرد ثرثرة شخص مثلي يتفلسف عليكم ليحلل راتبه*...كيف تنسى وهذا القول بحد ذاته تعده حائلا من بين الكثير يقف بينها وبينه، تتشبث كل يوم بهوية تجهل الكثير من جوانبها، فتتخبط هنا وهناك والتردد يملأ أحشاءها عاجزة عن اتخاذ القرار في أبسط أمور حياتها فكيف ترقى إلى مستوى شخصيته الفريدة والساحرة والتي تشع ثقة بالنسبة لها! لكنها تحمد ربها يوميا على أنها تعتقد بوحدانية الله وعبادته.
انتهت من تجهيز الضيافة فرمت المنشور بنظرة أخرى ففرت من قلبها نبضة سرقت من أنفاسها لحظات وجيزة، وهي تلمح اسمه بين آخرين، لم يهمها سواه فتلتقطه بنظرة خاطفة، ودون وعي منها أطلت من نافذة المطبخ لتتجمد كليا وهي تلمحه يتحرك في الحديقة ذهابا وإيابا يُحدث أحدا ما في هاتفه.
وكأن قدماها تجمدتا في مكانهما تأبيان الاستجابة لأوامر منطقها ومساحتها الآمنة بأن تفر! بأن تختفي! وبأن تبقى متوارية في ظلها الآمن، وقبل أن تجبر جسدها على طاعة عقلها رفع رأسه عفويا فلمحها.
توقف قليلا قبل أن يبتسم لها بطريقة تختلف عن بسمته المجاملة السابقة تماما كاختلاف نظرته الثاقبة الآن عن نظراته العابرة قبلا، هل اكتشف اهتمامها به؟
رفع حاجبه الأيسر وأمال رأسه والهاتف ما يزال على أذنه يشير لها بكفه الحرة فأومأت له مرات عدة بلا معنى قبل أن تهرب أخيرا كبلهاء لا تحسن التصرف.
استندت على الجدار خلفها لاهثة بينما ترمش بقوة وتتفقد زوايا المطبخ بعَتَه.
كيف اكتشف ما أحسنت إخفاءه؟ هل هي المنشورات أم فقط تتخيل ذلك؟
بلعت ريقها ووجهها ما يزال ممتقعاً تفكر؛ لابد من أنها تتخيل ذلك؟! الرجل رمقها بسخريته المعتادة وأشار لها بتحية عادية... ما الغريب في الأمر؟
مسدت على جبينها تهمس بتوتر لاهث يتخلله ضحك متشنج:
- يا لي من معتوهة!
استنشقت الهواء بعمق لتتمالك بعثرة أنفاسها ثم تحركت حين سمعت جرس الباب وهتاف زينة:
- هل انتهيت يا صفاء؟ افتحي الباب عزيزتي.
خرجت من المطبخ وهي تهز رأسها لزينة التي كانت تحمل دورقا فارغا، قادمة به من الشرفة حيث يجلس والديها في هذا الوقت من اليوم وغالبا ما ينضم إليهما أحد الجيران أو الأقارب ولذلك تجهز الضيافة دوما في بيتهم.
- سأملأ الدورق بالماء لأعود به إلى الشرفة ثم ألحق بكن، إنها حفيظة لمحتها من الشرفة.
فتحت صفاء الباب وقبل أن ترحب بها قبضت حفيظة على ذراعيها هاتفة بسرور:
- أين زينة وتقوى؟ لدي خبر مفرح.... أين هما!
فتحت صفاء فمها لتتحدث حين ظهرت زينة عبر مدخل المطبخ تسألها بدهشة:
- ما بك يا حفيظة؟
تركت صفاء وأمسكت بزينة القابضة على دورق المياه بين يديها، وتقوى تقبل عليهن حين سمعت هتاف صديقتهن:
- لن تصدقي يا زينة! أنا خُطبت ليس رسميا طبعا لكن والدته هاتفت والدتي تطلب منها موعدا لتحضر عائلتهم ليتقدموا لخطبتي.
قطبت زينة جبينها ترمقها بترقب وصفاء تبتسم للحظة كشقيقتها قبل أن تتلاشى البسمة عن ثغريهما مع استيلاء الترقب القلق عليهما لسؤال زينة، وكأنهما تذكرتا شيئا ما:
- من يكون؟
سألتها زينة، فرفعت حفيظة كفيها تضرب بهما بخفة على وجنتيها الرفيعتين المحمرتين خجلا، وهي ترد عليها بضحكة متوترة:
- يا إلهي! نسيت إخباركن باسمه، أنا متوترة جدا، بدني يرجف، انظرن إلى يديّ.
كانت ترتجف فعليا لكن جمود الفجأة والترقب شل ألسنتهن عن أي رد فعل مؤازر، فاستدركت حفيظة بعد أن استنشقت نفسا مرتعشا:
- إنه ... فواز.
أنهت حروف اسمه بشهقة مجفلة لم تصدر منها لحالها حين انزلق الدورق من بين يدي زينة على الأرض متهشما، ومشتتا إلى شظايا انتشرت عبر مساحة البهو الصغير.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


***
(بين الجبال السواء)
- وااااو... إنه مكان مرعب!
هتفت سارة بحماس وهي تسحب هاتفها لتلتقط صورا لها بخلفية تلك البناية من الياجور غير المنظم، وكأن الأمطار عبر مرور الزمن حفر على واجهته حفرا ليدكّه دكا لكنه وبكل إباء قاوم رغم كل ما طاله من العواصف واقفا مكانه بغير شموخ، وبواجهة بشعة ينقبض لها قلب من يلمحها باستثناء تلك الفتاة الغريبة تتموضع أمام شاشة هاتفها باسمة بحماس وسرور كمن فاز بجائزة ما.
- أنت شجاعة، أعترف لك بذلك.
انتفضت مجفلة قبل أن تلتقط هيئته البوهيمية بمقلتيها المشاكستين فارتخت كتفاها واتسعت بسمتها لتسأله بحيرة:
- ماذا تفعل هنا؟ لم ألمحك بين المشاركين في الرحلة.
التوت شفتاه بمكر وتسلق حجارة مدببة ليصل إلى مستواها، قائلا بتسلية:
- لقد بحثت عني إذن!
زمت شفتيها بينما تتأمل ملامحه الشقراء قبل أن تكمل تفحصها لملابسه المختلفة عن أهل الوادي.
- هل يفترض بي الشعور بالإطراء؟
أضاف بنبرة بحة فرفعت عينيها إلى وجهه بعد أن أنهت تفحص قميصه الأحمر عديم الأزرار وسرواله الأزرق القصير إلى حدود الركبتين، تخبره بنبرة غريبة:
- أنت مختلف!
- عفوا!
عبّر عن استغرابه فضحكت حين شعرت بأنها دفعت به لذلك، واستدركت بينما تشير إلى هيئته:
- أنت كبوهيمي هائم على وجهه.
قهقه على نظرتها نحوه قبل أن يرد عليها بغموض يشدها نحوه أكثر فتلمع مقلتاها ببريق لا يخطئه، يعجبه لكن شيئا ما داخله لا يستسيغه:
- أنا حقا أهيم على وجهي... شكرا لك... إذن ماذا تفعل فتاة صغيرة جميلة مثلك بعيدا عن القطيع؟
- قطيع؟
هتفت ضاحكة فشاركها الضحك وهو يفسر لها:
- أقصد المشاركين في الرحلة... ألا تخشين على نفسك؟ المكان هنا غريب عليك وأنت صغيرة.
أشارت له بسبابتها بينما تزم شفتيها الزهريتين ثم حذرته بعبوس رافض:
- أنا لست صغيرة... لقد أتممت الثامنة عشر، هل تعرف ماذا يعني ذلك؟
كتف ذراعيه منبسط القسمات يسألها بتسلية:
- ماذا؟
أعادت غرتها الذهبية جانبا بينما ترد عليه بنفس العبوس:
- أنني أستطيع الاستقلال بحياتي عن عائلتي إذا أردت ذلك.
ارتفع حاجباه يعقب بتهكم لم يظهره:
- أحسنت، إنها حقا صدفة غريبة... فأنا أيضا استقللت بحياتي في سن الثامنة عشر.
واستدار عنها ليقفز على الأحجار فتبعته مستفسرة منه باهتمام:
- حقا!... أنت تعيش لحالك منذ ذلك الوقت؟
أدار رأسه نحوها يرد عليها باقتضاب:
- لا!
قطبت وهي تقفز من حجر لآخر متتبعة إياه فتهتف مرة أخرى:
- هل تقصد بأن والدك لم يعد يصرف عليك منذ ذلك الوقت؟
زم شفتيه وتوقف مستديرا نحوها مجددًا، ليجيبها بملامح مستغرقة في التفكير:
- مممم! ليس كليا!
مسدت خلف عنقها تسأله ببعض الخجل من إحراجه:
- إذن كيف حققت استقلاليتك؟
أمعن النظر بها قليلا ثم هز كتفيه بالقول المستخف:
- أفعل ما أشاء في أي وقت أشاء، أليست تلك هي الاستقلالية المطلوبة؟
ضحكت عاليا ثم حركت رأسها بموافقة:
- ذلك هو المطلوب بالفعل!
بسط كفه نحوها يسألها بغموض:
- إذن، ماذا حققتِ من استقلاليتك المطلوبة منذ أن أتممتِ الثامنة عشرة سنة؟
عضت شفتها السفلى بمشاغبة ثم قالت له مشيرة إلى المكان حولها:
- تعني إلى جانب تسللي إلى هنا!
هز رأسه منتظرا فاستدارت لترفع شعرها الذهبي عن رقبتها، تسأله بينما تشير إلى مكان محدد قرب بداية منابت الشعر:
- هل رأيتها؟
ضيّق بهيج عينيه يميز الرسمة على شكل حروف وأرقام صغيرة، خُطت ببراعة توحي للناظر بأنها وردة بساق مشوك:
- أجل.
نطق بملامح فقدت مكرها فجأة، فأطلقت سراح خصلاتها وأدارت جسدها بحرص فوق تلك الأحجار وهو يسألها بترقب:
- ذلك الشيء ليس برسمة حناء!
- تُؤ!
هتفت بدلال ضاحك فحك وجنته بتفكير بينما يستفسر منها بما يرجوه داخليا:
- هل حصلت عليه في بلادك؟
كان يقصد أرض المهجر لكنها أحبت لعب دور الذكية وردت عليه باستعلاء ساخر:
- هذه بلادي، وأجل رسمته هنا.
- شيراز!
تنهد بوجوم فصفقت بنفس الحماس المجنون:
- أحسنت!... إنها هي! بارعة أليس كذلك؟ طلبت منها واحدا صغيرا وجميلا في مكان أستطيع إظهاره كما يحلو لي.
شلت الصدمة لسانه للحظات ينظر إليها بتبلد قبل أن يُجلي حنجرته ليسألها بتوجس:
- ماذا لو رآه شقيقك؟ لن يعجبه الأمر.
هزت كتفيها تجيبه بنفس تهورها المعتاد:
- لن يضره ما لا يعرفه.
ثم عبست تستدرك بتوجس:
- أم أنك ستخبره!
رفع كفيه بصدق لا يدّعيه:
- لا أبدا... أبدا!
- سارة!
استدارا إلى التي هتفت بحنق لاهث وهي تقفز من حجر إلى آخر تلحق بها سلا، فصاح بهيج ساخرا بطفولية أدهشت سارة وسلا معا بينما يتفحص ملابس نهيلة؛ بدلة رياضية بسترة طويلة إلى كعبيها:
- افرحي يا مكتنزة! أكسبتك السنون الأخيرة بعض الرشاقة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


وكما أدهشهما بقوله، فعلت هي بردها النزق والبعيد كليا عن شخصية نهيلة الخجولة الحذرة:
- بخلافك ما تزال ألوانك فاقعة تعمي أبصار من يقعون في مجالها، الأغبياء منهم على كل حال!
طرفت بعينيها نحو سارة دون أن تنظر إليها فعض بهيج باطن خده بحنق قبل أن يهتف بعصبية خرجت منه بطفولية رغما عنه:
- مكتنزة بلهاء!
لتقف أخيرا على مقربة منه، ترد له الصاع صاعين:
- علبة ألوان فاقعة!
اكفهرت ملامحه يرمقها بعبوس حانق فبسطت كفها نحو سارة التي تراقبهما بذهول مضحك:
- هيا يا فتاة، قبل أن يشعر يوسف ونبيه بغيابنا.
وعت من ذهولها على حديث نهيلة فتحركت مستجيبة لها بينما تستدرك الأخيرة بسخرية ذات معنى التقطها جيدا:
- أنت مجنونة يا سارة! لا تخشين على نفسك من الكلاب السوداء الضخمة فهي كثيرا ما تتجول هنا، ولقد لمحها العديد من أصحاب المكان.
- ماذا؟... هل تقولين ذلك لإخافتي!
صاحت سارة بخوف فردت عليها نهيلة وهن يبتعدن بينما هو واقف مكانه يشيعهن بأنظاره الغامضة التعبير:
- وهل نجح ذلك في إثارة رعبك أخيرا؟
- بالتأكيد....يا إلهي!
هتفت سارة مرتاعة تتلفت حولها بخوف فقالت لها نهيلة بينما تبتسم وتغمز لسلا خلسة:
- وهذا المطلوب!
أحاطهن الصمت قليلا قبل أن تضيف، وهي تمنح البعيد عنهن نظرة متفحصة:
- لكنني جادة بقولي، هناك كلاب سوداء تجوب المكان.
لم يتحرك عن جموده وكأنه تمثال تحجر في مكانه فوق صخرة مدببة يهمس لأحشائه وقد تعَود كتم نياته داخل أعمق نقطة في ظلمة قلبه، فلا يطلع عليها سوى خالقه ولا أحد من المخلوقات سواه.: *لماذا عدت يا يوسف؟ خذ أهلك وعد من حيث أتيت... لماذا عدت؟ لقد كنت أعتمد على غيابك... فلماذا عدت؟*
***
(منزل أهل زينة)
- سأنظف كل شيء وألحق بكن... اذهبن إلى غرفة الخياطة.
تدخلت صفاء بنبرة متوترة ومهادنة لكن زينة كانت أبعد ما يكون عن الهدوء، تهتف في وجه حفيظة بانزعاج واضح:
- ولماذا أنت سعيدة هكذا؟
فغرت حفيظة فمها بصدمة وتقوى تحاول القبض على ذراع زينة فتفلته منها مسترسلة باندفاع:
- إنه مجرد منافق زانٍ!
- زينة!
صاحت تقوى بغضب لأول مرة كما لم تفعل من قبل فتأففت زينة بمقت وأسرعت نحو غرفة الخياطة.
التفتت حفيظة إلى تقوى تسألها بعينين بدأتا بالاحمرار، تنذران بدموع وشيكة:
- لماذا تصيح بي؟
اقتربت منها تقوى وصفاء معا تمسكان بذراعيها حين لاحظتا ارتجاف جسدها المخيف:
- اهدئي حفيظة، زينة لم تقصد، هي فقط تخاف عليك..
أسندتاها إلى الغرفة حيث وجدن زينة ملصقة جبهتها بزجاج النافذة تتأمل الحقول البعيدة بسهو واجم قبل أن تجفل على قول حفيظة الباكي، وجسدها لا يكف عن الارتعاش:
- أغلب الشباب يلهون قبل الزواج، هذا معروف وتعلمنا بأن ذلك لا يعيب الرجال، لقد كنت سعيدة رغم الألم البائس المستمر أسفل بطني وكامل جسدي.
زفرت زينة بقنوط وقد اختلطت داخلها مشاعر كثيرة مختلفة وعاصفة تراقب تقوى بينما تلوم صديقتها وترخي طرحتها عن عنقها ورأسها بعد أن لاحظت تسارع أنفاسها وسخونة بشرتها:
- تعرفين أن ذلك خطأ لكن لن نتحدث في هذا الموضوع الآن... فقط تنفسي واسترخي... آآ.. حفيظة!
لم تمهلها لتسألها عن الأثر البشع على عنقها إذ وفي لحظة واحدة شهقت بقوة وازت قوة دفعها لتقوى وصفاء اللتين وقعتا أرضا مصعوقتين من قوة حفيظة التي لا تناسب هشاشتها وضعفها المعتادان:
- ابتعدن عني!... آآآه!
صرخت بقوة وهي تقبض على صدرها تبحث عن الهواء فأسرعت زينة بفطنة تغلق باب الغرفة، فلقد شهدت المرات النادرة التي انهارت فيها أعصاب حفيظة حين تفقد أنفاسها فتصيح قبل أن يغمى عليها لكن أبدا لم تكن بهذه الهستيريا ولا العنف من قبل.
أمسكت بمقبض الباب تراقبها وهي تقع أرضاً جاحظة العينين، تنطق بكلمات غير مترابطة وجسدها كله يهتز كالمصاب بصرع.
لهثت الفتيات رعبا من حالة حفيظة فوجهت تقوى حديثها الذاهل لزينة:
- هذا مختلف!
تفهمتها زينة، تهز رأسها مرات عدة بينما ترد عليها بقلق بالغ وكل واحدة منهن تلزم مكانها تعانين من وقع الصدمة:
- ماذا نفعل؟ لم تفقد وعيها بعد.
انتفضت تقوى واقفة لتسرع نحو حفيظة في نفس اللحظة التي فرت فيها صفاء نحو زينة تتمسك بها باكية برعب:
- بسم الله الرحمن الرحيم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم....
شرعت تقوى بتلاوة آية الكرسي دون وعي ودون أن تلمسها فما يزال الخوف مستوليا عليها خصوصا مع ازدياد تشنج حفيظة أكثر حتى فتحت الأخيرة عينيها الغارقتين في حمرة الدم تصيح بزمجرة شرسة:
- ابتعدي عنها... ابتعدوا عنها جميعا... توقفي! لن ينفعها ما تفعلينه سوى بتعذيبها ...أتيت مرافقا لها ولن أغادر سوى بموتها ... توقفي!
شلت أطراف تقوى وعادت إلى الخلف، ناسية كل ما تعلمته من جدتها وقرأت عنه، فشتان ما بين النظرية وبين الحقيقة، شتان ما بين الحكاية وبين الشهادة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


أضافت آخر كلماتها باشمئزاز فعاتبتها تقوى بينما تغلق باب المنزل الخارجي:

- عيب عليك، إنها صديقتي.

لوحت بكفها تجيبها باستخفاف:

- تعرفين ماذا أقصد! بيتها طبعا.

تأملت تقوى قميصها الذي ارتدته مع التنورة، فأشارت إليها بقولها المتعجب:

- لماذا ترتدين أطول قمصاني؟ يكاد يبتلعك بطولك الأقصر مني؟

هزت كتفيها ضاحكة فهزت تقوى رأسها يأسا من أفعال شقيقتها المجنونة قبل أن تخاطبها بامتعاض مزعوم:

- لمَ لا تذهبين لزيارة إحدى صديقاتك ما دمت مللتِ من الدراسة؟

جعدت ذقنها ترد عليها بنفس الامتعاض:

- علاقات صداقاتي سطحية وأنت تعرفين ذلك، أنت منقذتي...هيا ابتسمي!

تأبطت ذراعها تمازحها بمرحها المعهود فاستجابت لها تقوى ببسمة لم تصل لعمق مقلتيها الغائمتين بتفكير عميق.

***

(بين الجبال السوداء)

- يا الهي! المزيد من الجبال السوداء!

هتفت بها سارة وهي تنتفض في مقعدها بحماس مبالغ فيه فتبتسم لها رواند القابعة جوارها بهدوء لتميل نهيلة على أذن سلا المستقرتان خلفهما مباشرة، في إحدى الحافلات المستأجرة من طرف الجمعية بنقل المشاركين أثناء الرحلة السياحية، هامسة لها بدهشة واجمة:

- هل شقيقتك بهذا الحماس طوال الوقت؟

انبسطت شفتا سلا ببسمة بسيطة والأخرى تكمل بملل وتعب:

- ها نحن نصل لآخر محطاتنا قبل العودة وما تزال كما هي، تكاد تنفجر من الحماس، أود لو كان من في بالي بنصف حماسها.

طرفت بجانب عينيها نحو العابسين المجاورين لبعضهما في آخر الصف الأيمن، من ينظر إليهما يتوقع انفجار بركان وشيك.

أدارت سلا رأسها المندس داخل قبعة شبابية واسعة تتأمل شقيقها الذي لم يقرر القدوم سوى من أجلها وسارة بالرغم من مقته لاضطراره الحضور في مكان يجمعه بزوجة جده وشقيقتها الأشبه بمغنيات الروك.

لقد تفاجأوا جميعهم باستثناء رواند وجدها برؤيتها وتغيرها الذي صدم حتى والدتها، وكادت تبتسم حين تذكرت تبلد ملامح والدتها وهي تنظر إلى الفتاة بسروالها الأسود الضيق والمشقوق فوق الركبتين عليه قميص أسود ضيق بفتحة عنق مثلثة تظهر سلسلة غريبة الشكل، لقد فغرت والدتها فمها حرفيا بينما ترتفع نظراتها إلى شعر الفتاة الأسود يتخلله خصلات حمراء قاتمة كقتامة لون شفاهها البنية، وعيناها مرسومتين بقلم أسود وبشكل مبالغ فيه.

سواد ناقض بياض بشرتها الشاحب فبدت كلوحة غريبة جاذبة للعين إلى مدى التناقضات المنفرة فيها، وفي تلك اللحظة لم تفتها نظرة والدتها المعاتبة لجدها الذي ابتسم لها بتجاهل وكأنه لا يفهم ما تعنيه.

لكن رؤية حالة شقيقها يوسف ومدى حزن ملامحه طوال ساعات الرحلة الماضية نزعت من صدرها أي حس بالسخرية من صدمة والدتها، تاركة إياها مع مرارة شعورها المؤازر لشقيقها.

حادت بعينيها نحو الذي وجدته يرمقها بتركيز غامض قبل أن يفر منها حين ضبطته، فتعود إلى صديقتها تستفسر منها مدعية التهكم:

- أعرف سبب حالة أخي لكن ما سبب غضب شقيقك؟

اتسعت بسمة نهيلة ترد عليها بفكاهة:

- أخي هكذا دائما ثم أنا أتفق معه هذه المرة، فأنا أيضا أكره زيارة هذه الأماكن حتى لو اعتبرتها الدولة مجرد مواقع سياحية تستغلها للانتفاع منها ماديا.

عقدت سلا جبينها باستفسار أكبر ونهيلة تسترسل بنظرات ماكرة:

- لكنني أتيت أولا من أجلك ومن أجل سارة، وثانيا كي أعاند شقيقي بسبب ما فعله أمس، أوهمته بأنني غاضبة منه ولم أنس بعد الإحراج الذي سببه لي أمامكما، وكنت متأكدة من قدومه برفقتي.

كانت الحافلات قد توقفت والناس يترجلون منها نحو جبل عليه بيوت تلتف حول بناية من نوعية بنايات المزارات، غرفة بيضاء مستطيلة تستقر فوقها قبة خضراء ونوافذ عليها شبابيك من حديد مليئة بخيوط حمراء معقودة حول عواميدها بشكل عشوائي.

- لكن لماذا لا تحبين وشقيقك هذه الأماكن؟... إنها جميلة!

سألتها سلا بفضول وهي تلقي بحقيبتها على ظهرها وشقيقتها تتقدمها بخطوات رفقة رواند وأختها.

نظرت نهيلة لما حولها بينما تجيبها بانزعاج:

- الطبيعة جميلة جدا فهي من خلق بديع السموات والأرض، لكنه تدخل البشر يفسدون كل شيء خصوصا حين يستعينون بشياطين الجن... يفسدون كل شيء حقا!

بدا الجهل واضحا على محيا سلا بينما سارة تستدير إليهما قائلة بضحكة متحمسة:

- لكن هذا المكان معروف بسحره الخلاب، نسبة كبيرة ممن يزورنه يشعرون بالنشاط والانتعاش ويع......

- ويعودون إليه كل عام مجبَرين...

قاطعتها نهيلة تكمل باستياء ممتعض جعل سلا تتساءل بحيرة:

- ماذا تعنين؟

تناست نهيلة حرصها المعتاد بعد ساعات من مرافقة الجميع وغرقت في حديثها الممتع مع سلا التي أحبتها منذ أول يوم تعرفت إليها قبل شهرين في إحدى محلات العرض التابعة للجمعية حيث تعرض مشغولاتها الفضية، رغم عمر سلا الأصغر منها بثلاث سنوات لكن روحها تآلفت مع خاصتها، ووجدت فيها الأذن المنصتة والمتفهمة لشخصيتها التي لطالما اعتبرها أغلب أهل بلدتها غريبة بعض الشيء:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


- الله أعلم بعدد الشياطين الذين مررنا عليهم ونحن قادمون إلى هنا، وتلك الطقوس التي يطلبها أهل المزارات من الزائرين والتي بالمناسبة كلها شرك بالله، "فلا ميت ولا حي يملك من أمره من شيء كي يستطيع فعل أي شيء لغيره" ضفي إلى ذلك ما يفعله أبناء المزارات من سحر يؤثرون به على الزائرين فيستعملون الشياطين في إيهامهم باستعادة نشاط أجسادهم، ونفس هؤلاء الشياطين يقومون بزيارتهم في بيوتهم وبلدانهم مرة كل سنة ليعيدوهم بالتسبب لهم بالأمراض ليوهموهم بأن علاجهم لن يجدوه سوى هنا.

- كيف تعرفين كل ذلك؟

جفلت على هتاف سارة المسرور باندفاع متحمس لتكتشف بأنهن توقفن يرمقنها بنظرات مختلفة، سلا بشيء من الخوف وقد ضمت نفسها وكأنها تحميها من مجهول، ورواند بنظرات غامضة لا تختلف عن أختها الباسمة بسخرية، فبلعت ريقها واقتربت من سلا تتأبط ذراعها، مجيبة بهدر مرتبك:

- يقولون ... يقولون... لماذا توقفتن؟... هيا...هيا! لنرى المزار وليتولانا الله بحفظه.

أضافت آخر عباراتها بخفوت قبل أن تضيف بهمس قرب أذن سلا:

- رددي خلفي يا فتاة... كان الله في عونكم.

التفتت إليها سلا بريبة لتلمح نظرات نهيلة المثبتة على ظهر رواند وأختها فلا يزيدها ذلك سوى انقباضا لقلبها.

- هل تعلمن ما أريد رؤيته بالفعل؟

تحدثت سارة بمشاغبة مجددًا، وهي تقف أمامهن على إحدى أحجار الجبل الكثيرة بسروالها الرياضي الأسود يمتد طوله إلى أسفل الركبة بقليل عليه سترة طويلة سوداء من الأمام والخلف خضراء من الجانبين:

- تلك البناية هناك!

أشارت إلى قمة جبل آخر فنظرن إلى حيث أشارت وهي تكمل بنفس الحماس المتقد:

- لا أعلم لما ظننته قريب حين لمحته من سطح بيت جدي؟.... لم أعلم أنه يبعد كل هذه المسافة عن الوادي؟.. لكنني متحمسة جدا لأتفقده عن قرب.

- من أين أتيت بكل ذلك الحماس يا فتاة؟ يا ويل قلبي!

سألتها نهيلة بقلق ورواند تجيبها بغموض وهي تدس كفيها داخل جيبي سترة بدلتها الرياضية بلون الخردل:

- الاستكشاف جميل ومثير! .. أليس كذلك؟

رمت نهيلة بنظرة ماكرة فمسدت المعنية على جبينها بارتباك بينما سارة تتفقد وقوف يوسف مع نبيه منزويين عن الجموع، مستغرقين في حديث يبدو مهما جدا:

- المراقبة الصارمة لاهية عنا، ماذا لو ذهبنا إلى هناك لنلقي نظرة!

- يا ويلي!

همست نهيلة بأسى مجددًا وسلا تهتف زاجرة إياها ولقد بدأت تنزعج من الوضع برمته:

- لن نذهب إلى أي مكان؟ إنه مهجور ويبدو عليه غير آمن، يكفي ما زرناه اليوم، أحذرك يا سارة سأخبر يوسف إن استمريت بجنونك.

عبست بطفولية تتأفف وانطلقت تستأنف خطواتها عبر المرتفع نحو المزار ليتبعنها بصمت حتى وصلن إلى وجهتهن حيث تجمهر السياح، منهم الأجنبيين القادمين من دول أخرى أو القادمين من المدن الداخلية.

كانت نهيلة قد ابتعدت قليلا عن سلا، تلهث تعبا من المجهود الذي بذلته لتتسلق مرتفع ذلك الجبل حين أجفلت على همس رواند الماكر:

- هل ما يزال الضعفاء منهم يزورون منزلكم؟ وهل تفعلين مثل والدك وترفضين عرض الأقوياء منهم؟

فغرت شفتيها ترمقها متفاجئة من بسمتها الماكرة ونظرات عينيها المحددتين بلون ذهبي بدل الكحل، تستدرك بتسلية لئيمة:

- إن قررت يوما تجربة أمر مشوق تعالي إلي وسأعلمك حتى لا تؤذين نفسك.

أنّت نهيلة وكأنها تتألم قبل أن ترد عليها بنبرة رغم وضوح الخوف فيها خرجت صارمة:

- لا قوي إلا الله.

عضّت رواند شفتها السفلى تحاول كتم ضحكتها قبل أن ترد عليها بغموض:

- وهل قلت أمرا مخالفا؟ جميعنا مخلوقاته على أرضه وعلينا مؤازرة ومساعدة بعضنا البعض... أليس كذلك يا مُحبة الفضة؟

عقدت نهيلة جبينها ترمقها بقلق حقيقي واستياء ممزوج بضيق، تجيبها بهمس من بين فكيها المطبقين:

- أنت واهمة إن ظننت بأنهم يساعدونك... فلا تثقي بهم!

ضحكت بخفة قبل أن تقول لها بسخرية:

- ومن قال بأنني أثق بهم أو بغيرهم؟ لا مكان للثقة في هذه الدنيا يا صغيرة... اعتبري هذا أول درس لك وإن أردت غيره تعلمين أين تجدينني.

- أين تلك المجنونة؟

أجفلت نهيلة على هتاف سلا الحانق، فابتعدت عن مجال حصار رواند تنصت لشقيقتها شيراز التي تدخلت مشيرة إلى مكان ما بين الجموع الغفيرة:

- رأيتها تتسلل بين الناس هناك... هيا لندخل نحن أيضا.

ثم سحبت إبرة مليئة بالحناء السوداء من حقيبة ظهرها، تستدرك بمكر غامض:

- أرى كثيرا من السياح هنا، وبكرم مني سأرسم لواحدة منكما أولا... من تريد؟

عبست نهيلة بغضب وسحبت سلا بينما تقول لها بحنق:

- هيا سلا لنبحث عن شقيقتك قبل أن ينتبه أخوك وأخي لاختفائها.

علت قهقهة الفتاة حين ابتعدت نهيلة بسلا تختفيان بين الجموع ثم استدارت إلى أختها بالقول الساخر:

- لطالما كانت نهيلة جبانة! ... حسنا، سأذهب لأجمع القليل من المال.

لم تبادلها شقيقتها السخرية بل حذرتها بحزم جاد:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


- لا تتهوري!... إذا انقلب عليك الأمر سيدمرك فلا تفلتي الخيوط من بين أصابعك.

رفعت كفها تلهو بإبرة الحناء بين أصابعها الرفيعة بينما ترد عليها بنفس السخرية، مشيرة إلى يوسف قبل أن تضيع بين الحشود هي الأخرى:

- لا تقلقي أختاه الخيوط دائما بين أصابعي، اهتمي أنت بما يهمك، ولا تفلتي خيوطك من بين أصابعك الجميلة.

تنهدت بيأس والتفتت تمعن النظر نحو يوسف للحظات قبل أن تهمس بتصميم خبيث:
- لدي ما أهتم به بالفعل.
أطلقت نهيلة سراح رسغ سلا أخيرا تهتف بتوتر تمكن منها مع الكثير من الضيق، فتشير إليها بأصبع سبابتها محذرة بجدية:
- مهما حدث يا سلا، لا تسمحي لتلك الفتاة وأختها بأن تضع يدها على طرف من جسدك، لا بالحناء ولا بأي شيء آخر... هل سمعتني يا سلا؟
- ما بك؟
سألتها المعنية بذهول قلق لكن نهيلة ومن فزعها استرسلت بتصميم وإلحاح:
- عديني يا سلا... من فضلك عديني بأنك ستبتعدين عن تلك الفتاة وأختها، أعرف أنها زوجة جدك لكن من فضلك عديني بأنك على الأقل لن تسمحي لتلك القطة بأن تضع يدها عليك لأي مبرر كان.
- قطة!
هتفت سلا بنفس الذهول القلق فامتعضت ملامح نهيلة وهي تشير بكفيها كما تفعل عادة:
- اسمها شيراز، فماذا ستكون إلا قطة ومن النوع المتكبر أيضا.
ما إن التقطت سلا المعنى حتى انفجرت ضاحكة وتبسمت نهيلة قليلا ثم طلبت منها بتوسل:
- عديني يا سلا، من فضلك.
رمقتها للحظة تحاول سبر أغوارها لكنها وعدتها أخيرا:
- حسنا أعدك.... وبالمناسبة أنا فعلا مبتعدة عن طريقهما.
أومأت لها نهيلة وتلفتت حولها متفقدة الحشود وما يفعلونه فتبتسم ساخرة من إيمانهم بخيوط لم يسألوا حتى أنفسهم لماذا أصحاب المكان يبيعونهم إياها بحجة أنها مباركة، طالبين منهم على أساس خزعبلات بأن يعقدوها حول شبابيك المزار الحديدية، لا تلوم الأجانب من غير المسلمين ولكنها تلوم من يوحد الله ثم يجعل بينه وبين ربه وسائط وشركاء.
- أختك سارة لا تفعل، انتبهي إليها جيدا يا سلا... هيا لنبحث عنها.
تلكأت تقبض على كف سلا، تجذبها لتقتحم الجموع ثم استدركت بحنق:
- لا ينقصني سوى المزيد من القطط.
استسلمت سلا لضغط كفها الحريص بينما تجيبها بنفس الفضول والقلق:
- لابد من أن تشرحي لي في وقت ما يا نهيلة.
***

- يجب أن تفعل شيئا ما يا يوسف، ولا تقف مكتوف الأيدي هكذا!
أشار له نبيه بحزم وملامحه المحمرة بغضب كحمرة شعره ولحيته تتغضن باستياء بالغ، فحرك يوسف كفيه بنفس الاستياء:
- -ماذا سأفعل والسيدة زوجته لا تستجيب لنا؟ لا أعلم من أين أبدأ؟ الشاب معتوه و....
- ليس معتوها!
قاطعه نبيه رافعا كفيه وحنجرته تصدر أنينا وكأنه سيصرخ فجأة، يفسر له بحسرة تجلت بين ملامح غضبه:
- بل اضطرب عقله وهناك فرق شاسع بين المعنيين، وإن كنت تريد رأي هو مفتاحك لا والدته....
قطب يوسف جبينه بحيرة مستفسرا منه، فتنهد الآخر يكمل بحركات يديه:
- علوان كان طبيعيا جدا، أذكره جيدا لأنه من عمر نهيلة، بل وأذكر جميع أفراد صفها منهم صفاء ابنة الحاج عبد البر، وتلك الفتاة شقيقة زوجة جدك... شيراز!
قاطعه يوسف باستنكار ضائق:
- لماذا الجميع يربطهما بجدي فقط؟ لديهما عائلة ونسب ومعروف أيضا....
مط نبيه شفتيه يشير بيديه، والامتعاض يرتسم على وجهه:
- تلك السنوات التي غبت فيها ولم تزر فيها البلدة مرة واحدة حدثت فيها أمور كثيرة، منها مرض الحاج عبد التواب المفاجئ وبدء تغير حال ابنه الذي كان من أوائل صفه في المدرسة، وأيضا اختفاء والد زوجة جدك.
زم يوسف شفتيه فرفع كفيه باعتذار، ليشير بعهدها:
- أعتذر إليك، أقصد اختفاء والد رواند عم بهيج، هل ارتحت الآن؟ هل يشكل فرقا؟
تنفس يوسف بعمق يفكر بوجوم في معضلته، ما يحدث معه كثير ولقد أصبح يفكر مليا وجديا في أخذ شقيقتيه والعودة بهما إلى والده ليجبر والدته على نسيان كل شيء واللحاق بهم.
- افتح عينيك جيدا يا يوسف! هناك أمور وبالرغم من تسليمنا بها كوننا مسلمين إلا أن الحضارة العصرية وطغيان العلم يفرض علينا تجاهلها، وهذا يضرنا ... فأي أمر مهما كان حقيرا أو بسيطا الجهل به يضاعف من قيمته حتى يدمر من يُسلط عليه.
أشار له يوسف باضطراب، ووجهه يتكوم بتساؤل والكثير من الجهل:
- ماذا تقصد يا نبيه؟ من فضلك كن واضحا، فرأسي يفيض بفوضاه لا يحتاج إلى المزيد.
أومأ له نبيه بتفهم ثم أجابه بتفسير واضح:
- فكر جيدا يا يوسف، كنت قد سألتُ قبل سنوات عن حالة الخال عبد التواب وعرفت أن الأطباء لم يجدوا أي تفسير طبي لحالته، فأوزعوا غيابه عن الوعي لأسباب نفسية... اضطراب علوان بدأ وهو في الصف الثالث إعدادي، انعزل عن أصدقائه وأضحى قليل الكلام كثير التحقيق في من حوله وكأنه يبحث عن شيء ما يحذَرُه... والناس عذروه وتفهموا حالته ظانين بأنه تأثير مرض والده عليه، ومع ذلك ظل يدرس جيدا لكن مع توالي الأيام ازدادت حالته سوء ...فلم يكمل السنة الثانية من الثانوية بسبب حجزه في المشفى بعد أن بدأ يخيف زملاءه برعبه الدائم ممن حوله، وصراخه إن حدث واقترب منه أحد.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


صمت نبيه يبلع ريقه فأشار له يوسف بحيرة:
- ماذا تقصد يا نبيه؟ من فضلك لا تخبرني بما فهمته؟... ليس أنت أيضا.
ارتفع حاجباه الأحمرين ساخرا بإشارته:
- ولمَ لا؟ فهو حقيقة مهما تجاهلناها وكون أغلبنا ينسون أنفسهم مع فتن الدنيا ما يجعل من أنفسهم بيوتا خربة وأهدافا سهلة جدا، وحين تفتح عينيك جيدا سيفاجئك ما ستكتشفه، إنها الحرب الأزلية يا يوسف... ولو كنا بنصف وفاء العدو لعهده أمام الله لاستيقظنا من غفلتنا ونحن نتلوا آيات الله كل يوم عن بدء نشأتنا وكيف نزلنا إلى هنا ومن كان السبب! وبدلا من ذلك ننصر العدو بل ونستعين به وكأنه سيخلف وعده ويساعدنا في شيء!
عض يوسف شفتيه بحيرة أكبر وقلبه ينقبض فجأة بشعور آخر مختلف حين سأله نبيه:
- هل تنكر ما نزل به القرآن يا يوسف؟
انتفض يرد عليه بذهول حتى أنه نطقها كما أشار بها:
- طبعا لا!... ما الذي تقوله يا نبيه؟!
ارتفع حاجبه الأيسر وقد ظهرت بسمة بسيطة على جانب ثغره بينما يشير له:
- منظمة العدو متشعبة، ومخطط لها جيدا ولا ينسى أبدا ما يحيا من أجله على عكسنا نحن، نفضل التجاهل والنسيان على الاعتراف بالحقائق ومواجهتها وهذا يذكرني بقول صاحب الفلسفة مؤنس.. نفاق اجتماعي!
***
(منزل أهل زينة)
*حين تلبد السماء بغيوم سوداء في وسط النهار، وتنطلق الأمطار بغزارة إلى درجة أن يتحول نور النهار إلى ظلمة الليل، ذلك لا ينفي أبدا وجود الشمس مكانها ساطعة تتوسط كبد السماء كعادتها وكما خلقها الله...المثل هنا أعني به؛ الحقائق هي الشمس الساطعة والغيوم السوداء هو النفاق الاجتماعي*

رفعت رأسها عن الهاتف لتنظر إلى زينة التي قالت لها مازحة دون أن توقف عملها على آلة الخياطة بينما تقوى تضع ثوبا على جسدها أمام المرآة تتفقد قياساته:
- ما الجديد على *مواقع التشتت والانقطاع الاجتماعي* على رأي ابن عمي مؤنس؟
ضحكت تشاركها تقوى الضحك وهي تجيبها بينما صفاء تقبض على الهاتف بشدة لم يلاحظها أحد تخفي به توترها:
- صدق أستاذ الفلسفة في ما يخص ذلك!
تلكأت تقوى وهي تعلق الفستان لتسحب آخر في تلك الغرفة الواسعة والتي خصصتها زينة لأشغال التفصيل والخياطة، تستقبل فيها من يعمل معها من بنات الوادي؛ تحتوي على آلتي خياطة عصرية وعلاقة طويلة على الجانب تحدها مرآة طويلة عريضة تلتهم جدارا بأكمله لتسهيل رؤية جوانب الأثواب على الأبدان بعد أن يتم ارتداؤها في إحدى زوايا الغرفة حيث ركبت ستارة دائرية تضمن الخصوصية لمن تستعملها ثم أريكتين بقاعدتين خشبيتين، محليتي الصنع:
- أستغرب أحيانا تصرفاته الغريبة، وأغلب منشوراته تتسم بحكمة، بالرغم من تحفظي على طرقه بالتعبير عن بعضها.
انتبهت صفاء لقولهما بتركيز، وزينة تتوقف للحظة عما تفعله لكي تجيب تقوى بحسرة واجمة:
- مؤنس طيب وحنون، لا أعلم حقا ما الذي غيره في مرحلة ما وأضحى بهذا التخبط والنقمة على ما حوله؟ لا ينكر الحق ويعترف به لكنه يفر منه إلى الجهة المخالفة بطريقة جنونية وغير منطقية... حتى الخمر لا يدمنه ويكرهه جدا لكن كيف يحتسيه هكذا مرات لا أفهم حقا ما به؟...وكأنه ينتقم من نفسه أو من أحد كما سبق جرير وصاح به بغضب مرة من قبل.
لوحت تقوى بفستانين أمام أختها تخيرها:
- أي منهما أعجبك كي أختار الآخر؟ فكلاهما يعجبانني.
قلبت صفاء كفها بعدم اهتمام:
- لا بأس، اختاري أنت.
لم تجادلها تقوى واستدارت نحو زينة، تخبرها باختيارها باسمة بلطف:
- سأختار هذا المطرز لكن ليس بهذا اللون، أنت تعرفين لوني المفضل، وهذا المطعم بالخرز لأختي وباللون الذي يناسب بشرتها، وهو الأرجواني من النوع الهندي، أليس كذلك يا صفاء؟
أدارت رأسها نحو التي لوحت لها بيدها بغير اهتمام، تطالع الهاتف قبل أن تقول لزينة بنبرة محايدة:
- منشوراته اليوم كلها عن النفاق الاجتماعي.
نهضت زينة فظهرت بقامتها المتوسطة وزنا وطولا، ترتدي منامة بيتية عادية من سروال وقميص طويل إلى قبل الركبتين بقليل عليه رسومات دوائر بدرجات الأحمر بينما تجيبها:
- لمحته أمس من نافذة المطبخ يقضي الليلة عند جرير كعادته أغلب أيامه، وقد كان ناقما جدا، لم أفهم سبب اشتعال نقمته حتى سمعتُ الفتيات صباحا يتحدثن عن ما حدث أمس من جدال جديد أمام المسجد حتى أن هناك نسوة أوشكن على الطلاق بسبب غباء العنصرية.
تنهدت تقوى بوجوم تقول لهما بينما تحتل مكان زينة، تستعد لتكمل عنها الخياطة كما تعودت الفعل حين تنشغل الأولى لأي سبب في حضورها، فهي أيضا تعلمت الخياطة مثلها لكنها لا تزاولها سوى كهواية:
- لا أعلم متى سيتغير حال هذه البلدة؟ بالله عليهم، أي منا لا ينتمي لسكان الأرض الأصليين وأيضا لمن قدموا قبل مئات السنين؟! خصوصا الثلاثة أجيال قبل جيلنا نحن، كلهم أجيال مختلطة فكيف يسمحون للشياطين باستغلال ذلك للتفريق بينهم؟

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


تخصرت زينة ونظراتها تتلون بسخط تشعر به نحو الأمر ثم رفعت كفيها لتعيد جمع خصلات شعرها الأسود الطويل فوق رأسها بينما صفاء حائرة في أمرها، فتسأل شقيقتها كعادة لا تفارقها عبر سنوات نشأتها مهما توصل إليه ذكاؤها الذي حقا تملك منه قدرا كبيرا ولا تعترف به:
- لا أفهم ما العلاقة بين النفاق الاجتماعي والجدال بين أهل البلدة أمام المسجد؟
ردت عليها زينة بتهكم اتسمت به بسمتها:
- هل تمزحين؟! من يحرص على تأجيج نيران الجدال بين أهل البلدة أغلبهم يعرفونه وقد يكونون متفهمين أيضا لطمعه ورغباته لكنهم يتجاهلون ذلك إما خوفا أو طمعا بمصالحهم فلا يتحدث سوى الجاهلين منهم بما يحدث حولهم، وذلك يا عزيزتي من النفاق الاجتماعي!
جعّدت صفاء ذقنها تومئ لها بتفهم فتدخلت تقوى تتعمق في التعبير عما يؤرقها ويشكل حيرة في صدرها:
- ليس هم فقط يا زينة نحن أيضا نساهم في ذلك دون دراية حتى لو كان ظاهريا لا علاقة له بأمر الجدال أمس لكنها مشاكل مجتمع واحد تصب في بحر واحد لتجتمع وتفيض علينا بأمواج هادرة.
وضعت صفاء قدمها اليمنى على اليسرى تولي كامل انتباهها لأختها التي استرسلت تفسر خلف آلة الخياطة وزينة واقفة مكانها تنتظر فراغها من الحديث:
- لنتحدث عن مثال واحد....الإعلام... تحديدا المسلسلات والأفلام ... الأعمال الفنية كما يطلقون عليها، أغلبنا يتابعها ونسبة كبيرة منا يشجعون ويساندون وقد يروجون لمن ينتجها ... لكن هل هذا ينفي حقيقة عدم جوازها؟ فأصغر واحد منا إذا سألتِه سؤالين فقط عن جواز لمس رجل لامرأة لا تحل له وعن تبرج المرأة وكشف مفاتنها أمام غير محارمها دون ذِكر أن حتى أمام المحارم هناك حدود سيكون رده طبعا لا يجوز لرجل أن يلمس امرأة لا تحل له إلا لضرورة قصوى قطعا ليس التمثيل من ضمنها، وطبعا لا يجوز للمرأة أن تكشف وتبرز مفاتنها أمام الجميع، وتتزين بما يحل وما لا يحل من زينة، هذا جانب واحد من بين جوانب أخرى عديدة تجعل من الأعمال الفنية لا تجوز شرعا لكن هل ذلك يوقف حقيقة متابعتنا لها سواء في الخفاء أو في العلن أو حتى في مرحلة ما في حياتنا؟... لا! إلا من رحم ربي طبعا، فهناك من هو ثابت على موقفه لا يزعزعه تبريرات ولا فتاوى لا نعلم لها من مصدر كما هناك منا من يدافع عنها بتبريرات هو نفسه في مكان عميق داخله يعلم أنها واهية، وهذا أيضا من......
أكملت عنها زينة ضاحكة بفكاهة:
- النفاق الاجتماعي، آآه يا تقوى ليت القضية تقتصر على ما يجوز وما لا يجوز، ماذا عن الأفكار الهابطة التي ابتلي بها إعلامنا؟ أصبحنا نعايش أعمالا تتسابق لتعرض وجها واحدا من مجتمعاتنا وكأن بُلداننا كلها مراقص وملاهي ليلية ومجرمين...نساء ساقطات ورجال سكارى... يا الله! غير الأفكار الشاذة التي تناقض ديننا تماما فنتقبلها على شاشاتنا بحجة التعرف على الثقافات الأجنبية، وها نحن نعاني من نتائج تأثيرها... الله المستعان! سأذهب لأحضر الشاي.
نهضت صفاء بسرعة لتمنعها:
- سأحضره أنا، لا تتعبي نفسك واجلسي مع صديقتك.
ضمت كتفيها بمحبة بينما ترد عليها بود:
- أنت أيضا صديقتي.
اتسعت بسمة صفاء بينما تعقب بود مماثل:
- أعرف، لكنك مفيدة هنا أنت وتقوى، لذا سأحضر لكما الشاي.
أطلقت سراحها لتعود إلى تقوى وهي تخاطبها بامتنان:
- حسنا، الشاي جاهز، فقط قومي بتسخينه، وطبق الكيك ستجدينه فوق الفرن، وباقي الأواني أنت تعرفين مكانها.
غادرت الغرفة وسمعها معهما تسجل بقية حوارهما بحرص:
- خلاصة الأمور؛ ندمر بعضنا ومجتمعنا باختياراتنا الشخصية الخاطئة كل واحد منا يظن اختياره الشخصي يخصه لحاله ولن يؤثر على غيره، ناسيا قول الله عز وجل *إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم*، كيف ربط *ما بقوم* ب *ما بأنفسهم* لو لم يكن إصلاح النفس هو الحل السحري لإصلاح القوم؟
علت ضحكة زينة المرحة وهي ترد على تقوى بمرح:
- لا يا عزيزتي، نحن في ما يخص الإصلاح سبّابتنا دائما ما نوجهها لغيرنا، عيب علينا إن اتهمنا أنفسنا، ماذا تقولين يا تقوى؟
وكان آخر ما وصلها صوت ضحكاتهما المرحة.
***
دخلت صفاء المطبخ وأسرعت بتدوين ما يهمها من الكلمات قبل أن تحرر المنشور ثم فتحت النافذة تتلصص منها على حديقة بيت جرير الأمامية، فلاحظت بأن أغلب نوافذ الغرف مغلقة سوى الخاصة بالمطبخ ثم عادت لشاشتها تراجع منشورها وتتأكد من أنه قرأه ووضع علامة إعجابه كعادته.
*نحن ندمر بعضنا ومجتمعنا باختياراتنا الشخصية الخاطئة، فكل واحد منا يظن بأن اختياره الشخصي يخصه لحاله ولن يؤثر على غيره ناسيا قول الله عز وجل *إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم* كيف ربط *ما بقوم* ب *ما بأنفسهم* لو لم يكن إصلاح النفس هو الحل السحري لإصلاح القوم؟*

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


الفصل الخامس

قف على الباب فليس عند الله باب ولا بواب.... عمر عبد الكافي.



(منزل أهل فواز)

تزم شفتيها المكتنزتين كاكتناز وجنتيها حيث اجتمع الدم بحمرة الغضب المشع من نظراتها الحادة والمسلطة على وجهه. طرفي وشاحها البني مرخيان على كتفيها، فينكشف عنقها المجعد بينما شعرها الأشيب المحمر بأثر الحناء يغطيه وشاح أبيض أصغر معقود خلف عنقها:

- انتهينا يا أختي، ها هو ذا أمامك معافا وبكامل صحته.

تدخلت خالته للمرة العاشرة تهادن شقيقتها الجامدة بينما تغمزه وتعض على جانب فمها بمعنى قم وقبل رأسها مجددًا فمط شفتيه خفية، واستجاب لخالته يضم رأس والدته ليقبله قائلا لها برجاء:

- سامحيني أماه لقد نسيت نفسي بين صُحبتي وانتهى شحن هاتفي.

زفرت والدته، ترميه بنظرات ذات معنى وردت عليه بنبرة ساخطة مكتومة رغم كل شيء، فحضور بقية أبنائها يمنعها من حرية التعبير، تحديدا ابنها البكر المعروف بطبعه الجاد:

- صحبة شيقة تلك التي أنستك والدتك وقلقها عليك...

وقبل أن يرد عليها كان شقيقه الأكبر منه بعشرين سنة الحبيب يتدخل بنبرته الجادة ونظراته تتسم بترقب:

- من هي تلك الصحبة أماه؟ هل هناك ما تخفيانه عنا؟

ما تزال تزم شفتيها بشدة، وتزفر من أنفها أنفاسا ملتهبة، فرد عليه فواز بتوتر رغم غضبه الذي يكتمه داخله ببراعة، حفاظا على سلامته من أي فضائح هو بغنى عنها:

- الصحبة يا أخي، الصحبة من أصدقائي.

ضيق الحبيب هو الآخر مقلتيه فأضحى شبيها بوالدته التي ظلت على صمتها توشك على الانفجار في وجه أحد، كل ما تفكر به كيف تنقذ أصغر أولادها عديم التربية من هوة سحيقة ستبلعه إن لم تحسن التصرف قبل فوات الأوان:

- يا جماعة ربيبي بهيج كان معه، هو لم يكذب!

أصدر الرجل العابس كعبوس والدته ضحكة ساخرة بينما يستقيم واقفا على قدميه استعدادا ليغادر، يجيب خالته:

- لقد اطمأن قلبي فعلا يا خالتي بما أن ربيبك بهيج كان من ضمن صحبته.

ضغط على آخر كلمة بتعمد ساخر فكز فواز على شفتيه مجبرا نفسه على الحفاظ على بروده في حين ردت عليه خالتهما بانزعاج:

- والده لم يتصرف مثل أختي وجمع العائلة فجرا لمجرد أنه اكتشف غياب ابنه الراشد والبالغ عن البيت.

لم يصدر عن أختها سوى تنهيدة طويلة وهي تسحب عصا عكازها تضم رأسه بين كفيها قبل أن تسند ذقنها عليهما، تناظر الفراغ بسهو وسط حديقة منزلهم الأمامية حيث رابضت منذ أن اكتشفت غياب أصغر أبنائها عن فراشه، فهاتفت كعادتها حين خوفها جميع أولادها وحتى شقيقتها الوحيدة على قيد الحياة.

تعلم يقينا بأنها دللته ولم تعامله كما عاملت باقي أشقائه بحزم الأمهات بل وما تزال تقلق عليه وتحوم حوله كصبي صغير لكن عذرها الوحيد والله شاهد عليها وفاة والده وهو ما يزال نطفة يتكون في رحمها. أنجبته في سن الأربعين، حينها كانت فراخها قد بدأت تنضج وتتقوى أجنحتها لتطير خارج عشها فاعتبرته رحمة الله بها من فقدان الشريك وتفرق الأبناء من حولها فتعلقت به وعشقته وأحاطت به حتى من شقيقه الأكبر الذي يبدوا عليه معرفة صغيرهم مثلها وحقيقة ما يحاول إخفائه عن الجميع، لا يعلم بأنه لو أخفى سره عن الناس أجمع هي ستكشفه من نظرة واحدة إليه، الغبي! كيف يجهل حقيقة قراءتها له ككتاب مفتوح؟ ولهذا بالذات بكت لربها تعترف له بفشلها في حمايته من شهواته كلها.

صغيرها المدلل، بار بها يعشقها كما تعشقه، يتحمل نوبات تحكمها به ويدللها كما تدلله ويعلم الله بأنه يحاول المحافظة على صلواته ويصل رحمه ويرحم الضعيف، لا يقبل الحرام في تحصيل رزقه، لكنها تلك الشهوة البائسة التي طغت عليه ولم يستطع التحكم بها لهذا أصبحت تفكر في حل واحد وإن كانت غير متأكدة من فعاليته، فإن كان الآن يطاوع هواه وهو عازب ماذا لو فعلها وهو متزوج؟ ولأن الحياة علمتها بأن الدّين لا يُنسى و النفس تدفع ثمن ضلالها، قلبها أصبح مشغولا على فلذة كبدها أضعاف ما كانت من قبل.

لكن وليغفر لها الله إن لم تحاول كل ما لديها من حلول وليعنها الله على القادم.

- هذا لأنه يئس من تصرفات ابنه الهوجاء... أماه!

قالها بكرها لخالته قبل أن ينادي أمه بنبرة جدية لا تخلو من الاحترام فرفعت إليه جفنيها الواهنين تصغي لتتمة حديثه المظلل بنظرة ذات معنى لم تخطئها:

- ابحثي له عن عروس تقلق عليه بدلا منك، حان الوقت لترتاحي قليلا.

- منذ متى يرتاح الآباء من أبنائهم؟ توكل على الله يا ولدي فأنا أبحث له عن عروس فعلا، أحب أن أفرح برؤية طفل له قبل الممات... رقدة القبر باتت وشيكة ولا يعلم الغيب إلا الله.

مال بقامته التي لا تقل طولا عن طول شقيقه الصغير ولا بما عليه من جلباب أنيق، يقبل أعلى رأسها وقد اغتمت ملامحه الوقورة، يعقب قبل ان ينصرف:

- بارك الله لنا في عمرك أماه، سأمر عليك قبل عودتي لبيتي من عملي إن شاء الله.

ثم أضاف بحزم وهو يتجاوز شقيقه الواجم هو الآخر:

- سأنتظرك في محلي قبل أن تفتح محلك.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


زفر فواز بكآبة حلت عليه فهو أدرى بحوار شقيقه الأكبر، لطالما نصب نفسه والدا له يشد على أذنيه خلف ظهر والدته ويعامله هو الاخر كصبي صغير تماما مثلها، الفرق الوحيد بينهما أنها هي تدلله وهو يقسو عليه.

- العروس موجودة يا عريس فقط وافق أنت وسنطلبها لك.

أخبرته خالته م وهي تنتقل من جوار أختها إلى جواره حيث نهض أخوه الأوسط مغادرا هو الآخر بعد أن قبل رأس والدته وهمس له بعبارات مازحة عن نوع سهرته. لم يجبها فواز منتظرا مغادرة شقيقتيه الناظرتين إليه بعدم رضا وافق تدخل إحداهما الممتعض:

- يا خالتي إنها ابنة سحّارة.

قاطعتها خالتها هاتفة بغضب لتدافع عن قريبة زوجها بعصبية:

- كذب ... كل ما شيع عنها افتراء عليها! ولا تنسي أن من تنعتينها سحارة تكون شقيقة زوجي، ومن اختارتني زوجة لشقيقها.

حركت إحدى ابنتي أختها فمها المزموم يمينا ويسارا، تهمس للأخرى بنفس الامتعاض:

- ونعم الزواج!

- ماذا تقولين؟ لا أسمعك.

هتفت بها خالتهم بانزعاج فردت عليها بتبرم:

- وهل هو دين يجب علينا رده؟

زفرت خالتها بانزعاج وفواز لا يهمه سوى إرضاء والدته فاقترب يطوق ذراعها، يخاطبها بتوسل:

- أماه انتهى شحن هاتفي ولم أستطع مهاتفتك، كنت في حفلة على أعلى مستوى حضرها فاحشي الثراء من الأجانب والمواطنين، وحققت فيها ربحا كبيرا الحمد لله.

حافظت والدته على صمتها الواجم رغم استسلامها لضمة ولدها لذراعها، وجاءه الرد من أخته الوسطى التي لم تتدخل في الحوار منذ بدأ، تعاتبه بنبرة لطيفة:

- لماذا لم تخبرني يا فواز؟ إنها فرصة مهمة للكثيرين منا، كنت وزينة والفتيات لنعرض عليهم الأزياء المحلية، ونهيلة تعرض مجوهراتها الفضية...الكثير منا كان ليحقق ربحا مثلك.

حدق بها متخيلا فتيات الوادي في تلك السهرة فأخفى امتعاضه جيدا، وهو يبرر لها:

- قلت لكم حفلة على أعلى مستوى... حضرها مسؤولين عن مناصب حساسة فكان الدخول إليها صعبا لولا أن بهيج ضمِنني أمام منظمها ما كنت لأحلم بالدخول إليها.

هزت رأسها بتفهم وأختها تستغل الأمر، تتدخل بما يهمها:

- إذن حققت ربحا ها؟ ماذا ستحضر لنا من هدايا؟

تبسمت بمرح فتحدثت خالته بنفس حديثها وهي تربت على كتفه:

- أختك محقة، لا نقبل سوى بالذهب.

ارتفع حاجباه، يرمقها بذهول فقهقهت بتسلية وأخته الوسطى تخاطبه بحنو:

- الذهب يشتريه لعروسه إن شاء الله.

- لماذا لا نختار زينة يا خالتي؟ هي أيضا فتاة جيدة وحنانها على والديها المريضين معروف بين الناس.

عبست خالته تكتف يديها برفض وفواز يجاهد لاستدعاء صورة زينة في خياله فتحضر مبهمة، بعيدة، غير واضحة، وكأنها لم تكن يوما فتاة يهواها قلبه فيعود إليها بمشاعره كلما حام هواه بعيدا عنها ليرضي شهوته.

- وما بها حفيظة؟ فتاة جميلة، متعلمة وبارعة في رعاية بيت والديها.

تحدثت خالتها باندفاع فقفزت صورة المعنية تحتل خياله بكل وضوح بل وبأحلى طلتها، يتخيلها باسمة له بمشاكسة تزين له عينيها.

- طبعا فوالدتها لا تلتزم بيتها كي ترعاه.

همست إحدى الأختين للثانية فهتفت خالتها بنفس عبوسها مجفلة الذي يجاورها من أحلامه:

- تحدثي أختي، لماذا أنت صامتة؟

نظرت الحاجة إلى ابنتيها، تسألهما بنبرتها المتمهلة:

- هل يعيب حفيظة شيئا ما لا أعرفه؟ لا أتحدث عن أمها بل عن الفتاة... هل يعيبها شيء لا أعرفه؟

تناظرتا في ما بينهما ثم هزتا رأسيهما سلبا فلن تتحملا ذنب بهتان لمجرد نفورهما من والدتها وما يسمعانه أحيانا عنها، فاستدارت إليه والدته تسأله بجدية لم تتخل عنها:

- أي يوم يناسبك يا فواز؟

نادته باسمه وهذا له معنى واحد أنها لم تصفح عنه بعد، فحاول مجددًا:

- أماه، لمَ لا نتمهل قليلا؟!

قاطعته بينما ترفع عينيها البنيتين نحو عينيه تخَيره بإصرار:

- أم أنك اخترت زينة أو أي فتاة أخرى؟ فقط أخبرني باسمها.

زفرت خالته بغضب مجددًا وهو يتنهد بتعب يناظر والدته بتمعن تبادله حوارا صامتا يتلقى معانيه الواضحة، ثم مسح على وجهه قبل أن يعود للنظر إلى والدته مستشعرا منها الإصرار والتصميم فزفر قائلا لها باقتضاب:

- حفيظة.

انطلقت زغرودة مجلجلة من فم خالته بينما هو ينهض من مكانه ليقبل رأس والدته وينسحب مصاحبا فوضى أفكاره وكل ما يفكر فيه اللحظة أن ينال قسطا من النوم علّه يستعيد رشده.

***

لم يحظر معه جراره كعادته أثناء قضاء حوائجه واكتفى بقدميه بعد أن أنهى حصاد حقلين وترك رضوان ينهي حقلا آخر فغادر مستغلا الظرف. انتعش قبل أن يغير ثياب عمله إلى أخرى لا تختلف كثيرا، مجرد سروال جينز وقميص عادي، وانطلق إلى بغيته لكن وفي طريقه لمحها عبر مدخل رحبتهم الضخم، منهمكة في عد أشولة القمح المكومة فوق بعضها فتدون شيئا ما على دفتر أسود كبير يستغرب كيف تحمله بين ذراعيها متخيلا مدى هشاشتهما، نفس الخيال الذي قاده إليها وخاطره يجهز له المئات من المبررات.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

01 Dec, 15:04


- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التفتت إليه بشكل يبدو كالإجفال وقلبه الوحيد الذي يستقبل تلك الحركة بمعنى مختلف يدفع بخفقاته للارتجاف، فيترجم ذلك تلقائيا إلى نظرات معاتبة تتلقاها بتفهم، فتبادله إياها بنفس العتاب بينما ترتبك وتبدأ بالتحرك بشكل عشوائي لم يناسب ثقل الدفتر الذي بين ذراعيها، والموشك على الوقوع منها في نفس اللحظة التي أسرع فيها ليلتقطه وهي تتراجع متخلية عنه لتمسد أحد مرفقيها بيدها المخالفة بتوتر استدعى البسمة على شفتيه.

قبض على الدفتر مستقيما بظهره في مكانه ونظر إليها بسرعة يفكر في أن طولها المقارب لطوله الفارع يعجبه بل كل ما فيها يعجبه، ملابسها المحتشمة وفِرار نظراتها الخجلة دوما أمامه ثم أدار وجهه لتفقد ما حولهما قبل أن يعود إليها متسائلا بأول ما خطر على باله:

- هل التوزيع ككل سنة؟

لم تفارق كفها مرفقها بعد حين نظرت إليه بتساؤل متبلد فهام برماد عينيها قبل أن يتنهد بخفوت يرنو بنظراته نحو الدفتر الأسود يقلبه بين كفيه مفسرا لها:

- في الحقيقة، أردت سؤال الحاج عبد البر إن كان سيبيع محصوله للسمسار قريب الخواجا كما أقنع بعض العوائل بالفعل هذه السنة؟!

وكأن ضيقها من الأمر أنساها ارتباكها، ترد عليها بحزم أنعش قلبه المتوثب في صدره بجنون:

- لا... سنبيعه بأنفسنا كما نفعل كل سنة، سبق وأجّرنا مكانا لنا في سوق الحبوب في المدينة السياحة، فحق الفلاحين يضيع بين جبابرة السمسرة كما يضيع حق الزبون بتحكمهم في السعر جراء جشع أغلبهم.

كثيرا ما ينسى نفسه أمامها ضائعا في عشق تفاصيلها. ماذا في تلك الفتاة لا يجذبه كمغناطيس؟ إنها تناسبه جدا وتناسب هواه وتعلم ذلك لكنها تعانده.

توقف تفكيره عند ذلك الحد وهز رأسه بتفهم لحديثها بينما هو ينفض عنه أفكاره التي لا تزيد أعصابه سوى احتراقا.

- أختي.. أنا!

بترت صفاء نداءها متفاجئة بوجود جرير قبل أن تبتسم بمكر مرح.

- ماذا هناك صفاء؟

وجدت لثورة قلبها وسخونة الدم حياء في عروقها منفذا، تكاد تتنهد براحة لولا أنها ما تزال في مجال ترقبه وتربصه بها، فاقتربت منها شقيقتها، تتأبط ذراعها بينما تسأل جرير عن حاله:

- كيف حالك يا جرير؟

هز رأسه بملامح مرتخية، يرد عليها بنبرته الجادة:

- الحمد الله... على العموم!

تلكأ وهو يقترب منهما ليناولها الدفتر غير عابئ بالتي تسمرت ببلاهة تهيم بهيام نظراته لشقيقتها:

- أردت فقط التأكد من أن الحاج عبر البر لا يتعرض لضغوطات.

لم تستطع تناول الدفتر منه والارتباك يتملك منها مجددا فتسلمته منها شقيقتها التي قالت له ببسمة مهذبة:

- ومن هذا الذي يستطيع الضغط على أبي؟ تقوى ستمزقه بأسنانها قبل حتى أن يحاول.

عبست تقوى في وجه أختها، تنهرها بصمت قبل أن ترتسم الدهشة على وجهيهما من ضحكه المشوب بتعبير إعجاب واضح صاحب تعقيبه:

- أتمنى رؤية ذلك.

كانت تلك أول مرة تلمحان فيها ضحكه وقد تعودتا مع الجميع على جديته دوما.

لاحظ نظراتهما الذاهلة فتنحنح مستدركا بجديته التي عاد إليها سريعا:

- حسنا، لو حدث شيء ما لا تترددوا بإعلامي... بلِّغا سلامي للحاج ونبيل...السلام عليكم.

شيعتا ابتعاده بنفس ذهولهما وتوقفه كأنه تذكر شيئا ما فاستدار، يضيف بينما يشير إلى بابي الرحبة الضخمين:

- حين تكونين لوحدك هنا أغلقي الأبواب، لا تدعيها مشرعة هكذا.

كانت تقوى تعاني مع صخب خفقاتها فلم توفق لرد تمنحه لذاك الضخم المتسلط، فتدخلت صفاء بنفس المرح قابضة على الدفتر بين ذراعيها وصدرها:

- هناك عاملان يفرغان رحبة المواشي من روث البهائم الجاف أكرمك الله.

ارتد رأسه بخفة مستوعبا كلامها ثم أشار لهما مغادرا وطبعا لم ينس منح مالكة قلبه نظرة أخيرة وسريعة قبل خروجه:

- يا إلهي! كم أحب هذا!

تنهدت صفاء فالتفتت إليها تقوى تدعي التماسك، تسألها بانزعاج مزعوم وهي تسحب منها الدفتر:

- ماذا؟

ضحكت ترد عليها بينما تتبع خطواتها هنا وهناك، تكمل العد الذي يبدو يختلط عليها فتعيده مرارا:

- أحب الطريقة التي ينظر بها إليك، وأحب مشاعره نحوك كما أحب ارتباكك أمامه.

- لست مرتبكة!

قاطعتها تقوى عابسة فأشارت صفاء إلى أشولة القمح بينما ترفع حاجبها الأيسر بمكر:

- كم عدد الأشولة في هذا الصف؟

زفرت تقوى بضجر فعادت صفاء للضحك تستطرد بعدما أخذت منها الدفتر لتحثها على المغادرة:

- فقدتِ تركيزك وانتهى الأمر، على كل حال لقد أتيت لأطلب منك زيارة زينة.

أوقفتها عند الباب الواصل بين رحبة المواشي وتخزين الحبوب وبين حديقة المنزل الخلفية تستفسر منها:

- وماذا عن أمي؟

أسرعت تضع الدفتر فوق منضدة رخامية تتوسط بهو الاستقبال الصغير في منزلهم وعادت إليها لترد عليها بينما تحثها على التقدم خارجا:

- ذهبت لزيارة جدتي، وهذا يعني أنها لن تعود قبل المغرب، وأنا مللت من الدراسة ولا متنفس غير صديقتك زينة فلن نذهب طبعا عند حفيظة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

29 Nov, 14:25


رواياتي الورقية في انتظاركم ان شاء الله في معرض العراق الدولي للكتاب من ٤ ل ١٤ ديسمبر وخصومات خاصة من دار إبداع على كل الإصدارات لأعضاء هذا الجروب👇👇👇

https://t.me/+ebAFVZrsLdk1YjNk

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

28 Nov, 15:50


-      تظن نفسك حاذقا، وأجد جرير محقا بشأنك، ولا لم تكلفني المال الذي جمعته من حلال، فبالتأكيد لن أصرفه في الحرام، ما حدث كان برضاها.
جعّد ملامحه الشقراء معقبا بدهشة:
-      إذن تعلم بأن ما فعلته حراما؟
-      لا تزعجني ما تبقى من الرحلة لأنني قد أفقد ما تبقى من تعقلي وأنزلك هنا وسط الخلاء.
لوح بهيج بكفه في الهواء، يرد عليه باستخفاف وهو يعود لاسترخائه:
-      لا بأس! لم أفهمك يوما لأبدأ الآن، وعلى ذكر مفرد الرحلة، سأنام قليلا إلى أن نصل...
لم يركز فواز في حديث بهيج غير المفهوم، منشغلا بمسح مقلتيه من الضباب الذي غشاهما لوهلة وجيزة قبل أن يتكون خاطر يعلو همسه داخل رأسه شيئا فشيئا باسم واحد لا غير، مستغربا من إلحاح خياله عليه بصورتها مستجيبا للخاطر وقد كان قبل قليل بين أشد الفتيات فتنة، وحتما أغلبهن يمتلكن جمالا أخاذا يفتن أعتى القديسين والذي هو ليس منهم  بالطبع ويعترف بذلك، فيستسلم لشهوته كالعادة وإن كانت غير دائمة لكنه يقع فريستها بعد انقطاع وقرار بالتوبة والاستغفار كل مرة، حتى أنه بدأ يفكر في إلحاح والدته عليه بالزواج علّه يجد في ذلك منفذا لشهوة واحدة غلبته كما لم يفعل غيرها في نفسه.
وكانت أول اختياراته حب طفولته وحتى شبابه زينة البنات، بحث عن صورتها بين دهاليز خياله لكنه ولأول مرة لم يجدها وكأنها طُمست أو أضحت بعيدة المنال فعلا كما أرادت من خلال تصرفاتها نحوه، تعبر عن سخطها على شخصيته وكأنها تعريه عن حقيقته بأكملها ولا تدّعي العمى كغيرها يتقبلونه بعيوبه وظاهره الذي يزعم من خلاله كمالا هو بعيد عنه بُعد السموات عن الأرض.
انتبه منصتا لخاطره وكأن هناك من يهمس له باسم الأخرى  مجددًا فيستجلب خياله صورتها في أحسن وأجمل إطلالاتها، ترمقه ببسمتها المغوية ونظراتها المرحة فتنجلي ذكرى الأولى رويدا رويدا كما تضمحل صورتها ولا يبقى سوى همس وخاطر استولى عليه بالكامل، متجسدا في اسم واحد لا غير... حفيظة!
***
(منزل أهل حفيظة)
بين الصحوة والنوم تحتل الغفلة العقل والقلب ينبض رعبا من مجهول يحيطه فلا تصيبه الصحوة فيتمسك بوعيه ولا تسحبه الغفوة فلا يكون عليه حرج، إنما هو برزخ يتقاسمه النوم والوعي بعَدلٍ ينافي ظلم العالقة فيه الآن لنفسها قبل ربها، تكتوي بما تراه فيه ولا تعيه، هل هو حق أم مجرد وهم؟
-      أخبري والدتك بأن ما تفعله لن يضر سواك، استُدعيتُ لألازِمك وفتحوا لي أبوابك لأدخلها مرغما، ولست براحل إلا برحيل روحك...ولن يعاني غيرك.
ارتفع ذقنها باحثة عن الهواء، تشعر بضغط على عنقها بُغية زهق روحها فتحاول رفع يديها بلا جدوى فتنقبض الكفين على راحتيهما من شدة وقع البلاء الواقع على جسدها.
من يراها تهتز على جانبيها غافية يؤكد على غرقها في كابوس فظيع علقت به ولم تجد منه مهربا، وجهها يغطيه العرق والشحوب، وتنفسها يشوبه صوت اختناق مؤكد.
أما هي فلا تلمح سوى ظلمة تجثم علي جسدها، تشله عن حركته وهمس قريب جدا من أذنها يهز أحشاءها هزا مخيفا مرعبا دفع بها إلى فتح عينيها على وسعهما أخيرا وما إن تأكدت من أن ما رأته لتوها لم يكن مجرد وهم، صرخت بعلو صوتها أو هذا ما ظنته لأن لا أحد من والديها قدِم إليها.
لهثت بأنفاسها تضم عنقها لتمسد عليه وجحوظ مقلتيها في ازدياد، بلعت ريقها مرات عدة ونهضت أخيرا لتقف على رجليها وكادتا تخونانها بارتعاشهما فأمسكت بخصرها وانحنت تتنفس بقوة وحِدة حتى استعادت وعيها كاملا ليعود منطقها إلى فرض نفسه عليها، وتهدئة ثورة قلبها المرعوب، يقنعها بأن ما عاشته مجرد كابوس أثناء نومها.
مسحت وجهها وتقدمت نحو مرآة غرفتها الطويلة، تنظر إلى انعكاسها تحت أشعة الشمس الوليدة وقد طغت على أنوار مصباح غرفتها الذي لا تطفئه أبدا أثناء لياليها.
بللت شفتيها الشاحبتين كأول ما التقطته من انعكاسها المزري،  منامتها الصيفية مجعدة تماما كأنها عاشت حربا ضارية، ثم شحوب وجهها وشعرها العسلي مبعثر حوله بفوضى عارمة ثم.... مهلا! اقتربت أكثر فأكثر تضيق مقلتيها بتركيز على عنقها قبل أن ترفع كفيها تلمسه بتفحص لتتأكد مما لمحته مقلتاها العائدتين لاتساعهما كما عادت دقات قلبها إلى التسارع مجددًا في استجابة تلقائية لذكرى همس مهدد خطير:
*ولست براحل إلا برحيل روحك*
 

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

28 Nov, 15:50


صاح أحدهم فرد عليه آخر غير الذي يجادله يبدو أنه ينصر قريبه:
-      وما عليه؟ ابنتكم أيضا تعود لبيت أهلها في نفس الليلة!
صاح الأول بسخط ذاهل:
-      قريبك بدأ بالتقليل من قدرنا، يذكرنا كل حين بأنكم أصحاب الأرض الأصليون وتملكون حقولها وكأننا محتلون حقراء.
ولم يكن الرد ليتأخر من ثالت يدلي بدلو وساوسه:
-      بل أنتم من يذكرنا بأصلكم الشريف دائما، وأنكم تفضلتم علينا بقبول شراكتنا في نسلكم الشريف!
-      لا والله، لا يسعى للقطيعة غيركم!
-      بل انتم!
تعالت الأصوات المستنكرة من كل جهة والجدال يحتدم فقال مؤنس لأصدقائه ممتعضا:
-      ألا نهاية لهذا الغباء؟... بحق الله! الشرفاء قدموا إلى هنا قبل قرون واختلط نسلهم بالأصليين حتى أننا لم نعد نميز بين الطرفين سوى بعض العوائل المعروفة.
-      بحق الله... ها؟
عقب جرير ساخرا فزفر مؤنس، يهتف بانزعاج:
-      أنا راحل! فهم لا يقدرون حق الله وهم يتجادلون أمام بيته.
منعه جرير بإشارة من يده ومحسن يعقب بحزن:
-      صدقت يا مؤنس، كيف لمن يعرف بحق الله أن يصيح بجهل أمام بيته وبما يكرهه؟ هدى الله نفوسنا إلى تقواها.
-      اهدأوا يا سادة... من فضلكم!
هتف بها الحاج الخواجا المتوسط لحلقة كبار عوائل الوادي من كلا الطرفين، يجاوره الشيخ بن زردة من طلاب المسجد كمحسن إلا أنه يكبره بقليل:
-      لا تنسوا أنكم أهل وجميعكم تقربون لبعضكم، وكل ما تتجادلون حوله ليس مهما أمام أهمية وحدتكم.
يتحدث برسمية ولطف لا تخلو من شموخ يلف جسده ذو القامة المهيبة، يساعده في ذلك سنه ومكانته:
-      كنت أفضل أن يتدخل الفقيه محسن ابن الفقيه عبد العليم ليحل المسائل بينكم لكنني أعذره، بل وأشفق عليه من مسؤولية سترهق حتما كاهله الوهن.
تحفز الأصدقاء ومن يكن لمحسن وعائلته الحب الكبير بينما هو ينهي حديثه بتخطيط مدروس:
-      لكن الشيخ بن زردة هنا، وأرشحه ليستلم أمور المسجد فهو قادر بإذن الله على مواكبة مشاكل الوادي وحضور مناسباتهم، والسعي الى الحفاظ على السلام بين الطرفين.
-      ما  الذي تقوله يا حاج؟ الفقيه محسن بارك الله لنا فيه يقوم بواجبات المسجد على أحسن وجهه، ومن قبله الفقيه عبد العليم.
اكتفى الخواجا بالتبسم صامتا حين هتف آخر بنزق يدافع بجهل:
-      الحاج محق في قوله، فالفقيه محسن أعمى أم لأنه منكم يا شرفاء؟
اندهش الأصدقاء بينما محسن ينصت بتمعن لا يصدر أي رد فعل:
-      هل فقدت عقلك يا هذا أم أنك نسيت هوية والدته؟
رد عليه المدافع عن محسن لتعلوا الأصوات مجددًا، قبل أن يتدخل الخواجا بقوله المهادن ظاهريا:
-      حسنا حسنا! لنجعلهما يتشاركان في أمر المسجد والفتوى بين الناس، وهكذا يكون للطرفين حضور في كل شيء يخص الوادي ونخفف على محسن المسؤوليات فيتكلف بن زردة بحضور المناسبات ... هل أنتم راضون؟
هدأ الصياح ولم تنته الهمسات فقال مؤنس بملامح تبلدت على الدهشة:
-      هل ما سمعته حقيقة؟ ألهذا أحضرتني هنا يا ابن العم؟
استدار نحو جرير، يستطرد بضيق:
-      لأشاهد النفاق في أشد لحظاته زهوا ووضوحا؟ هل كان ينقصني؟ إن كانت نيتك أن تحببني في الصلاة والمسجد أبشرك بأنك فشلت فشلا ذريعا.
هم بالمشي وجرير يزفر بضجر فتدخل محسن طالبا منهم  إيصاله إلى مؤنس ليمسك بذراعه:
-      انتظر يا مؤنس! غفر الله لنا ولك يا صاحبي، وهل الصلاة لله في حاجة إلى قناعة غير التي تنبعث من القلب؟
تأفف مؤنس دون أن يوقف خطواته نحو خارج المسجد لكن بتمهل يواكب خطوات محسن المتمسك بذراعه:
-      وهل يعجبك ما حدث للتو؟ إنه بن زردة ال....
ضغط محسن على ذراعه بلطف، يبادره بعتاب:
-      لا يجوز يا مؤنس! هو أيضا مثلي حافظ لكتاب الله وتتلمذ على يد الفقيه عبد العليم، ليس لنا شأن بأخطائه فهو غير معصوم، وهذا لا يمنحنا الرخصة أبدا لنقلل من قدره ونسُبه ونشتمه، ليس من شيم نبينا عليه الصلاة والسلام الغيبة والسب والشتم حتى مع الكفار أو مع العصاة من المسلمين وقد بلغنا تحريم الله عز وجل لذلك، التقويم لا يكون بإلقاء التهم والتحقير والسخرية مهما كان الشخص المعني إنما ذلك يعود علينا بسوء خلق يتفشى بيننا فلا يعود للاحترام أي مكان في قلوبنا نحو بعضنا.
صمت مؤنس وقد بلغ غضبه عنان السماء بعد كلمات الفقيه الحقّة، يقارن بينه وبين أعلام النفاق فيستشيط غضا أكبر إلى غضبه، يكاد يلجم نفسه بقوة عن العودة إلى المسجد والفتك برقبة بن زردة والخواجا معا.
-      هل يعجبك ما حدث الآن؟
تساءل مؤنس بعصبية وأصدقاؤهما في أثرهما ينصتون بتركيز لرد محسن ببسمته المحبة:
-      لا يعجبني! كما لا يعجبني غياب حلقتي عن المسجد كل يوم، هل رأيت؟ هناك أمور كثيرة لا تعجبني لكن ما باليد من حيلة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

28 Nov, 15:50


تغضنت ملامح مؤنس والحرج يعلو أطرافه فيربت محسن على ذراعه، يضيف بود:
-      حتى لو منعوني من دخول المسجد يا مؤنس أنا سأبقى كما أنا، علاقتي بربي بفضل الله ومشيئته ستبقى كما هي، حينها سأستغل الفرصة وأطوف زقاق الوادي أجمعكم لأداء الصلوات فلا أحب إلى قلبي من ذلك.
التفت إليه مؤنس بنظراته متفحصا ملامحه للحظات قبل أن يشد من ذراعه بغير وعي يسحبه إليه، وكأنه يتأكد من تأمين الطريق له وكان الآخر أكثر منه محبة، يستجيب له بينما يُسر رجاء من صميم قلبه أن مع كل عسر يسرين كما قال رب العالمين في كتابه الحكيم.
***
(أمام منزل جرير)
 
-      هل ستبيت في بيتك؟
سأله مؤنس وهو يقف قريبا من منزل جرير فرد عليه الأخير متنهدا بوجوم:
-      أجل، لا مزاج لي للعودة إلى الحقول، لماذا تسأل؟
ثم استدرك بامتعاض مزعوم:
-      أم تريد استغلال غيابي لتُعمّر بيتي كالعادة.
لوح بكفه بينما يجيبه بعبوس لم يدّعيه فما يزال ما حدث في رحبة المسجد يشتعل بنار الغيظ في أحشائه:
-      أنت غائب على كل حال، ومزاجي اللحظة يتقبل الحقول كبديل على أن لا أضطر لقضاء الليلة في بيت أهلي.
سحبه جرير ليدفع به داخل منزله وأغلق الباب الخارجي، يجيبه بينما يعبران الحديقة الصغيرة نحو الباب الداخلي:
-      اكتشفت أن الحقول ابتلعتني لسنوات طوال، وحان الوقت لأستعيد تركيزي... وكما ترى!
تلكأ وهو يغلق الباب ليستدرك وهو يكمل خطواته نحو المطبخ:
-      لكل واحد منا إدمانه، يجعله غائبا عن الحياة يُضيع أيامها فيضيع معها واجباته وحقوقه.
استند مؤنس بدفة باب المطبخ باسما بتهكم:
-      أنا أستاذ الفلسفة هنا... هل تذكر؟
التوت شفة جرير العليا سخطا، منهمكا في تقطيع الطماطم بعد أن أخرجها من المُبرد وقام بتنظيفها ويديه جيدا.
-      ثم إدمان العمل ليس كإدمان الخمر أو أي من المعاصي الأخرى، أليس كذلك يا ابن العم؟
استدرك مؤنس فرد عليه جرير دون أن يتوقف عن ما يفعله، فقط نزع جلبابه وألقى به فوق باب المطبخ بسرعة:
-      لست الفقيه محسن ولا والده لكن ما أعلمه يقينا أن كل شيء يطغى على حياتك إلى درجة الهوس به فلا يعود لأي شيء آخر أهمية سواه، فهو حتما إدمان!
فكر مؤنس قليلا عابس الوجه ثم قال له بينما يهز كتفيه بخفة:
-      وأنا الذي ظننت بأنني مدمن خمر.
أدار رأسه إليه بتساؤل خاطف قبل أن يعاوِد ما يفعله، فاقترب منه مؤنس ليفسر له بينما يدس كفيه داخل جيبي سرواله:
-      الخمر لا تطغى على حياتي لدرجة الهوس بها، وبالتأكيد لا أشعر أبدا بأنها أهم شيء في حياتي البائسة، ولا يدفعني إليها سوى ما هو أمرّ وأقذر من رائحتها النتنة والمرار الذي تتركه في حلقي فأزداد كرها لنفسي ولمن يدفع بي إلى احتسائها..
-      هراء الفلسفة مجددًا!
عقب جرير مباشرة قبل أن يلقي بما قطعه في المقلاة، فجادله مؤنس ساخرا:
-      تستعيرها لا بأس! فلا تنكر صحة ما نقوله سويا.
هز جرير رأسه بلا معنى وهو يستدير نحو المبرد ليخرج البيض، وابن عمه يتأمله قليلا بصمت قبل أن يقرر فتح فمه بسؤال مترقبا رده:
-      لماذا أشعر بأنك تجهز لمصيبة؟
ارتفع حاجب جرير يرميه بنظرات غامضة فهز مؤنس كتفيه يعبر عن أفكاره:
-      أنت هكذا حين ترى موقف ظلم أو عدوان، بدلا من أن تفعل ما تجيده بالرد بعصبية وغضب أهوج تحافظ على هدوئك المريب قبل وقوع مصيبة لا حل لها ...لماذا لم تتدخل الليلة في النزاع أو توجه حديثا للخواجا؟ لطالما فعلت ذلك في الحقول حين يتجول مهددا الناس ليحصل على أراضيهم بطرقه ال.......
ثم زم شفتيه مجعدا ذقنه قبل أن يستأنف قوله الساخر:
-      لا قدر الله أن أحمل عن كاهله أي ذنب لذا سأقول بطرقه غير سليمة النية وكأن الوادي ملك ل.....
حك جبينه بضيق ثم أضاف بحنق:
-      ألا تذكر ثغرة فيما تعلمناه من الفقيه عبد العليم في الصغر تمنحنا رخصة للسَّب والشتم أو فقط التعبير عن مدى استنكارنا للأمور؟
كان جرير قد تبّل الخليط في المقلاة وخفق البيض حين أفرغه عليه بروية وتمهل قبل أن يستدير إلى مؤنس، يجيبه بملامح جامدة والملعقة الخشبية رهينة قبضته يشير بها في الهواء:
-      تلك الثغرات ستتعلمها عند الشيخ بن زردة، لا تخلط الأوراق....
عاد مؤنس لقوله السابق وحاجبه الأيسر يرتفع بترقب:
-      أنت تجهز لمصيبة، أليس كذلك؟
تجاهله موليا إليه ظهره ينشغل بتفقد الطعام فاقترب منه مؤنس، يحاول مجددًا مع علمه باستحالة استجابة ابن عمه وصديقه لاستفزازه:
-      هل وجدت بداية الطريق؟ هل تذكرت شيئا ما من زيارتنا لبيت العم عبد التواب؟
تجمدت ملامح جرير وكسا البرود محياه فضيّق مؤنس مقلتيه دافعا بنفسه إلى منطقة خطيرة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

28 Nov, 15:50


-      أعلم بأن والدك كان صديقا مقربا من العم عبد التواب، وصديقهم الثالث!
انتفض مؤنس حين استدار إليه جرير يشير إليه بالملعقة مهددا بخطورة استشعرها الأول بقوة:
-      لا تذكر اسمه... أحذرك!
هز رأسه بصمت فتنفس جرير بعمق قبل أن يتمالك غضبه مستديرا عنه ليستدرك باقتضاب:
-      احمل الخبز واسبقني إلى غرفة الجلوس!
وكذلك فعل يوثر السلامة، فمؤنس رغم امتلاكه لذكريات طفولة كثيرة تجمع بينه وبين ابن عمه إلا أن هناك بضع فراغات لا يعلم كيف يملأها لتكتمل لديه الصورة....لكن لينتظر، فالغد لناظره قريب!
***
(بعد الفجر بقليل)
 
-      تمهل يا رجل! ستنقلب بنا السيارة بقيادتك المسرعة هذه!
أرخى فواز قدمه عن الدواسة قليلا بينما يجيبه بقلق:
-      لقد تأخرنا كثيرا يا بهيج، لابد من أن أمي قلقة، هذا إن لم تكن قد نصبت لي صوان عزاء وجمعت فيه أهل الوادي جميعهم.
ضحك بهيج وهو مسترخٍ على مقعده منهك القوى، يمسك بكفه المستندة على حافة النافذة بسيجارة احترق نصفها فينظر إليه فواز ممتعضا من حاله اللامبالي:
-      اضحك أيها المبتهج، أنا من سيفتضح أمره بين أقاربه وأمي تولول بينما تبحث عني كطفل صغير.
-      لماذا لم تخبرها بتأخرك عبر الهاتف؟
تأفف وهو يجيبه:
-      فعلت إلى أن انتهى الشحن لأكتشف بأنني لم أحضر الشاحن.
تحرك بتعب ليسحب له هاتفه يناوله له:
-      تفضل وتحدث معها.
نظر فواز إلى الهاتف بعبوس يفكر ثم قال له:
-      أخشى أن تكون نائمة، ولسبب ما لم تكتشف عدم وجودي في فراشي، فأجلب على نفسي المصائب.
أعاد هاتفه لحجره بينما يجيبه بضجر قبل أن يمج من سيجارته:
-      حيرتني بأمرك...
-      كفاك تدخينا، عينياي تسيلان، لماذا تتجاهل دوما تحسسي من الدخان بصفة عامة؟
سحب آخر نفس من السيجارة قبل أن يلقي بها من النافذة ثم رفع كفيه باعتذار مرح:
-      سماح... لقد انتهينا!،
ساد حولهما الصمت إلا من صوت المحرك والعجلات تلتهم المسافة على الإسفلت قبل أن يقطعه فواز متسائلا بحيرة أصابته قبل ساعات داخل تلك البناية الضخمة التي لن ينساها ما حيي، عالم آخر لم يعرف بوجوده سوى من القصص والأشرطة التي لطالما اعتبرها تماديا في طرح الحقائق:
-      ماذا كنتَ تبيع أولئك النسوة؟ لم يمهلنك وهن يطلبنك بالاسم مع أول نزولهما من سياراتهن الفارهة؟ كيف هن على معرفة بك وهن من خارج البلاد؟
ابتسم بعبث بينما يغمزه:
-      ومن قال بأنني أبيعهن شيئا؟
رفع حاجبه وهو يرد عليه بجفاء:
-      لا تدّعي ما لا تفعله، وهذه أيضا نقطة استفهام كبيرة تكاد تفقدني صوابي، مع كل عبثك وزيغ نظراتك نحو الفتيات، أنا متأكد من عدم تورطك في علاقة جسدية مع إحداهن لحد الآن.
لمعت مقلتا بهيج ببريق قسوة خاطف أعقبه بتعقيبه العابث كالعادة:
-      وأنت متأكد لأنك ماذا مثلا؟
علق جملته فزفر فواز بضيق حين انفجر بهيج ضاحكا فنهره الأول بنزق:
-      كف عن التهرب وأخبرني ماذا بِعتهن، وكنت تحمله في حقيبتك الممتلئة على كل حال؟
لوح بكفيه بينما يخبره باستخفاف:
-      وعدتهن بتذكارات مباركة من المزارات المشهورة في بلادنا لأرفع سعرها وكما رأيت بنفسك، الجميع يريد التبرك بالمزارات، يظنون بالموتى ما لا يطيقونه وهم الأحياء.
كان رد صديقه أنفا مجعدا باشمئزاز وتعقيب مؤنب:
-      تكسب المال بالاحتيال!
هز بهيج كتفيه، يجيبه بعدم اهتمام:
-      لديهم من المال الكثير ليبعثروه، فلم أسلبهم إياه بغير رضاهم، هم يصَدقون بما يشاؤون وهم أحرار... وبالمناسبة!
استدار نحوه، يكمل بنفس عبثه:
-      لم يكن نساء فقط بل رجال أيضا منهم الخائف على منصبه والخائف على ماله ويبحث عن ضمان.
صمت فأكمل عنه فواز، متسائلا بسخرية:
-      من الأموات!؟
طرف بهيج بجفنيه قليلا ثم استدار عنه لينظر عبر النافذة، يرد عليه بجمود كسا ملامحه:
-      أجل... الأموات.
-      لو كان لدي القليل من الحظ، ستظن أمي بأنني ذهبت لصلاة الفجر في المسجد ولن تفتعل فضيحة مدوية للبحث عني.
عاد فواز يهمس بما يهمه، فتذكر بهيج أمرا ما وانتفض بخفة يتفقد الساعة قبل أن يسحب قنينة ماء صغيرة، دس فيها شيئا ما بخفة لا تُرى ونخضها ثم قدمها لفواز، يطلب منه بمزاحه المعتاد بينهما:
-      تفضل اشرب لتعوض ما بذلته من مجهود مرهق في الحفل.
امتعض يطرف إليه بجانب مقلتيه قبل أن يزجره:
-      أنت وقح!
-      هل تستطيع إنكار ذلك؟ فقط طمئِن قلبي وأخبرني بأنها لم تحصل على الأموال التي جمعتها من بيع العطور التقليدية.
عبس فواز فطلب منه بتوسل مدّعي:
-      أرجوك أخبرني... أرجوك!
تأفف فواز بضجر، وهو يسحب من كفه القنينة ملتقما فمها بنهم لا يرتوي به ظمأ ولا عطش ثم قال له وهو يلقي بها عليه فارغة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

28 Nov, 15:50


تراجعت تطرق برأسها خجلا فتنبه إلى تحديقه بها وابتلع ريقه حرجا بينما يعود برأسه إلى البقال ينقده ما ابتاعه ويتسلم منه الكيس ثم استدار مغادرا دون أن يفوته ابتعادها عن طريقه مستمرة في إطراق رأسها.
تجاهل رغبته العميقة في النظر إليها مرة أخيرة لكن حديث البقال الذي وجهه إليها دفعه مرغما ليطيع نفسه:
-      تفضلي يا ابنة فقيهنا وشقيقة إمامنا.
-      حياء!
نطقها بسهو خافت، وقد حمله الحنين لأيام مضت سريعا ما انتشلته منها قبضة دافئة التفت حول ذراعه فاستدار على إثرها مجفلا قبل أن يتبسم بلطف لصديقه:
-      هذا أنت يا نبيه!
أشار له متسائلا ومشيرا إلى الكيس فأخبره متنهدا بتعب:
-      أبحث عن مكان معزول يا نبيه!
عبس المعني بحيرة  فاستدرك مفسرا بحركات يده:
-      لا أريد رؤية ولا التحدث مع أحد، أنشد الوحدة لبعض الوقت يا صديقي...فهل تعرف مكانا مناسبا للعزلة؟
لم تغادره الحيرة بعد لكنه أشار إليه باقتراحه:
-      تعال معي إلى بيتي.
-      لا!
قاطعه رافضا بحزن لكن نبيه كان أسرع وهو يشير له مبررا:
-      لا أحد في منزلنا، نهيلة غادرته غاضبة مني لتقضي النهار لدى إحدى شقيقاتنا وطبعا لن تترك والدي وستأخذه معها، فأنا المغضوب عليه الوحيد... وأنا كما ترى!
أشار إلى فمه وأذنيه، مضيفا ببعض المرح:
-      لن يزعجك أحد!
ابتسم بحزن وربت على كتفه، يشير له ليتقدمه وفي تلك اللحظة خرجت الفتاة من محل البقال فلوح لها نبيه دون أن يمعن النظر نحوها فأشارت له هي الأخرى بيدها الحرة.
هبت نسمة هواء حركت طرف وشاحها الذي ارتخى بسبب انشغال كفيها وقد فرت منه نظراته نحوها، وهناك تعلقت روحه عائدة إلى موطنها ليكتشف بأنه فعلا لم يغادر الوطن يوما.
ولثاني مرة يجفل من سهوه ناسيا أنفاسه حتى، حين شعر بدفء يد صديقه الذي أشار له باسما بمكر يحاول إخفاءه بجموده المعتاد:
-      هل تذكر حياء؟ لقد كبرت وتخرجت قبل ثلاث سنوات، ولحظها الجيد توظفت معلمة في المدرسة الابتدائية هنا، الأيام تتوالى بسرعة مخيفة...هيا! لماذا تسمرت مكانك؟
رف بجفنيه مرات عدة ثم حرك قدميه بينما عقله وقلبه يتفقان عليه مع العالم بأكمله، يضاعفون من الضغط على أعصابه وكأن ذلك ما كان ينقصه، تذكير لقلبه بانشغاله الذي أنكره أمام والدته فيثور هو الآخر معربا عن حقه في الحياة.
 ***
(بعد صلاة العشاء، رحبة مسجد جامع السلام)
-      لقد صدقت فعلا والنزاع قائم، سامحك الله يا جرير.
همس مؤنس لابن عمه وهما ينزويان بعيدا قليلا عن حشد الرجال الملتفين بمجموعات عشوائية في رحبة المسجد، مستغرقين في اللغو عن كل شيء وأي شيء بعد أن فرغوا من صلاة الجماعة.
-      استحِ على عرضك يا رجل! منذ متى لم تطأ رجلك عتبة المسجد؟
التوت شفتا مؤنس بسخريته المعهودة، يجيبه بتهكم:
-      التزم به أنت يا حبيبي، فلست من يجبرني عليه الهوى.
عبس جرير يرمقه بتحذير فرفع حاجبه بتحدٍ أن يفند قوله.
-      ما بكما أنتما الاثنان؟
تدخل يوسف ناظرا إليهما بحيرة رد عليه مؤنس باسما بنفس سخريته:
-      كنت أساعد ابن عمي في نزاع باطنه بين حقيقة ينكرها وهي عليه فرض، وبين هوى قلبه الذي إن تبعه قد يوقعه في وهم النفاق.
تجعد جبين يوسف بجهل فضحك مؤنس في نفس اللحظة التي مط فيها جرير شفتيه قائلا بامتعاض:
-      أؤكد لك بأن العلم الذي درسته دمر خلايا دماغك.
-      جرير ومؤنس الليلة هنا، يا مرحبا بالأحبة! لم أصدق حين رسم نبيه الحلقة في كف يدي وهو يقودني إليكم، ويوسف أيضا موجود...
انضم إليهم نبيه متأبطا ذراع محسن الذي هتف بسعادة خالصة ووجهه يرتفع إلى أعلى كعينيه المتقلبتين، يستدرك بجذل:
-      أشم رائحة كل واحد منكم، ولا وجود لصاحب العطور بينكم، ألم تصحبوه معكم صدفة؟
تناظروا في ما بينهم، جرير ومحسن بجلبابين بيضاوين، الأول بلا طاقية بينما يوسف ومؤنس يرتديان ملابس غير رسمية قميصين صيفيين؛ خاصة الأول بيضاء والثاني رمادية مع سروالين من قماش الكتان بلون رمادي متفاوتي الدرجات أما نبيه فكعادته، بدلة بسيطة زرقاء قاتمة.
-      لم ألمحهما اليوم، لا هو ولا بهيج.
رد عليه يوسف حين أشار نبيه عابسا بأنه لم يراهما هو الآخر منذ الصباح، فتدخل مؤنس قائلا لهم بمعنى محدد:
-      لقد سألكم عن فواز لا بهيج أليس كذلك يا فقيه محسن؟
تبسم محسن ببعض الوجوم بينما يرد عليه بغموض:
-      بهيج ما يزال طريقه إلى هنا بعيد يا أستاذ الفلسفة، ولا يستعصي على الله شيء.
ساد بينهم الصمت للحظات قبل أن ينتبهوا لأصوات نزاع تتعالى، فزفر جرير بينما يرمق مؤنس بنظرة *أخبرتك* ومحسن يستغفر ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
-      هذه عنصرية لن أقبل بها، وإن كنت لا أرقى لشرف أصلك، ابنتكم ستعود إليكم اللية!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

25 Nov, 19:44


أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين pinned «فهرس قناة منى لطيفي نصر الدين قيد التنزيل قلوب هجا الحق شتات تقواها نساء صالحات رويدا رويدا على طريق الحق الجزء 4 من سلسلة نساء صالحات الستر من الحق الجزء 3 من سلسلة نساء صالحات طوع يدي الحق الجزء 2 من سلسلة نساء صالحات حق بين يدي الحق الجزء 1 من سلسلة…»

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


هز رأسه متابعا بوجوم:
-       ما أراه حقا أن أفكارها تتوافق مع أفكار جدي كثيرا رغم فارق السن الشاسع بينهما، وكونك تفكرين بأنها حقيرة يجعلني مستغربا جدا من دفعك بي للزواج من أختها؟ فأنا متيقن من حبك لي أماه...
قاطعته بضم وجهها وهي تبكي بألم، وتهمس له بقلة حيلة:
-       أجل أحبك كثيرا بني... لكن ماذا أفعل؟ هل أترك كل شيء يضيع مني؟ إن لم يكن حقي بتلك الأهمية فماذا عن حق خالي عبد التواب؟ هل أتركه يضيع لتستولي عليه فتاة لا تكبرك سوى بعامين لأنها تستغل مكرها وفتنتها؟
زفر بكدر وحزن عميق، والدته محقة، لكن!
-       ثم أنت تجهل ما أفكر فيه.
تشنجت ملامحه، يخبرها بانهزام:
-       بلى أنا أعرف أماه....أنت تنوين الغدر، وأن أطلق بعد أن يصبح كل شيء في متناول يدك..
هزت كتفيها وأطلقت سراح وجهه، تقول له بتصميم وهي تمسح دموعها:
-       كل شيء مسموح في الحرب...
-       هذا هو!... كل شيء مسموح في الحرب.
أكد لها بغموض كئيب فنظرت إليه باستفسار أطرق له برأسه يفكر بغم... إنه فخ محكم قد لا ينفذ منه إلا بدمار شامل.
-       فكر يا يوسف ولا تسقط أمر خالي من حساباتك فأنت رجل! وفي النهاية تستطيع التحكم في مصير هذا الزواج، ولا أظنك ستخسر الكثير فالفتاة صغيرة وجميلة، وقد لا تكون شبيهة بشقيقتها.
-       لو فقط تعرفين ماذا سأخسر؟
غمغم فسألته بقلق:
-       ماذا قلت؟
رفع رأسه عاليا يتنفس ثم قال لها بنبرة جوفاء:
-       سأفكر أمي... لكن لا تعتمدي على موافقتي الأكيدة.
غادر متقدما والدته التي تأخرت عنه قليلا لتتأكد من محو آثار دموعها، وفي تلك اللحظة التقى برواند في الرواق تبتسم له بتأثر واضح قابله بجموده المعتاد، فاقتربت منه تهمس له بنعومة:
-       وافق على طلب والدتك وجدك يا يوسف ...لا حل آخر أمامك.
ثم لمست كفه بخفة مما جعله يتراجع بنفور، لكنها كانت قد سبقته متجاوزة إياه لتلقي التحية على والدته التي ابتسمت لها ببرود غافلة عما يحدث وهي ترد عليها:
-       مرحبا يا رواند...
زفر بغضب وتوجه إلى غرفته وكل تفكيره ينحصر في مشكلة واحدة، خال والدته.... كم يسهل عليه إقناع الأخيرة بالرحيل حتى لو اضطر لإخبار والده بكل شيء كي يجبرها على الرحيل فهم ليسوا بفقراء وحتما يستطيعون العيش من دون حقول جدته رحمها الله، لكن خاطرا واحدا يشل تفكيره ويحد من أفكاره الثائرة والمطالبة بانتقام لائق؛ خال والدته عبد التواب وابنه..... علوان!
***
(أمام منزل الجدة جواهر.)
-       ماذا تفعل هنا يا مؤنس؟
سأله حين قطع المسافة من داخل الرحبة الخارجية لبيت الجدة إلى الشارع حيث أوقف جراره بعربتها.
-       لقد كنتَ محقا يا جرير، هناك من دفع من أجل شعر علوان.
أطبق فكيه بقوة وزمجر وهو يعتلي جراره فتسلق مؤنس الدرجة الحديدية ليجاوره مستدركا بحيرة:
-       أنت تعرف هوية من فعلها؟ أليس كذلك؟!
-       ليس بالضبط... لكن لدي فكرة أو مجموعة من الأفكار.
رد عليه بسخرية بادلها إياه مؤنس وهو يحدثه بعقلانية:
-       ما تفكر فيه جنون لن يتقبله أحد، أرح نفسك.
نظر إليه جرير ليخاطبه بغضب فاجأ مؤنس:
-       أجل يعتبره الجميع جنونا بينما نسبة غير قليلة منهم يتعاطاه ويصدق به، أليس هذا هو الجنون بعينه؟
-       إنه النفاق الاجتماعي يا ابن العم! وله أوجه مختلفة ليس فقط عالم الشياطين..
ضرب جرير مقوده بعصبية، يهتف:
-       ليس هذا وقت فلسفتك يا مؤنس!
-       لماذا أنت غاضب هكذا؟
سأله مؤنس مستغربا فرد عليه بغل:
-       لأن صمتنا سلبية... ضيّعتْ الكثير وسيضيع أكثر! هي محقة! لقد غفلت ونسيت فضاع الكثير....كان علي المحاولة... من بين كل الناس.. أنا كان علي المحاولة.... إنها محقة! وأنا مجرد أناني بائس!
زفر بقوة ومؤنس جامد مكانه، يرمقه ببلادة قبل أن يقول له بحذر:
-       حسنا أنت غريب اليوم! من هي المحقة؟ وما بك؟
مسح على وجهه بحدة فاستدرك مؤنس، مشيرا إليه:
-       وجهك أحمر بما فيه الكفاية، دعه بسلام وأخبرني ماذا تقصد؟
دس المفتاح في مكانه وأشعل المحرك بينما يقول له قبل أن يحرك قطعة الحديد الضخمة، وابن عمه يتمسك بظهر مقعد جرير كي لا يقع:
-       لابد من أن أبدأ من مكان ما،....علوان ربما!
***
(منزل ناصر الخواجا)
كان على وشك الخروج حين ناداه جده من غرفة الجلوس فتنهد بتعب قبل أن يستجمع نفسه، عائدا إليه:
-       كيف حالك يا بني؟ هل استقريت جيدا؟
بادره بينما ينحني ليقبل رأسه فرد عليه بأدب:
-       الحمد لله يا جدي وأنت كيف حال صحتك؟
ربت على صدره ولمعت مقلتاه بمرح لطالما اتسم به فيمنحه مع جمال خلقته سنا أصغر من سنه الحقيقي، والذي جاوز السبعين بسنتين:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       بصحة وعافية الشباب... الحمد لله.
ابتسم يوسف بهدوء، يعقب:
-       زادك الله من فضله جدي، أعتذر إليك يجب أن أخرج الآن.
-       أنا أريد التحدث معك في موضوع مهم للغاية لكنني منشغل بالحصاد..
هز رأسه بتفهم بينما هي تدخل عليهما بفتنتها التي لا تستحي من إظهارها للعيان.
-       إن شاء الله يا جدي... أعانك الله.
رفع جده رأسه استجابة للفتنة التي أهلت عليه فتتسع بسمته باسطا ذراعه نحوها بإشارة استدعاء صامتة بينما هي تقول له بنعومتها الخادعة للجميع باستثناء يوسف:
-       مرحبا حبيبي ... متى جئت؟
أخفى يوسف اشمئزازه واستأذن باقتضاب غادر بعده تصحبه كلمات جده الرقيقة التي إن دلت على شيء فهو غرقه في عشق من يحدثها حد العمى:
-       وصلت قبل قليل، حبيبة قلبي رواند.
 

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       عرّفنا إليه وإلى الرجل الآخر، فأخبرته سارة بسبب وقوفنا هناك ليؤكد لنا الآخر؛ اسمه فواز على ما أذكر صحة كلام نهيلة، في تلك اللحظة ظهر صديقك غاضبا لا نعلم لماذا! حتى لم يمنحنا فرصة لنودع نهيلة المرعوبة لسببٍ نجهله أيضا واقتادنا كالنعاج..
فغر نبيه فمه بذهول استدعى البسمة على ثغر يوسف الذي حافظ على واجهة جدية، وهو يشير إلى صديقه:
-       لماذا أنت غاضب يا نبيه؟ أنت سمعتها بنفسك لم يحدث شيء يستوجب ثورتك الغاضبة هذه!
زم شفتيه بحنق احمر له وجهه ليقارب احمرار شعره وذقنه ثم تأفف مشيرا بنفس الحدة:
-       لا لم أسمع! هل نسيت بأنني أطرش؟!
ارتفع حاجبا يوسف يرمقه باستغراب فزفر بمقت ينفض طرفي سترته ثم أشار بيديه:
-       نبه أختيك إلى أن لا تتبادلا الحديث مع كل من يقابلهما في الطريق ولو كانوا أصدقائنا ثم.....
تلكأ بكَبت انفجر فأشار بيديه قبل أن يغادر
-       انظر إلى لباسهما يا رجل!
شيع يوسف خطوات نبيه الواسعة الغاضبة بمزيد من الحيرة.
-       إنه رجل غريب!
جفل من سهوه والتفت إليها ليعاتبها بجدية:
-       لم أرد إحراجك أمامه وأخبرك بأنه محق!
تفاجأت، واستفسرت منه باستنكار:
-       محق!
هز رأسه مشيرا إلى ملابسها، معاتبا بضيق:
-       سروال قصير يا سلا؟... قصير!؟
نظرت إلى سروالها تبرر بانزعاج:
-       إنه يتجاوز الركبتين بقليل!
تأفف يوسف حانقا وتقدمها داخل البيت:
-       هنا اسمه سروال قصير، وفستان سارة أيضا قصير، دائما ما أحذركما  في ما يخص ملابسكما وسلوككما دون فائدة.
وجدا سارة في انتظارهما تحتل أحد مقاعد بهو الاستقبال، فتخصر يرمقها بعتاب مطت له شفتيها وهي تدس سماعات الهاتف داخل أذنيها بتجاهل.
-       من فضلك يوسف لا تبدأ مجددًا! ملابسنا محتشمة.
تحدثت إليه سلا بانزعاج قلق فنظر إليها مستنكرا بسخرية:
-       من وجهة نظر من تحديدا؟
زفرت بضجر ووالدتهم تنضم إليهم توجه حديثها ليوسف:
-       يوسف!.. أريد التحدث إليك حالا بني!
-       أمي نبهي عليهما في ما يخص ملابسهما...لا يجوز هذا! وهنا ستفتعلان فضيحة لسمعتهما.
صمتت سلا تنظر إليهما بترقب ووالدته تسحبه من ذراعه بينما تجيبه باستخفاف:
-       ستتعودان على الوضع هنا، لا تقلق! تعال معي...هذا أهم!
تمشت سلا بتمهل ساهم أيقظتها منه أختها وهي ترفع رأسها، مزيلة غرتها الذهبية عن جبينها لترمقها بريبة من مقعدها:
-       ماذا تريد منه بهذه الأهمية؟
توقفت سلا لتستند بظهر مقعد شقيقتها بينما تجيبها متنهدة بوجوم:
-       ستقدمه قربانا لاسترداد حقها... هذا واضح!
-       يا إلهي! .. يوسف لن يوافق!
عقبت سارة باستنكار عابس وشقيقتها تهمس لأحشائها الثائرة على عكس سكون واجهتها.
-       ليته كان قربانا لمن تظنون، وليس لوحش يجيد التخفي بمهارة حرباء وبدهاء حية.
***
(منزل الجدة جواهر)
توقفت قدماه قبالتها لا يفصلهما سوى نصف متر، ولم يستطع الاقتراب منها أكثر. دقات قلبه نافرة وعضلاته متصلبة.
لماذا يفقد شجاعته وقوته أمامها فيرتعش صدره الضائق بأنفاسه؟
لماذا يشعر بالرماد يحترق داخل نظراتها ال... معاتبة له؟
لابد من أنه يهذي، لماذا ستعاتبه؟ ومَن مِنهما أحق بالعتاب واللوم؟
-       حممممم.... كيف حالك؟
غبي! ألم يجد أفضل من ذلك ليقوله لها؟
-       الحمد لله.
عاد للنظر إليها حين سمع همسها الخافت، ودفع الكلمات عبر حلقه ليلقي بما في جوفه مرة واحدة:
-       ألم توافقي بعد يا ابنة الحلال؟
بللت شفتيها مطرقة برأسها ووجها المحمر خجلا، قدماها لا تطيعان غريزتها بالانصراف والابتعاد عن مصدر استنفار أحشائها:
-       أخبرت والدي بردي...
-       وأنا لم أرفض!
رد عليها بتحفز حين تحدثت بهمسها الخجول، فرمته بنظرة عابسة ذات معنى زفر له بقوة وهو يخبرها بنبرة حاول جعلها لطيفة لكنها خرجت بنفس حزمه المعتاد:
-       الإنسان لا يتغير بين ليلة وضحاها، ومن يدري قد تكونين الحافز... حافز قوي!
ارتبكت بحياء من نبرته التي وكأنها رقت لكن حين طرفت إليه بنظرة خاطفة لم تكن ملامحه قد تغيرت ونظراته ما تزال وكأنها لا ترى غيرها.
-       الحافز ينبثق من صميم القلب يا جرير!
انتفضت تقوى واستدارت إلى جدتها التي جاورتها بقامتها المقاربة لقامة حفيدتها لولا انحناؤها الذي يكاد يلمح، تناظر جرير بأنفة يتخللها الحنو فأطرق برأسه احتراما لها بينما يخاطبها بتهذيب:
-       مرحبا بالجدة جواهر،  أحضرت المنسج الجديد ومستلزماته.
تبسمت بحنو وإشفاق تسأله باهتمام بعد أن دعت له بخير الجزاء:
-       جزاك الله خيرا بني لكن ألست منشغلا بالحصاد؟ لا أريد أن أحملك أكثر من طاقتك، وأخشى على صحتك.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


رقت مقلتاه بتأثر لطالما شعر به نحو تلك المرأة، يجيبها ببعض الخجل الذي لم يفاجئ تقوى، فكثيرا ما كانت تراقبه كيف يتغير ليعود صبيا خجولا أمام جدتها:
-       رقبتي فداك يا جدة جواهر، خفّت عن كاهلي المهام هذه السنة بسبب حصادة الحاج ناصر الخواجا الجديدة، فقد أقنع أصحاب الحقول المجاورة لخاصة زوجته المرحومة ونسيبه بحصد محاصيلهم، وقد وافقوا رغم شجارهم السابق معه حول رفضهم لبيع حقولهم له، لذلك رتبت برنامجي كي أريح جسدي...
هزت رأسها بغم أصابها فجأة ثم وجهت له حديثها الحازم:
-       تريد الزواج بحفيدتي، يجب أن تكون على قدر مهرها يا جرير.
تكومت المعنية على نفسها خجلا وهو لا يستطيع لجم مقلتيه عنها كل مرة تفِران منه نحوها بينما يجيب الجدة باندفاع أعاد البسمة على ثغرها:
-       وأنا على استعداد لتحقيق كل مطالبها يا جدة جواهر.
ضحكت ثم قالت له بنبرة حانية:
-       لكن مهرها ليس مالا ولا جاها بني، مهرها زوجا صالحا وزواجا يشيد بما يرضي الله على أرض الأولى ليمتد بفضل الله إلى أرض الآخرة...
ثم رفعت رأسها بزهو تكمل بنبرة تشع محبة وتقدير:
-       ولقد كان ذلك نفس اختياري صادقا لوجه خالقي، فرزقني بزوج عشت في كنفه أربعين سنة لم أشعر فيها يوما إلا بالعطف منه والرحمة والعزة، احترمني وأحبني وكذلك فعلت وكانت مواجهة صعاب الحياة معه يسيرة ومحتملة بفضل الله حتى بعد أن غادر وسبقني إلى دار الحق...
بسطت ذراعيها تشير إلى منزلها:
-       لازلت أعيش بفضل الله في عزة وكرامة كان هو وأصله الكريم السبب فيهما، فها هم أهله الذين هم أنفسهم أهل الفقيه عبد العليم رفضوا أخذ حقهم في أرث ابنهم ومشاركتي فيه أنا وابنتي، بل وساندوني حين قررت استغلال المنزل لدعم النساء وتعليمهن ما ينفعهن في مواجهة العوز والفقر، وما يزالون يراعونني ويساندونني إلى الآن....
كان مطرقا برأسه كطفل مذنب وتقوى ترميه بنظرات خاطفة بينما تطرق برأسها هي الأخرى.
-       طريق الحق لا يأتي سوى بالخير والبركة مدى الحياة وبعد الانتقال إلى الدار الآخرة، فلا تلم حفيدتي على طلبها بل لم نفسك لأنك ترفض الحق، وإن احتجت لعون فالجأ إلى الله ثم ابحث عنه في صحبتك.
رفع رأسه إليها ليستقبل منها نظرات ملؤها العتاب صاحبتها خيبة يعرف سببها جيدا بينما هي تكمل بحزن:
-       لطالما شهدت لك بقوة إرادتك، لقد تحديت صعابا لم يكن لطفل في مثل عمرك في الماضي أن يتحداها ويخرج منها منتصرا رافعا رأسه بين الناس، أنت أقوى مما تظن! ومن بين كل الناس أنت بالذات تستطيع جمع أصدقائك وشتات نفسك يا ابن العسكري!
قرأ تلك الخيبة التي شوهت صفاء نظراتها فاتسعت مقلتاه بادراك متأخر... متأخر جدا ففتح شفتيه لا يدري هل يدافع عن نفسه أو يطلق سراح أنفاسه المنحسرة في صدره؟ لهث بصدمة شوهت معالم وجهه الصارمة فعقدت تقوى جبينها بريبة والجدة ترفع يدها لتكمل بحزم تكاد مقلتاها تدمعان:
-       شكرا لك بني، يمكنك الانصراف... لا أستطيع إطعامك الآن فالبيت مليء بالنساء.
ثم قبضت على كف حفيدتها المستغربة من حديث جدتها، تعرف أنها لا تلقي بكلمات دون معنى، تاركتان الآخر غارقا في صدمته قبل أن يجفل منها على نداء مؤنس قرب المدخل الخارجي.
***
(منزل ناصر الخواجا)
أغلقت باب غرفتها واستدارت إلى ابنها الوحيد الذي ترى فيه بطاقة نصرها، قلبها يلومها على ما تفرضه عليه لكنه الطمع! لطالما كان له أقنعة يتخفى بها كدافع قوي للنفس وستارة تعمي البصر.
-       هل قررت يا يوسف؟
رفع رأسه يتأمل كل شيء في الغرفة إلا هي؛ غرفة واسعة يغلف جدرانها ورق أخضر عليه رسوم شجر الأرز بلون أبيض، والسرير المزدوج بمرتبة مرتفعة يغلفها غطاء قطن فاخر يطغى عليه اللون الأخضر كالستارة الملكية على النافذة المحتلة لنصف الجدار، والخزانة ضخمة كالمناضد الثلاث وقاعدة السرير مذهبة بنقوش شبيهة بزهرة أشجار الأرز.
-       أنا أحدثك يا يوسف!
تنهد مرسلا نظراته إليها بتعبير واحد *الرفض*، فزفرت بتوتر وهي تضم ذراعيها إلى صدرها بأناقة تضيف:
-       لا تنظر إلي هكذا!
ارتفع حاجبه ببعض الدهشة المتعمدة وهو يسألها:
-       هكذا كيف؟
والدته دوما أنيقة، وجميلة، جميلة جدا في الحقيقة! ومن منهم ليس كذلك! كاد يسخر من نفسه ضاحكا بمرارة لولا ملامح والدته التي تحولت إلى عصبية بينما تهتف بنبرة حرصت على خفضها:
-       لا تنظر إلي بلوم هكذا، كل ما أطلبه منك لأجلك ولأجل شقيقتيك.
ازداد حاجبه الأسود ارتفاعا، فتابعت بحنق:
-       إنها أموالك وشقيقتيك مثل ما هي أموالي... رباه! ألا أستحق منك دفاعا عن مصالحي ... فأنا والدتك!
تنفس بعمق يحني عنقه متأملا كعب حذائها الأسود، والدته أنيقة جدا لا يستطيع إنكار ذلك، حتى بحجابها تتقن اقتناء ما يناسب جسدها عبر مراحلها العمرية.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       يوسف!
نفض عن رأسه ما يحاول إشغاله به عن الغضب كما تعود الفعل ثم حدق بها بينما يقول لها واجما:
-       ماذا لو أخبرتك بأنني لا أستطيع دفع ثمن استرداد حقك أمي؟
فتحت شفتيها وكأنها ستتحدث لكنها اكتفت بتحريكهما، وكأن الكلمات تهرب منها أو صوتها فر منها تاركا إياها أمام ابنها الذي يناظرها بتوسل لتتفهمه.
-       ماذا لو كان الثمن الذي سأدفعه باهظا بالنسبة لي ولا يستحق كنوز العالم أجمع؟ ماذا سيكون ردك والدتي؟
-       وماذا يعيب زواجك بفتاة جميلة وذات أصل؟ هل تحب فتاة ما؟ أخبرني يا يوسف.
اقتربت منه مستفسرة بقلق لاهث:
-       هل هي ابنة جاكلين الكبرى؟ أرجوك يوسف أجبني؟
هز رأسه متعجبا وحائرا من قلقها الشديد بينما يجيبها:
-       بالمناسبة، أنا أجهل سبب قطعك لعلاقتك بصديقتك فجأة، لكن لا! أنا لا أحب لا ابنة جاكلين ولا غيرها! أنا أحدثك عن نفسي يا أمي وموقفي نحو الأمر بأكمله.
تعمق الأخدود بين حاجبيه الأسودين، مراقبا والدته كيف ضغطت على بطنها وهي تتنفس براحة، فيتساءل بتعجب أ لتلك الدرجة يهمها حبه لابنة صديقتها من عدمه؟ أم أن راحتها نابعة من عدم حبه لفتاة من الأساس؟
-       جيد! إذن لماذا ترفض الزواج من شقيقة زوجة جدك؟
امتعض وسألها باشمئزاز تمكن منه رغما عنه:
-       أتسألين حقا؟!
ارتبكت تسوي ثنايا وهمية على طرحتها وهي تدافع عن موقفها:
-       أعرف أن جدك تزوج من فتاة صغيرة لكنه زواج في النهاية وبموافقتها وموافقة أهلها، كل ما يهمني الآن هو ممتلكات أمي ووالدي كان واضحا معي... زواجك من شقيقة زوجته سيمكنه من بسط سلطته في الوادي، كما أنه شرطه ليكتب أملاك والدتي باسمي...لقد عدلت عن قراري وعدت خصيصا من أجل ذلك، حتى أنني  تشاجرت مع والدك بالله عليك يا يوسف!
فقد صبره ودنا منها، يعاتبها بقسمات متكدرة رغم نبرته الهادئة الجافة:
-       أجل أمي... لقد تشاجرتِ مع أبي وغامرت بمكانتك لديه، والله أعلم إن كان سيسامحك أم سيظل متذكرا كيف رفضت زيارة الوطن من قبل حتى حين مرض جدي إبراهيم ثم وفاته لم ترافقيه إلى مدينة الجبال.
قاطعته مدافعة عن نفسها بقوة:
-       لقد شعرت بالخزي، ما اقترفه عمك من جرائم لا تغتفر، ولم أستطع  رفع رأسي بين الناس هناك.. أنا ابنة الحاج الخواجا يشار إليها بانتمائها لعائلة آل عيسى... عائلة ذلك المجرم!
تخصر يوسف يدافع عن أهله هو الآخر:
-       لقد تجاوزوا ذلك يا أمي، تجاوزوه بسمعتهم الحسنة وتمكن إبراهيم ابن المجرم من رفع رأس العائلة بفضل الله بين الخلائق، فلا أحد من العائلة يشبه عمي الأكبر وأنت تعلمين ذلك، وها هو إبراهيم عضو في مجلس النواب في منصب أرقى حتى من منصب جدي.
قاطعته مجددًا تبسط كلا ذراعيها:
-       لا أنكر ذلك، وها أنا ذا عدت أيضا!
التوت شفتيه بسخرية مريرة وهو يجيبها:
-       أنت عدت من أجل مصالحك أمي...
-       وهل يعد ذلك عيبا؟ إنها أملاك أمي يا يوسف وما تبقى لي منها!  لن أسمح لأحد بأن يرثها غيري...
أسدل جفنيه وتقدم أقرب منها حتى لم يعد هناك مسافة ملاحظة بين وجهيهما، يخبرها بخفوت وكأنه يخجل مما يتلفظ به:
-       ليست أملاكك وحدك أماه، هناك شريك لك راقد على سريره لا أحد استطاع معرفة علته هو وابنه الذي يصغرني يجوب الشوارع بدون عقل...
بللت شفتيها ومقلتاها تنذران بدموع وشيكة، تهمس له بتقطع:
-       زوجته ترفض أي مساعدة مني، إنه خالي الوحيد ولأنه من نفس عمري أحببته  كأخ لي، زوجته ترفض أي مساعدة منا ولا حتى المساعدة في معالجة زوجها وابنها...
هز رأسه ونظراته تغيم بنفس الوجوم وهو يجيبها بخفوت حازم:
-       وهذا أدعى لأن نكتشف السبب، لماذا تقاطعنا بكل تلك العدائية؟ وأيضا جدي لم يكن من حقه استغلال حب جدتي له ويطلب منها كتابة نصيبها من الحقول باسمه؟
تدحرجت الدمعة على خدها وهي ترد عليه بتردد، فاقدة للحيلة:
-       كان...
لم يدعها تكمل بينما يقول لها متمعنا النظر في مقلتيها الدامعتين، يحاصرهما بحزم علّها تتفهمه دون أن يدمر استقرار حياتهم:
-       أعرف أمي! أقنعها بذلك حتى لا يرث معك أهلها وتبقى حصتها كلها لك وحدك، ومع مُصاب خالك فهو المتحكم في كل شيء بتوكيل من زوجته التي تكره جدي  كره العمى وكل من يقرب له، ألا يجعل هذا عقلك يفكر ويطرح أسئلة أماه؟ فأنت ذكية جدا ولماحة!
تجمدت ترمقه بحزن لا يتحرك فيها سوى بؤبؤاها المتحركين تأمُّلا لسواد عيني ولدها، ودموعها التي توالت على خديها:
-       كيف يملي عليك الآن شروطا ليسلمك ما هو حقك وحق خالك وابنه؟
اكفهر وجهها بكره سمحت له بالظهور أخيرا بينما  ترد عليه بغل:
-       زوجته الحقيرة!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


تخللت أصابع فواز لحيته ونظراته تغيم بتفكير ترجمه إلى كلمات:
-       هدف معين! هل أشم رائحة دعارة أم أنني أتخيل ذلك جرّاء تاريخك الأسود في صداقتنا المحظوظة يا بهيج؟
ضحك بهيج بحرج مرتبك قبل أن تختفي ضحكته فجأة مجيبا بصراحة:
-       أجل! لكن نحن لا دخل لنا...
-       كيف!
انتفض فواز هاتفا بصدمة حانقة قبل أن يتلفّتا حولهما يتفحصان النظرات الفضولية التي أجبرته على خفض صوته والحفاظ على هدوئه الظاهري، ليستطرد بخفوت:
-       كيف لا دخل لنا؟ ألن نكون من الحاضرين؟ ماذا إن فسدت السهرة وتدخلت الشرطة؟
تبسم بهيج بغموض وقد ارتخت قسماته بتعبير الظفر بعد رده وأجابه بثقة:
-       لا تقلق من هذه الناحية، سبق وأخبرتك بأن من الحاضرين أصحاب مناصب رفيعة وحساسة، لذلك تُنظم لهم الحفلات بسرية تامة، فهل أنت موافق؟
عبس برفض متردد:
-       يجب أن أفكر جيدا!
فرد عليه مستنكرا:
-       ليس هناك وقت السهرة ستبدأ بعد ساعات، ويجب أن أغادر بعد ساعتين على الأكثر ثم كنت أعتمد على إقناعك لنذهب بسيارتك.
تجعدت ملامحه بينما يعقب بامتعاض:
-       انتهازي!
فضحك باسترخاء:
-       يا بخيل اعمل معروفا في سيارتك وحركها قليلا، ستتلف بطاريتها لعدم تحركها بشكل دوري، أنا أقدم لك خدمة ومع ذلك أتوسل إليك.
زفر فواز وملامحه لم تنبسط بعد فأضاف بهيج بمكر وهو يغمزه:
-       فكر في الأمر، النساء هناك عالم آخر لم تره من قبل، يختلفن كل الاختلاف عن...
بتر حديثه حين انتفض فواز ليسكته بينما يسحبه من ذراعه خارج المقهى:   
-       اصمت يا أحمق! وأمهلني ساعة لأجمع فيها بضاعتي.
ما يزال بهيج ضاحكا بعبث، يخبره في نفس اللحظة التي التقيا فيها بفتيات على ما يبدو للعيان يتجادلن حول شيء ما قرب مدخل المقهى:
-       أحضر أفخر ما لديك، واعتمد على الخلطات التقليدية فهي تجذبهم أكثر، ولن يشتروا منك علامة تجارية معروفة لأنهم يتعاملون مع بيوتها الأصلية، أنظر إلى هذا الجمال الفتاك يا رجل!
التفت فواز إلى من يقصدهن فقبض على ذراعه يحذره:
-       إنهن أخوات أصدقائنا تراجع ولا تفضحنا!
 داعب ذيل شعره بخفة بينما يغمزه بتسلية:
-       لا أقصد نهيلة المكتنزة، بل قطعتا اللؤلؤ المجاورتين لها.
امتعض فواز ومنعه من التوجه نحوهن وهو يشرح له ساخرا من بين فكيه المطبقين حنقا:
-       قطعتا اللؤلؤ شقيقتا يوسف يا بهيج... تراجع حالا!
-       حقا!
سأله بذهول ليكمل بعدها ضحكا بقوة لفتت انتباه الجميع:
-       بطُل عجبي من جمالهما الخلاب إذن! لكنني مندهش لسبب آخر، كيف لم أراهما من قبل؟
هز فواز رأسه بيأس ينفخ بقوة قبل أن يسأله بذهول حين فر منه نحوهن:
-       ماذا تفعل يا بهيج؟
تبسم بهيج بمكر وهو يلمح نظرات إحدى اللؤلؤتين المتمعنة فيه باهتمام لا يخطئه أحد، فهتف قائلاً بتسلية مرحة:
-       نتعرف يا رجل! إنهما شقيقتا صديقنا يوسف الغالي، ويجب أن أرحب بهما في البلدة.
تنهد فواز بغير تفاؤل ولحق به بقلة حيلة، أما هو فبسط كفه نحو التي تراقبه باهتمام باسما يخبرها بلطف مستغلا وسامته التي تجذب كل عين جديدة بمظهره المختلف:
-       أنا بهيج صديق يوسف، وقريبه أيضا وهذا يعني أنني قريب لكما ولو من بعيد كحال بقية ساكني الوادي، هل أنت سارة أم سلا؟
ضحكت فكشفت عن صف أسنان صغيرة بيضاء كاللؤلؤ، لتجيبه بنفس مرحه:
-       أنا سارة، وهذه سلا.
أومأ لها بينما يترك كفها بعد أن منحه ضغطة سرت بقشعريرة غريبة عبر أوردتها والتفت إلى شقيقتها العابسة باسطا نحوها كفه هي الأخرى، فمنحت كفه نظرة سريعة قبل أن تلمس أطراف أصابعه بشكل خاطف ابتسم له بتعبير مبهم:
-       تشرفت بكما وسعيد بالتعرف إليكما، يوسف صديق عزيز علي...
لم يفُته توتر نهيلة التي تدير رأسها كل حين خوفا من أمر ما، فوجه إليها حديثه الساخر رغم صدق معانيه:
-       كيف حالك يا نهيلة؟ وكيف حال ... نبيه؟ لم أرك منذ مدة على عكس تحفك الفنية المعروضة في معرض الجمعية، إنها تزداد جمالا مع مرور الوقت بالمناسبة...
ارتبكت أكثر واحمرت بشدة فرفعت كفيها تسوي بهما طرحتها، هامسة له بشكر خافت جدا يكاد يسمع.
-       كنا نتجادل قبل قليل حول إمكانية جلوسنا في المقهى.
تدخلت سارة فالتفت إليها بتركيز بينما تكمل بدلال فطري ضاعف من نعومة أنوثتها الجذابة:
-       اشتقنا أنا وشقيقتي للجلوس في مقهى لكن نهيلة تقول بأن المقاهي  هنا خاصة بالرجال فقط، وسنفتعل فضيحة بجلوسنا فيها.
تفحص ملابسها بجرأة أربكتها؛ فستان بلون بني فاتح بطول يتجاوز الركبتين بقليل عليه سترة من الكتان الحريري بلون الورود الزهرية  المزينة للفستان، فتتسع بسمته من عدم راحتها إلى أن تدخل فواز، قائلا بجدية حازمة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       نهيلة محقة، النساء لا يجلسن في المقاهي هنا، فقط في المطاعم أو المخابز حيث تجهز العصائر والمشروبات الساخنة مع الفطائر والحلوى، وعلى أي حال لن تجدن هنا سوى القهوة السوداء المركزة والجرائد.
-       مع شاشة بلازما، وواي فاي!
هتف بها بهيج مدعيا البراءة بينما يدس كفيه في جيبي سرواله القصير كلون عينيه ثم استرسل باستظراف:
-       حاولت جاهدا تخليصهم من أفكارهم الرجعية هذه لكن عبثا!
ثم قرص عنقه بمزاح يكمل:
-       أقسم برقبتي...
دفعه فواز بخفة يهمس له من بين نواجذه، وسارة  على عكس سلا العابسة ونهيلة التي تحول ارتباكها إلى عصبية:
-       امشِ يا ظريف، سنتأخر يا أبو رقبة!
-       لؤلؤ يا رجل! لؤلؤ!
همس له محدقا بفم سارة الضاحك ومستسلما له قبل أن يتجمدا مكانيهما ونبيه يقبض على ذراع شقيقته المنتفضة بهلع، يديرها إليه ليشير لها بحركات عنيفة تحاكي ملامحه الغاضبة:
-       ماذا تفعلين هنا؟
وكعادتها حين التوتر أمام شقيقها خاصة دونا عن غيره، لا تجيد التصرف ولا الرد سوى  بالتبلد والصمت مما دفع به إلى النظر نحو فواز وبهيج بحدة تراجعا على إثرها خطوة استعدادا للركض، فهما أدرى بعصبيته النادرة حين تبلغ مداها فيتحول إلى نهر  جاف حمل فجأة بسيل قوي يجرف معه الأخضر واليابس، لولا تدخل الفتاة العابسة تشير له بهدوء بما لم يفهماه ولم يخفف من غضبه لكن على الأقل أشار لأخته كي تتقدمه ففعلت بصمت ولحقت بها سلا بينما سارة تتبسم مشيرة بأصابعها  لبهيج بتحية ما لبث أن ردها هو الآخر بنفس الإشارة والبسمة حتى انتفض من زفير نبيه الذي حدجه بنظرات كالسهام الحادة قبل أن يستدير لاحقا بالفتيات محافظا على مسافة كافية خلفهن.
-       أخبرتك بأن تتراجع، لكنك تحب المشاكل منذ صغرك!
دفعه فواز مرة أخرى فضحك وهو يبتعد عنه بينما يجيبه بنفس التسلية:
-       للمشاكل نكهة حلوة تبدد ملل الحياة يا صاح! جهز نفسك بعد ساعة ونصف.
***
(منزل الجدة جواهر)
تجولت بين غرف منزل جدتها العتيق الذي ورثته عن زوجها الراحل تاركا لها فتاة واحدة بعد أن سبقته الأخرى إلى دار الحق على إثر ولادة متعسرة نتجت عن نزيف حاد لم يستطيعوا معالجته، وقد تأخرت جدا في الوصول إلى مستشفى المدينة السياحية.
أطلّت على الغرفة الثالثة، وألقت على الحاضرات السلام وسألتهن باسمة بلطف:
-       السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل رأيتن جدتي جواهر؟
-       في غرفة السجاد يا ابنتي.
ردت عليها إحدى النسوة المنهمكات في صنع الحلوى، فهزت رأسها بتفهم، فجدتها تحب نسج السجاد أكثر من بقية الحرف التي خصصت لها غرف بيتها العتيق بعد أن قررت دعم الجمعية التنموية بالمرأة في وادي الحقول.
دخلت غرفة نسج السجاد وأسرعت لتحتل مكانا خلف منسج السجاد الخشبي الضخم جوار جدتها، هاتفة بحب وهي تقبل رأسها:
-       السلام عليكم، كيف حالك جدتي؟ اشتقت إليك.
نظرت إليها وهي تضحك بدفء شعت به مقلتاها البنيتين الحانيتين، بشرة وجهها ناعمة وغير مجعدة سوى من بعض الخطوط  حول العينين، لا يدل على تجاوزها للخمسين سوى عنقها المستور بطرحتها البيضاء المطرزة بخرزات صغيرة، وتمهل حركاتها حين النهوض:
-       وأنا أيضا، والدتك كانت هنا أمس وأخبرتني بأنكم انشغلتم بالحصاد.
هزت تقوى رأسها وقد شرعت في لف خيوط النسج القصيرة حول الخيوط الأخرى الأشد سمكا وطولا، والمشدودة كأوتار صلبة على طول المنسج الخشبي تقول لها تقوى بتقدير لجودة الصوف:  
-       الألوان جميلة يا جدتي، أصبحتن بارعات في تلوين الصوف.
ردت عليها جدتها وهي تسحب من حجرها *الخلالة* على شكل يد حديدية بأسياخ حادة قصيرة تدخلها بين الخيوط المشدودة فتمنح الخيوط القصيرة المعقودة حولها دقات بسيطة حازمة لتثبت مكانها قبل أن تبدأ بلف صف جديد من الخيوط القصيرة الملونة:
-       الوسائل تتطور بنيتي وتساعدنا بفضل الله.
هزت رأسها فاستدركت الجدة بمرح:
-       لم تذكر أي من صديقتيك أنك قادمة لزيارتي.
التفتت إليها تسألها بلهفة:
-       زينة وحفيظة هنا؟
-       أجل، في غرفة التطريز على ما أظن.
أسرعت لتنهي الصف الذي بدأته فضحكت الجدة جواهر تعاتبها بمزاح:
-       ظننت بأن الشوق إلي ما أحضرك!
ثبّتت الخيوط باليد الحديدية *الخلالة* ونهضت على ركبتيها لتقبل وجنة جدتها ثم ردت عليها بطفولية مرحة لا تحتلها إلا جوار تلك المرأة الأحب إلى قلبها:
-       هذا أكيد جدتي، سأشتاق إليك دوما ما دمت ترفضين السكن معنا والبقاء مع من يحتاجونك أكثر حسب قولك طبعا، سأذهب لرؤية الفتيات وأمر عليك لأتحدث معك قبل مغادرتي إن شاء الله.
انطلقت مسرعة، تاركة جدتها تضحك مع بقية النسوة خلف المنسج الخشبي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       أنتما خائنتان! لم تخبرانني بقدومكما!
رفعت الفتيات رؤوسهن عن مثبتات القماش الدائرية فاعتذرت إليهن محرجة:
-       أعتذر إليكن، السلام عليكم ورحمة الله.
ثم خطت لتجلس بين صديقتيها هامسة لهما بتأنيب مرح:
-       خائنتان، ماذا تفعلان هنا؟
ردت عليها حفيظة بنفس النبرة الرائقة:
-       عاطلات عن العمل، ماذا سنفعل غير البحث عن ملء الفراغ القاتل؟
ثم ضحكت ساخرة قبل أن تستطرد:
-       لم يبق هناك مقاعد شاغرة سوى في صف التطريز لذا....
أشارت إلى المثبت البني بين يديها، فتدخلت زينة تفسر لها:
-       لم نتفق يا تقوى، لقد تفاجأنا ببعضنا عند قدومنا وكم ضحكنا على ذلك، فلقد اتفقت مع ابنة عمي شقيقة مؤنس الكبرى على أن تجالس والديّ ساعتين كل يوم أتعلم فيهما التطريز لأنه ما ينقصني من أجل القصات الجديدة التي أقوم بتفصيلها وخياطتها في البيت.
هزت تقوى رأسها بتفهم حين تدخلت حفيظة، قائلة لها بتهكم:
-       غريب أمر أبناء عمك، يحبونك ويحبون والديك ويودونك على عكس والدهم المقاطع لأخيه الوحيد على قيد الحياة.
تنهدت بوجوم بينما توضح لها وضعهم:
-       لأن زوجته امرأة جيدة وطيبة ربت أولادها على صلة الرحم، وبالرغم من تباعد بقية أولادها إلا أن الكبرى ومؤنس لا يفارقاننا ومعهما جرير، ودائما ما يعرضون خدماتهم ويشعرونني بالسند بفضل الله.
وكالعادة كلما صادفت ذكر اسمه تتورد لكنها تتجاهل الأمر:
-       وأنت يا حفيظة؟
سألتها تقوى فأجبتها بامتعاض:
-       بخلاف زينة سآتي صباحا ومساء، فلم أعد أطيق البقاء في بيتنا وحيدة، سألتزم مع عاملات غرفة الحلويات، موسم الصيف على الأبواب، والمناسبات ستتوالى.
لم تستفسرا عن السبب في بقائها وحيدة مدركتان لوضع أسرتها الغريب.
-       جيد إذن، أتمنى لكما التوفيق والنجاح، سأذهب لرؤية جدتي قبل أن أرحل.
همت تقوى بالنهوض عن الكرسي بين آخرين مرتبين على شكل دائرة، فردت عليها زينة بعبوس حائر:
-       بهذه السرعة!
هزت رأسها باعتذار وحفيظة ترمقها باستنكار أيضا:
-       وعدت أمي بأنني لن أتأخر وأنا أريد التحدث مع جدتي قليلا، ركزن في ما تفعلن، فعلى كل حال سأشغلكن إن بقيت...سلام.
خرجت مطرقة برأسها ونزلت الدرج من الدور الثاني إلى الأول، وحين همت بعبور المساحة الواسعة أمام الباب الخارجي إلى الرحبة الداخلية حيث تطل جميع أبواب غرف الطوابق الثلاث سمعت صخبا لفت انتباهها فالتفتت إلى حيث لمحت جرير يُدخل ألواحا خشبية طويلة، وبعض العلب الكرتونية الكبيرة. تسمرت مكانها لثوانٍ قبل أن تسترجع إدراكها وتهم بالاستدارة في نفس اللحظة التي رفع فيها رأسه إليها واستقام هو الآخر يناظرها بنفس التفاجؤ.
تجمدا مكانيهما يناظر كل واحد منهما الآخر بغموض أفكاره حتى قرر جرير ولأول مرة التحدث إليها بغير الكلمات القليلة بينهما عبر مراحل نشأتهما، والتي لا تتعدى التحية والسؤال عن الصحة والحال:
-       من الجيد أنني وجدتك هنا.
***
(منزل ناصر الخواجا)
انتقل يوسف بثقل جسده على قدمه اليمنى أمام منزل جده مراقبا بصبر يحسد عليه صديقه الذي ما يزال منهمكا في تحريك كفيه بحدة وعنف، ملامحه نافرة بغضب جم لأسباب عدة غير مفهومة، وحسب ما التقطه من حركاته المسرعة الغاضبة؛ شقيقتاه وأخته نهيلة، مقهى شارع السلام ثم بهيج وفواز لكن التفاصيل!؟ ما يزال يحاول فك رموز طلاسم الطوفان الهائج أمامه دون نتيجة تذكر.
قرر بأنه اكتفى فالتفت إلى التي أصرت على البقاء على مقربة منهما على عكس أختها التي دخلت المنزل ترغي وتزبد من غباء ورجعية رجال العالم أجمع:
-       ما الذي حدث بالضبط؟
تجعد جانب فمها بينما تعاتبه بضجر:
-       أخيرا قررت السؤال؟ ما يزال الوقت باكرا!
-       سلا!
نطقها بعتاب فتجمد الآخر حين لمحها تحرك كفيها مفسرة بهدوء عابس:
-       أخذتنا نهيلة صباحا لجولة في غرف الحرف التابع للجمعية في منزل المرأة التي يناديها الجميع جدة جواهر، وحين عودتنا اقترحت سارة أن نقضي بعض الوقت في المقهى لتناول القهوة أو أي مشروب ساخن أو بارد لكن نهيلة رفضت لأن المقاهي هنا محصورة على الرجال وكعادة سارة تمردت ولم تصدق الأمر.
أصدر نبيه شخرة سخرية فرفعت حاجبها ترمقه بعبوس متسائل زفر له بغضب ونظرة متحدية.
-       أكملي يا سلا..
تدخل يوسف فرمشت مرتين لتنفض عنها ما يعتريها من ارتباك في حضرته، تكمل حديثها بالإشارة:
-       ونحن نتجادل اقترب منا رجلان، قال أحدهما بأنه صديقك المقرب بهيج...
شخرة بهيج تلك المرة خرجت من حلقه ساخرة بمرارة، فنظرت إليه بعبوس حانق.
-       سلا انظري إلي وأكملي!
طلب منها يوسف بجدية فزمت شفتيها ثم تابعت:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


كلماته قبل أن يعتمدها وينتظر:
*يقولون بأن السعادة نقصان لا يكتمل، ومادام الإنسان طماعا يرى ما ينقصه فقط يظل لاهثا خلف وهمٍ أسموه جورا... السعادة*
***
(منزل الحاج عبد البر)
ارتفع عنق تقوى عن أوراق عدة كانت تطالعها باهتمام، تجاورها شقيقتها التي كانت بدورها تتصفح هاتفها في انتظارها لتعقب بجبين مقطب ونظرات جدية:
-       هذا ليس جيدا يا صفاء، إنه مطابق لمشروع تخرجي ولو اختلف المنتوج وعلامته التجارية.
وضعت صفاء الهاتف جانبا على مكتبهما المشترك في غرفتهما لتركز باهتمامها على تقوى التي استدركت تفسيرها:
-       والمشكلة في الأمر أن الأستاذ المشرف عليك هو نفسه من كان يشرف على مشروع تخرجي، وقد سبق ونوه إلى قلقه نحو اختيارك لنفس موضوعي.
ثم أشارت إلى كومة الأوراق المنتشرة على سطح المكتب مضيفة:
-       لا يكفي تتبعك لخط سير الإنتاج، ولا حتى تطبيق إحصائيات مختلفة لمدة سنة، هذا كله قد سبق وفعلته تلزمك إضافة جديدة لكي يقبل بمشروعك.
زمت صفاء شفتيها بتفكير ساهم، ملامحها مشابهة لشقيقتها إلى حد كبير، العينين الرماديتين والبشرة الحنطية اللون والشعر الأسود بدرجته الأولى، وطوله المماثل، حتى الملابس كثيرا ما كانتا تتشاركانها، الاختلاف الواضح للعيان هو طول تقوى الذي لا تتقاسمه سوى مع نبيل الذي يبدو أنه سيكسب مزيدا من السنتمترات عن طولها.
-       هل تسمعينني يا صفاء؟
حركت رأسها بخفة وسألتها بحيرة:
-       وماذا سنفعل؟
ارتفعت كف تقوى إلى شعرها تحكه بتعب بينما تجيبها بعض التأنيب:
-       إنه مشروعك يا صفاء ويجدر بك الابتكار، لو أخبرتك أنا ماذا سيكون دورك أنت؟
تبسمت وهي تمسك بكفها متوسلة إليها، بأداء درامي مزعوم:
-       أرجوك أنقذيني، أتوسل إليك! اعتبارا للدماء التي نتشاركها.
هزت تقوى رأسها بيأس من شخصية شقيقتها الهزلية دائما:
-       لا فائدة منك... الحديث معك مصيره في كل الأحوال إلى المزاح.
مالت نحوها تقبل وجنتها بطريقة مضحكة قبل أن تجيبها بنفس الفكاهة:
-       تكفي شقيقة واحدة مملة!
جعدت تقوى أنفها الحاد مستنكرة فطوقت جسدها تضيف بمحبة خالصة:
-       أمزح... أنا أمزح، هيا شقيقتي الجميلة ساعديني، ماذا أفعل؟ أريد التخرج هذا العام.
-       إن شاء الله.
غمغمت تقوى باستسلام ثم زفرت بينما تلتقط بعض الأوراق محاولة التعبير عن فكرتها:
-       أنظري يا صفاء، لمَ لا تكملين بعد انتهاء خط سير الإنتاج؟ أعني التخزين والتوزيع، فالشركة التي منحتك إذن  قضاء فترة التدريب في ورشاتها يملكون خط توزيع خاص بهم، استغلي ذلك وقارني بين تكلفة التوزيع الخاص وكم كان سيكلفهم لو فعلوا مثل البقية واستعانوا بوسائط التوزيع!
تذمرت نافخة بضجر:
-       لكن ذلك سيتطلب مني مجهودا كبيرا، لماذا لا أكتفي بمثل مشروعك فالمنتوجات والورشات مختلفة؟!
تركت تقوى الأوراق لتشير لها مفسرة بحزم:
-       الأستاذ المشرف سيرفض مشروعك يا صفاء، إذا لم يعجبك اقتراحي يجب عليك تغيير موضوع المشروع كليا.
نفخت مجددًا تزم شفتيها قليلا قبل أن تهز كتفيها قائلة بقلة حيلة:
-       حسنا سأكمل وأطبق فكرتك.
أومأت لها تقوى براحة وهمت بالنهوض لكن صفاء أوقفتها مستدركة بسؤال لطالما ترددت في طرحه عليها:
-       بالمناسبة يا تقوى، سمعت أن الأستاذ المشرف دبر لك عملا في إحدى الشركات في المدينة السياحية، وأيضا ثرثرة عن كونه أراد الزواج بك!
تملكها الخجل وإن صاحبه بعض الرفض لكنها ردت عليها، فلم يسبق لها أن أخفت عنها أمرا يخصها إلا قليلا:
-       رفضتُ العمل لأنني بالفعل أعمل مع والدي، أما الزواج فلم يتقدم فعليا وهناك من أخبره بأنني مخطوبة.
قفز حاجبا صفاء مرددة بذهول:
-       مخطوبة! من فعلها؟
عبرت صفحة عينيها لمحة من التسلية بشكل خاطف بينما تجيبها بنبرة عادية:
-       زملائي من الوادي تبرعوا بتقديم نشرة تفصيلية له عن حياتي بكل تفاصيلها.
ضحكت صفاء وهي تدير جسدها محتلة جانب كرسيها فقط، تعقب من بين قهقهتها:
-       وطبعا لم تخلُ التفاصيل من جرار الحقول المتيم بك.
رمقتها بعتاب فهزت كتفيها بتجاهل واستفسرت منها ككل مرة عن جانب مختلف للموضوع الذي تشعر بأن أختها تتحسس من ذكره:
-       الحق يقال ليس مجرد جرار حقول إنما خريج معهد الزراعة والبيطرة قسم الزراعة... ورجل مر بمثل الظروف التي نعرفها في طفولته يستحق التشجيع والاحترام على ما حققه ولا أجد تفسيرا مقنعا بعد لرفضك له.
أطرقت تقوى بوجوم فسارعت تفسر نفسها بتردد مرتبك:
-       أعني أنه شاب سوي، الجميع يشهد له بأخلاقه الحسنة حتى أنه يغض بصره عن الفتيات، وأنت بنفسك شاهدتِ عونه للناس، فماذا لو كان لا يواظب على الصلاة؟ أغلب من نعرفهم من الشباب يتهاونون بفعل المغريات والملهيات، حاولي مساعدته على الالتزام بعد الزواج.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       عيب عليك يا ابن عمي، هذا وقت الحصاد وعليّ سماع نفس الدرس الموسمي كل سنة وثيابي التي لابد من أنها  في مكان ما هنا....لابد من أنها متسخة سأبحث عنها لاحقا لأنظفها، سلام يا ابن العم وسامحنا على الازعاج.
زفر جرير بمقت ومسح على وجهه بينما يشيع خطوات مؤنس المتمهلة بضيق قبل أن يقرر الذهاب لقضاء حاجة خاصة بالجمعية التعاونية أو ما أضحى يطلق عليها بالجمعية التنموية بالمرأة.
***
كاد أن يزفر براحة وهو يتسلل خارجا من منزل والديه بعد أن استحم وارتدى ثيابه حين نادته والدته بحنو:
-       مؤنس، تعال بني لتفطر!
تسمر للحظة لا يفصله عن الباب الداخلي سوى خطوتين، وأغمض مقلتيه بضيق قبل أن تتسع بسمته بسرعة ليستدير إليها ويتوجه نحوها ليضم كفيها يقبلهما بينما يجيبها بلطف:
-       صباح الخير أمي، لست جائعا وأريد اللحاق بعملي.
تطلعت إليه بقلق وهمت بإقناعه بينما تمسك بذراعيه حين دخل عليهما والده بهيئة يتقاسمها أغلب رجال المنطقة الذين تجاوزوا منتصف الخمسين فما فوق؛ جلباب أبيض وعمامة صفراء، يهتف بامتعاض ساخر:
-       لابد من أنك أكلت حيث قضيت ليلتك واحتسيت الخمر، ولن يكون ذلك سوى في بيت عاهرة!
أدارت والدته رأسها لترمق زوجها بعتاب تجاهله والسخط يغشى ملامح وجهه الشبيهة بابنه إلى حد كبير، هذا الأخير الذي يمنحه الآن نظرات غامضة لا يستشف منها سوى التحدي وكأنه لم يلق عليه الآن بتهمتين بشعتين:
-       إلى ماذا تنظر؟ ألستُ محقا وسيرتك تلوكها الألسن على ضفاف الوادي يا أستاذ؟ يا رجل التعليم!؟ لو اكتفيت بالزراعة كابن عمك لهونت أمر سخرية الناس منك ... فماذا ستُعلم أبناءهم وأنت فاقد للتربية؟ تُجاهر بسكرك ومجونك أمامهم غير مكترث بالفضائح التي تجلبها على سمعتنا.
ضمت والدته جانب وجهه لتديره نحوها بعدما يئست من أن يحيد بنظراته عن وجه والده العابس محاولة فض النزاع المعتاد:
-       يكفى يا حاج من فضلك، وأنت بني أدخل لتفطر معنا.
طرف بأنظاره نحو أمه، يتفحص هيئتها الضئيلة داخل عباءة منزلية عليها تلك الوزرة المعروفة في منطقتهم، تحيط رأسها بطرحة صغيرة مثلثة تعقد طرفيها خلف عنقها المكشوف يزينه وشم أخضر باهت قديم أعلى حنجرتها، وأسفلها يستقر عقد من خيط أسود تتدلى منه مسكوكات ذهبية ثم أطرق برأسه للحظات يتمالك فيها نفسه قبل أن ينظر إلى والده ليخاطبه بتعبير مبهم ساخر قبّل بعده رأس والدته وانطلق مغادرا:
-       اتفقنا يا حاج! سأخفي فواحشي عن الناس ولن يعرف أحد بأمر الخمر ولا العاهرات.
دخل الفصل بأعصاب باردة، فلم تكن تلك أول مشاحناته مع والده ولن تكون الأخيرة.
استقر على مقعده خلف طاولة مكتبه بعد أن طلب من الطلاب استغلال حصص الشهر الأخير في المراجعة، وتحديدا آخر دروس الفلسفة، ولسخرية الأمر هي أصعب شيء في الوجود حقا، له على الأقل! *السعادة* كم يليق المفرد بالفلسفة بما أن لا أحد أدرك معنى السعادة ليحدد لها تفسيرا واضحا وملموسا فهو فعلا يليق بالفلسفة.
صاحَبته بسمته الساخرة وهو يسترخي على المقعد، يتفقد التعاليق الكثيرة التي تتوالى إما ردا على منشوريه الصباحيين أو تعقيبا على منشوراته التي كتبها وهو ثمل. أهمل الرد على الكثير منها وتجاوب مع القليل ثم بدأ بجولته على الجدار العام يطالع آخر ما تم نشره حتى توقف عند منشور أثار انتباهه كما فعل الذي قبله:
*لوم الذات دلالة على بقايا ضمير لازال ينتفض بروح المقاومة.*
ضم شفتيه بتفكير عميق حول صاحبة المنشور التي يعرفها جيدا، وكل مرة يقرأ لها منشورا يميل إلى التصديق بأنها تتفاعل مع ما ينشره، فيتساءل لماذا لا تعلق له مباشرة؟ فلقد كان يوما ما أستاذها أم ربما هو تعبيرها الشخصي على صفحتها وهو يسيء الفهم!
-       أستاذ!
ترك شاشة هاتفه ليرمق الطالب الذي استدرك قائلاً بحيرة:
-       الفلسفة تلخص السعادة في تحقيق جانب النقص الذي يعاني منه الإنسان، وهكذا السعادة حسب منطق الفلسفة لا تُدرَك حقا لأن الإنسان يظل متطلعا لما ينقصه إلى أن يموت.
رف مؤنس برموشه مرات عدة بمرح ضحِك له الطلاب قبل أن يجيبه بنفس الفكاهة:
-       ثرثر بقلمك حول  تلك الخلاصة وستحقق درجات عليا يا نبيل...
ضحك الطلاب مجددًا من بينهم نبيل الذي أكمل حديث أستاذه الأثير:
-       ما هي الفلسفة إلا ثرثرة قلم تحوم حول مركزٍ كلما ازداد غموضه كلما اتسعت مساحة متاهته!
رفع إبهاميه مشجعاً بمرح أضحك الطلاب، والألم في رأسه لم يهدأ بعد ثم لوح لهم:
-       عودوا لمراجعتكم إذن حتى تكتسبوا مخزونا وفيرا يُمَكِّن أقلامكم من الثرثرة في نطاق واسع.
أطرقوا برؤوسهم بينما هو يسحب علبة مسكن من حقيبته ليستل حبة بلعها دون ماء نسي إحضاره ثم أرخى رأسه على مسند المقعد، يتأمل نبيل للحظات تألقت فيها على شفتيه بسمة تخلت عن سخريتها لوهلة لتلمع بمشاكسة امتدت إلى مقلتيه وهو يرفع هاتفه ليدون كلمات يجرب بها حظه ليتأكد من صدق إحساسه أو يتأكد من إصابته بجنون العظمة! دغدغت صدره موجة تسلية عند آخر خواطره بينما يراجع

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


صمتت تقوى تصغي إليها وحين أنهت شقيقتها حديثها نظرت إليها لتجيبها بجدية نضحت بها مقلتاها بعد أن استدارت إليها كليا بجسدها فأصبحتا متقابلتين:
-       جميعنا مقصرون في حق خالقنا مهما التزمنا لكن كل واحد منا يحاول ما في استطاعته، وهناك قواعد لا يمكن التهاون بها لأنها أساس البناء، وإن أقيمت بهشاشة فلا تنتظري منها تحمل البناء فوقها ويظل التهديد بالسقوط يلاحق بناءها طوال الوقت، هذا إن لم يسقط في أي لحظة بالفعل.
تلكأت تبلع ريقها لتضيف بوجوم لم يغادرها:
-       جدتي تقول دائما؛ تحَلَّي بما تتمنينه في من حولك فإن لم تجديه رغم ذلك، فهو بلاؤك لحكمة بالغة يجب عليك النجاح في تجاوزه، لكن خذي بالأسباب وأحسني الاختيار بنية صادقة لا بغية فيها سوى وجه الله، حينها سيكون الامتحان لا شك وبإذن الله أيسر وأبسط.
عبست صفاء بينما ترمقها بحيرة تجلت في مقلتيها الرماديتين فزفرت تقوى قائلةً لها بنبرة خاوية:
-       مثلا، لو كان جرير...
توترت حين نطقها لاسمها لوهلة تجاوزتها متجاهلة خفقات قلبها لتسترسل:
-       لو واظب على الصلاة التي هي من أوامر الله الأساسية لتجاوزت عن أمور تعد من طبع الإنسان، كجلافته مثلا في اختيار الكلمات... أستغفر الله!
تنهدت وهي تطرق برأسها فابتسمت صفاء بمكر وهي تشاكسها:
-       ربما يخبئ حلو الكلام بعد أن تصبحي زوجته حلاله؟
ارتفع حاجبها وهي تعقب بامتعاض:
-       نصحتك بالتوقف عن متابعة المسلسلات دون جدوى، خربت عقلك عن آخره!
ادعت البراءة بشكل مضحك فتبسمت تقوى مرغمة والتقطت كفيها تستدرك بحنو:
-       ضعي ما سأخبرك به في رأسك، لا أحد يتغير من أجل أحد إن لم تنبع الإرادة من صميم القلب الراغب في التغيير من أجل نجاته هو أولا، فصعبٌ جدا أن يفعلها من أجل غيره خصوصاً ما يخص علاقة العبد بربه، هذا أولا! أما الأمر الثاني فلو رأيت أكثر من حولك ضال عن طريقه تمسكي أنت بحبال الهداية والنجاة، ففي النهاية كل واحد منا سيأتيه فردا، والدليل كلام الله في سورة المائدة *بسم الله الرحمن الرحيم .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*...ابحثي عن كلمتي أكثر الناس في القرآن وستتفاجئين بما يليها من تتمة، ولكلٍّ نيته الله وحده مطلع عليها.
نهضت من مكانها بعد أن ربتت على كتفيها بحنو تضيف وهي تفتح أحد أبواب خزانة الملابس:
-       حاولي التركيز على مشروعك، فالأشغال منتهية والبيت نظيف، لا أظن بأن أمي ستحتاجنا في شيء لكن سأطلب منها تأجيل طلباتها إلى أن أعود من بيت جدتي، اشتقت إليها، لم أرها ليومين كاملين.
تحركت نحو مرآة منضدة الزينة لتحيط رأسها بطرحتها الطويلة وتسدلها على صدرها بلون أخضر قاتم كتنورتها الواسعة عليها قميص أسود. 
-       تقوى..
نادتها فنظرت إليها عبر المرآة بينما تصغي لسؤالها:
-       ما هي السعادة من وجهة نظرك؟
جعدت جبينها بحيرة هي تستفسر منها:
-       ما الذي خطر على بالك؟
هزت صفاء كتفيها لاهية بالقلم الحبر بين أصابعها فصمتت تقوى قليلا تفكر بينما تسحب كيسا خلف باب غرفتهما ثم اقتربت منها لتخيرها بين حذائين:
-       اختاري واحدا... أنا اشتريتهما أمس حين خرجت برفقة حفيظة وزينة، إنهما متشابهين، الاختلاف الوحيد في الفراشة والنجمة...هيا!
نظرت صفاء إلى زوج الأحدية السوداء ثم رفعت ناظريها إلى أختها، تجيبها بتردد:
-       اختاري واحدا، واتركي لي الآخر.
ثم ضحكت بطفولية تتابع:
-       ففي النهاية سأرتدي كليهما.
ضمت تقوى شفتيها تتدعي السخط قبل أن تبتسم هي الأخرى بنفس الطفولية:
-       أحببتهما، وأنت محقة في النهاية سنرتدي كليهما، سأختار النجمة.
بسطت صفاء ذراعيها تهتف بنفس الطفولية وهي تبسط قدميها أيضا:
-       هنيئا لك بالنجمة يا نجمة!
قطبت تقوى جبينها تدير رأسها نحوها وهي منحنية تدس قدميها داخل الحذاء، ترمقها بصمت أُجبِرت عليه بسبب دعاء اللباس الجديد، فضمت صفاء شفتها السفلى قبل أن تستطرد بمرح:
-       لم تجيبيني، ماهي السعادة من وجهة نظرك؟
التقطت حقيبتها واستقامت بظهرها عند عتبة الغرفة لتعبر عن قناعتها بخشوع:
-       السعادة ...مممم! امتلاء القلب بنور الله حتى يفيض فلا يعود لأي شيء آخر متسع ليستقر فيه.
ثم تبسمت بتأثر لتكمل قبل أن تنصرف:
-       لا يعرف لذة تلك السعادة إلا من ذاقها... السلام عليكم.
انصرفت بينما شقيقتها تشيعها بنظرات ساهمة وعت منها فجأة لتلتقط هاتفها، تتفقده.
***
ضحك عاليا ملفتا انتباه طلابه فمسح على وجهه بحرج قبل أن يرمقهم بسخرية:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       اعتذر إليكم لكن وأنا أتفحص المستجدات على *مواقع التشتت والانقطاع الاجتماعي*.
انتشرت البسمات عبر الوجوه الشابة وهو يكمل بنفس السخرية:
-       وجدت تفسيرا للسعادة لن أقول جديدا لكن مختلفا عن ما جاد به أعلام الفلسفة المبجلين.
ثم نظر إلى هاتفه، يقرأ المنشور الذي طال انتظاره حتى أوشكت الحصة على نهايتها:
*السعادة امتلاء القلب بنور الله حتى يفيض، فلا يعود لأي شيء آخر متسع ليستقر فيه*
ثم رفع سبابته مكملا:
-       لم أنته بعد *لا يعرف لذة تلك السعادة إلا من ذاقها*
وضع هاتفه وقلبه يموج بحماس خاص فاجأه في نفسه، صِدق شكوكه أثبتت أنها بذات أهمية لنفسه، لمَ يا ترى؟ إنه لشيء مثير ليفكر فيه! حسنا، صداعه بدأ بالتراجع هو الآخر وبعد كل شيء قد ينتهي يومه بغير ما بدأ به.
-       هل ذاق أحدكم تلك السعادة يا ترى؟
انتشرت الهمهمات بين الطلاب والطالبات المتبسمين، بعضهم بتسلية وآخرين بسخرية.
-       قد يكون صحيحا يا أستاذ، ألم نتعلم من الفلسفة أن السعادة وهمٌ لا يُدْرَك، إذن كل إنسان يفسرها حسب قناعاته وإيمانه.
عقب نبيل بوجهة نظره ببعض الاندفاع فقال له مؤنس وبسمته تتحول لمرح غامض التعبير:
-       لماذا لم أتفاجأ بقولك يا نبيل؟
انطلق جرس رأس الساعة فسحب حقيبته وهاتفه مستدركا ليطرد ريبة نبيل التي طغت على ملامحه:
-       أعني أنك محق، كل شخص يفسر السعادة حسب قناعاته وإيمانه...راجعوا جيدا!
ثم هتف بنبرة عالية:
-       الامتحانات على الأبواب، لن أخبركم كما ولابد من أنكم مللتم سماعه أن هذه السنة مهمة في حياتكم الدراسية لكن سأكتفي بلا تستعجلوا الكسل، أيامه قادمة لاحقا أثناء سنوات البطالة.
علت ضحكاتهم بينما يوليهم ظهره مغادرا بعد أن أشار لنبيل الذي لحق به:
-       ماذا عن علوان يا نبيل؟
بلل الشاب الفتي شفتيه بتوتر، فمال نحوه يستطرد بتهكم:
-       أنا متأكد من أنك مطلع على أسباب فعلة بعض من زملائك، فأنت أمين الجميع هنا، إنما أسألك بصفة شخصية، فأنا وجرير نهتم لأمر ذاك الشاب، إنه من عمر شقيقتك الوسطى يا نبيل، ولا يرضيك ما حدث له، أعدك أن الحديث سيبقى بيننا.
أنهى حديثه بجدية صادقة فتنحنح نبيل وهو يرد عليه بما لم يكن حقا مفاجئا لمؤنس:
-       كل ما أعرفه يا أستاذ مؤنس أن هناك من دفع لهم من أجل شعر علوان، لا أحد من الثلاثة ذكر هويته ولا أظنهم سيفعلون.
***
(شارع الشرفاء)
يناظره بحيرة واضعا ذقنه على راحة كفه مستندا بمرفقها على سطح إحدى طاولات المقهى الفاصلة بينهما، ينتظر المزيد مما هو متأكد من أنه يخفيه عنه.
-       هيا يا فواز، ليس وكأن هذه أول مرة سترافقني فيها.
تحدث إليه بهيج مجددًا ليقنعه فرد عليه أخيرا وهو يمسد لحيته:
-       لكنك تقول حفلة خاصة، وأثرياء من خارج الوطن وداخله، يجب أن أقلق يا بهيج.
زفر المعني وهو يميل نحوه يفسر له من جديد:
-       إنها أمور معتادة إلى جانب ما أفعله دوما لكنها قليلة ومدرة للمال أكثر من الحفلات الأخرى، خاصة بالأثرياء جدا، وحين سألت المنظم إن كان بإمكاني إحضار تاجر عطور ليضفي على المكان سحره الخاص ويبحث عن رزقه مثل الجميع وافق، فقررت إقناعك.
تجعد جبينه أكثر وهو يسأله بنفس الريبة:
-       ولماذا لم تخبرني عنها من قبل؟ أعرف عن عملك كمهرج في حفلات المدارس، والأعراس كطبال لفرقتك، وأعرف بشأن الحفلات الخاصة وحضرت معك بعضها كصديق، لكن حفلة خاصة جدا وأحضر كتاجر عطور!... ماذا تخفي عني يا بهيج؟
أرخى بهيج ظهره على مسند الكرسي الخشبي يرمقه بتمعن، باسطا ذراعيه الطويلتين على سطح الطاولة الدائرية بينما يلمس كأس الشاي بأطراف أصابعه:
-       لأن هناك أمور قد لا تعجبك.
-       أهاااا!
تلفظ بها فواز بظفر ساخر وانحنى نحوه، محركا رأسه صعودا ونزولا مع تتمة كلامه:
-       هذا مربط الفرس يا بهيج، أخبرني وأنا أقرر!
جعد جانب ذقنه الشقراء التي هذبها ذلك اليوم قبل أن تلمع مقلتاه بزرقة قاتمة بينما يفسر له بحذر:
-       تلك الحفلات يحضرها رجال ونساء من داخل وخارج الوطن، منهم أصحاب مناصب رفيعة، ومنهم فاحشي الثراء، ومنظم الحفلات يتفق مع فرق كثيرة منها موسيقية وترفيهية....
تلكأ عند كلمة ترفيهية فسأله فواز برفعة حاجب مهددة:
-       ترفيهية مثل ماذا؟ فكاهة مثلا؟
أومأ له بهيج ورد عليه بنفس الارتباك:
-       هناك فكاهيين وبهلوان، ومصالح أخرى...
كان فواز يهز رأسه بتمهل مع كل كلمة يتلفظ بها بهيج حتى سكت فحثه الأول بنفاد صبر:
-       و....؟ أنت تضيع وقتي، ما المعنى يا بهيج؟!
بلع ريقه ثم أخبره بخفوت وهو يميل نحوه بمسافة أقرب:
-       هناك فرقة خاصة، فتيات وشباب يحضرون لهدف معين، ويسعون لتحقيقه بكل وضوح ليجمعوا أكبر قدر من المال...

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


الفصل الثالث
يُؤَذن لصلاة الظهر والعصر ولا يصلي، ويزعم أن بينه وبين ربنا عماراً، أي عمار هذا؟!... الدكتور عمر عبد الكافي.
 
(بعد شروق الشمس بقليل)
(رحبة مسجد، جامع السلام)
شهيق ثم زفير أطول؛ يتحرك لسانه بذكر الله بين كل شهيق وزفير أما القلب فمستمر في وصاله بربه الذي لا ينقطع وإن سكنت الأطراف.
شهيق عميق ثم زفير أعمق؛ العبير الذي يملأ رئتيه في ذلك المكان الخاص به وفي تلك الساعة بالذات لهو أفضل وأزكى ما تعرفت عليه خلاياه الشمية، نعمة عظيمة عوضته الكثير، تُشعره بوِد الودود، يتودد إلى عباده وهو الغني عنهم.
-       يمكنك الجلوس جواري يا يوسف... لماذا تقف عندك؟
تبسم بحرج وتقدم خطوات قليلة ليجاوره على السور القصير لرحبة المسجد ثم وجه نظراته لتأمل اللوحة الإلهية المبهرة.
-       شعرت بي وأنا الذي ظننتني هادئا.
خاطبه يوسف بلطف دون أن يحيد بعينيه عن مرأى الحقول تحت أشعة الشمس الوليدة، تعكس وهجها اللامع فيشع الزرع بخضرة صافية، ويتلألأ الندى المتأرجح على حافة وريقاتها:
-       الله كريم يا يوسف... الله كريم.
فسر الكثير بكلمات قليلة ذات معاني كبيرة تلقاها يوسف بتفهم عبّر عنه بالتسبيح بحمد ربه، وبعد برهة سأله محسن بنبرة هادئة وكأنها ساهمة أو خاشعة في تأملها ربما:
-       ماذا ترى الآن يا يوسف؟
التفت يوسف إلى صديقه الذي يرفع رأسه وكأنه يناجي ربه في السموات العُلا، عيناه مغمضتان بسكون، ووجهه؟!... لا يعلم هل النور الذي يغشاه ما يُخيّلُ للذي ينظر إليه أنه جذابٌ أم سماحة ملامحه البشوشة دائما؟ لطالما كان محسن مصدر سرور لقلبه منذ الصغر، مجرد نظرة نحو بسمته الهادئة وتقاسيمه المتفائلة تسكن في أحشائه بأمل وبُشرى بأن كل شيء سيكون بخير.
-       لم أتوقع أن يكون سؤالي صعب لهذه الدرجة.
رف يوسف بجفنيه قبل أن يتبسم بينما يرد عليه ببعض المرح المداعب:
-       في الحقيقة... قبل سؤالك كنت أُمتع عيني بمشهد يخلب الألباب، صنعة بديع السموات والأرض، وحين سألتني نظرت إليك فوجدت صنعة أخرى أكثر إبهارا للخالق العظيم تبث السكون في الروح والأمل في القلب، وها أنا ذا منحتك إجابة صادقة يا فقيه.
كانت بسمة محسن قد اتسعت ومقلتاه تنفتحان تلقائيا لتبدآ بالدوران المتكرر داخل محجريهما حين شاكسه بنفس المرح المداعب:
-       هل تتغزل بي يا ابن آل عيسى؟
ضحك يوسف واضعا كفيه على ركبتيه فوق سرواله الجينز الأبيض يبادله المشاكسة بمزاج رائق:  
-       تذكرني بالفقيه عبد العليم حين تناديني بابن آل عيسى...يا إلهي! أنت تشبهه جدا، خصوصا وأنت تترأس حلقات حفظ القرآن في الرحبة، نفس الهيبة حتى أنني استرجعت شعوري بالرهبة أمام والدك ونسيت للحظة أنك صديقي محسن.
هز محسن رأسه، يسوي طاقيته البيضاء بيديه كعادة تجتاحه كل ما شعر بالخجل أو التوتر:
-       أحب ذلك لكنني بعيد عنه، والله إنه لشرف لي أن أشبه الفقيه عبد العليم، شفاه الله وعافاه ومنّ عليه بكامل الصحة والعافية.
أمّن يوسف خلفه وبعد لحظة صمت طرح عليه سؤالاً تردد بالتفوه به:
-       وماذا ترى يا فقيه؟
ثم أدار رأسه نحوه ليكتشف بأن ملامحه هدأت وعادت إلى سكونها الخاشع باحثا عن ضالته في السماء:
-       أنا لا أصدق بأنك لا ترى يا محسن، بل أظنك تبصر أكثر منا، وتُمسِك بإحكامٍ ما يفوتنا.
امتد صمته الخاشع حتى ظن بأنه لم يسمعه، فمحال أن يهمل محسن الرد عليه، لذلك أحترم خشوعه ورنا بأنظاره نحو المستطيلات المختلفة الحجم بعضها أخضر وبعضها اصفر وبات جاهزا للحصاد، تحد بينهم أشجارا كثيرة وكثيفة؛ التين، الزيتون، الرمان والنخل، تحُفها كحراس متأهبين.
-       منذ صغري ومع فترة نشأتي كنت أرى أشياء تتغير على مر اليوم... لم أكن أعرف ما هي؟ سوى أنها ليست أمرا واحدا ثم جاء بي والدي هنا ورفع رأسي نحو أشعة الشمس كما قال، وسألني عن شعوري؟ أجبته بأن ما أراه في تلك اللحظة يسري في صدري ببهجة خاصة يأتي معها دفء أشعر به على وجهي ثم يتسلل عبر أطراف جسدي، فأخبرني حينها بأن ذلك هو النور ولابد من أنه أبيض اللون، ولكم سعدت لأنني تعلمت شيئا أتعرف عليه بمقلتي ثم بعدها في الليل سألني إن كنت أرى وأشعر بنفس ما رأيته هنا في الصباح، فأجبته بلا وأن ما أخبرني عنه أنه نور أبيض ليس ما أراه  في ذلك الحين ويشعرني بقشعريرة البرود، فأخبرني بأنه الظلام ولونه أسود، كانا أمرين اثنين فقط أبيض وأسود لكنني فرحت بهما جدا.
أمال محسن رأسه بلحيته البنية المتوسطة الطول وهو يستدرك ببسمة متأثرة:
-       لكن... هل تعلم ما الغريب في الأمر يا يوسف؟
غمغم المعني وهو ينظر إليه باهتمام:
-       ماذا يا محسن؟
-       الأبيض والأسود لم يكونا مرتبطين بالأماكن فقط، فمثلا وأنا بين يدي الله أشعر بنفس شعوري هنا مع كل إشراقة شمس يوم جديد، حتى في صلوات الليل يحيط بي ما تعلمت أنه نور أبيض وحين أشهد شجار الناس وتنافر القلوب من بعضها أشعر بنفسي وسط ما علمني أبي أنه ظلمة سوداء تسري داخلي بقشعريرة البرد.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 18:35


-       فهمتك يا محسن، أعترف بأنني أحيانا أغبطك.
نطقها يوسف بسهو واجم فبسط محسن كفه، باحثا عنه وهو يعبس بقلق:
-       يوسف!
أمسك بيديه وربت عليهما، يُسِر لنفسه بلوم على ما نطق به بينما يصغي لنبرة محسن الحائرة:
-       ما بك يا صاحبي؟ أشعر بأنك تحمل هما ما.
-       لا تقلق يا محسن، لا شيء لا أستطيع التعامل معه.
صمت محسن قليلا ثم حاول معه مجددًا:
-       ما هذا الذي يجعلك تتمنى العمى حتى لا تشاهده؟
أرخى يوسف أهدابه السوداء بهَم يعض داخل شفتيه بغيظ مكتوم:
-       هل الأمر يخص أصدقائنا؟ هل ما عرفت عنهم أشعرك باليأس منهم أو بالخزي والنفور؟
فتح عينيه على ملامح صديقه القلقة باهتمام حقيقي، مقلتاه تهتزان داخل محجريهما بانزعاج واضح، فعاد للتبسم بتأثر بينما يجيبه:
-       لم أقابل في حياتي من يهتم بغيره مثلك يا محسن؟ كيف تفعلها؟... كيف تجعل من مشاكل الناس مشاكلك الخاصة وتفكر فيهم لدرجة التفهم وحمل هم إصلاح حيواتهم؟
وكأن الخجل تملك منه فسحب كفيه ليسوي بهما طاقيته ورد عليه باسما بحزن:
-       جميعنا بشر يستغل الشيطان مواطن ضعفنا، وكثيرا ما ننسى من هو عدونا الحقيقي فنقسوا على بعضنا يا يوسف! نقسوا بشدة.
هز يوسف رأسه بتفهمٍ يفكر في كلمات صديقه الذي استدرك بتشجيع:
-       لا تيأس من عباد الله يا يوسف، وزد على ذلك قرابتهم لك تضاعف من حقهم عليك أمام الله.
وعى يوسف من سهوه على حديث محسن ورمقه بنظرة مبهمة المعنى قليلا قبل أن يربت على ركبته بينما يعده بلطف:
-       إن شاء الله يا فقيه، إن شاء الله.... ألن تعود لبيتكم؟
نهض مع آخر حديثه فقام محسن هو الآخر بينما يقول له:
-       بلى... بما أن نبيه رحل بعد صلاة الفجر ليلحق بمواصلات المدينة خذني معك...بسم الله توكلنا على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
***
(منزل جرير)
تنهد مؤنس ممسكاً بهاتفه يناظره بتعبٍ، يكاد الألم يشطر رأسه إلى نصفين لكنه لا يتراجع عن ملامسة سطح شاشته، يعبر عن كآبة نفسه ويعيد قراءة ما نشره وهو متسطح على سرير ابن عمه الغائب حتما في أشغال الحصاد:
*اعتقد أجدادُنا بسحر حبة البركة السوداء ونحن اليوم نعتقد  بسحر القهوة السوداء...أي شيء لعين أسود!*
*هناك دائما شخص ما عندما تسبه وتحتقره تشعر بالراحة، إنه ذلك الشخص الذي تلمحه في المرآه كلما نظرت إليها*
- إن لم تتحرك حالا! أنا من سيبدأ بضربك وليس فقط سبك وشتمك!
رفع مؤنس رأسه إلى جرير المستند على دفة باب الغرفة بهيئته التي ينزل بها إلى الحقول، سروال من نوع السالوبيت أزرق تحته قميص دون أزرار أبيض صيفي.
-       لماذا تركت حقولك؟
سأله وهو يتململ في رقدته فأجابه جرير بامتعاض وهو يدخل غرفة نومه:
-       أنهيت حقل والدك وتركت رضوان يصقل جدارته في حقلي كي يساعدني مستقبلا إن شاء الله، وجئت أركل مؤخرتك من بيتي ومن غرفة نومي قبل أن أعود إلى حقل عمي الآخر.
نظر مؤنس إلى كفه التي بسطها نحوه، تقبض على كأس زجاجي بمحتوى قاتم اللون فاستفسر منه بينما يحدق به:
-       هل هذا شاي أمس؟
هز كتفيه وأجابه بنفس الامتعاض الساخر:
-       أي شيء لعين أسود!
ابتسم مؤنس بتشنج جراء ألم رأسه، والتقط منه الكأس ثم تحرك إلى حافة السرير:
-       لم أكن أعلم بأن منشوراتي تثير اهتمامك.
كتف ذراعيه وباعد بين قدميه يحذره بينما يجيبه بجفاء:
-       كنت أنتظر استيقاظك فلا تغتر بنفسك والهراء الذي ستفتعل به فضيحة مدوية يوما ما...وكف عن اللعن إلا ستجد نفسك مطرودا من رحمة الله بالفعل!
رمقه خلف الكأس الذي رفعه ليرتشف منه بنظرة ذات معنى تشع تساؤلا عبس له جرير بشدة، وهو يستدرك بغيظ:
-       ما تزال تنعم برحمته فلا تستنفد رصيدك من ستره.
ارتشف مؤنس من المحتوى القاتم اللون فرارا منه، فسعل بقوة وضحك بينما يعاتبه:
-       ما هذا يا جرير؟ أنه ثقيل وبدون سكر.
فهز الآخر كتفيه مجيبا بتشفٍ:
-       مهما كان أفضل من السم الذي تجرعته أمس، هيا تحرك واخرج من غرفتي!
نفخ ساخرا بينما يستقيم على قدميه فتنهد من شدة الوجع في رأسه ثم أشار إلى أثاث الغرفة المتواضع؛ سرير منفرد بغطاء وخزانة ملابس بدرفتين:
-       حسنا سأخرج! على الأقل جدد غرفتك، ألست تنوي الزواج؟
منحه دفعة على ظهره ورد عليه بنفس التهكم:
-       ذلك ليس من شأنك، أخرج من هنا والحق بعملك!
خطا بصمت ساخر بعد أن بسط كفيه يدّعي الاستسلام، فنداه جرير وهو يتفحص هندامه بعدم رضا، قميص رمادي تجعد واتسخ بالتراب وسروال بنفس اللون والهيئة:
-       مؤنس! لا تذهب إلى بيتكم الآن، لابد من أن لك ثيابا في مكان ما هنا... استحم أولا!
ضم شفتيه ناظرا إليه لبرهة ثم رد عليه بتهكم بارد شع من مقلتيه بقسوة قد تبدو غامضة للجميع إلا الذي يناظره ببرود هو الآخر:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Nov, 14:39


الفصل حينزل اليوم متاخر شوية لان عندي ظروف غوالي

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


قالها جرير بتمهل وجبينه يتجعد بحيرة، يبدو بمظهره المرتب النظيف مختلفا عن هيئة جرار الحقول، بجلبابه الأبيض فوق سروال وقميص رماديين.
لم يحرك نبيه ساكنا فلوح له يوسف لينتبه إليهم فرفع هاتفه إليهم بعدما أشار له بأنه يقرأ شفتي جرير ويفهم جل ما يقوله. اقتربوا منه والتفوا حوله حتى محسن المسرور باجتماع نصف الحلقة ينظرون إلى ما يعنيه:
- يا إلهي! لقد ثمل باكرا اليوم.
هتف جرير بنقمة، يمسح على وجهه بغيظ فتساءل يوسف بعدم تصديق:
- هل يشرب مؤنس الخمر؟
عبست ملامحهم، ومحسن يخاطبهم ببؤس سلب منه سروره، وهو يتراجع بتمهل:
- الحقوا بمؤنس قبل أن يتسبب لنفسه بمصيبة، أنا أنام باكرا لذا سأرافق أبي إلى بيتنا.
التهم نبيه المسافة بينهما وقد شعر بحزنه العميق فطوق ساعده بحرص لكن محسن ربت على يده قبل أن ينزعها برفق، يضيف بحزن طغى على ملامح وجهه السمحة:
- لا تكونوا للشيطان عونا على أخيكم، حاولوا تفهم عقده وكونوا له سندا، لا تقلق يا نبيه لن يصيبني مكروه هنا بإذن الله، أنا أحفظ طريقي جيدا، فقط الحقوا به! ولا تنقطعوا عني جميعكم بعد اليوم...جرير!
ناداه وهو يرفع رأسه ومقلتاه تهتزان داخل محجريهما، تعبران عن مدى اضطراب خفقات قلبه فرد عليه المعني وهو يخطو نحوه بسرعة:
- أطلب يا فقيه!
تبسم بارتعاش وهو يبحث عن يديه اللتين وجدهما بسرعة وصاحبهما يسهل عليه المهمة منتظرا قوله:
- لا يهم سبب قدومك اليوم، ولا المرات القليلة السابقة لكن كن على يقين بأنك ستواظب بإذن الله، وسيحملك إلى هنا شوقا وحبا مختلفا عن كل ما شعرت به سابقا، هل تعلم من أين جاءني اليقين يا جرير؟
تصلبت ملامح جرير، وبلع ريقه مكتفيا بالصمت والغريب في الأمر أنه لم يستطع النظر في عيني صديقه رغم تأكده من عدم رؤيته له:
- يقيني نابع من ربي الرحيم، تتوسل إليه أمي من أجلك كل يوم فأنت سندها بعد الله في حقلها الذي ورثته عن والدها، والحاج عبد البر يدعو الله خلف كل صلاة لك، والفقيه عبد العليم لا ينسى اسمك أبدا، والعديد من أهل البلدة سمعتهم يدعون الله لك، والله رحيم مجيب الدعوات، هذا ظني الدائم به...أستودعكم الله.
لاحقته قلوبهم قبل أعينهم إلى أن لمحوه يخرج برفقة والده مع رجال يقطنون جوارهم، تاركا لهم الصمت يحيطهم برهبة خشعت لها أساريرهم قبل أن يجلي يوسف حلقه ليستفسر من جرير:
- أين يمكن أن نجد مؤنس؟
وعى جرير من سهو أفكاره ناظرا إلى يوسف ثم أشار إلى أحد مخارج الوادي المؤدي إلى الجبال السوداء:
- أليس ذاك المكان مهجورا؟
تحركت أقدامهم تسلك سبيل وجهتهم وجرير يرد عليه بنبرته الجادة بجفاء:
- كان مهجورا حين لم يكن طريقا مُعبدا نحو الجبال السوداء للسياح والمواطنين أيضا ممن يهوون رحلات الجبال، وقبل أن يزودوا الطريق بعواميد النور، هناك يجتمع الصعاليك ومن يريد أن ينأى بمعاصيه عن أهل البلدة، فلا حانة خمر هنا ولا مرقص.
التفتوا إلى نبيه الذي أخرج كفيه من جيبي سرواله، يلوح بهما لجرير بإشارات خاصة مختلفة عن لغة الإشارة المعروفة:
- هذا ما كان ينقص البلدة، مرقص وحانة، حينها سننتظر فيضانا يجرف معه الوادي بما فيه وليس فقط جفاف الأمطار التي كانت في الماضي لا تضن علينا بخيراتها لا صيفا ولا شتاء.
أمال جرير رأسه معقباً بخيبة:
- إي والله! لولا فضل الله علينا بماء الآبار لضعنا وضاعت هذه الزروع.
زفر نبيه بتفهم ثم أشار إليه باللغة المعروفة تلك المرة يمازحه بوجهه الجامد بعد أن قرأ شفتيه وفهم ما نطق به:
- بالمناسبة؛ أي ريح حملتك إلينا الليلة؟ أم أنه الهوى؟
عض جرير باطن خده مضييقا عينيه ثم حذره ويوسف يتبسم بمرح:
- لا أعلم لماذا أشعر بأن ما قلته للتو يعد سخرية مني؟ استعمالك للغة الإشارة بدل الحركات التي أفهمها، وحتما بسمة ابن آل عيسى المرحة دليل على ذلك.
ضحك يوسف وهم ينعطفون إلى مخرج البلدة ثم قال له:
- لم يكن يسخر منك، فقط يسألك عن سبب حضورك الليلة.
ثم التفت إلى نبيه ليضيف بالتزامن مع إشارات كفيه:
- أنا طلبت منه القدوم لنحيي الذكريات يا نبيه، ولم يحمله إلينا الهوى كما تظن..
- أها!...بات الجميع يتسلون على حسابي ...حسنا! هناك حوضٌ أمتلأ عن آخره بروث البهائم، سأسعد جدا باستعماله لأغراض أخرى غير تسميد التربة...
ثم تنفس بعمق فلا طاقة له بمشاكسة وهو يلمح حالة مؤنس الذي يطوقه بهيج يمنعه عن فواز الممسك بهاتفٍ يلمس شاشته بسبابة كفه الأخرى:
- أعطني هاتفي أيها ال*…. أنت وهذا ال*.. الآخر اذهبوا واتركوني لحالي...يا*
- أنت تتحول لنسخة من جدتي وكل سباب العالم لن يردعني عنك... فاصمت خير لك!
هتف بهيج وهو يطوق جسده النحيف بكل سهولة ويسر جراء عدم اتزانه فهرول إليه جرير ليجذبه من بين ذراعيه بينما يصيح بغضب لفت انتباه السكارى في المكان فنظروا نحوه بفضول:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- ابتعد عنه!...لا علاقة لك به!
رفع بهيج ذراعيه بسرعة وتراجع عنه في حين تقدم منهما فواز ناظرا إلى جرير بحيرة قطب لها جبينه، وهو يناوله الهاتف:
- اهدأ يا جرير! كنا نحاول منعه من تدمير نفسه بما يكتبه على صفحته وهو ثمل...هاك! لقد مسحت بعض المنشورات التي ذكر فيها بعض الرجال المعروفين في البلدة.
أطلق جرير سراح ابن عمه الذي هوى متربعا على الأرض، وتسلم الهاتف من فواز ليتفحصه بينما يخاطب بهيج الجامد بنفس الغضب الذي لم يغادره بعد:
- لا تخش على زوج ابنة عمك الغالي، لن يصيبه مكروه، فهذا حفيده ولم يهتم بالأمر.
مط بهيج شفتيه بامتعاض دون رد فتدخل يوسف بلطف وهو ينحني نحو مؤنس:
- لا بأس يا شباب...مؤنس؛ هل أنت بخير؟
رفع أنظاره المشوشة إليه قبل أن يبسط شفتيه ببسمة واسعة، وتشبث به لينحني ويجلس القرفصاء أمامه، يخبره بصدق بالرغم من عدم اتزان نبرته:
- كنت أكتب منشورا عن مقدمك الخير إلى البلدة، لكنهم أخذوا مني الهاتف قبل أن ... أن... أكمل ... فنحن أشكال جدك أو هو أشكالنا لست متأكدا، لكن حتما أنت لست أشكالنا...
ثم ربت على خذه، يكمل بانزعاج حزين:
- شكلك هذا وحتى أخلاقك لا ينتميان إلى هنا، اذهب وارحل حالا...أنا أنصحك!
تسلط الصمت على ألسنتهم، يحيطون بيوسف المقرفص أمام مؤنس الذي ما يزال مسترسلا في بوحه الأليم وبسمته تتحول إلى تشنج بائس:
- وخذ معك محسن، والفقيه عبد العليم، خذ أهله جميعهم، تلك الفتاة التي تغطي وجهها بطرف وشاحها، خذوها معكم هي الأخرى، لا مكان لكم هنا، أنا أؤكد لك، والحاج عبد البر أيضا وأهله...لا لا!
ترك يده اليسرى تتشبث بقميص يوسف ولوح بكفه اليمنى محذرا:
- ابنته الكبرى لا!... إن طارت العصفورة سيرحل جرير.
نظر يوسف نحو جرير المتصلب مكانه بجمود، وعاد إلى الذي ذرفت مقلتاه الدموع بينما يضيف بألم فاضت به نبرة صوته المرتجف:
- أتركوا لي جرير، وأعدكم إن حدث ونزل علينا العذاب، سأفديه بروحي.
ربت يوسف على كتفه مهادنا لكنه لا يتراجع عن حديثه، وكأن حياته تتوقف على ذلك:
- أصغ إلي وارحل! وخذ معكم أيضا ابنة عمي زينة، لا تحملا هم والديها فهما عجوزان مريضان على كل حال، وأيضا الجدة جواهر،.... خذوا الجدة جواهر معكم!
تهدل كتفاه وأرخى ظهره حتى استلقى عليه، يتأمل النجوم في السماء فيبسط ذراعه عاليا وكأنه سيلمسها قائلاً بانبهار:
- يا لجمال تلك المصابيح هناك! يقولون بأن الله خلق كل شيء، ويمهل العباد لكنه لا يهملهم، ولذلك أنصحك بالرحيل...ارحلوا جميعكم! حتى جرير لا تتركوه هنا! خذوه معكم.
لم يتحمل جرير ضغط أعصابه، وانحنى ليوقفه ويسنده بذراعه التي مررها تحت إبطه ثم قال لهم باقتضاب:
- سأعيده إلى البيت...
- سنرافقك!
تدخل فواز الذي أكمل حين لاحظ تحفز جرير:
- نحن أيضا عائدون إلى منازلنا، فما أتينا هنا سوى من أجله.
ثم نظر إلى بهيج الذي وكأنه لمح شيئا ما بعيدا فاستأذن منهم:
- طريقي غير طريقكم، أراكم لاحقا.
اختفى بين الظلال بعيدا عن الشارع وأنواره فتحركت أقدامهم تخطوا بتمهل نحو وجهتهم، يتخلف عنهم نبيه الذي التفت مجددًا يتأكد مما لمحه بطرف عينيه.
- ما بك؟
أشار له يوسف بفضول فسأله بحيرة:
- هل رأيت كلبا أسودا قبل قليل؟
تلفت يوسف يتفقد المكان وهو يهز رأسه نافيا، فجعد نبيه ذقنه باستغراب يشير إليه:
- أنا متأكد من أنني لمحت كلبا أسودا لا يشبه كلاب الوادي، ضخما بعض الشيء وثابتا مكانه، وكنت على وشك تحذيركم منه لكنه اختفى بسرعة كما ظهر.
- لابأس! لابد من أنه هرب نحو الجبال...
هز نبيه كتفيه يتجاهل الأمر وتعبير مبهم يطغى على صفحة وجهه ثم حث خطواته ليلحق بأصدقائه.
***
هدأ الصخب ولاذت الأنفس بالسبات؛ عدد كبير منهم على الأقل، فبحكم أشغال الحقول وافق أهل الوادي الفطرة بالنوم الباكر على نغمات الطبيعة، صرير صراصير الليل ونقيق الضفادع وصوت أنابيب الريّ ثم الاستيقاظ باكرا على أصوات الديوك والبهائم المطالبة بالعلف.
هناك في بيت الفقيه عبد العليم لم يستولِ النوم العميق سوى على الحاجة أم محسن التي عادت من الحقول متعبة، تنشد لقمة ساخنة وأداء الصلاة التي وجد فيها ابنها محسن وابنتها حياء الملاذ والسلوى يقفان بين يدي ربهما جُل لياليهما، كل واحد منهما في غرفته، مبتهلان وشاكيان ما يؤرق قلبيهما العطوفين وكذلك كان يفعل والدهما ولا زال على العهد.
في بيت آخر غير بعيد وما البُعد سوى بين القلوب في الصدور، يتسطح يوسف أخيرا بعد أن تخلص من مشاغبة شقيقتيه وقد تمكن منهما التعب والرغبة في النوم، متجنبا المرور على والدته كي لا يلتقي بأشخاص آخرين. استدار على جانبه متنهدا يتساءل إلى متى سيتجاهل ما يجري في حياته؟ لم يعد صغيرا وسيكون خلف كل فعل، رد فعل سيترتب عليه مشاكل أكبر!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


فهل يبقى لمواجهة حاسمة أم ينصت لهذر مؤنس ويرحل! من قال بأنه هذر!
منزل الحاج عبد البر كان أكثر سكونا من سابقيه، وأغلب ساكنيه كانوا قد غفوا بالفعل فيومهم كان حافلا بالمشاغل، وقد كان نصيب حقلهم ككل عام ومنذ أن أصبح جرير جرار حقول بارع أن يفتتح موسم الحصاد.
تململت تقوى من رقادها بينما تفتح عينيها الناعستين لتتنهد بضجر وشقيقتها صفاء تزاحمها على سريرها، فهمست لها بنبرة ناعسة:
- هل قرأت الأذكار؟
- أجل.
ردت عليها صفاء بينما تندس أكثر داخل حضن شقيقتها التي تأففت وهي تضمها بحنو:
- هل شاهدت شريط رعب؟ أم برنامجا مخيفا؟
- أجل عن الجن!
- نامي يا صفاء، عفا الله عنك وعنا.
بدأت تقوى بقراءة أوائل سورة البقرة وهي تضم شقيقتها المرتعشة حتى شعرت بها ساكنة، تتنفس برتابة فقبّلت أعلى رأسها وأراحت جفنيها مستسلمة لسلطان النوم.
أما في منزل جيرانهم، فشخير رب البيت يتردد بين جدران غرفة نومه خلاف زوجته نوال المشغولة في غرفة تغلقها على نفسها، ولا أحد يعرف ما فيها ولا ماذا تفعل فيها؟ وحفيظة من خوفها تنشغل بمشاهدة أي شيء وكل شيء على هاتفها تحت لحافها مهما كانت حالة الطقس باردا أو مشتعلا، وكل ما يهمها أن لا يمت المحتوى للرعب بصلة فلا تتذكر ما يحدث معها.
حتى النوم أصبحت تخشاه مما تراه فيه، تكاد تقسم أنه حقيقة أشبه بالسراب، وكلما أوشكت على الإمساك به تسرب بين أصابعها كالرمال.
هناك في منزل زينة، أغلقت الأخيرة باب غرفة نوم والديها بروية بعد أن تأكدت من نومهما ثم خطت بهدوء نحو الحمام حين شعرت بحركة ما فتوقفت قليلا تطرق السمع ثم غيرت وجهتها لتفتح شباك المطبخ المطل على بيت ابن عمها جرير، وكما توقعت كان يحمل ابن عمها الآخر مؤنس، ثملا كعادته مرات عدة خلال كل شهر فيأتي به جرير إلى بيته حماية له من غضب أبيه العاصف.
- ماذا ستتحمل أكثر يا جرير؟ كان الله بعونك يا ابن عمي؟
استدارت بعد أن أغلقت النافذة تهمس بأسى استولى عليها قبل ساعات ولم تتخلص منه، لا تعلم أن الذي كان سببا فيه قد تجاهل هاتفه وما يحمله من رسائل متنوعة على مختلف التطبيقات وألقى به على المنضدة جواره كما ألقى بجسده على سريره بعد أن نزع جلبابه شاكرا لربه استغراق والدته في النوم، فبعد زواج اخوته أضحت تضيق عليه الخناق وتدفع به دفعا إلى الزواج، ليس وكأنه لا يريد! لكنه لا يعلم حقا هل هو مستعد للالتزام...بواحدة؟
وفي منزل نبيه اطمأن الأخير على والده وشقيقته؛ آخر من تبقى له في ذلك البيت الجميل والذي يحبه لدرجة حمل هم يومٍ قد يطالب الإخوة بحقهم فيه. استغفر داعيا الله لوالده بالبركة في العمر والصحة ثم تسطح على سريره يتأمل السقف قليلا قبل أن يبسط يده ليطفئ نور المصباح جواره، وفجأة تذكر الكلب الأسود!
لم يرتعب ولم يتحرك من مكانه لكن قلبه انقبض بشدة، فرفع كفيه ونفث فيهما ليتلو سورة الإخلاص بكل كيانه أعقبها بالمعوذتين قبل أن يمسح على جسده واستدار على شقه الأيمن متجاهلا خياله الذي رغما عنه استرجع ابتعاد بهيج عنهم واختفاءه بين الظلال، لطالما شكل تغير حال بهيج هما يزعجه ويظن بل متأكد من أن جرير يشعر بنفس الشيء، لذلك لا يطيقه بل ويظهر ذلك على الملأ كما لم يكن يفعل في صغرهم.
***
أما المعني فقد كان مبتعدا جدا عن منازل وادي الحقول يسلك الطريق نحو الجبال السوداء، ليس ذاك الذي عبّده بنو آدم إنما ذاك الذي تحده الصخور الصلبة والحشائش ذات الأشواك الدامية، ثابتا مكانه بينما يحدق بالظلام المحيط به في تلك الليلة الدلماء.
- لقد تأخرت علينا.
تصلبت أطرافه مستسلما لملمس الظل خلفه قبل أن يتجسد في امرأة بارعة الجمال، تحوم حوله والنار تنبثق من الفراغ تنير المساحة حولهما:
- ألم تشتق إلينا؟
أسدل جفنيه حين شعر بوجهها يقترب من وجهه فنطق بهدوء، حاول أن يجعله ثابتا:
- كيف أفعل وأنت تأتين بهيئة مغايرة كل مرة؟
كان يعلم بأنه يغامر لكنه تعود وأضحى يعرف أمورا كثيرة، بعضها يرعبه وبعضها يمنحه الأمل:
علت ضحكتها وهي تحوم حوله وكلما لمسته انتشرت القشعريرة عبر أوردته:
- ما يزال صديقك يصلي الفجر بالرغم من جهودك!
خاطبته بشكل مباشر كما اختفت ضحكتها فبلل بهيج شفتيه ورد عليها بنفس الهدوء الذي لا يحيد عنه في مواقفه تلك:
- أنا أحاول جاهدا، ألا تعلمين بأن المعصية تحرم فاعلها من الطاعة؟ قريبا لن يستطيع الاستيقاظ، فقط أرسلي أحدا من خدامك.
- لا تأمرنا، نحن من يأمر هنا! وحين تفي بوعودك تستطيع حينها طلب ما تشاء، فنحن غاضبون منك جدا!
صاحت ثم همست جوار أذنه:
- وحين نغضب نتوعد!
سحب أنفاسا متتالية ليعبئ صدره الضائق، يشعر به مثقل وكأن حجرا كبيرا يجثم عليه، وهي تكمل قبالة نظراته الحذرة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- الوادي لم ينقسم بعد كما أمرنا ووعدتنا.
- هو مقسوم بالفعل...
- ولا يعود الفضل لك!
هتفت بحدة جفلته فنطق بارتعاش:
- ساعدت وحققت بعضا من مطالبكم...
ضغطت على كتفيه بقوة، تصر على كل كلمة تتلفظ بها:
- لم يحدث الشقاق بعد، نريدها حربا، كرها، وحقدا، نريد الدماء يا بني آدم! نريد للدماء أن تسيل بدلا من المياه التي جفت عبر الوادي.
ازدرد ريقه والنيران تلهو بظلال الصخور فيراها بوهم رعبه أشباحا سوداء أو ربما هي كذلك بالفعل، فما الذي يكون على حقيقته التي يعرفها في عالمه ذاك؟ لا شيء! كلما منحه عقله يقينا بما يراه ويشعر به، استيقظ على حقيقة أنه مجرد وهم!
لكنه وهم يتشبث به حد الحقيقة فلا هو بقادر على تركه باعتباره وهم ولا هو بقادر على العيش بحقيقة أنه فعلا واقع!
يكاد يفقد عقله! أو ربما فقده بالفعل! فكل ما يعيشه الآن عبارة عن جنون!
- لنترك الحديث لوقت لاحق، فهناك ما هو أهم...
تحرك بتلقائية مع دفعها له، وهي تضيف بمكر ونبرة، يقسم أنه لم يسمع في مثل نعومتها:
- رأيتك وأنت تغازل الفتيات في محل صديقك، هل تنوي خيانتنا؟
تضاعفت خفقات قلبه بين الرعب، والحماس يتولد رغما عنه بتفاعل يفرضه عليه تكوينه الجسدي بينما هي تطوقه هامسة له بتهديد مباشر:
- تعلم بأنك لا تستطيع خيانتنا.. لا تستطيع! فلا تحاول مرة أخرى، لأنك لن تتحمل غضبنا.
رفع رأسه إلى السماء مناجيا بفطرته التي خانها مرارا وتكرارا، يصرخ بصمت قاتل يسحبه لأعمق نقطة في القعر، غير قادر على الاستسلام بكل خلية فيه، وعقله يصر على أن ما يعيشه حقا محض جنون!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- في غرفته، أظنه سيخرج الآن.
أخبرتها نهيلة وهي تنهض لينكشف مظهرها الذي لم تتأمل سلا تفاصيله قبلا، فأشارت إلى التنورة السوداء ذات الطبقات من الشيفون التي اقتنتها برفقتها أثناء جولتهما:
- إنها جميلة وتناسبك.
أمسكت نهيلة بجانبي التنورة ترف بهما مبتسمة بسعادة، فجعدت سلا ذقنها إعجابا بتناسق القميص الذي اختارته أبيضا ومزينا بعبارة *أنا قوية* سوداء اللون، وبلغة أجنبية مع شكل التنورة السوداء:
- يعجبني ذوقك في الملابس، تحسنين التنسيق، مبارك عليك.
صفقت بكلتا يديها وانطلقت نحو المطبخ، تهتف بمرح.
- وأنا يعجبني مدحك لي يا ابنة آل عيسى، سأحضر الضيافة وأعود.
هزت رأسها باسمة ثم أرخت ظهرها على مسند الأريكة تتمتع بجمال المشهد قبالتها وخرير المياه الناعم يدغدغ أذنيها. وبعد لحظة رفعت رأسها إلى تأمل الواجهة الداخلية للبيت الكبير بينما تفكر في أن لنهيلة أخوة كُثر لكن جميعهم متزوجين ولم يعد يقطنون هنا باستثناء صديق شقيقها، نبيه! وكأن عقلها استدعاه إذ لمحته يخرج من أحد الأبواب المطلة على قعر البيت، واستدار نحوها ينظر إليها بإجفال تبعه ذهول تلاه إطراق برأسه، جامد مكانه بتردد إلى أن قرر على ما يبدو رفع رأسه باحثا عن ما فهمت سلا أنها شقيقته.
حركت كفيها لينظر إليها، ففعل مع أول إشارة لها مندهشا من حركات كفيها المحترفة، تخبره بأن أخته في المطبخ تحضر الضيافة.
لا تعلم لماذا دهشته أضحكتها فارتفع حاجباه الأحمرين بما بدا لها حيرة أو شيء آخر لا تفهمه!
- أووه! يجب أن أشكر أخي الذي بفضله لمحنا ضحكة العابسة سلا.
هلت عليهما نهيلة باسمة بمكر تحمل صينية خشبية مستطيلة، وضعتها على المائدة الحديدية المنخفضة أمام من احمرت خجلا ثم استقامت بظهرها تشير لأخيها تسأله ما يريده، فأشار لها بعد أن انتزع مقليه عن المطرِقة بحرج بأنه سيقصد دار محسن ليصحبه إلى صلاة المغرب وقد يتأخر لبعد صلاة العشاء فلا تنتظره ولتطعم والده الذي أخبره آنفا.
هزت رأسها بتفهم وأشارت له بدعاء الحفظ ليسدل جفنيه مؤمنا على دعائها، وانطلق خارجا دون أن يرمي سلا بنظرة أخرى.
أغلق باب بيتهم بينما يفكر في أنه لم يتخيل أن يكون هناك من تعلم لغة الإشارة دون حاجة ماسة إليها، إذا كان الكثير من أهله لم يكترثوا بتعلمها من بينهم بعض إخوته يكتفون بالتمهل حين التحدث حتى يفهم حديثهم، أم ربما هناك من تعرفه حيث وُلِدت وكبرت لا يسمع ولا يتحدث مثله... أمر محتمل وأكثر منطقية!
وقد يكون مُهما لدرجة أن تتعلم من أجله، أم تراها تعلمت من شقيقها يوسف على وجه الفضول؟!...ربما!
نفض عنه فضوله التافه من وجهة نظر عقله، ودق باب المنزل القريب نسبيا من بيت عائلته وابتعد قليلا لينتظر.
أنهى محسن وضوءه وخرج من الحمام متلمسا طريقه الذي حفظه عن ظهر قلب بروية، يهمس بذكر الفراغ من الوضوء حين شعر بملمس حان على ذراعه يسبق نبرة أخته الخافتة:
- صديقك يدق الباب أخي.
تبسم وهو يبحث عن رأسها ليربت عليه بلطف قبل أن يخطو نحو غرفة الجلوس حيث يتلو والده القرآن الكريم:
- سمعته يا قرة العين، ساعديني لأرتدي جلبابي وهاتي لي طاقية نظيفة، وبيضاء كبياض قلبك الطيب.
أصدرت ضحكة حيية أنعشت قلبه المحب لها ولم ير الحمرة التي تعلو بشرتها السمراء كلما دللها أو فعل والدها بمحبة:
- تفضل أخي.
دس رأسه داخل فتحة عنق جلبابه الأبيض فتركته يكمل ارتداءها وأسرعت لتحضر له طاقية نظيفة.
- تقبل الله يا فقيه عبد العليم.
ارتفع رأس والده باسما لابنه بحنو وفخر يتَعمد إيصاله إليه وزرعه داخل حنايا صدره كلما سنحت له الفرصة، يجيبه بينما ينهض من مكانه بتمهل سببه مرض ركبتيه المزمن، ليلتقط من فوق المائدة قنينة عطر يرش منها على صدره ابنه:
- منا ومنك يا فقيه محسن.
ضحك المعني ببشاشة دغدغت صدره فيتفاعل والده تلقائيا مع سرور ولده وتتسع بسمته الرائقة:
- أرى وجهك يشع سرورا وبهجة يا ولدي، أدام الله عليك سرور القلب والمهجة، هل كل ذلك سببه مقدم ابن آل عيسى؟ لطالما ظننت بأن أقرب أقرانك إليك هو نبيه.
انضمت إليهما أخته لتلبسه الطاقية بعد أن مشطت خصلاته البنية القصيرة بينما هو يفسر لوالده:
- كلهم أصدقائي يا والدي، فرقتنا الحياة والأشغال لكن في الصغر كنا كحلقتنا في المسجد لا نفترق ولا نتباعد، أدعو الله أن نعود كما كنا، وقلبي يتوسم في عودة يوسف خيرا، لا أعلم لماذا!؟ لكنه شعور منبثق من صميم قلبي يا والدي الحبيب.
ربت والده على خده بحنو وهو يغير دفة الحديث باستفسار آخر:
- لماذا لا يدخل نبيه ويكتفي بانتظارك خارجا؟
بسط ذراعيه يتلمس طريقه نحو مخرج الغرفة فقبضت أخته على ساعده كالعادة مسرعة لتقوده نحو خفيه تساعده على ارتدائهما وهو يفسر لوالده بلطف تتسم به نبرة صوته الهادئة دوما:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- يستحي من الدخول وأختي حياء موجودة، لقد تعودنا لا تشغل بالك يا أبي، تمهل وأنت قادم إلى المسجد سأرسل لك أحد الصبية ليسندك، ولا تنسي تجهيز العشاء لأمي يا حياء ستكون مرهقة حين عودتها.
أكمل حديثه بخفوت فهزت شقيقته رأسها بينما تطمئنه:
- لقد بدأت بتجهيزه، وأشعلت نار الحمام، لا تقلق! توكل على الله.
قبّل رأسها ثم فتحت له الباب بينما تخفي نفسها خلفه تستودعه عند الله كما استودعها هو الآخر.
أسرع إليه ليمسك بذراعه وتوجها نحو المسجد كعادتهما؛ محسن يحكي ويبتسم ونبيه يربت على ساعده كل حين دون أن يتعب نفسه في استيضاح ما يحكي عنه مستأنسا بجواره الذي يكفيه.
طرف بنظرة خاطفة نحو فتيات يعرفهن حق المعرفة في الاتجاه المعاكس للزقاق وتساءل عن حال صديقه جرير مع أشغال الحصاد التي بدأت في يومه ذاك واعدا نفسه بالبحث عنه بعد صلاة العشاء.
***
- لا أصدق أنني طاوعتكن وتركت أبي وأمي لحالهما في البيت، لولا قدوم جرير لما فعلتها، ألم يكن اتفاقنا الاجتماع في بيتي؟
عاتبتهما زينة بعبوس وهي تربت على طرحتها، تسوي ثناياها الوهمية فأشارت تقوى إلى حفيظة بنظرة *أعيدي الشرح لها من فضلك* فتبسمت حفيظة وهي تعيد الشرح بمرح وتسلية:
- أول الأمر لقاؤنا كان سيتأجل بسبب الحصاد الذي بدأ اليوم في حقل أهل تقوى، لولا أن البطل المغوار ابن عمك جرير أثبت بما يخلو من شك أنه جرار حقول بارع.
ضحكت وسط حديثها مستدعية بذلك البسمة الماكرة على ثغر زينة وتقوى ترمقهما بجانب عينيها الرماديتين:
- فلم يبق الكثير من العمل لذا أفرجوا عن تقوى في آخر لحظة لكن لحظنا السيء أو الجيد لست متأكدة بعد! ابن عمك قرر المجيء إلى بيتكم بدلا من بيت عمك الآخر والد مؤنس.
احتل الحنق مكان المرح على وجه زينة الأبيض كبياض ابن عمها جرير بينما تجيبها بضيق:
- لا تذكريني بعمي من فضلك، الباب قبالة الباب ويعرف بأن شقيقه مريض، وهو الوحيد الباقي على قيد الحياة من أخوته، ورغم ذلك يرفض زيارته متشبثا بشجار قديم تافه، حقا أستغرب في أحيان كثيرة أن مؤنس ابنه من صلبه، كان الله في عونه هو واخوته، أما جرير فحين يترك الحقول لا يمكث في بيت والده رحمه الله كثيرا لا أعلم سبب ذلك؟! ويأتي لزيارة والدي يجالسهما ويبادلهما الحديث لساعات ثم يرحل.
حل الصمت عليهما للحظات قبل أن تستدرك زينة ببسمة ماكرة، تطرد بها كآبة الأجواء بينما تطرف بنظرها نحو تقوى:
- إذن، ومهما كانت الأسباب التي جعلتنا لا نلتقي في بيتنا كما تواعدنا، أين الوجهة؟
هزت تقوى كتفيها بخفة محافظة على صمتها حين أجابتها حفيظة بهيام تتمادى في إظهاره كتسلية:
- أريد شراء عطر.
ثم تنهدت بشكل مسرحي وزينة تصدر ضحكة متشنجة غير ملحوظة بينما تقوى تتنهد بيأس:
- يا إلهي! ليس محل فواز مرة أخرى؟
رفعت حفيظة كفيها تعد على أصابعها متابعة العرض المسرحي:
- أخرى، وأخرى، وأخرى حتى أجد العطر الذي يناسبني ويعجبه هو...
هزت تقوى رأسها بيأس فأضافت حفيظة وهن ينعطفن نحو شارع الشرفاء:
- استحوذتِ على قلب أحد أهم شباب الوادي فدعينا نسعى خلف أرزاقنا.
فتدخلت زينة تعقب بعبوس لم تدعيه:
- بائع العطور ذاك لن يكون مثل ابن عمي، لذا أريحي نفسك.
عقدت تقوى جبينها تمعن النظر في صديقتها بينما حفيظة في ملكوتها الخاص، مدافعة عن صاحب المحل:
- يا عزيزتي لا أحد مثل ابن عمك البطل، وأنا راضية ببائع العطور، فما شأنك أنت فليحقق الله ما في بالي وأسعدُ بقدري.
زفرت زينة بخفوت قبل أن تلتقط نظرة تقوى المتسائلة فهزت كتفيها متهربة منها وهن يعبرن عتبة المحل الذي عج بالنساء من مختلف الأعمار مما دفع بهن للانزواء ينتظرن دورهن، منشغلات بتفقد ما عرض على الرفوف المجاورة لهن من عطور، وباستثناء تقوى غير المهتمة بصاحب المحل كانتا صديقتاها ترميانه بنظرات حانقة وهو يضاحك هذه ويبتسم لتلك متعذرا بعرض بضاعته التي يرش منها على رسغ فتاة أو يضع منها بإصبعه ليتفاعل مع بشرة يد أخرى.
لمحهن فرفع كفه تلقائيا ليعدل ياقة القميص الأبيض الظاهر من تحت جلبابه الأزرق وتسلل من بين البقية من النساء ليرحب بهن على وجه الخصوص:
- مرحبا بكن، شرفتن محلي، لماذا تقفن هنا؟
مسد على لحيته الطويلة ونظراته تفضحه نحو زينة بالذات قبل أن تنتقل إلى حفيظة الجريئة بقولها دوما، تهز كتفيها بينما تبتسم له بدلال:
- فضلنا ترك المساحة لزبوناتك إلى أن تنتهي معهن حتى أنك لم تلاحظ وجودنا وانشغلت بهن.
رمقها بنظرات متفحصة وهو يجيبها باسما باعتذار:
- أعتذر إليكن آنساتي لن يحدث ذلك مجددًا، كيف هي الخالة نوال بالمناسبة؟ لم أرها منذ مدة حتى أنها لم تشرفنا بزيارة مؤخرا.
لكزت تقوى جانب زينة، تهمس لها بجدية:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- المغرب يؤذن وأنا علي العودة إلى البيت، حفيظة كالعادة تطلق العنان لحمقها وأنا لن أتحمل!
أخفت زينة ضحكتها كما تخفي الكثير بينما تجيبها وحفيظة منشغلة عنهما بإشغال الآخر تتدلل عليه طالبة منه ذوقه من العطور، فتشْتَم قنينة وترفضها وتنتقل لأخرى حتى تكتفي من نظرات وبسمات بائع العطور فتقتني ما يفضله.
- إنها صديقتنا يا تقوى ويجب أن نتحملها، أظن بأنها اكتفت وستختار واحدة أخيرا.
راقبت زينة كيف مسد بأصبعه العطر برسغ حفيظة لتشتمه بطريقة أنثوية زاغت لها نظراته فهتفت دون وعي:
- المغرب أذن منذ مدة يا سيد فواز، ألن تلحق بالصلاة في المسجد؟
التفت إليها من جانب الحاجز الزجاجي حيث يعرض قناني العطور على حفيظة التي أشارت لها خلفه أنها ستقتلها وهما على ادعائهما للبراءة، وكأنهما لم تفهما قصدها والآخر يرد عليها بتوتر وحرج:
- لم أستطع غلق المحل في وجه الزبائن لذا سأصليه هنا لكن سأذهب لصلاة العشاء إن شاء الله.
جعدت زينة ذقنها متفحصة المكان بنظرات ذات معنى والنساء يزيد عددهن فتتساءل بسخرية حازمة:
- هل أنت متأكد؟
بلع ريقه ممسدا على لحيته مجددًا فقالت لها حفيظة من بين فكيها المطبقين في حين كانت تقوى تتفقد ساعتها:
- ما بك يا زينة؟ دعي الرجل يسعى لكسب رزقه، والله غفور رحيم.. أليس كذلك يا فواز؟
أصدر ضحكة رائقة تألقت لها نظراته بلمعة لا يخطئها أحد، وهو يدس لها قنينة العطر داخل كيس أنيق قبل أن يناوله لها قائلا لها بتأثر لم يخفيه:
- كل الحق يا آنسة حفيظة... كل الحق، لا تنسي أن تبلغي سلامي للخالة نوال، وأخبريها بأن أمي مشتاقة لها.
تناولت منه الكيس وهي تجيبه ببسمة امتدت من الأذن إلى الأذن غير غافلة عن تعمده للمس أطراف أصابعها تفكر في أنه لأول مرة يفعلها، فخفق قلبها بقوة وازت قوة الألم الذي اكتسح أسفل بطنها فجأة:
- مُبَلّغ يا فواز، بلغ سلامي للخالة نُفيسة، تفضل ثمن...
- لا والله!
قاطعها وهو يرد ظاهر كفها بكفه فتشعر بالألم الحارق يغزو تحت بطنها بشدة لكنها تحاول بوهن والشحوب يزحف على صفحة وجهها الذهبية:
- خذ يا فواز ولا تتعب قلبي.
أحنى وجهه نحوها مستجيبا لدلالها، وغافلا عن شحوب وجهها وارتعاش جسدها:
- لقد حلفت بالله، اعتبريها هدية من المحل وصاحب المحل.
لم تتحمل قوة الوجع أسفل بطنها فهزت رأسها مستسلمة وشكرته باقتضاب وهي تستدير نحو صديقتيها اللتين تغيرتا من الحنق والرفض لتماديها إلى ريبة من شحوبها فالتقطت تقوى ذراعها تدعهما في خطواتها نحو الخارج بينما زينة تتخلف عنهما حين سألها فواز بنبرة لطيفة مترددة:
- ألم يعجبك شيئا يا آنسة زينة؟
شملت زينة محله بنظرة ذات معنى وهي تجيبه بخيبة أصابت قلبه بطعنة أبى أن يكشف عن مدى عمقها وسط صدره:
- شكرا لك، لا شيء هنا يناسب ذوقي.
ثم استدارت لتلحق بصديقتيها.
- هل أنت بخير يا حفيظة؟
سألتها زينة حين وجدتهما تقفان في الشارع قبالة المحل؛ حفيظة تربت على بطنها وكأنها تتأكد من شيء ما وتقوى ترمقها بجبين مقطب:
- ماذا بكما؟ لماذا كنت شاحبة في المحل يا حفيظة؟
هزت تقوى كتفيها جهلا في نفس اللحظة التي رفعت فيها حفيظة رأسها إليهما، ترد عليها باستغراب:
- لقد شعرت بألم حارق أسفل بطني فجأة إلى درجة أن رؤيتي تشوشت، واختفى فجأة ما إن غادرنا المحل.
- هل اقترب موعدك الشهري؟
سألتها تقوى بحيرة فأومأت لها حفيظة بسلب بينما ترد عليها:
- ما يزال الوقت مبكرا جدا.
- إذن هي عين بائع العطور الزائغة!
نطقت زينة من بين أسنانها المطبقة حنقا فضحكت حفيظة وهي تتجاهل الأمر وتقدمتهما متجهات نحو أحد مداخل الزقاق:
- عيناه جميلتان يا زينة لا تنكري.
- استغفر الله.
عقبت تقوى بعبوس فنظرت إليها زينة، تقول لها وهي تشير إلى حفيظة غير المكترثة:
- أخبرتك بحمقها كان الله بعوننا...بالمناسبة! متى أصبحت الحاجة نفيسة صديقة والدتك يا حفيظة وتشتاق إليها أيضا؟
استفسرت منها بسخرية فعاودت حفيظة الضحك ثم ردت عليها بتهكم هي الأخرى:
- منذ أن ناصرت أمي شقيقتها ضد زوجها الذي هو خالي أصبحت حبيبة أهل زوجة خالي سعيد.
تمتمت زينة وهي تنظر إلى تقوى.
- رحم الله خالتك يا تقوى لم نسمع يوما عن شجار بينها وبين والد بهيج، أما خالة فواز فكل حين يشب شجار بينهما لا يداريانه فتلوك الألسن سيرتهما، الله المستعان.
همت حفيظة بالتحدث إلا أنها انتفضت مهرولة نحو بهيج الذي لاح لهن أسفل أحد عواميد النور، يحاول جر عجوز متشحة بسواد مغبر:
- يا جدتي ارحميني وتقدمي معي... لقد مللت!
هتف بغِل تمكن منه وقد بلغ به الحنق مبلغه، العجوز لا تكل من مقاومتها العنيفة وهي تصيح بكل ما تذكره من سباب:
- لن آتي معك يا*، أتركني أيها ال أعلم بأنك تريد سرقة مجوهراتي يا *سأقتلك يا **سأسلط عليك شياطين الجن ليفقدوك عقلك يا*

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


امتعض بهيج وقد تركها متخصرا بتعب حين ضمتها حفيظة تهادنها بلطف:
- ما بك يا جدتي زهرة؟... بهيج!
زفر بهيج بينما يطلب منها بحنق:
- هل تستطيعين إيصالها إلى البيت؟ خالك يشتاط غضبا لأنها خرجت رغم حرصهم على مراقبتها.
- من أنت يا فتاة؟
سألتها بتحفز تنتفض كل حين من لمس حفيظة التي ردت عليها بنبرة مهادنة:
- أنا حفيظة يا جدتي هل نسيتني؟ تعالي معي لأطعمك الأرز باللبن الذي تحبينه... ألست جائعة؟
استجابت لها بتردد وعدم ثقة، تستفسر منها بملامح تجعدت حتى طمست على جمالٍ كان في الماضي ولم يبق سوى أطلاله المتهالكة:
- الأرز باللبن؟ نعم أنا جائعة.
أومأت لها حفيظة، تهمس لها بعبارات اطمئنان وهي تسحبها بروية بعد أن ضمت كتفيها ثم أشارت لبهيج الذي أومأ لها بدوره شاكرا يتنهد بتعب، وصوت جدته يتسلل الى أعماق جسده المنهك فيهز جنباته بفعل كلماتها التي يعتبرها من حولها مجرد خزعبلات صادرة عن عجوز خرفت بفعل الزهايمر:
- كنت أطارد عفريتا بائسا مطالبه كثيرة وما يفعله قليل...قليل جدا، ذاك البائس يتجسد في قطة سوداء ويظن بأنني لن أجده، لقد جعت بالفعل... من أنت يا فتاة؟
تقدم بخطوات واسعة وانعطف نحو الشارع إلى محل فواز الذي وجده على غير عادته، متجاهلا زبوناته بينما يطالع صفحة هاتفه:
- خيرا! ما هذا الذي سلبك اهتمامك الأثير بالزبائن.
غمزه وهو يشير إلى فتاة تبتسم لهما فنظر إليه فواز بضيق، وهو يريه صفحته على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ويحدثه بقلق:
- يبدو أن مؤنس أبكر الليلة في سُكره، ما السبب يا ترى؟
قطب بهيج جبينه وهو يقرأ منشورات مؤنس المتتالية على صفحته قبل أن يرفع عينيه إلى فواز، يجيبه بينما يحرك رأسه بخفة:
- قد لا يكون ثملا كما تظن.
ركز عليه بأنظاره مخاطبا إياه بجدية:
- تعرف أن مؤنس لا يعبر بتلك الصراحة الوقحة على صفحته إلا إذا كان ثملا، قم واذهب إليه في مكانه المعتاد، وانزع منه الهاتف وابق معه حتى يأتي جرير فهو من يعيده إلى بيته، وأنا سألحق بك بعد صلاة العشاء.
استقام بهيج بظهره بعد أن كان مستندا على الحاجز الزجاجي، مستنكرا بضيق:
- ولماذا أذهب إليه أنا؟ هل كُتب على جبيني مراقبُ المجانين؟ ألا يكفي أنني تركت عملي لأقضي اليوم في البحث عن جدتي لكي أختمه بمجالسة مجنون آخر يفقد عقله برغبة منه ويفضح الناس بعدها بمنشوراته!؟
تأفف فواز بقلة حيلة وبهيج ينزع مطاطة شعره الصغيرة ليعيد جمع خصلاته الشقراء بها بينما يضيف بفضول:
- ولماذا ستذهب للمسجد؟ صل هنا ولنذهب سوية إلى المجنون الآخر!
مسد على جبينه وأذان العشاء يرتفع في الأجواء، فاستدرك بهيج ببعض التسلية:
- ها هو يؤذن، صل هنا، وأنا سأحل محلك إلى أن تفرغ من صلاتك.
كان ينظر بعبث إلى فتاتين تتفقدان الزجاجات على الرفوف، فزفر فواز بحنق أضحك بهيج الذي أشار له نحو السجادة المطوية على أحد المقاعد الجلدية السوداء فاستسلم الأخير وأطاع صاحبه:
قرر بهيج التسلية بالفتاتين ريثما ينهي صديقه الصلاة، وظل يخاطبهما ببسمة لعوبة ونظرات وقحة دفعت بهما إلى الفرار خجلاً فضحك بخفة قبل أن يلتفت إلى فواز الذي يطوي السجادة ويعاتبه بانزعاج:
- سيفِر الزبائن من محلي بسببك..
- حقا!؟ بسببي أنا؟!
تساءل بهيج بمزاح فمط فواز شفتيه بامتعاض واستل مفاتيحه من العلاقة بينما يجره من كم قميصه الشبابي الأحمر، قائلا له بنفس الامتعاض:
- أخرج من محلي بقميصك الأحمر هذا، أنت وألوانك الغريبة! متى سترتدي ثيابا لائقة مثل خلق الله؟
خلص نفسه من براثن فواز وتراجع يراقبه وهو يغلق محله، محدثا إياه بنفس أسلوبه الممازح:
- حين يشملكم التحضر مثل بقية الخلق، وتعترفون بالحريات الشخصية وأن ما أرتديه لا دخل لعقولكم الرجعية به!
تأفف فواز مرة أخرى، يلقي نظرة على هاتفه فيستعجل خطواته كما سارع بالقول:
- يا إلهي! لقد بدأ بالمنشورات السياسية، سيذكر الخواجا أنا متأكد من ذلك.
حث بهيج خطواته ملاحقا إياه، وكلامه يتقطع بفعل ضحكه:
- وهل تخشى على الخواجا؟ من المفترض أن أخشى أنا يا صاح!
ثم قهقه عاليا وفواز يشتمه ويشتم مؤنس الذي فعلها وذكر الخواجا في منشوره التالي.
*يقولون بأن الطيور على أشكالها تقع! فعلا! الخواجا وقع علينا من السماء دون سابق إنذار، ونحن أشكاله على ما يبدو فهو مرآتنا الحالية، وإذا أردتم معرفة أشكالنا فانظروا إلى شكل العمدة الخواجا! لكنني لا أظن بأننا محظوظون إلى تلك الدرجة لنظفر بجمال كجمال خِلقة العمدة الخواجا! ممم! معضلة حقا، هل هو أشكالنا أم نحن أشكاله؟*
***
في مكان آخر، تحديدا رحبة المسجد عند الركن المفضل لمحسن كانت شفتا نبيه تنشق عن بسمة متحفظة وهو يقرأ نفس المنشور.
- لابد من أنه أمر مختلف هذا الذي انبسطت له شفتاك.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


استجاب له وقد نال منه التعب بالفعل وتخصر الحاج ناظرا إلى حِزم القش التي ملأت الحقل ولم يتبق بالفعل من العمل الكثير ثم انحنى ليخرج بعض الطعام ووضعه أمام العابس المرهق بينما يخاطبه بحنو ورأفة:
- كل يا بني، كل واذهب لتغتسل وترتاح قليلا، لقد أنهكت جسدك.
رفع وجهه الأبيض الذي احمر من الشمس بملامحه البارزة ككل شيء فيه، يتمعن النظر في وجه الحاج كأنه يبحث فيه عن شيء ما قبل أن يومئ له باستسلام بينما يلتقط قطعة الخبز ويدسها في فمه، يشعر بأن صدره سينفجر والحقل على ما يبدو لم يعد كافيا... ليس كالسابق...لم يعد كافيا! ما الذي دهاه وما الذي يحدث معه؟!
انتفض واقفا فنظر إليه الحاج عبد البر مقطبا جبينه بحيرة يصغي لنبرته المفعمة بالحيرة والتوتر:
- انتهى عملي هنا يا حاج، العقبى للعام القادم بإذن الله.
ثم ألقى بمفتاح الجرار نحو رضوان الذي التقطه ببراعة مَن تَعود على ذلك:
- أعده إلى حقلي وتفقد علوان هناك إذا كان ما يزال موجودا.
لم يهتم برد رضوان وانطلق مغادراً بهيئته الضخمة في ذلك الرداء الأزرق الغامق:
- جرير!
ارتفع رأسه تلقائيا لمن يناديه فتلفت حوله واكتشف بأنه تجاوز سور المسجد القاطع لعرض وادي الحقول الواصل بين الضفتين.
- مرحبا بك، لماذا لم تدخل لتسأل عن محسن؟ تعلم بأنه يحب زيارات الأصدقاء.
صافح يوسف ثم مسح على صفحة وجهه المنهك بينما يجيبه بود:
- كيف أدخل الى المسجد بحالتي المزرية هذه؟ هل كنت عنده؟
جاوره في المشي وهو يجيبه مستشعرا بؤس حاله دون أن يفوته تفحص صديقه المبهم له:
- أجل، صليت العصر وبقيت معه قليلا.
- هل تصلي في المسجد دائما يا يوسف؟
عبس المعني حيرة من سؤاله المفاجئ وإن تلفظ به بهدوء:
- أقصد...
توتر جرير قبل أن يعبس بجدية وكلما عاينت مقلتاه صديقه تعودان بحسرتهما من مظهره الأنيق بل المبهر، فلا ينقصه كمال الأخلاق مع كمال الخِلقة:
- هناك! في البلد الأجنبي، هل كنت تحافظ على الصلاة في المسجد أم لأن هنا محسن؟
ضحك يوسف برده متفهما مخاوف صديقه، فحديثه المطول مع محسن ونبيه منحه فكرة عامة عن حال الوادي بكل ساكنيه وليس فقط أصدقاءه:
- الرب واحد في كل مكان يا صديقي، في البلد الأجنبي وهنا.. لا أنكر بأن هناك مع أشغال الدراسة ثم بعده العمل يحول بيني وبين الحضور الدائم للمسجد، فأجاهد نفسي وأحاول قدر المستطاع لكن حتما أصليها في وقتها أين ما دخل علي بفضل الله ونعمته.
رمقه بنظرة ذات معنى التقطها جرير فلوح بكفه، قائلا له بانزعاج.
- أعلم بأنك الكامل ابن الأصل الكريم، لا تزعج رأسي المتضخم بمشاكله!
طوق يوسف ذراع صديقه، يلتصق به كالأيام الخوالي بينما يصدر ضحكة رائقة وهو يجيبه بخفوت:
- لستُ كاملا وأنت تعلم ذلك جيدا، على العموم لا تخش على عصفورتك مني، عيب عليك! أنا صديقك يا جرير.
رمقه بطرف مقلتيه هامسا له بامتعاض:
- كنت لأقص لسان نبيه لكنه أبكم، ومع ذلك لا يستطيع الحفاظ على لسانه، لذا سأقتله وأريح نفسي.
قهقه يوسف بشدة حتى دمعت مقلتاه فارتسمت على شفتي جرير بسمة أشار إليها الأول ضاحكا:
- الحمد والشكر لله، جرار الحقول يبتسم.
رفع حاجبه وهو يدير إليه وجهه ساخرا:
- ها أنت ذا تناديني بلقب وتأثم، لقد كنت مخطئا وأنت فعلا لست بكامل.
وضع يوسف كفه على كتف صديقه ليوقفه وقد استقبلا بيتا كبيرا ذو واجهة مختلفة عن أغلب بيوت وادي الحقول، بشرفة لكل طبقة من طبقاته يحدها سور حديدي أسود، مقوس ومزخرف بورود فضية:
- أعتذر إليك يا جرير واسمك فوق رأسي، تفضل عندنا لنتحدث قليلا لقد اشتقت إلى الحديث معك.
هز رأسه رافضا وهو يربت على ذراعه فيتأمل شكل هندامه المرتب النظيف رغم بساطته؛ قميص أبيض وسروال أسود من النسيج الناعم الملمس، لطالما كان يوسف أكثرهم أناقة قد يكون محسن الشبيه به نظافة لكن الذي يقف أمامه حتما يفوقهم أناقة حرصت عليها والدته منذ الصغر، كيف لا تفعل؟ وهي ابنة رئيس المجلس البلدي الذي عين بالتصويت المكتسح، فاز به حزبه بعد أن انتقل من العاصمة إلى البلدة بمدة قبل التعيين المفاجئ. الجميع يعلمون بأن جد يوسف الحاج ناصر الخواجا ليس من أبناء وادي الحقول، رغم زواجه الأول من ابنة الحقول جدة يوسف وزواجه الثاني من ابنة الشرفاء إلا أن الجميع لا ينسى أبدا الغريب الذي أصبح فجأة رئيسا عليهم:
- حتما لن أدخل إلى قصركم هذا بهيأتي هذه؟ والدتك ستفصل رأسي عن جسدي!
فَكَّهَ يوسف صديقه وناظره بمرح:
- أنت تظلم والدتي بالمناسبة، وكل ما ستطلبه منك أن تأخذ حماما وتعتني بنفسك قليلا.
هز رأسه بيأس، ملوحا له وهو يبتعد:
- إلى اللقاء يا ابن الأصل الكريم.
- جرير!
ناداه يوسف بلطف فاستدار إليه بترقب:
- دعنا نلتقي في رحبة المسجد كالأيام الخوالي، من فضلك! لقد اشتقت إليكم.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


زفر جرير قبل أن يجيبه بنفس الهدوء الذي أرخى ملامح وجهه المتشنجة:
- سآتي لصلاة العشاء إن شاء الله، أشعر بإرهاق شديد، سأستحم وأرتاح قليلا.
أومأ له بفرح شعت به قسماته ونبرة صوته:
- إن شاء الله... سأنتظرك!
رحل جرير ولم ير فرح يوسف الذي اختفى فجأة ما إن استدار ليشمل واجهة بيت جده بنظرة جامدة قبل أن يُخرج نفسا عميقا، وناقما بينما يتقدم نحو بابه مستلا المفاتيح من داخل جيب سرواله. توقف عند الباب الداخلي ليدقه بهدوء منتظرا رغم المفتاح الذي بحوزته، وحين فُتح تنفس براحة بعد ترقب مزعج، وضم الشعلة التي ألقت بنفسها بين ذراعيه هاتفة بدلال:
- جو حبيبي أهلا وسهلا بك... أتيت في وقتك.
مط شفتيه بينما يبعدها عنه معاتبا بخفة وهو يغلق باب المنزل، وعيناه تنظران بتفحص خفي هنا وهناك:
- بما أنك ناديتني بجو فلا مرحبا بي، تعلمين بأنني أكره ذلك اللقب، وحتما لن أوافق على الاستغلال الذي لابد من أنه سيلحق بتملقك هذا.
ضحكت وهي ترمي خصلاتها المموجة والمصبوغة باللون الذهبي خلفاً، لتكشف عن ملامحها المنمنمة الصغيرة تحمل من الجمال الكثير كما هو حال أغلب أفراد عائلتها، والذي ورثوه عن جدهم ناصر الخواجا:
- حسنا ...حسنا يا يوسف! أخي حبيبي الذي لا يرفض لي طلبا.
ارتفع حاجبه بتوجس، وناداها باسمها محذرا:
- سارة!
فاقتربت منه بقامتها القصيرة تثرثر إليه بمشاكسة:
- هناك رحلة نظمتها جمعية تعاونية وادي الحقول لزيارة الجبال السوداء المحيطة بالوادي، وماما ترفض ذلك وبشكل قاطع مع أن أغلب شباب الوادي سيذهبون.
تشكلت الحيرة على محياه بعدما اتخذ لنفسه مجلسا على إحدى أرائك بهو الاستقبال المُبلط برخام فخم كباقي أثاثه وديكوراته الباهظة الثمن ثم سألها:
- ولماذا رفضت هذه المرة وكنا دوما نختلف على سماحها لكما بالرحلات المدرسية هناك؟
هزت كتفيها تجيبه بانزعاج وهي تدس كفيها في جيبي سروالها الأزرق الشاحب القصير إلى حدود الركبتين، عليه قميص بنفس اللون قصيرة الكمين:
- طرحتُ عليها نفس السؤال، وكان ردها عدم تأكدها من مدى جودة الأمن هنا، أرجوك أخي أنا متشوقة لزيارة تلك المناطق، لا تتخيل مدى فضولي لأرى بنفسي ما سمعته عنها.
- فضولك ما سيقتل روحك المجنونة هذه يوما ما.
تدخلت أختها التوأم مقتحمة المكان عليهما، وجلست على ركبتي يوسف لترخي رأسها على صدره بينما تطوق خصره لتفر من نظراته المعاتبة لها، فتخصرت سارة هاتفة باندفاع:
- ألا يكفي أن ماما قررت فجأة عودتنا دون حتى أخذ رأينا؟ وضيعت علينا سنة دراسية كاملة سنضطر لإعادتها هنا السنة المقبلة؟ نحن ناضجتان بالمناسبة ونستطيع العودة، فلقد أتممنا الثامنة عشرة قبل شهرين ومن حقنا الاستقلال بحياتنا، وبالتأكيد من حقنا اتخاذ قرارات خاصة بنا دون تدخل من أي شخص.
فتح يوسف فمه حين سبقته التي تلوذ بحضنه كقطة ضعيفة، تخفي خوفها من الماضي والحاضر والقادم على حد سواء بين ذراعي أخيها الآمنتين:
- تحدثي عن نفسك، أنا لا أريد لا الاستقلالية ولا اتخاذ قرارات مجنونة، ومن الأفضل أننا عدنا من هناك مع أنني لست واثقة من هنا تمام الثقة أيضا.
أطرق يوسف برأسه نحوها، يتأمل وجهها المطابق لوجه سارة خِلقة لا ملامحا، فشتان ما بين نظرات سارة المجنونة دوما والمليئة بالحياة وبين نظرات أختها الهادئة والحذرة طوال الوقت رغم امتلاكهما لنفس العينين الضيقتين السوداوين، وشتان ما بين شفتي سارة الضاحكتين باستمرار وبين شفتي أختها المطبقة جل الوقت:
- سَلا!
همس لها بحيرة من أمرها، فمرغت وجهها على صدره تشد من ضمه إليها بصمت والأخرى تهتف بحنق:
- ماذا عن الرحلة؟
مسّد يوسف جبينه بتفكير قبل أن يرفع رأسه إليها، تنظر إليه بعبوس من علو وعلى توأمها المُندسَّة داخل حضنه ثم قال لها:
- سأفكر وأسأل أولا ثم أرد عليك، متى موعد الرحلة؟
- بعد غد.
لم تكن تلك سارة التي ردت عليه، وبلا شك لم تكن السبب في تصلب أطراف يوسف الذي حاول إبعاد شقيقته سَلا بحنو استجابت له بسلاسة تشاركه الشعور بعدم الراحة:
- جيد أنك أتيتِ رواند! هي من أعضاء الجمعية وستشرح لك.
لم تفارق عينا رواند المرسومتين بدقة عالية وبلون ذهبي تماما كلون مقلتيها تَكَوُّرَ سلا داخل أحضانه ولا تشنجه الذي أرضاها بشكل ما وهو يبعد أخته بحنو لمعت له نظراتها الولهة، تخبره ببسمة ناعمة كنعومة كل شيء فيها حتى فستانها الحريري بلون الذهب المنساب على جسدها المتوسط في امتلائه كلون طرحتها الكاشفة عن مقدمة رأسها حيث تنساب خصلات حريرية بلون العسل الغامق حول وجهها:
- اسألني ما تريده وأنا سأجيبك، مع أنني أفضل وأتمنى أن تأتي معنا ونتشرف بحضورك بيننا.
زفرت سلا بضجر وهي تقف بينما تلملم خصلتها السوداء ثم استأذنت شقيقها:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- واعدت نُهيلة لأزورها في بيتها، ولا أستطيع التنصل من طلبها هذه المرة.
نهض هو الآخر، يرمقها بامتنان للفرصة التي منحتها له وضم كتفيها بينما يسألها بلطف:
- هل أخبرتِ أمي؟
- أخي ماذا عن الرحلة؟
هتفت سارة مجددًا فأدار رأسه نحوها، مستمرا بتجاهل الأخرى:
- سأجيبك غدا إن شاء الله.
ثم عاد إلى سلا يسمع منها ردها وهما يقتربان من باب المنزل:
- أخبرتها ولم ترفض، فليس كل ما أطلبه بجنون مطالب أختك المجنونة.
عاتبها وهو يقبض على أرنبة أنفها بإصبعيه:
- لا تقولي على أختك مجنونة ثم هي توأمك بالمناسبة والمطابق أيضا.
رفعت كفيها هاتفة برعب مزعوم:
- لا من فضلك اسحب كلامك حالا! هذه تهمة بشعة.
ضحك بيأس، يراقبها بينما تستدير لتفتح الباب فناداها بلطف معاتب:
- سَلا!
التفتت إليه مستفسرة قبل أن تُقلب عينيها بضجر من نظراته ذات المعنى نحو لباسها المكون من سروال جينز أخضر غير ضيق بجيوب مربعة على جانبيه وقميص بفتحة عنق مثلثة ثم خاطبته بعبوس طفولي وهي تكمل طريقها نحو الخارج:
- لم أتحجب بعد، لا تيأس! قد تتحقق دعواتك يوما ما، سلام!
تركته يتنفس بقلة حيلة ورحلت تفكر في مدى كرهها لرؤية شقيقها حزينا أو متعكر المزاج لأي سبب كان، أقرب شخص إليها بعد والدها الحبيب ويأتي بعدهما جدها إبراهيم آل عيسى رحمه الله الذي لم يمنحها القدر وقتا أطول للتعرف إليه، ولا تملك سوى ذكريات قليلة جدا ومكالمات كثيرة بينها وبينه حتى باتت تفكر في القدوم للوطن رغم اعتراض والدتها الدائم إلى أن استيقظوا يوما على قرارها الصادم بالعودة دون رجعة، لكن بعد ماذا؟ توفي جدها الذي اشتاقت رؤيته وجها لوجه لتتنعم بنعمة الجد الحنون الذي لطالما قرأت عنه في القصص والحكايات، وذلك الذي لم تشعر به نحو جدها الآخر والد والدتها.
نحّت أفكارها جانبا حين تراءى لها باب بيت نهيلة الخشبي بنقوش فضية، فبسطت يدها نحو الدقاقة الفضية التي أحبت شكلها منذ أن لمحتها وسحبت طرفها بخفة قبل أن تدق بها قاعدتها مرتين.
فتح الباب وأطلت خلفه فتاة بملامح أنثوية عادية لكن حلوة، بسمتها المشاكسة تكاد تذكرها بتوأمها إلا أن المدة القصيرة التي قضتها في التعرف إليها منذ أن قدمت إلى البلدة أظهرت لها الفرق الشاسع بين شخصية نهيلة وشخصية سارة.
- وأخيرا جئت إلينا، تعالي معي، مرحبا بك.
وجهتها نحو قعر الدار حيث وقفت سلا بخجل تتفحص المساحة الشاسعة غير المسقوفة، تتوسطها نافورة ماء من الزليج التقليدي القديم، تحوم حولها أُصُص زرع مختلف؛ ورود وحبق وأعشاب أخرى ثم أطرقت برأسها تتأمل الأرضية المبلطة بالسيراميك على شكل معينات سوداء وبيضاء تنحسر عند حدود الأحواض الجانبية لأشجار الزيتون والتين والرمان:
- هل انتهيت من تفحص المكان؟
هتفت نهيلة ضاحكة فرمشت سلا بحرج تخبرها بينما تستسلم لكفها التي قبضت عليها مجددًا، تسحبها إلى ركن يحوي أريكتين بقواعد خشبية وفراش قطن مريح:
- أعتذر إليك، بيتكم جميل جدا.
ألقت نهيلة بالطرحة التي نزعتها عن رأسها جانبا فنظرت سلا إلى شعر صديقتها الذي تراه لأول مرة، معجبة بضفيرتها الطويلة بلون بني مائل لحمرة قاتمة، مسترخية على كتفها الأيمن فتهتز مع اهتزاز صاحبتها ذات الخدين المكتنزين ككل شيء فيها:
- ولماذا تعتذرين؟ شكرا لك! أعلم بأن بيتنا جميل لكنه لا يصل إلى نصف جمال منزل جدك.
أمالت سلا رأسها تهم بالرد عليها لكنها توقفت حين سبقتها صديقتها بثرثرتها كما اعتادت منها:
- لا تظني بأنني أحسدكم، حفظ الله عليكم المال والجاه وبارك لكم.
ثم أصدرت ضحكة رائقة علقت بشفتيها طوال حديثها الذي لا ينقطع:
- دعك من البيوت، سمعت أن شقيقك عاد، هل هو حقا فائق الجمال مثلما يقولون؟
فتحت سلا فمها لتجيبها لكنها قاطعتها مجددًا تستدرك بحماس:
- يقولون بأن له حظا من جمال النبي يوسف عليه السلام.
ثم شهقت وهي تكمل بنفس الحماس المتردد بين الضحك والدهشة:
- طبعا سيكون جميلا إن كان يشبهك أو يشبه والدتك، أو حتى جدك، فناصر الخواجا في عمره الكبير هذا وما يزال يتمتع بجاذبية مختلفة عن أهل البلدة.
حافظت سلا على صمتها المتأمل، ترافقها بسمة هادئة قلما تزور شفتيها وجوار أناس مختارة من بينهم هذه الفتاة حلوة المعشر ككل شيء فيها حتى حركات كفيها المكتنزتين تشير بهما هنا وهناك عادة تظن بأنها اكتسبتها لسبب معلوم:
- هييييه! لماذا أنت صامتة؟ قولي شيئا!
بللت سلا شفتيها بخجل ترمقها بعتاب مرح، والأخرى تضيف بسخرية فكاهية:
- حتى أخي نبيه يتحدث أكثر منك.
وعلى ذكر شقيقها تلفتت سلا باحثة عن الذي لم تلمح له طرفا سوى مرة واحدة لا تظن بأنه لمحها أو عرفها فيها، وهو مطرق برأسه حين أتى إلى شارع الشرفاء ليرافق نهيلة بعد جولة استغرقت بهما وقتا طويلا نسيتا فيها نفسيهما تماما حتى مرت الساعات وانشغل بال ذويهما:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


ثم ضحكت تكمل ببشاشة ابتسمت لها صديقتها وهي تمد كفها لتلتقط قطعة منها:
- تلك الهواتف أصبحت لعنة كفوف البشر حتى أنا بعدما كنت أستهجن الأمر، ما إن تعلمت القليل من أولادي حتى أصبحت آنس به؛ مكالمات وطبخ وكل شيء قد يخطر على بالك.
بلعت نوال ما في فمها، مشيرة لها بكفها المليئة بأساور تلمع بصفرة فاقعة بينما ترد عليها بتشدق تشكل على ملامح وجهها:
- أي لعنة يا عِناية؟ إنه مفيد جدا ولا أستطيع مفارقته، يقضي الحاجات يا صديقتي.
ضحكت عناية وقامت من مكانها وهي تقول لها ببشاشة:
- أوشك وقت الضحى على الخروج، ألا تأتين معي نتوضأ ونصلي الركعتين.
أشارت نوال إلى القدور على الموقد وهي تجيبها بينما تلوك قطعة كعك ألقتها في فمها:
- ومن سيراقب هذا كله؟ قد يحترق إن غفلنا عنه.
ثم أمسكت بذراعها تحاول إعادتها إلى كرسيها متابعة تفسير وجهة نظرها الفذة:
- صلينا الصبح ونافلة الإشراق أيضا، لابأس إن فوتنا الضحى من أجل إطعام العمال أليسا نفس الشيء، كله في سبيل الله، اجلسي واستريحي قليلا سوف تقعين من كثرة ما تقفين على رجليك.
بارتباك جلست عناية تحاول مهاودتها، فلا أحد أدرى منها بطبع صديقتها مثلها:
- حسنا سأرى الحاج وآخذ إليه الشاي، لابد من أنه أنهى حمامه.
أومأت لها بصمت مكتفية بطحن ما بين فكيها والنظر نحو من أوقفت شقيقتها في ما يظهر لها من ردهة البيت.
***
(قبل قليل)
جمعت سجادة الصلاة بعد أن فرغت منها وقد استحمت قبلها بسرعة ودهنت جسدها بالمسك الأسود ضمن طقوس تربت عليها بين يدي جدتها، أن لا تطيل من وقت عري جسدها كما لا تطيل المكوث في الحمام، والأهم فيما لقنته لها جيدا وكأن حياتها كلها يتوقف عليه هو ذكر الله في كل تقلب أو حركة، دخول أو خروج، قيام أو قعود، لكل أمر في يومها ذكر خاص أو عام صحيح عن لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تحفظه عن ظهر قلب حتى التحم بلسانها وأضحى يلفظه تلقائيا.
نزعت طرحتها وعباءة الصلاة لتعلقهما فوق المشجب ومسدت على شعرها وهي تقف أمام طاولة الزينة الخاصة بغرفتها التي تتشاركها مع شقيقتها، ترتدي منامة منزلية مكونة من قميص طويل وسروال بلون زهري مطرز بورود صغيرة.
فرَدت خصلاتها السوداء المبللة وبدأت تدهنها بزيت جوز الهند ولسانها لا يهدأ كعقلها المشغول طوال الوقت.
جمعت شعرها بقراص الشعر ثم توجهت إلى المطبخ إلا أنها لمحت شقيقتها تدخل عبر الباب وهي تلوي ذراعيها في الهواء مبتسمة بمرح، وتدور برأسها المكسو بنفس نوع الطُّرَح الطويلة.
نادتها فلم يبد عليها بأنها سمعتها فقلصت المسافة بينهما لتسحب الخيط الأبيض الطويل الواصل بين جيب ردائها المنزلي المشابه لخاصة شقيقتها بلون أحمر وبين أذنيها، فانتفضت مجفلة قبل أن تشق شفتيها عن بسمة كبيرة بينما تضم ذراعي تقوى تسحبها معها في دوائر وهمية تراقصها على نغمات تنساب من السماعات المعلقة بكف الأخيرة التي ترمقها ببلاهة ممتعضة:
- كلمات ليست كالكلمات.....
أوقفتها تقوى زاجرة بيأس من تصرفاتها البلهاء:
- يا إلهي! أصبتني بالدوار يا صفاء.
ضحكت أختها وهي تسحب هاتفها من جيب قميصها لتغلقه بينما تقوى تكمل حديثها الحازم:
- هل تأكدت من إنهاء العاملتين للأشغال عند البهائم؟
أومأت لها والبسمة الرائقة ما تزال على شفتيها، تجيبها بمرحها المعتاد:
- نظفتا رحبة البهائم من الفضلات، وتم إطعام الخِراف والدجاج وجمع البيض، كما تم حلب البقرة ومعزتيك الجميلتين وبالطبع تم إطعامهم.
هزت تقوى رأسها دون أن تتخلى عن واجهتها الجادة ملوحة بخيط السماعات:
- ألم نتفق على التقليل من سماع الأغاني؟
ضمت صفاء شفتيها إلى الأمام متلاعبة بمقلتيها كحولاء فضحكت تقوى رغما عنها، واستدركت بنفس اليأس من تصرفات شقيقتها المشاغبة:
- اذهبي لتستحمي!
زفرت تهم بالرفض فدفعت بها نحو غرفتهما بنبرة آمرة لطيفة:
- الآن وحالا! رائحتك نتنة ولا تنسي المسك وماء السدر، لقد تركت لك قنينة على المنضدة.
عبست بطفولية وهي تسير مرغمة:
- سأفعل أيتها المستبدة!
توقفت تقوى تُشيعها بنظرات حانية قبل أن تتسع بسمتها وشقيقتها تعود كما توقعت منها لتضمها بقوة كما تركتها تنتش منها خيط السماعات وتهرول نحو الغرفة ضاحكة بمشاكسة.
التفتت نحو المطبخ وتوقفت فجأة تشعر بقلبها ينقبض من نظرات الخالة نوال، جارتهم التي تقربهم شقيقة زوج خالتها والدة بهيج رحمها الله، وهي أيضا والدة حفيظة واحدة من صديقاتها المقربات. لطالما شعرت بنفور نحو تلك المرأة بعكس المحبة التي تكنها لابنتها التي تعزها كرفيقة كبرت معها وعاشت برفقتها سنوات حياتها الأربع والعشرين.
- أهلا بعروسنا الجميلة تقوى.
ابتسمت لها بهدوء وهي تعبر عتبة المطبخ، مجيبة بلطف:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- مرحبا بك خالة نوال... كيف حالك؟
أنهت كأس الشاي خاصتها ووضعته أمامها وهي ترد عليها باسمة:
- أنا بخير، حفيظة اخبرتني بأنكن اتفقتن على أن تجتمعن في بيت أهل زينة.
هزت تقوى رأسها بينما ترمق كؤوس الشاي برغبة واضحة في احتسائه فبادرت بصب واحد لها، وهي تسترسل بحديثها:
- اجلسي! لابد من أنك تعبة وجائعة، اشربي كأس للشاي وكلي من الكعك إنه لذيذ، سلمت يداك ...أخبرتني والدتك بأنه من صنع يديك.
كانت تقوى قد جلست تصغي إليها وقلبها لا يفتر عن انقباضه كما هو شأنه دائما في حضرتها:
- أنت وحفيظة وزينة وأختك صفاء في عمر الورد، فتيات جميلات بأخلاق عالية، لا أعلم سبب النحس المسلط عليكن ليتأخر بكن الزواج هكذا؟ أنت وزينة وحفيظة تخرجتن من الجامعة قبل سنتين وها هي صفاء على وشك التخرج هي الأخرى، لا أدري ماذا حدث للشباب؟ هل فقدوا أبصارهم أم ماذا يحدث معهم؟
ثم ما لبثت أن تلكأت قليلا في صمتها قبل أن تلمع مقلتاها السوداوين واللامعتين بكحل عربي ثقيل تكمل بينما تضم طرفي وشاحها الأسود المطرز بنقوش حمراء بارزة بأشكال متداخلة غير واضحة المعالم حول عنقها:
- مع أن الحق يقال، شاب من خيرة شباب الوادي يطلب رضاك ليل نهار وأنت ترفضين وتدللين عليه، أعترف بأن لك قدا رشيقا وطولا فارعا، وشعرا طويلا لامعا...
ارتفع حاجبا تقوى ترمقها بملامح تصلبت على هيئة الذهول والأخرى تنحني نحوها وكأنها ستهمس لها بسر بخلفية خلخلة أساورها الذهبية:
- لكن عزيزتي لا تعتمدي على ذلك كثيرا فالحقول مليئة بفتيات مثلك، بقد رشيق وملامح أكثر جمالا وفتنة، وجرار الحقول ذاك في النهاية رجل! سيمل من دلالك ويلتفت إلى أخرى...هكذا!
قرعت اصبعيها أمام عيني تقوى مجفلة إياها فرفت الأخيرة بجفنيها متعجبة، فقامت نوال لتفقد القدور حين ختمت حديثها مشيرة الى الشاي:
- اشربي الشاي هيا! وفكري جيدا، قد تكونين أول من يكسر اللعنة وينصلح حال البقية.
خفق قلب تقوى وملامحها ما تزال متصلبة ومذهولة لكنها وبسرعة استغلت انشغالها بالقدور، وهمست باسم الله لتفرغ محتوى كأسها في جوفها ثم وضعته مكان كأس نوال وأخذت كأس الأخيرة تضمه داخل راحة يدها، وهي تتلو آية الكرسي بهمس خافت.
- ما بك يا فتاة؟
انتفضت مجفلة من سهوها مرة أخرى، تتنفس بقوة وهي تركز بعينيها علي كحل مخاطبتها قبل أن تنقل نظراتها نحو براد الشاي رهين قبضتها.
- أراك عطشانة، هل أصب لك المزيد؟
أومأت لها تقوى رافضة وانسحبت مستأذنة منها بارتباك، ثم أسرعت نحو مغسلة خارجية عبأت فيه الكأس الذي خرجت به فجأة كي لا تسألها الأخرى بالماء، ودون تردد أفرغت محتواه على رأسها وهي تتلو المعوذتين.
تمالكت أنفاسها ولاذت بغرفتها تشغل شقيقتها عن الذهاب إلى المطبخ بأي شيء وكل شيء حتى نادتهما والدتهما لتساعداها، وكم ارتاحت حين لمحت جارتهم نوال تغادر لتطمئن على أهل بيتها وتحمل لهم من الغداء الذي ساعدت في تجهيزه لعمال الحصاد.
- أراك لاحقا يا عناية!
هتفت وهي تغادر نحو بيتها الملاصق لبيت الحاج عبد البر، والذي يشاركه واجهته شكلا ولونا، طلاء بني مائل للحمرة ونفس الباب الخارجي الحديدي الذي دفعته بخفة لتعبر نفس المساحة الصغيرة التي يتركها الجميع بين الباب الخارجي والداخلي، منهم من زرعها لتتحول إلى حديقة خلابة تهفو إليها النفوس ومنهم من جهزها مجلسا مزينا بأصيص الورود، ومنهم من أهملها لا ينتفع منها بشيء تماما كأهل هذا البيت الذي ما إن ولجته حتى ظهر لها زوجها يصيح ساخطا:
- أين تأخرت يا امرأة؟ هل تنسين بأن لك بيتا؟ ألا تملين من التسكع في منازل الخلق؟
زفرت تقلب مقلتيها دون رد تتجاوزه نحو المطبخ حيث وضعت سلة الطعام فوق الحاجز الرخامي قبل أن ترفع كفيها لتنزع عنها الطرحة كاشفة عن أخرى سفلية أصغر وحمراء (بندانة).
- هل أحدث نفسي يا امرأة؟
كانت حفيظة قد أسرعت إليهما في المطبخ الذي رتبته آنفا، لتقف بينهما استعدادا لوصلة صراخ جديدة، ترمق والدها بجلبابه الخارجي وقد دخل لتوه بعد أن قضى نهاره كالعادة برفقة أصدقائه من نفس سنه على مقهى شارع الشرفاء.
- ارحمني من نعيق الغراب هذا، كنت أساعد عناية في إعداد الطعام لعمال الحصاد، وها قد أحضرت معي خيرا كثيرا يكفينا ليومين.
رفع وجهه المجعد تأثرا بدوام السخط أكثر من مرور الزمن، يرمق السلة بتمعن قبل أن يلوح بكفيه مغادرا المطبخ:
- إن كنت أنا غراب فأنت البومة التي حلت بالخراب على بيتي وحياتي!
تخصرت نوال بصلف تصيح بكل ما يحمله قلبها من كره له:
- إن كنت بومة يا بدران طلقني! طلقني واخرج من هنا إن كنت رجلا بحق!
عاد مستنفرا بغضب، يصيح بدوره فيهز جدران البيت:
- إنه بيتي يا بومة! بيتي الذي لا أعلم حتى الآن كيف جعلتيني أنقل ملكيته إليك!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


فتحت فمها لترد عليه باستهجان فأمسكتها حفيظة مهادنة تتوسل إليها:
- من فضلك يا أمي! أتوسل إليك.
ثم استدارت إلى والدها تمسك به هو الآخر تقبل ظهر كفه، تترجاه باستعطاف:
- أرجوك يا أبي، اذهب إلى غرفة الجلوس سأحضر لك الطعام.
نفض يدها عن كفه والتفت مغادرا إلى غرفة الجلوس بينما حفيظة تعود إلى والدتها، تخبرها بملامح عتابٍ لم يغادرها بعد:
- بهيج كان هنا يا أمي!
أنقضت على ذراعها، تسألها بقلق دب في أوصالها فجأة:
- هل أدخلتِه إلى البيت؟
هزت رأسها بسرعة، تجيبها بخوف:
- لا، لا! سمعت ما جاء من أجله خارجا، على أي حال كان يبحث عن جدتي زهرة، خرجت مجددًا ويبحثون عنها.
تركت ذراعها فرفعت حفيظة كفها تمسد به موضع قبضتها المؤلمة بينما تنصت إلى حديثها الساخط:
- لابد من أنها في مكان ما بين الأزقة، سأستحم وأنت ضعي الطعام لوالدك لعلّه يريحنا من طلته البائسة حين يملأ بطنه ويعود الى أصدقائه العجائز في المقهى.
تنفست حفيظة بيأس وقنوط لكنها كانت قد تعودت على حياة أهلها التي أجبرت شقيقها على الهجرة من الوطن بأكمله كما أجبرتها هي على التعود والاستسلام مع أمنية يومية، ملحة بأن يرسل لها الله طوق نجاة من بؤس حياتها.
مسدت على موضع قبضة أمها ثم بدأت بإشعال الموقد تحت القدر الذي أخرجته من السلة بينما تفر بأفكارها إلى ما ينسيها بؤس عيشهم فتفتر شفتاها عن بسمة خفيفة إزاء تذكرها موعدها مع صديقتيها ثم شردت بأفكارها في ذكريات تجمعهما ومحور أحاديثهما حين جفلتها فجأة قشعريرة مخيفة تصلبت لها أطرافها تحت ردائها المنزلي الأصفر القصير بدون أكمام، فانتفضت تتلفت حولها كعادتها حين ينتابها ذلك الإحساس بعده نغزة قوية أسفل بطنها فتكاد تقسم أن هناك من ضمها وتركها بسرعة، تشعره بها دون أن تمهلها لتتيقن من حقيقتها.
ربتت على مقدمة صدرها اللاهث بقوة، فكل شيء تعودت عليه باستثناء تلك الأمور التي تحدث معها ولا تجد لها تفسيرا أو حتى قدرة على أن تفضفض لأحد عنها مهما كان قريبا فينعتها بالجنون أو الأنكى يعيرها بأهل والدتها.
تنهدت مجددًا وهي توصل الطعام لأبيها ثم استلت هاتفها من جيب ردائها ترسل رسالة إلى تقوى، تؤكد عليها موعد اجتماعهن.
***
اطلعت تقوى على محتوى الرسالة بينما يطل عليهم والدها من باب غرفة الجلوس يحدثهم بنبرته الهادئة:
- أرسلت الطعام إلى العمال وتأخرت عليهم، فلقد وعدت جرير بأن أعود إليهم بعد الظهر وها أنا ذا صليت العصر ولم أذهب بعد...سأفعل الآن لأرى كم تبقى من العمل؟ لا تتأخروا لنساعد في جمع الحصاد، قد ننتهي اليوم بإذن الله فنرتبه ونعده للحصّادة.
- أبي!
نادته تقوى بخفوت ووالدتها تضع طبق الفواكه فوق الطاولة أمام نظرات كل من صفاء ونبيل المترقبة بمرح:
- هل أستطيع التغيب هذه المرة؟ اتفقت مع زينة وحفيظة لنجتمع في بيت الأولى!
هتفت والدتها زاجرة بسخط:
- إنه يوم الحصاد يا فتاة! أي زيارة وأي اجتماع؟
أشار لها زوجها لتهدئ من انفعالها لكنها جلست بعنف، تضيف بنفس السخط:
- ليس ذنبنا إن كنت ترفضين الشاب وتقللين من اهتمامه بك، لكن هذا يوم مهم نعمل من أجله طوال السنة وجميعنا سنساعد بعضنا حتى نبيل!
تغضنت السُّحَن وزوجها يوجه عتابه لها:
- يا عِناية اهدئي! لا داعي لانفعالك هذا، فلا بأس إن لم تحضر.
قاطعته بتسلط اعتادت التعامل به مع أولادها وإن كان لا يُرضي أحدا منهم حتى هي! لكنها لا تتحكم بطبعها فتستشيط غضبا لا تعلم له سببا وكل همها أن يُطَبق ما تريده وفقط:
- سنلحق بك جميعنا، اذهب أنت في أمان الله.
كان سيتحدث مجددًا عابسا هو الآخر لكن تقوى أعلمته برضوخها مسدلة جفنيها، فتنهد واستدار مغادرا وتاركا إياهم يتناولون الفاكهة بصمت وإطراق باستثناء صفاء التي ترمق شقيقتها بتمعن لطالما راقبتها به.
***
ما إن وصل الحاج عبد البر إلى حقله حتى فغر فمه ناطقا بذهول:
- ما شاء الله.
ثم التفت إلى الذي يجلس على جراره بكتفين تهدلا تعبا أو إحباطا لا يدري، فاستدرك بنفس الذهول وهو يخطو نحوه:
- المجنون!....هل جننت يا جرير؟
رفع رأسه وبحث حوله قبل أن تعود مقلتاه بخيبة آلمت قلب الذي أضاف بعتاب وهو يشير إلى الحقل:
- هل كنت تعمل دون انقطاع منذ أن تركتك؟ هل تناولت طعاما حتى؟
- أبدا يا حاج، لم يفعل! ولم يسمع كلامي بعد أن أنهى عمله.
تدخل رضوان بإشفاق فاستدار الحاج نحو الذي قفز من جراره يسأله بلهفة قلقة:
- أصدقني القول يا حاج، هل تقدم لها أحد؟ هل وافقتم عليه؟ ومن هو؟
زفر الحاج بضجر وسحبه من ذراعه رغم فارق الطول والحجم بينهما إلى ركن قصي في الحقل حيث لمح قُفَفَ الطعام، فأنبه بحزم:
- لا أحد تقدم إليها، ومن يجرؤ والجميع يعلم بحمقك؟ اجلس وتناول طعامك، ما تفعله لا يجدي!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


الفصل الثاني

إن الله سبحانه وتعالى يعطينا دون أن نسأل، ولو أن الله أعطانا بحسب الدعاء فقط لانقطعت عنا النعم التي تغمرنا...عمر عبد الكافي.

*لكل منا قوقعة يحيط بها نفسه، يظن بها أمانه والحد الفاصل بينه وبين محيطه أو بكل بساطة بسبب أنانيته أو ربما فقط بحكم شخصيته التي نشأت على الانعزال والتواري. كل منا يسمح بمواربة باب قوقعته بحسب نسبة ثقته بنفسه التي نشأت هي الأخرى على أساس مختلف يستحيل إحصاؤه، فهناك من يترك مسافة قليلة جدا فيستنكر كثيرا ويتعصب أكثر وهناك من يفتحه على مصراعيه فيتحول الى اسفنجة تمتص أي شيء في طريقها عطرا كان أو قذارة وهناك من يكون حظه من الحكمة ما يجعله متمسكا بدفة الباب، مغيرا المسافة بينه وبين محيطه على حسب ضرره أو نفعه لكن المعلوم أن قوقعة كل واحد منا مصنوعة من وهم قناعاتنا وخيالنا نحن وما يجهله أغلبنا أن ما نحاصر به أنفسنا من قوقعة إن تحولت إلى سجن وأشعرتنا بعذاب تقوقعنا فيها بكل بساطة لو تسلحنا بالإرادة وداومنا على التدرب، كل ما هو مطلوب منا رفع الكف وفقعها، لنكتشف حينها أن حقيقتها مجرد فُقاعة هواء فارغة.
- يكفيك ما قرأته من الهراء يا مؤنس، وقم لتساعدني على عزل العربة عن الجرار، لا أعلم أين تأخر رضوان؟!
رفع مؤنس رأسه عن الكتاب الذي كان يقرأ منه بنبرة مسموعة كعادته حين يكون بجوار ابن عمه وقد بدأ الأمر بإغاظته حين كان يستنكر عليه هراء الفلسفة وثرثرة أصحابها الفارغة، لتتحول إلى عادة أحبها وأدمنها وكأن في تلك اللحظات فقط يستشعر الأنس، هو أستاذ الفلسفة في ثانوية وادي الحقول التي من حظهم أنها أُسست سنة قبل التحاقه وجيله بها في المنطقة لترحم أولادها من العذاب المُجسد في حافلات النقل إلى المدينة السياحية التي لم تكن أيضا مريحة كالحاضر.
كان قد دس كتابه في حقيبته التي لا يفارقها أينما حل وتركها مكانه حيث كان يجلس في ركن خصصه جرير للراحة والطبخ، كونه يقضي جل أيامه بين الحقول إلى أن أضحت كمسكن له يأبى مغادرته إلا لأمر ملح، ولذلك عُرف بين الناس بجرار الحقول حتى أنه لا يعلم من بدأ بإطلاقه عليه لينتشر بينهم بتلك السرعة ولم يعد يخفونه عنه بل وهناك من يناديه به من بعيد حين يلمحه فوق جراره:
- انزع سترتك الجلدية يا مؤنس ستتمزق!
أشار له جرير بينما ينحني نحو العقدة الحديدية فزفر مؤنس متذكرا سترته وعاد إلى الركن المسقوف بالقصب، والمفروش بسجادات جلد الخرفان عليها مخدات ممتلئة بالقش للجلوس عليها.
نزع سترته ملقيا بها هناك وبدأ بثني أكمام قميصه بينما يقترب من ابن عمه الذي بدأ فعلا بمحاولات لفك العقدة حيث يتعلق طرف الجرار بطرف العربة:
- بأي حقل ستبدأ؟
سأله مؤنس وهو ينحني نحوه ليستدرك بعدها ساخرا بينما يضم يديه ليدي صديقه حول العقدة:
- يا له من سؤال غبي! طبعا حقول الحاج عبد البر حتى قبل حقولنا.
زمجر جرير محمر الوجه وهو يسحب القطعة الحديدة مرة واحدة، ليستقيم بظهره ناظرا إليه بتحذير:
- تحسب نفسك حاذقا، استمر في ذلك وستجد نفسك مغمورا بالقذارة تماما كالمتحذلق الآخر!
ضحك مؤنس وهو يتذكر منظر بهيج بعد أن ساقه جرير بملاحقته نحو حوض روث البهائم المجفف ليلقي به هناك قبل أن يكمل على انتقامه بصب سطل ماء عكِر عليه، فابتسم جرير مستغرقا بفحص قِطع الحديد المختلفة، وبعدما نفض مؤنس كفيه وتمالك نفسه حدثه بتعبير مبهم المعنى:
- أتساءل يا ابن العم لماذا لم تغضب من يوسف الذي مر بحقل الحاج عبد البر أيضا! بل وهو الذي يستحق غيرتك بكل ما يمتلكه من صفات جيدة.
اشتدت عروق وجهه مرة أخرى فيغزو وجهه المتأثر بأشعة الشمس مزيداً من احمرار لا يترك للسمار المكتسب مكانا على جلده الأبيض بينما يجيبه:
- أنا لا أغار من ذلك المهرج!
ألقى بما بين يديه ليخطو نحو الركن حيث كان مؤنس يقف متجهزا للمغادرة:
- لا تنكر! أنت تغار من الأشقر الوسيم على ابنة خالته لكن ابن آل عيسى في رأي من يستحق أن تخشى على عصفورتك منه.
- مؤنس اذهب إلى عملك! هيا غادر!
هتف جرير متخصرا بينما يرمقه بتهديد صريح، فاتسعت بسمة مؤنس الماكرة وهو يمرر أصابعه على خصلاته السوداء المجعدة التي تركها تستطيل قليلا لتصبح بطول خمس أو ست سنتمترات تقريبا واستفسر منه باستغراب:
- لطالما استغربت وغِرتُ من علاقتك الخاصة بنبيه ويوسف بالذات، هناك خيط خفي يصل بينكم ويسري بالتفاهم بين عقولكم ببساطة وسرعة.
تجاهله جرير بعد أن تهكم عليه بجفاء، مديرا له ظهره لينحني نحو قنينة الغاز الصغيرة ليشعل موقدها المستقر أعلاها:
- أنت تكثر من هراء الفلسفة الذي سيدمر ما تبقى من خلايا عقلك السليمة، هذا إن كان هناك بقايا من الأساس.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


ضم مؤنس شفتيه ممعنا النظر إلى ظهره قليلا ثم رفع جانب ثغره بسخرية تشبعت بها نبرته، وهو يرفع حزام حقيبته الطويل ليمرر رأسه تحته قبل أن يستقر على كتفه الأيسر:
- وبالرغم من ذلك، أنا أحذر يا ابن العم.
كان جرير قد وضع إبريق الشاي على الموقد واستقام بظهره مستديرا إلى الذي رفع كفيه يشبكهما ببعضهما ويحركهما في الهواء على شكل عصفور يطير:
- قد تطير منك عصفورتك لتُحلق في سماء أرض أخرى غير وادي الحقول.
تلفت جرير حوله باحثا عن شيء يرميه به فعلت ضحكة مؤنس، وأشار له وهو يغادر إلى عمله قبل أن يتسمر مكانه حين صاح صاحب الحقل المجاور لحقولهم، واقفا على الجدول الجاف الفاصل بينهم:
- موسم حصاد القمح أوشك يا جرير، هل وضعت جدولا للدَّور؟ من سيأتي بعد الحاج عبد البر وحقولكم؟
التفت مؤنس نحوه يبتسم له ساخرا بنظرة *أنت مفضوح* فزفر جرير وقد تخصر مجددًا ليجيب الرجل بعد ذلك بنبرة جادة لكن مؤدبة:
- أنت الرابع يا حاج حسين لا تقلق! إن شاء الله خيرا.
ابتسم له الرجل بمودة وهو يحرك قبعة القش الضخمة فوق رأسه، قائلا له بإعجاب صريح بما يراه أمامه من جنات خضراء مرتبة وزاخرة بخيرات كثيرة:
- حقولكم جِنان سخية يا جرير، وسأظل أتساءل عن أسرارك، فها نحن جوارك نفعل مثلك ونتبع نصائحك ولا نحقق نصف ما تحققه من نتائج.
ارتفع حاجبا مؤنس، يهتف بذهول متهكم:
- هل تحسدنا يا حاج حسين؟
ضحك الرجل ليخفي حرجه وارتباكه، وما لبث أن انتفض مهرولا ليطرد الشاب الذي دخل إلى حقله بغير هدى:
- أخرج من هنا يا مجنون! أخرج من هنا! لعنة الله عليك!...أخرج!
تنهد جرير بأسى مستغفرا ومستنكرا موقف الرجل، وتقدم ليشير إلى الشاب بينما يهادنه بكلمات لطيفة:
- تعال يا علوان ...تعال! أدخل حقل الأشجار واقطف ما شئت... هيا!
أمسك الشاب الصغير النتن الرائحة والملابس المهترئة برأسه الأقرع يمسح عليه بينما يقف على حدود الحقل بتردد وخوف:
- من حلق رأسك يا علوان؟
استفسر منه جرير بذهول بعدما لاحظ رأسه، فرد عليه مؤنس الذي كان قد بلغ جواره:
- اجتمع عليه بعض الفتيان من طلبة الثانوية وحلقوا له شعره، لم يعترف أي منهم بسبب فعلتهم! حتى بعد أن هددهم المدير بفصلهم من الثانوية عقابا لشهر ويحرمهم من امتحاناتهم ...كل ما قالوه أنهم حاولوا تنظيفه وحلقوا له شعره لأنه لا يستحم.
قطب جرير جبينه، مجيبا عليه بريبة والشاب ما يزال مكانه يمرر يديه على صلعته ويرمق من حوله بحذر وخوف:
- هذا غير صحيح، والدته تحممه كل ليلة حين تدخله إلى بيتهم مساء.
هز مؤنس كتفيه بخفة دلالة على جهله للأمر فأومأ له جرير والتفت نحو الرجل الذي هتف زاجرا بسخط:
- أخرجه من عندك يا جرير! سيفسد الزرع!
جعّد جرير ذقنه مديرا رأسه نحو الشاب الذي يقفز بين الأشجار بغير هدى، يلمس شجرة ثم يفر منها ليستدير من حوله وكأن هناك من يلكزه في جنباته فيبحث عنه، ثم هرول بخطوات واسعة ليغلق الموقد ويخفي القنينة قبل أن يستدير نحو جراره ليتسلقه بخفة وهو يجيب جاره:
- لا بأس يا حاج حسين دعه وشأنه! سيلهو قليلا ثم يغادر.
أشعل محرك جراره وانطلق نحو حقل الحاج عبر البر، فقال الحاج حسين بانزعاج لمؤنس الذي هم هو الآخر بالمغادرة:
- أخرجه أنت يا مؤنس... سيتلف الزرع!
رفع يده إشارة للتحية هاتفا قبل أن يستدير مغادرا:
- لم يتلفه قبلا ليتلفه الآن يا حاج حسين، لا تقلق! إلى اللقاء.
زفر الرجل واستدار إلى شؤونه ولم يلمح جانب ثغر مؤنس الذي ارتفع بسخرية يهمس لنفسه بينما يرنو جرار ابن عمه الذي يلتهم الأرض بحفرها بكل سلاسة:
- ويتساءل لماذا حقوله ليست مثل حقول جرير!؟
***
لمحها قلبه قبل عينيه، تلك التي تبعد عنه بعد النجوم زخرف السماء والقريبة منه قرب القلب خافق صدره، فيتخذ طريقه نحوها دون أن يتحكم في أطرافه التي تقود قطعة الحديد إلى حقل والدها، يمارس طقوسه معها كل يوم لا يكل ولا يسأم، ترميه بنظرة أولى فينبض قلبه بقوة يهز حنايا أحشائه ثم تحني رأسها وهي تسحب طرف طرحتها الطويلة من أسفل قبعة القش لتمسح به عرق جبينها فتلوذ بأناملها أمانيه لو كان هو من يُخلصها من كل تعب وليس فقط العرق ثم تستدير مبتعدة عن مجاله تتوارى خلف من يساعدنها في جمع العشب الأخضر (حشيش العلف) فتوقظه وبعنف من أحلامه التي لا تموت ولا تخبو جذوتها.
- مرحبا بني، يمكنك البدء متى شئت، أعانك الله.
جفله صوت الحاج عبد البر الباسم بحنو فنزع عينيه عن التي تظن بأنها أخفت نفسها عنه، لا تدري أنه يراها بقلبه قبل ناظريه، يجيب والدها بنفس رده الحازم كلما التقى به:
- زوجني ابنتك يا حاج عبد البر، لا تقلق على حقلك ولا قمحك.
علت ضحكة الرجل وهو يزيل عمامته ليمسد سطح رأسه قصير الخصلات المختلطة بالشيب قبل أن يبدأ بمسح العرق بأحد طرفي العمامة الصفراء، قائلا له بمرح يضيف إلى سماحة ملامحه مزيدا من الحنو واللطف:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- حين توافق عليك بني، لا مانع لدي فأنت أدرى برأي، لن أجبرها على شيء، حين توافق عليك أزوجها لك في اليوم التالي ....بإذن الله وتوفيقه.
التوت ملامحه البارزة بانزعاج يكبته ومقلتاه لا تكفان عن اللحاق بها كلما أجبرهما على الابتعاد ترضخان لأمر خافقه، وخاطبه بنبرته المفعمة بعصبية تستولي على نفسه في أوقات غير مناسبة بالمرة:
- أنت تدللها يا حاج! وهي لن توافق على هذه الحال.
بتر كلماته حين لمح حاجب الحاج عبد البر يرتفع بتحذير فضغط على شفتيه بشدة وقد نفرت عروق وجهه ثم قفز من جراره برشاقة ومسح على وجهه ملاحقا أنفاسه الثائرة.
شعر بكف الحاج على كتفه فتشنج لبرهة قبل أن يستدير إليه، يتأمل بشرود سرواله القطني الأسود وقميصه الرمادي بخطوط سوداء متسخ الأطراف بالتراب:
- لقد أعلمتك بشرطها الوحيد بني، وفي الحقيقة هي أفضل مني في ذلك إذ لطالما كان حبي لك كابن لي يعميني عن أمور يجب أن أكون من يحرص عليها في من أرغبه كزوج لابنتي، وأنا أريدك زوجا لابنتي وبشدة، ولا أريدها أن تكون من نصيب غيرك.
احتدت أنفاسه بعدما شرعت تهدأ وعبس مجددًا فهز الحاج كتفيه باستسلام يائس من عصبيته التي لا تظهر إلا في ما يخص ابنته، وقد بدأ الضجر يتسلل إليه من الوضع بأكمله:
- لا تتعصب مجددًا، لن تبقى ابنتي دون زواج إن شاء الله إما أنت أو غيرك، وأنا لن أجبرها على أي شيء لا تطيقه نفسها، ففكر جيدا وحكِّم عقلك، ففي النهاية ما تطلبه منك في مصلحتك أنت قبل غيرك.
أولاه ظهره متجاهلا ملامحه المصدومة من الحقيقة التي ألقى بها في وجهه فجأة. قلبه يشفق عليه والله أعلم كم يحبه ويريده زوجا لابنته لكن الأخيرة أيضا محقة في رغبتها وكان لزاما عليه أن يحاول جهده وكل الأمر على الله:
- سأغادر مع تقوى إلى البيت، وسأرسل الغداء لك وللعمال...قد أعود بعد صلاة الظهر إن شاء الله، أعانك الله بني.
عاد خطوة إلى الخلف ليستند بجراره، يقسم أن الأرض مادت به كما لم تفعل وهو يتعرض للشمس كل يوم وفي كل الفصول، حتما قلبه سيتوقف يوما ما بسببها، هو الذي لا شيء ولا شخص أثر عليه في كل حياته البائسة، يتأرجح بين عصبية تهز كيانه من أجل ذكريات تختفي بين خفقاته النابضة بقوة والصبر من جهة أخرى ومن أجل نفس الذكريات البائسة!
لماذا إذن لا يفعل ما تطلبه منه ويريحها ويريح قلبه الباحث عن نهايته على يديها، كم يبدو مثيرا للشفقة!
لابد وأن كل من حوله يشفقون عليه وهو يفضح نفسه بتصرفات صبيانية من أجل من؟ فتاة؟ ولماذا؟! لأن شيئا ما قويا يحدث في صدره البائس كلما تذكرها أو حضرت في مكان يشملهما معا.
لأن اسمها وكيانها حين وجوده جوارها يزيد من خضار الجِنان حوله، ولمعان أشعة الشمس فوق رأسه!
لماذا هي بالذات؟!...لماذا حين تحضر حوله يكون لكل شيء معنى وحين تغيب يستعمر الركود محيطه بجبروت وطغيان؟
زفر بقوة ورفع رأسه يبحث عنها لتلوح له عباءتها البنية من بعيد، تسعى بحياء لا يخلو من كبرياء وثقة برفقة والدها فيشعر بالشمس يخبو لمعانها مع كل خطوة تبتعد بها عن المكان.
زمجر مجددًا بغضب من روحه التي تهفو إليها رغم كل ما يعذبه به عقله من لوم وسب لضعف نفسه نحوها، ومن شدة غضبه انحنى نحو مشط الحصاد الثقيل وحاول سحبه لحاله وقد أوشكت عروق وجهه وعضلاته على الانفجار فلم يشعر بمن انضموا إليه ليجروها معه ليتم توصيلها بمقدمة الجرار من بينهم رضوان الذي شعر بحال معلمه، مُبعدا عنه الرجال برفق ودهاء ليترك له المساحة ليمارس شغفه المتأصل في أحشائه المحبة للزرع وكل ما يمت له بصلة إلى درجة أن رضوان متأكد من أمر واحد.... لولا الحقول ما استطاع معلمه البقاء حيا!
***
- لماذا هذا الصمت بنيتي؟
أحنت رأسها نحو والدها تُقلص فارق الطول الملاحظ بينهما فتبتسم له بحب كبير مزروع في صميم قلبها نحوه:
- ربما هو التعب فكما تعلم لم نسمح لنبيل بالقدوم كي يركز على امتحانه، وكان علي القيام بمهامه أيضا.
تلكأت تدنو منه أقرب لتكمل بتأثر لمعت به مقلتاها الرماديتين:
- لست أشكو يا أبي، أنا فقط أشرح لك.
ما يزال على بسمته الحانية وهو يلتقط كفها بحنو بينما يخاطبها وهما يتمشيان جنبا إلى جنب عبر الطرقات بين الحقول التي أغلبها عبارة عن اخضرار الأشجار والحشائش واصفرار السنابل الذهبية:
- أعرف أن ابنتي القوية لا تشكو لبشر حتى والدها.
لمعت مقلتاها بزهو صاحبته بسمة خجلة وهي تطرق برأسها فأضاف بعد صمت وجيز، متأملا محيطه باستمتاع:
- تعرفين أنني أوافق على كل ما تفكرين فيه لأنه والحق يقال أغلبه يوافق الحكمة أو المنطق، وكل لحظة أحمد الله وأشكره على أنه أنعم علي بابنة مثلك لكن هناك ما أريد أن ألفت إليه انتباهك.
بلعت ريقها، تشدّ على كف والدها كما تفعل دوما حين تشعر بالخوف أو ما يعكر عليها صفو أفكارها فتلوذ بمن تثق به كطفلة صغيرة تقبض على كفه، ويكون ذلك أقصى ما تعبر به عن خوفها ليشعر بها، فيشد عليها هو الآخر بمؤازرة خفية خاصة بهما يبثها بها مساندته ودعمه.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


لم يكونا ينظران إلى بعضهما كل واحد منهما يحدق بأرضية الزقاق المعبدة بالحجارة والذي يتوسط بيوت البلدة، فقط تلك الصلة القوية والخفية تكمن في قبضة كفه الخشنة ظاهريا والمتفجرة حنوا باطنيا حول كفها.
- حين يتقدم إليك من يوافق شرطك لن نرده بإذن الله.
التفتت إليه ترمقه بإجفال أخفته بسرعة لكنه التقطه وتأكد له شعوره الداخلي بأن ابنته في صراع بين رغبتها وعقلها:
- أخبرتك من قبل بأن جرير شاب له حسناته التي أشهد عليها وله عيوبه التي أيضا أشهد عليها، أسأل الله المغفرة أنا أحبه رغم عيوبه ولا أملُّ في محاولة نصحه وتقويم اعوجاجه، لكنني!
توقف عند ناصية الزقاق المؤدي لبيته ليكمل بحزم:
- لكنني أحبك أكثر ولن أقف بصمت وأنت ترفضين متقدمين آخرين في انتظار أمر ترجين حدوثه قبل الزواج حتى تقنعي نفسك بأنك فعلت ما عليك ووافقت عليه وهو على ما يجب أن يكون عليه.
تهربت منه بعينيها بينما يضيف بنفس الحزم مواجها إياها بالحوار والحقائق كما عودها دوما:
- لن نكذب على أنفسنا يا تقوى، فأنت تعلمين بأنه قد يدعي ما تريدينه الآن لتوافقي عليه وبعد الزواج يعود إلى عادته! وكونه لم يفعل ذلك إلى الآن يضاعف من رصيد حسناته لدي ويثبت صدقه مع نفسه وربه، على الأقل هو مدرك لقدر وأهمية الأمر ولا يستهين به.
حينها نطقت بخفوت ساهم:
- ألا يحق لي المطالبة بما ألتزم به وأعتبره من أعظم الأمور في حياتي؟
ثم رمقته برجاء أن يتجاوز عن معرفته بها ككتاب مفتوح أمامه يقرأه ببساطة:
- إنها الصلاة يا أبي.
- وهو يصلي يا تقوى!
رد عليها مدافعا عنه لكنها فسرت له من جديد، وقد تحدثتا في الأمر مرارا وتكرار ومع أفراد أسرتها وصديقاتها حتى نبيل لا يفوت فرصة ليذكرها بروعة الضخم، جرار الحقول:
- لكنه مهمل بها يا أبي، لا يصليها في وقتها ولا حتى يعرف طريقه إلى المسجد إلا فيما ندر حتى الجمعة يا أبي لا يواظب عليها كل أسبوع.
خرجت منها حجة الجمعة جديدة في دفاعها مما جعله يبتسم لها بمشاكسة:
- آها! أنت مراقبة للوضع عن كثب!
عبست بخجل وأطرقت برأسها فشد على كفها ليسحبها نحو بيتهم، بينما يستدرك متنهدا بتعب:
- أعرف أن ذلك مهم جدا خصوصا في هذا الزمن الذي أضحى فيه الدين أخر هم البشر، لذلك أنا أوافقك ... لكن وفي نفس الوقت إذا قررتِ أن جرير ليس مناسبا سنغلق بابه نهائيا ونفتح أبوابا أخرى.
شعر بها ترتعش مجددًا لكنه تجاهل الأمر وفتح باب المنزل الخارجي الحديدي لتفر من أمامه ما إن أصبحا داخلا تبرر له بوجوب أخذها لحمام سريع. تنهد مرة أخرى قبل أن يتوجه إلى المطبخ حيث سيجد زوجته لاشك تجهز الغذاء للعمال:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ألقاها ببعض الجدية حين لمح معها امرأة أخرى وتراجع عن عبور عتبة المطبخ فلحقت به زوجته لترافقه إلى غرفتهما بينما تثرثر إليه بحديثها:
- سيجهز الغداء بعد صلاة الظهر إن شاء الله لترسله الى العمال، نوال ساعدتني أكرمها الله، ثيابك على السرير.
أمسك بكفها ورفعها إليه يربت عليها قائلاً لها بحنو يخفي بين طياته التحذير:
- أكرمك الله وسلم يديك انتبهي لبيتك وصحتك وإن احتجت لمساعدة أرسلي في طلب نساء الجمعية التعاونية، وادفعي لهن أجورهن.
بللت شفتيها تفر منه بمقلتيها محرجة فهي أدرى بزوجها الذي لا يرتاح لنوال شقيقة زوج أختها رحمها الله، والتي هي جارتهم في نفس الوقت. التقطت الملابس ووضعتها على كفيه تتودد إليه بالقول الناعم:
- الحمام جاهز ولا تقلق بشأني، أنا بخير الحمد لله.
هز رأسه باسما واستدار يقصد الحمام بينما هي تعود إلى المطبخ حيث وجدت نوال تبحث في الصندوق المجمد، فعبست بحيرة نسيت أمرها حين رفعت الأخرى رأسها عن الصندوق قائلة لها باستهجان بينما تغلق بوابته:
- هل قمتم بذبح خروف مجددًا؟
تبسمت عناية بودها المعتاد وهي تجيبها بينما تتفقد ما في القدور:
- ألن تعتادي على الأمر أبدا يا نوال؟ عبد البر يذبح خروفا من مواشينا وحين ينقضي لحمها يذبح مرة أخرى كي لا نضطر لشراء اللحم، أنتِ أدرى بالكميات التي نطبخها من أجل العمال والضيوف وحتى من يأتي من العائلة.
كانت نوال قد عادت إلى مكانها على كرسي من الكراسي الملتفة حولة طاولة عالية في المطبخ، تتأمل هندام صديقتها وجارتها بنظرات غامضة بينما تحدثها بنفس ودها:
- أنا مستغربة بما أن هناك قدر من اللحم متبق من الخروف السابق.
خطت نحوها بهيئتها المعتادة في المطبخ، ترتدي وزرة أمها جواهر على شكل تنورة واسعة فوق عباءتها المنزلية النظيفة دائما، توضح لها بتلقائية:
- إنه موسم الحصاد يا نوال، وهذا يعني عمال أكثر وزوار والخير موجود بفضل الله، دعك من الأمر وتناولي الكعكة من صنع يدي تقوى، تلك التي تعلمتها الفتيات من الهاتف.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

14 Nov, 15:06


نحن نقترب غوالي، بعد نهاية إعادة نشر مدقق للجزء الخامس من سلسلة نساء صالحات قلوب هجا الحق شتات تقواها سنبدأ بإذن الله رحلة جديدة من نساء صالحات 😍😍😍على قدر حماسي على قدر خوفي😱🤓 نسأل الله البركة في العمر للجميع والغفران والنصر والتمكين للمسلمين في غزة وكل بقاع الأرض.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

14 Nov, 15:03


رابط تحميل الجزء الرابع من سلسلة نساء صالحات رويدا رويدا على طريق الحق
بالنسبة لمقدمة الفصل الأول من الجزء الخامس قلوب هجا الحق شتات تقواها يوم الأحد بإذن الله
https://www.mediafire.com/file/brk9zs4q7mcl3zl/%25D8%25B1%25D9%2588%25D9%258A%25D8%25AF%25D8%25A7.4.%25D9%2586%25D8%25B3%25D8%25A7%25D8%25A1_%25D8%25B5%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AD%25D8%25A7%25D8%25AA.pdf/file

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


تنحنح زيد بارتباك والرجال يعودون لحواراتهم الجانبية، فمال سفيان نحوه ملتقطا بطرف مقلتيه الامتنان على وجه القعقاع ووالده:
- صلي على رسول الله يا زيد.
تهرب بمقلتيه المتراجعتين قليلا عن حدتهما وهو يتمتم بالصلاة على الرسول الكريم، فاستدرك سفيان بخفوت:
- ابحث في الصحيحين وستجد بإذن الله ما سأخبرك به الآن... من حديث عبدالله بن عُمر - رضِي الله عنهُما -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «أيُّما امرئٍ قال لأخيه: يا كافر، فقد باءَ بِها أحدُهُما، إن كان كما قال، وإلاَّ رجعتْ عليْه» فهل أنت مستعد لتعود عليك؟ فالرجل الذي دعوته بالكافر قبل قليل أسلم قبل أربع سنوات أو أكثر بقليل، نطق الشهادتين أمامي، وحصل بفضل الله على كتب الإسلام الأولى مني، وهو الآن حافظ لأكثر من ثلثي القرآن الكريم فما رأيك يا سيد زيد؟
بلع ريقه مجددًا وعيناه تتسعان بجحوظ صادم مما دفع بسفيان إلى كتم بسمته المرحة، متابعا بهمسه المحذر له بهدوء:
- وحتى لو كان على غير ديننا مادام لا يحاربنا في ديننا ولا يتعدى علينا فنحن مأمورون من خالقنا بحسن معاملته، والعدل في الحكم بينه وبيننا وإن دخل أرضنا وهو يأمن على نفسه وعرضه وماله فهو معاهد وله نفس حقوق المسلمين، وقد توعد الرسول عليه الصلاة والسلام من تعدى على المعاهد بأنه حجيجه يوم القيامة.
لاذ بالصمت وهو يقلب عينيه الجاحظتين فابتسم سفيان مقرراً بأن ما سمعه اليوم يكفي كجرعة يتعمد مده بها بين الحين والآخر، ليزعزع الثوابت الخاطئة في كيانه.
***
قبض على كفها يستعجلها فغطت وجهها بالخمار الأبيض كلون قفطانها العرائسي من الحرير الأبيض، مستسلمة لحركاتها المتحمسة. فتحت مقلتيها تتأمل زوجها من فتحتي الخمار ببدلته السوداء الأنيقة فدق قلبها بسرعة فائقة، ذاك الوسيم المشاكس المرح والحنون زوجها، ويسحبها من غرفتهما وهي لم تكمل فيها ساعات معدودة نحو وجهة تجهلها لكنها لا تعترض، فهي سلمته حياتها وأحلامها فكيف لا تثق به الآن؟!
توقفت فجأة على إثر توقفه المفاجئ فارتطمت بجانب صدره وضحك بمرح يهمس لها بمشاكسة:
- لا تستعجلي، سنضم بعضنا كثيرا لاحقا بإذن الله.
شهقت بهلع وضربت أعلى كتفه بلوم.
- إسحاق كف عن مشاكساتك، أنت تحرجها.
استدار إسحاق باسما بشوق واندفع ليضم نسخة منه أكبر سنا في بدلة مشابهة أنيقة بينما يهتف بسرور:
- إسماعيل... كنت أبحث عنك.
ربت إسماعيل على ظهره بينما يرد عليه بلطف:
- كنت برفقة الرجال، أين عيسى لقد أخبروني أنه معك؟
زفر بامتعاض مزعوم وهو يرد عليه بحنق مدعي:
- لقد تركني من أجل زوجته، ما إن قرأ رسالتها حتى اختفى.
ضحك إسماعيل بهدوء فتنحنحت العنقاء تذكره بوجودها فاستدار ليسحبها من مرفقها بلطف يردف:
- أردت أن أعرفك إلى زوجتي لقد أخبرت الدكتورة طائعة من قبل، هي طالبة مجتهدة وشغوفة بعلم النفس لذا فكرت في أن أعرفكم إلى بعضكم لكي تساعداها بخبرتكما.
تراجعت العنقاء بحرج بينما إسماعيل يرد عليه ببسمة مرحة بعدما أومأ لها بتحية لبقة:
- تشرفت بمعرفتك أستاذة عنقاء مبارك لك...وأنت يا سيد إسحاق تطلب بكل أدب أليس كذلك؟
قهقه إسحاق وهو يضم زوجته المتكومة على نفسها خجلا من كتفيها فأتاه همس ساخر جوار أذنه الأخرى:
- أتمنى أن يراك شقيقها في هذه اللحظة لكي يقيم عليك الحد...فلقد تركته في السطح محشورا في الزاوية وستكون أنسب متنفسا له.
ترك زوجته مجددًا ليستدير إليه بينما يشاكسه بمزاح:
- يونس ابن العم يونس، اشتقت إليك يا رجل!
سحبه لضمة رجالية خشنة يبارك له لينضم إليهم عيسى بعد أن أنهى مكالمته، فحاموا حوله يشاكسونه بمزاحهم والعنقاء تراقبهم بانبهار....زوجها وسط رجال كل واحد منهم يملك هيبة خاصة به تجمعت وشكلت هالة مشعة لها وقع مخيف ومؤثر في نفس الوقت.
***
(نفس اللحظات في الحديقة الأمامية)
لم تقتصر الحلقة الصغيرة عليه وعلى قريبه محمد؛ الشخص الذي يشعر بأنه قريب منه نفسيا دونا عن باقي أفراد العائلة رغم أنه يصغره بسنتين كاملتين لكنه برزانته وشخصيته الفريدة يراه أكبر منه.
انضم إليهما أبناء عمومته إبراهيم وعيسى الصغار، لتتعالى الضحكات والمزاح خصوصا من إبراهيم صاحب الشخصية المختلفة أيضا لكن في اتجاه معاكس من محمد دون أن يفقد ذكاءه الخاص يخفيه بجرأته وبسمته التي لا تفارق ثغره.
- توقف يا إبراهيم أنت تخيف أخي!
عاتب محمد إبراهيم فنظر الأخير إلى الصغير ذو الثلاث سنوات على حجره بينما يجيبه بامتعاض:
- لمَ لا تترك يونس مع الفتيات سيعتنين به؟
ابتسم محمد وهو يقبل شقيقه الصغير بحب شعت له مقلتا إبراهيم بغيرة مكتومة، فتنهد شقيقه الأصغر عيسى ثم همس بضجر لأحمد المراقب بتسلية:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


- يا إلهي! إنه يتصرف كزوجة غيورة مجدداً.
التفت إليه أحمد بينما يكتم بسمة مرحة ألحت عليه قبل أن يبسط ذراعيه نحو محمد يقول له بنبرة متسلية ونظرات شعت بتعبير خفي:
- هاته يا محمد سأحمله إلى المطبخ وأطلب من الفتيات بعض الشاي والحلوى، وأتركه في عهدة شقيقته.
أومأ له محمد موافقاً ومنح شقيقه الصغير يونس قبلة أخرى قبل أن يناوله لأحمد الذي طار به نحو المطبخ يسابق قلبه، فلم يلمح شقيقته التي كانت مقبلة عليهم بقلب مماثل يضخ بسرعة وسط صدرها. انقض إبراهيم على محمد يضمه من كتفيه ممازحا، وقد ازدادا طولا عن آخر مرة اجتمعت بهما أثناء زيارتهم لمدينة الجبل، كما بدأت عضلاتهما في البروز أسفل قميصيهما الأنيقين لتتألق ملامح آل عيسى الجبلية بفخر على قسماتهم، حتى ولدي طائعة اللذين حملا من جينتها ما كسر سواد الشعر القاتم لم يفلح في إخفاء انتمائهم للجبل.
- والآن يتصرف كزوجة عاشقة...مرحبا باسمة..
علق عيسى الصغير بسخرية قبل أن يلقي التحية بمرح على باسمة، فتجمدت أطراف إبراهيم وعاد إلى مكانه حول الطاولة البلاستيكية وهو يومئ لها بتحية بينما محمد يلقي عليها التحية هو الآخر:
- كيف حالك باسمة؟
تألقت مقلتاها وهي تجلس قربهم وكعادتها نسيت كل من يرافقه كأنهم هواء، منشغلة بحركات كفيها الصغيرين مجيبة على من تراه دون غيره:
- أنا بخير الحمد لله، وأنت يا محمد كيف حالك ودراستك؟
تحدث إليها محمد بهدوئه المعتاد بينما إبراهيم شارد في حركات يديها وفي مراقبتها لمحمد الشغوفة التي على قدر ما تؤلم قلبه على قدر ما تبهجه بكل ذلك الاهتمام والصدق، ولولا معرفته العميقة بابن عمه لمزقت الغيرة قلبه الفتي إلا أنه يحمل من برودة والده الكثير مما أفاده في استحضار تعقله وعقله العملي في تحليل الأمور. لا ينكر انزعاجه من كونه غير مرئي بالنسبة لها، بيْد أن لذلك فائدة في تخفيف مؤازرته نحوها حين تكتشف حقيقة شعور ابن عمه الذي يراها كأخت له.
أما في المطبخ حيث تجتمع الفتيات، وقف أحمد قرب الباب ومقلتاه لا تلتقطان في لمح البصر إلا ساكنة قلبه وخاطفة خفقاته الضائعة وهي تحتسي مشروبها المفضل رغم أن المكان يعج بفتيات العائلة والمساعدات.
- تيجان لقد تناولت اثنين لحد الآن كلي شيئا آخر، أنت لا تتناولين سوى مشروب الشوكولا بالكريمة، لقد بدأ وزنك يزداد إذا لم تلاحظي، وماما تقول الفتاة لا يجب أن تكون بدينة، أستغرب حقا وجود المشروب جاهزا في المُبَرد.
أنبتها همسة ابنة رواح وعيسى ذات القد الممشوق والرشاقة الجذابة حتى وهي تتخطى عقدها الأول بسنة واحدة، ببشرة سمراء مذهبة ومع مقلتيها المظلمتين أضحت لوحة خلابة من إبداع رباني، لكن كل ذلك لم ينل نظرة ثانية من الباسم ببلاهة وهو ممسك بالطفل يقبله بحنو يخفي به ارتباكه من الأخرى الناظرة إلى ابنة عمها وابنة خالتها على حد سواء ببراءة ورثتها عن والدتها حق، ترد عليها بنبرة خجلة، رقيقة ناسبت هيئتها التي تبدو للكثير عادية خلاف أنظاره العاشقة لها:
- أنا أحبه يا همسة.
- يا لحظه!
استدارتا نحوه مجفلتان فتوتر مكتشفا نطقه لما كان يفكر به:
- مرحبا أحمد، كيف نساعدك؟
سألته همسة بنبرة أكثر ارتباكا بينما هو يقترب منهما وعيناه لا تفارقان المتسمرة مكانها بصمت مترقب:
- أنا هنا لأطلب منكن بعض الشاي للشباب في الحديقة، ولأترك يونس الصغير في عهدة شقيقته.
خطت تيجان نحوه لتتسلم منه شقيقها وهمسة تبتعد قليلا لتبدأ في تحضير صينية الشاي.
- كيف حالك تيجان؟!
رمقته بمقلتيها البريئتين بظلمتيهما الراكدة تحملان غفلة لما يمتلئ به قلبه من فوضى تعصف به فترميه على أعتاب قلبها الطاهر صريعا:
- بخير الحمد لله... وأنت يا أحمد؟
بلع تنهده داخل أحشائه من أثر نطقها لاسمه غير قادر على لجم نظراته كلما فر بهما تفران به إلى وجهها يكاد ينسى ما تربى عليه من حسن الخلق:
- تيجان؟!
استغفر سرا وهو يستدير إلى حق يرمقها باحترام وهو ينسحب:
- مرحبا خالتي حق، سأنتظر الشاي في الحديقة يا فتيات.
أومأت له حق بلطف ثم تناولت صغيرها من بين يدي ابنتها التي قالت لها بتلقائية:
- كان يسألني عن حالي وهو يناولني يونس.
ربتت على وجنتها ثم على حجابها، ومسحت بقعة الشوكولا على جانب ثغرها بينما تجيبها بحنو:
- أعلم بأنك تحبين الشوكولا، لكنني أخشى عليك من المرض، فانتبهي لصحتك بنيتي، ولا تغيبي عني أنت وهمسة، فأنا أقلق عليكما حين لا ألمحكما في الجوار.
قبلتها على وجنتها بحب قبل أن تستدير عائدة إلى المطبخ:
- حسنا أمي، لا تقلقي لن نبتعد.
***
( بعد انتهاء الحفل)
(أمام منزل نوح آل عيسى)

أسرعت جفون نحو والدتها التي توشك على ركوب سيارة زوج إحدى شقيقتيها تهتف بحيرة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


- أمي انتظري!
توقفت المعنية جوار الباب الخلفي لتلتفت إليها بملامح مسترخية لم تعتد عليها جفون بعد، بالرغم من مرور شهور على حال والدتها الجديد:
- ماذا هناك يا جفون؟
اقتربت منها تسألها بحيرة:
- إلى أين أنت ذاهبة؟ ألن ترافقي سرور؟
ربتت على كتفها وهي تجيبها:
- سرور ستقضي الليلة في بيت عائلتها، وأنا سأقضيها لدى شقيقتك فهي ما تزال نفساء، اعتني بنفسك...زوجك هناك.
قبلتها مودعة قبل أن تتجه نحو جهاد؛ زوجها وهذا أمر آخر لم تعتد عليه بعد، ويبدو أنه يستمتع كل مرة بجعلها تصدق وبكل طريقة ممكنة:
- مرحبا بالجميلة، القفطان يليق بك لذا يجب أن نغادر حالا قبل أن أخنقك بغيرتي.
وكعادتها حين يغازلها تحمر بخفر وتتمسك بيده كطفلة صغيرة تائهة غير مدركة لأن ذلك يعجبه جدا.
عند المدخل الخلفي تتعلق سرور برقبة زوجها مستغلة خلو المكان لتسر له بأشواقها، فيضمها إليه غامزا لها بمرح:
- إن كنتِ كذلك بالفعل، اعطفي على قلبي المسكين وعودي معي إلى بيتنا.
ضحكت بحياء وهي تجيبه برقة:
- إنها ليلة واحدة فقط، وسنتحدث في الهاتف إلى أن تغفو.
طبع قبلة على جبينها وهو يهمس لها بتسلية:
- وأنا في شوق لذلك يا حلوتي، اعتني بنفسك وبصغيرتنا.
***
(بعد يومين)
وكحال الدنيا المعتاد تفرق الجمع كما اجتمع وانتهى أفراد عائلة نوح آل عيسى من توضيب البيت، فلم يبق سوى إعادة الأواني ومستلزمات حفلات الأعراس إلى مكانها في القبو.
لا تكتفي العنقاء من مراقبة أفراد عائلتها الجديدة، مبهورة بمدى تقاربهم المثير للأحاسيس العاطفية الدافئة، حتى في استغلالهم لفرصٍ بسيطة كي يجتمعوا فيها فيتضاحكون وهم يستعيدون ذكريات الطفولة كما يفعلون الآن، والأغرب من وجهة نظرها كونهم تقبلوها بغطاء وجهها بوجود أيوب وأحمد وعبد الحفيظ، فيحدثونها بأدب ويشركونها في حواراتهم دون أن يتجاهلوها أو ينتقصوا من قدرها.
- أحمل لك خبرا جميلا.
جفلت على نبرته الهامسة بمشاكسة محببة فدق قلبها مجددًا متجاهلة سيل الذكريات المتدفقة على خيالها بما تعيشه معه في خلوتهما، وكأنها تعزل نفسها عن تلك الفتاة التي تتبع فطرتها مع زوجها وتتأثر بمشاعرهما المتبادلة، يجعلها دوما باهتمامه وكرمه معها تحب وتتطلع لأن تسعده وترضيه.
نظرت إليه وهو ينضم إليها جالسا على مقعد بلاستيكي قام بجره قربها أمام طاولة مليئة بأنواع من كؤوس البلار كانت تقوم برصها حسب نوعها في العلب المخصصة لها:
- اقترح علي أيوب السكن في شقته الخاصة لكي تكوني على حريتك، ولا تضطري إلى تغطية وجهك داخل البيت، ما رأيك؟!
نظرت إلى شقيقه الغارق في حوار مرح مع زوجته وشقيقها عن سلمة ثم عادت إلى زوجها الذي يرمقها بشغف غريب، حتى وهي تغطي وجهها وكأنه يراها حقا ويشعر بما يتجاوز حجابها إلى أعمق نقطة في أحشائها.
تنحنحت لتستعيد وعيها من تأمل ملامحه الحبيبة إلى قلبها بينما ترد عليه بهمس رقيق:
- كما تشاء، سأشكره وأشكر زوجته، وأشكر الخالة رحمة التي أنجبت أبناءً يفتخر بهم المرء، ويعتز بكونه ينتمي إليهم.
ضحك والحب يلمع من مقلتيه المشعتين ببهجة هامسا لها بتسلية:
- تختارين أوقاتا خاطئة يا عنقاء، يا قمة أعلى جبل في قلبي.
فلتت ضحكة من بين شفتيها فالتفتوا إليهما مستغربين، ولحظهما الجيد صدح الصوت الغامض من حولهم بعويله المخيف، فقال لهم أحمد بحيرة:
- أتمنى أن أعرف مصدر هذا العويل.
استقام إسحاق واقفا يعلق باستغراب وهو يطرق سمعه بتركيز:
- لم يعد نواحا...إنه....يا إلهي! كيف لم أفهم ذلك من قبل؟!
تدخلت صبر تقول هي الأخرى باسمة بسخرية من نفسها:
- أنا أيضا اكتشفت مصدره، كيف تاه ذلك عن بالي؟
تحركت سلمة متشدقة بقولها وهي ترفع لوحةً استغرقت في رسمها، فهي قد عادت إلى هواية الرسم لكنها وبخلاف الماضي تكتفي برسم اللوحات الطبيعية والتجريدية، ولم تعد إلى المعرض حتى بعد مرور السنوات لأنها لم تتجاوز يوما امتهان كرامتها وإن حملت نفسها قدرا من المسؤولية في ما حدث، لكنها كرهت ذلك المكان ولم تعد إليه واكتفت بإرسال لوحاتها لتُعرض فيه.
- لقد اكتشفت مصدره أنا أيضا ومنذ مدة.
اكتفى عبد الحفيظ بتأمل اللوحة بصمت بعد أن منحها غمزة عاطفية مشاكسة بينما إسحاق يهتف هو الآخر:
- وأنا أيضا.
لاذوا بالصمت قليلا يتناظرون فيما بينهم حتى انفجر إسحاق ضاحكاً فضحكوا جميعهم باستثناء أحمد الذي سألهم بحيرة:
- ليفهمني أحدكم من أين يأتي صوت ذاك العويل؟
تدخلت العنقاء وقد استفز شغفها بعلم النفس تشرح له ببساطة:
- ليس عويلا، هو صوتٌ ناتج عن تحرك المواسير القديمة، لكن الظروف المحيطة به في برودة القبو الخالي من الأثاث ورائحة الرطوبة تمنح لخيال الإنسان مرآة ينعكس عليها باطنه، لذا كل من يسمعه يظنه كما يشعر باطنه من حيرة أو عقد.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


منحت صبر زوجها نظرة غامضة فحرك شفتيه دون صوت بكلمة *أحبك* التفتت على إثرها محمرة الوجنتين إلى ابنها تربت على وجنتيه بحنو بينما تسأله:
- ما الذي يحيرك يا ولدي؟
ابتسم بإحراج يحك خلف عنقه وهو ينسحب بعدما عقب بمزاح:
- عن أي حيرة تتحدثين يا أمي، أنا لا أفهم ما تقصدينه!
ترك والدته تشيعه بنظرات متفحصة وتسلق الدرج ليجد جدته في وجهه تبتسم له بمرح وهي تقول له بتسلية:
- كلمت والدتها وطلبت منها أن يضعوك أول اللائحة حين يقررون أن ابنتهم جاهزة للزواج، أكمل دراستك واحصل على عمل، وسأزوجها لك بإذن الله.
قهقه وهو يهز رأسه ثم قبل رأسها ليتجاوزها ونظراته تلمع بحالمية كلها تفاؤل بالمستقبل.
رن جرس هاتف إسحاق فرد عليه ببشاشة مرحة:
- جوزيف يا ابن عمي الحبيب، أين أنت يا رجل؟
نظر نحوه أيوب بحيرة فهز إسحاق كتفيه دلالة عن جهله هو الآخر ثم أنصت إليه بتركيز قبل أن يرد عليه بجدية:
- حاضر، سأكون في انتظارك بإذن الله.
صمت مجددًا ثم عاد للنظر إلى أيوب مقطبا جبينه ليرد عليه بتأكيد:
- حسنا كما تريد، إن شاء الله...السلام عليكم.
دس هاتفه في جيبه بينما يستفسر من أيوب:
- هل حجزت له وسيلة نقل إلى بلدة أهل والدته؟
هز أيوب رأسه بإيجاب بينما يرد عليه بحيرة:
- والدته وصلت قبل أسبوع، وطلبت مني نفس الشيء، أنا متأكد من أن والدتي ووالدي يعرفان شيئا ما ويتكتمان عليه، زوجة عمي صلاح الدين ما كانت لتعود إلى مسقط رأسها لو لم يكن هناك أمر جلل.
بسط إسحاق ذراعيه يتهكم بتعقيبه:
- من تشدق بأن الطلاق لا يعرف طريقا إلى عائلة آل عيسى؟ صبر من فضلك غطي عيني زوجك الجميلتين إنهما عبارة عن رصاص حي!
رمقته صبر بلومٍ فقال أيوب بريبة والبقية يصغون بحيرة وعدم فهم:
- الله أعلم بالذي حدث دفع بيوسف إلى ترك حياته هناك ليتبع والدته إلى بلدتها الأصلية؟! غريب...ماذا يحدث معك يا يوسف؟!
***
(وكما بدأنا ننتهي لكن شتان ما بين البداية والنهاية أم هي ربما البداية)

(في وقت متأخر من الليل)
(غرفة صبر أيوب)
تستند إلى دفة النافذة بينما تمسد بطنها البارزة وهي ترمق النجوم الساطعات بتأمل ساهم تسر بكلماتها لخالقها:
- ربي الرحيم غيرت حزني لسعادة، وعوضت صبري خيرا كثيرا، شفيت جروحي وملأت قلبي سرورا، أعدت إلي سكني وأوصلتني إلى شاطئ مرساي، فلك الحمد يا ربي كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وكلي حسن ظن بك أن تغفر لي ذنبي وتصلح لي ذريتي وتقر بها عيني، أنت أرحم الراحمين.
- ما بها حبيبتي؟ هل يجافيها النوم؟!
سرت رعشة عبر حنايا قلبها وهو يضمها ليمسد على بطنها حيث يتقوقع ثمرة حبهما يردف بهمسه الأجش:
- أم هو الحمل يثقل عليك؟
ابتسمت وهي تغمض عينيها تتذكر الماضي فتزيد قناعة ورضا بما أنعم عليها الله من خير كثير ثم أجابته باسترخاء سرى عبر أطرافها المستندة إليه:
- كنت أناجي ربي الرحيم ولم أكن أشعر بالأرق.
قبّل وجنتها ثم سحبها بخفة إلى السرير بعد أن منعته عن إغلاق النافذة، ثم استلقى جوارها يغطيها بإحكام وهي تستغرق في تأملها للنجوم والقمر. ظلا على صمتيهما الأبلغ من أي كلمات للحظات طوال ثم همس لها بسؤاله:
- هل أنت سعيدة معي يا صبر؟
لم يستطع إخبارها بقلقه على وقوفها جوار النافذة تستغيث بربها كما كانت تفعل من قبل، فكيف يخبرها بأنه كثيرا ما كان يقبع في سيارته يراقبها من بعيد يناجي ربه هو الآخر يسأله الخلاص له ولها ولشقيقه من أوجاعهم؟! حتى يأتي شقيقه مترنحا فيوقظه من تأمله ويرحل جاراً خلفه أذيال خيبته وثقلا يضاف لحمل ضميره؟! لن يتحمل عبء الخيبة مرة أخرى إن تسبب لها بحزن مماثل.
غمره شعور ساحر حين استدارت إليه تلهث تعبا بسبب بطنها المنتفخة، فرفع ذراعيه يستقبلها ليضمها إلى صدره مصغيا لنبرتها المفعمة بالحب يشع من مقلتيها كما تشع الأنوار من القمر خلال النافذة:
- هل أخبرتك بأن الكوابيس لم تزرني منذ تلك الليلة التي أخبرتك عنها؟
ارتفع حاجباه يطالبها بتأكيد ناله مع قبلة شاكرة طبعتها على وجنته:
- أجل هذا ما حدث، والحمد لله، و... أيوب؟!
نادته بهمس رقيق أذاب قلبه إلى حمم من العشق، فرد عليها بنبرة بحة من فرط تأثره بمشاعرهما الصادقة:
- يا صبر أيوب!
ثم اتسعت بسمتها تكمل اعترافاتها السرية المرافقة لاحتوائها السخي لحبيبها وزوجها بعاطفتها:
- أنا سعيدة معك وبجوارك، وأحبك أيوب... وأنا صبرك يا أيوب.... صبر أيوب.

تمت بحمد الله

رابط التحميل الخميس القادم إن شاء الله.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


لاحظ جهاد حالته فضيق مقلتيه متسائلا عما يجعله مترددا، ورغبته تشع من عينيه السوداوين، ربما تردده لعدم قناعته بالتقدم لخطبة فتاة لم يرى وجهها من قبل.
بلل شفتيه ثم قرر خوض مغامرة ليس متأكدا من نتائجها:
- قعقاع كنت لأتشرف بنسبك لكن القدر سبّاق، ومنذ أن رأيت أخت السيد سفيان وأنا أنتظر الفرصة المناسبة لأطلبها منه، فسامحني يا صاحبي، لو كان قلبي شاغرا لكنت الآن أطلب شقيقتك منك.
شلت الصدمة لسانيهما للحظة قبل أن يهتف إسحاق بمرح وقد نسي لوهلة ما ألم بقلبه من ضيق:
- كنت أشك في ذلك، يا إلهي! مبارك يا صديقي أنا سعيد من أجلك.
ابتسم القعقاع هو الآخر يبارك له بلطف وهو يعاتبه:
- مبارك لك يا صديقي، ولا تنس أن النسب سبق وجمع بيننا، كما أنني أثق بمشاعرك.
نظر جهاد إلى إسحاق يكمل خطته التي تنص على الدفع بصديقه نحو رغبته التي لا يبدو أنه على علم بها:
- لكن أنت قلبك شاغر، لمَ لا تفكر في الأمر يا إسحاق؟ نحن نعرف أصل صديقنا الطيب.
فغر إسحاق شفتيه بصدمة والقعقاع يعقب محرجاً:
- ماذا تقول يا جهاد؟ أنا لا أعرض أختي على الرجال.
كان جهاد على وشك الضحك والقعقاع ممتقع الوجه حين انتفض إسحاق يتخصر بغضب غريب على ملامحه المرحة دوما، يهتف ساخطا:
- وماذا تسمي ما كنت تنوي فعله؟
زفر القعقاع مستغفرا وجهاد يمسك بصديقه يعيده للجلوس، وهو يتدخل بمهادنة:
- اجلس يا إسحاق واهدأ، القعقاع محرج ولا يقصد.
ثم التفت إلى المعني يسأله بتلقائية مزعومة ليضع إسحاق تحت الأمر الواقع:
- هل لديك مانع من أن تمنح إسحاق فرصة للرؤية الشرعية، ومقابلة أختك؟!
تجعد جبين القعقاع، وهو يرد عليه بتوجس:
- طبعا لا مانع عندي لكن من الأفضل أن يكون بغير علم والديّ، لأنني لست متأكدا من موافقة إسحاق لما أظنك تدفعه إليه دفعا لا أفهمه.
كان إسحاق يحدق بجهاد مستغرباً، فاتسعت بسمة الأخير يسأله هو الآخر بتلقائيته المدّعية:
- وأنت هل لديك من يشغل قلبك أو عقلك؟
**في الحقيقة نعم، اسم غريب وقعه على السمع جميل، بحثت عن معناه في اللغة العربية ووجدته يعني قمة الشيء ورأسه... العنقاء! يا إلهي!* نفض عنه فكره وتنحنح ليجيبه، متجاهلا لسان حاله ودقات قلبه النافرة حماسا:
- لا.
أشار جهاد بكفيه في الهواء يكمل بجدية مزعومة:
- وهل هناك ما يمنعك من مصاهرة صديقنا القعقاع؟
تعمد حشره في الزاوية فرد عليه بصراحة مندفعة لم يكن يعلم بأنه سيتفوه بها:
- طبعا لا، إنه صديقي وأعرف معدنه الأصلي جيدا، ويكفي أن شقيقته محبة للعلم، وعلم النفس دونا عن كل العلوم؛ ابن عمي الدكتور إسماعيل وزوجته الدكتورة طائعة سيسعدان جدا بالتعرف إليها فهما طبيبان نفسيان، كما أن زوج أخت الأخيرة بروفيسور معروف أيضا في الطب النفسي؛ مختار العربي.
هتف جهاد بذهول:
- البروفيسور العربي يقربك؟ لم تخبرني من قبل؟!
حرك رأسه باستخفاف يجيبه:
- لم تحدث مناسبة، المهم! أنني أتشرف بنسبك يا قعقاع، وأرغب جدا بمقابلة أختك بعد إذنك، وفي حضرتك طبعا.
مسح القعقاع على شفتيه، وبسمة غامضة تفرض نفسها عليه حين سأله جهاد بمرح:
- ما رأيك يا قعقاع؟
أمال رأسه بتأثر وقال له بينما يمد يده نحو إسحاق الذي لم يتوانً عن قبولها:
- اتفقنا.
***
(مقهى السلام)
هل يمكن للإنسان أن يموت خجلا؟ منذ أن أحضرها سفيان إلى المقهى ليحدثها في الموضوع الخاص بعيدا عن والدتها؛ والتي بالمناسبة أضحت صامتة بشكل مريب، أربكها وجعلها تراقبها وكأنها تنتظر انفجار قنبلة في أي لحظة؛ وهي ترتجف فعليا.
هناك من طلبها للزواج، أعجب بها واختارها من بين ملايين الفتيات منهن من يفقنها جمالا!
- أنظري إلي يا جفون.
أطاعته فرق لحالها والشحوب مستول على قسمات وجهها المذهولة كأنها لا تصدق أن أحدا ما قد يعيد النظر إليها مرتين، ناهيك بأن يرغب فيها كشريكة لحياته!
بسط كفه عبر سطح الطاولة بينهما وربت على كفها يستدرك بحنو:
- جهاد شاب صالح، أحسبه ذلك، ولا أزكي على الله أحداً لكن لا تظني أبدا بأن ما أخبرتك عنه يعد نقصا فيه، لقد كنت قريبا منه منذ مدة وكل ما رأيته منه أراح قلبي، والله أعلم بي تمنيته لك، والحمد لله استجاب لي، فخذي وقتك وفكري مليا، وما كنت لأخفي الأمر عن خالتي سعاد لو أردت إجبارك، لكنني أريد منحك مساحة كافية كي تتمكني من التفكير واتخاذ القرار الذي يناسبك.
ظلت تومئ له بسهو منعها من الإحساس بشعور محدد، وكأن خلايا عقلها تخدرت كليا.
- لقد وصل، سأكون قريبا منك فلا تقلقي.
شهقت بخفوت وأخفت كفيها المرتعشتين داخل حجرها، فأطرقت برأسها بينما سفيان يصافح جهاد متبادلا معه بضع كلمات مجاملة لينسحب بعدها نحو طاولة قريبة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


شعرت به يسحب الكرسي ذو القوائم الحديدية وعطره الهادئ يتسلل رويدا رويدا خلال فتحتي أنفها فيدفع بمزيد من الدماء عبر أوردتها لتزداد دقات قلبها جنونا.
لم تتخيل نفسها ستوضع في مثل ذلك الموقف أبدا، بفضل والدتها وما تمليه على أسماعها من تحقير أقنعها فعلا بأنها لن تحذو حذو شقيقتيها ولن تتزوج فحرّمت على نفسها أحلاما قد تضيف إلى جحيمها مزيدا من الحطب لتؤججها.
- حمممم!
تنحنح فلم ينجح بجعلها ترفع رأسها إليه، لولا تأكده من موافقة أخيها وسعادته الظاهرة على وجهه وهو يطلبها منه لظن الآن أنها ليست موافقة.
ورغم أن سفيان أخبره بعدم معرفتها وبأنه سيدبر بينهما لقاء ومهما كان رأيها فهو المهم، لكنه لم يخطئ أبدا البسمة التي لمعت بالحماس في مقلتيه، أم أنه ربما حماسه هو الذي صور له ما يرغبه.
- السلام عليكم ورحمة الله.
بادر بلطف فردت عليه بخفوت تحية السلام بينما هي محافظة على إطراقها وكفيها في حجرها.
بلل شفتيه ومال نحوها قليلا يقول لها بنفس اللطف:
- لا أعلم كيف أبدأ الحوار معك، أعترف بأنها أول مرة، وأظن أنني خجل بعض الشيء ومحرج.
دق قلبه حين رفعت وجهها ترمقه بذهول غير مصدقة، ومقلتاها كما كانتا من قبل يسكنهما حزنٌ ويأس ولمعة دموع وشيكة.
ابتسم بإحراج وهو يمسد خلف عنقه، مستدركا:
- أؤكد لك إنها أول مرة أجلس فيها مع فتاة ولا أعلم ماذا أقول! فهلا ساعدتني ووفرتي علي القليل من الإحراج؟ طبعا لو سمحت.
رمشت بعينيها مرات عدة تحاول أن تستوعب وقبضتاها تشتدان على ثوب تنورتها من الجانبين كأنهما لجام يمنعها عن الفرار من ضغط الحياء والتوتر.
لاذ بالصمت قليلا وقرر المحاولة من جديد حين طال الصمت بينهما، فهي قد أطرقت برأسها مجددًا وغاصت في حيرتها الخاصة.
- لماذا؟!
أغلق فمه حين وصله همسها فنظر نحوها متسائلاً ليتأكد من أنها نطقت:
- لماذا ماذا؟!
أطلقت سراح إحدى قبضتيها أخيرا لترفعا إلى طرحتها الرمادية تتفقدها بسهو بينما تكمل بخفوت خجل:
- لماذا أنا؟!
ارتد رأسه بخفة مدركا مغزى سؤالها فتبسم بدفء يعيد عليها سؤالها:
- ولمَ لا؟!
بللت شفتيها بحرج وكفها تتحرك نحو جبهتها تتمنى الغوص في مقعدها بينما تفكر *لماذا الوضع صعب لهذه الدرجة؟!* قبل أن تتجمد حين طالبها بغموض:
- هل أنت رافضة يا آنسة جفون؟
رمقته بدهشة قبل أن تشيح عنه بعينيها، وقررت تجاوز صدمتها تلك اللحظات على الأقل فبلعت ريقها وأومأت له بسلب فاتسعت بسمته يستفسر منها بمكر:
- لا!!
شهقت بخفة ونظرت إليه قبل أن تحمر بخجل وهي تدرك تسليته. تنهد جهاد برضا وهو يضم سترة بدلته الزرقاء ليسند مرفقيه على سطح الطاولة، مستطردا بلطف:
- إذن لماذا أنا؟! لماذا أنت موافقة علي بكل ما أخبرك به السيد سفيان عني؟!
تجعد جبينها بينما تجيبه بصدق ونبرتها لم تتخل عن الحياء فيها:
- أخي يحبك وهذا يكفي بالنسبة لي فأنا أثق بحكمته.
علت نظرة التأثر صفحة عينيه وقال لها بنفس اللطف:
- وأنا أيضا أثق بتربية السيد سفيان، وأبادله نفس الحب.
سعلت بحرج فاتسعت بسمته وهو يضيف:
- إذن نحن متفقان؟!
منحته نظرة شك ثم عادت لتطرق برأسها فتنهد بيأس يستفسر منها بوجوم:
- ماذا هناك يا ابنة الناس ؟ من فضلك أخبريني ولا تقلقي.
بلعت ريقها مجددًا تجاهد عذابها الشخصي قبل أن تنطق بخزي مصرة على التأكد من شكوكها، فخيالها يضنيها بتكهنات أليمة:
- هل... أقصد ... أخي عرضني عليك؟!
عقد جهاد جبينه بحيرة انقلبت إلى إدراك حين أكملت بوجع شعر به:
- إن كان احترامك لأخي ما يجعلك تقبل باقتراحه فأنا أحلك من ذلك، وسأرفض أنا.
ضيق مقلتيه وهو يسألها بترقب:
- لماذا تظنين بأنني سأتزوجك إكراما للسيد سفيان؟
رق قلبه لحالها وملامحها المتشنجة بحزن غريب.
صمتت لأنها لا تعرف كيف تشرح له!؟ هل تخبره بأنها ذميمة الملامح كما دأبت والدتها على إخبارها حتى أضحت تكره النظر إلى المرايا! أم تخبره عن قناعة والدتها التي ترسخت داخل أحشائها بأنها لن تلفت نظر رجل إلا بالحيلة كما كانت تخطط مع خالتها.
طال بينهما الصمت مجددًا فأضاف جهاد بجدية مرجئا سبر أغوار الجروح النفسية الظاهرة على محياها إلى ما بعد، حين يحصل على ثقتها ويكون أقرب الناس إليها:
- أنصتي إلي آنسة جفون.
جفلت من خزيها ترمقه بنظرات لامعة بحزن دفين، فأكمل بتصميم حازم:
- أنا من اخترتك ولم يعرضك علي أحد، حتى أنني قبل شهور معدودة كنتِ حلما مستحيلا بالنسبة لي.
فغرت شفتيها بصدمة وهو يكمل:
- لن أعتبره حبا فالحب يأتي بعد المعاشرة الحسنة لكن إعجابا وقع في قلبي نحوك منذ أن وجدتك صدفة تبكين قرب سلم بناية السيد عبد الحفيظ، حينها استولت علي رغبة قوية في أن انتزع الألم والحزن من على ملامح وجهك، وأن أمسح دموعك وظل ذاك الحلم مصاحبا لي أنيسا لوحدة قلبي اليائس من الوصول إليك، لكن الله رحيم وكريم، وها نحن ذا لا يفصل بيننا سوى قبولك بي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


ما تزال معالم الصدمة متشبثة بوجهها بينما هو يغير نبرته إلى بعض من المرح:
- لكن قبل أن تفعلي دعيني أخبرك عني قليلا، أنا شاب في بداية حياتي المهنية أسكن مع والداي ولا أستطيع تركهما لأنني وحيدهما، شقيقتي الوحيدة تزوجت ولم يبق لهما سواي... ها؟! ما رأيك؟! هل ستجبرين بخاطري أم سأعود أدراجي مكسور القلب؟!
لمحت تسليته مجددا فابتسمت على استحياء ثم ردت عليه بخفوت:
- ليقدم الله ما فيه من خير.
اتسعت بسمته بينما لسان حالها يكمل لقلبها بخفر:
- أمي مخطئة وهناك من اختارني، رآني وأعجب بي ويريد الزواج بي، أمي مخطئة...مخطئة.
***
(في يوم آخر)
(وفي مكان آخر...)

لم يكن القعقاع بذلك اللطف الذي كان عليه سفيان حين ترك جهاد مع جفون فقام الأخير بالواجب وسحب صديقه رغما عنه بينما يهمس له بتسلية ماكرة:
- تعال يا قعقاع...امنحهما فرصة للتحدث.
زفر القعقاع بينما يبتعد إلى الجهة المقابلة من قاعة الضيوف في بيت أهل جهاد حيث اتفقوا على أن يجمعوا بينهما مغمغما بحنق طفولي:
- وماذا سيقولانه مثلا ويعد سرا؟ إنها مجرد مقابلة تعارف.
ضحك جهاد بفكاهة وهو يهز رأسه بيأس، جالساً أمامه وموليا ظهره لشقيقة الأخير لكي تكشف عن وجهها أمام إسحاق.
***
- أنت جميلة آنسة عنقاء.
شهقت بخفوت تستنكر بهمس ذاهل وهي تخفي فمها بكفها توترا وإحراجا:
- هل جننت؟
ارتفع حاجباه دهشة، يسألها بريبة وعيناه ترفضان التزحزح عن ملامحها الجميلة:
- لماذا تقولين ذلك؟
رمقته بعبوس ذكره بجبين القعقاع حين ينعقد غير أن التي أمامه أنثوية للغاية وبعيدة كل البعد عن خشونة وملامح شقيقها:
- لأنك تغازلني.
- أغازلك؟!
نطق بدهشة ليستدرك بتلقائية:
- هذه أول مرة أراك فيها، ومن باب اللباقة يجب أن أعبر لك عن رأي في شكل ملامحك، وهو أنني أراك جميلة آنسة عنقاء.
لا تنكر أن قلبها رفرف بحالمية وهي تنصت إلى كلماته التلقائية ونبرته ذات النغمة المختلفة لنشأته في بلد أجنبي حسب معلوماتها الكثيرة، فهي لم تفارق أخاها منذ أن أعلمها برغبة صديقه بلقائها في رؤية شرعية حتى استنفدت جميع موارد معلوماته عنه، وهذا ما يدفعها الآن لتصديقه، تلك التلقائية الغريبة التي ينطق بها ونظراته بين الجرأة والحذر كأنه يؤدب من تصرفاته التي تربت على حدود مغايرة، وذلك ما يدفعها إلى الحذر هي الأخرى مخافة جرأة لن تتقبلها وإن كان طمعها ينحصر في سماحه لها بالدراسة كما تشاء.
- حسنا لا يهم، هلا تحدثنا في ما يهم؟
ردت عليه بجدية، فضحك رغما عنه وهمس ببعض التسلية مستمتعا بالحمرة المزينة لوجنتيها:
- كنت أظن بأن أهم شيء عند الفتيات هو أن يجدها خاطبها جميلة؟
ضم شفتيه يكتم بسمته المرحة بينما هي تحمر بخفر دق له قلبه.
تهربت منه إلى تأمل ملابسه العصرية المكونة من سروال جينز أزرق وقميص من نفس اللون عليهما سترة أغمق بدرجة...مجددا عليها الاعتراف بتأثيره عليها سواء بأناقته أو عطره الفواح:
- لست خطيبتك بعد، وهناك ما يهمني أكثر من أن تراني جميلة.
هز رأسه بتفهم وقال لها بلطف حين لمح نظرات القعقاع المحذرة من بعيد:
- حسنا آنسة عنقاء، تفضلي أخبريني وأنا كلي أذان مصغية.
تنفست بعمق تستعيد كل ما جهزته من كلمات مسبقاً، فها هي الفرصة لتحقيق حلمها الوحيد قد أتتها على طبق من فضة ولن تخسرها حتى تقاتل بشجاعة على الأقل إذا استدعى الأمر:
- أول ما يهمني هو دراستي.
قاطعها بحماس:
- لك ذلك ودون سنوات محددة، يمكنك الدراسة إلى أن تشيخي بإذن الله، بل الى آخر نفس في صدرك بعد عمر طويل طبعا.
وكأنها جفلت لبرهة قبل أن توقظها المضخة في صدرها بصخب دقاتها، فبلعت ريقها تفر من نظراته اللامعة بمشاكسة محببة:
- نقابي لن أتخلى عنه، وعلى عائلتك التكيف مع ذلك.
لم تسمع رده فرفعت رأسها لتجده يبتسم لها بمرح بينما يرد عليها أخيراً:
- آنسة عنقاء لنختصر على أنفسنا ما سيُضيّع الدقائق القليلة التي أنا على يقين من أن شقيقك سيَعُدُّها علينا، كل ما يخص الحريات الشخصية لن تجدي معي فيها مشكلة فقط لا تتعدى الحدود التي شرعها الله.
فتحت شفتيها الزهريتين خِلقة، ففكر في أن خطيبته المستقبلية جميلة دون زينة وأصباغ اصطناعية وهذا يعجبه، بل تعجبه كلها في الحقيقة، وسيتذكر شكر صديقه جهاد لاحقا لأنه دفع به دفعا نحوها.
استجمعت نفسها تتساءل وكأنها غير مصدقة:
- هل أنت جاد؟ يعني ... أقصد ...أعتذر إليك.
اتسعت مقلتاه بحيرة فسجل عقلها أن عينيه السوداوين أجمل ما فيه:
- آنسة عنقاء انطباعك عني سيء جدا على حسب ما أسمعه منك، وهذا يجعلني أتساءل عن السبب، فلا أجد جوابا سوى صديقي العزيز قعقاع.
صمت حين حركت رأسها مستنكرة بخفوت:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


- لا...أنا فقط ... أقصد... أنت نشأت بين أبناء الغرب، وكنت أخشى.
ابتسم بهدوء وقرر التحدث ليعفيها من الإحراج:
- أفهمك ... أنا بالفعل نشأت في بلد أجنبي حيث للتحرر معنى آخر وللحدود قوانين مختلفة لكن هناك أشخاص في حياتي كان لهم تأثير إيجابي سواء بتجاربهم الناجحة أو السيئة كذلك، والنفس لا تحتاج سوى لظروف مناسبة مع أشخاص مناسبين وبتوفيق وهداية من الله فتعتدل وتنشأ سوية بإذن الله، وأنا لا أدّعي إيمان الأولياء لكنني أحب الله وأحب طاعته، وأفضل أن أموت وأنا أجاهد في ذلك على أن استسلم لليأس لأي سبب كان.
حسنا! الآن بدأت تحترمه وليس فقط تعجب به، هزت رأسها بتقدير لم تستطع إخفاءه فاستدرك متسائلاً بمرح:
- هل هناك شيء آخر؟!
بللت شفتيها حياء ثم قالت له:
- تفضل! حان دورك، ما هي طلباتك؟
تنهد بدفء وهو يرمقها بإعجاب بينما البسمة المشاكسة تتعلق بثغره وهو يجيبها بمكر:
- هو طلب واحد فقط، أن تحبني من يقدرها الله زوجة لي...هذه أمنيتي الوحيدة.
شهقت مجددًا بفجأة فضحك من فرط خجلها:
- غطي وجهك يا عنقاء وانتظريني عند الخالة أم جهاد!
انتفضت الفتاة بطاعة وأسرعت بتغطية وجهها وهي تنصرف، فرفع إسحاق رأسه إلى صديقه يهتف بامتعاض:
- هادم اللذات!
- لذات؟!
هتف القعقاع بتهديد فضحك جهاد وهو يضمه من كتفيه ليجبره على الجلوس قرب إسحاق، يتدخل ببشاشة:
- دعنا نبارك للعريس، الموافقة ظاهرة على ملامحه الحالمة.
- احترم نفسك يا جهاد!
صاح القعقاع فاندهش جهاد بحيرة:
- يا رجل ما بك؟ إسحاق سيناسبك، إنه خبر رائع، سنصبح عائلة يا شباب، وسيربطنا الدم وليس فقط الصداقة..
رفع القعقاع حاجبه بينما يرمق إسحاق الباسم بحالمية بطرف عينه ثم رد على جهاد بترقب:
- لم يخبرنا بعد برأيه، لنبارك له.
لكزه جهاد فوعى من أحلام يقظته ليرد عليه بمرح:
- طبعا موافق...وموافق جداً.
ضحك جهاد بصخب فما كان من القعقاع إلا أن ابتسم بخفة وهو يتبادل التهاني مع صديقيه، ويضع برفقتهما خططا ليتم الأمر بعيدا عن تسلط شقيقه.
***
*لا تقنطوا من رحمة الله*
(شقة والداي سيباستيان في الدولة الأجنبية)
دس سيباستيان ذراعه خلف ظهر والده يسنده ليُعدل الوسائد من خلفه ثم أسقاه الدواء وأعاده ليرخي رأسه على المخدة ثم جلس على الكرسي قرب السرير يرمقه بنظرات حانية.
- ليس عليك البقاء هنا طوال الوقت سيباستيان، يمكنك العودة إلى عملك، والدتك ترعاني.
تبسم في وجهه بينما يرد عليه بحنو، يخفي في قلبه خوفا من الفقد أدرك مدى قربه من الجميع منذ أن أصيب والده بأزمة قلبية قبل شهر، كانت الإنذار لهم بأن الحياة ليست دائمة ولابد من أن الرحيل يوما ما سيحين وقته.
- أحب الجلوس برفقتك، وأشتاق للتحدث معك.
رقت النظرات في عينيه خلاف رده المتذمر:
- لا تقلق لن أموت الآن، فلا تظن بأنك تستغل الوقت الباقي لي لكي تشبع مني.
ضحك سيباستيان ونهض ليقبل رأسه وجاوره على السرير قاعدا بينما يجيبه بمرح:
- بل لا تقلق أنت يا أبي، فالله جل جلاله يقول بأن الأجل لا يرتبط بعمرٍ أو مرض، وقد أموت قبلك.
- لا تقل ذلك!
زجره والده بنظرة عاتبة، فتنهد سيباستيان وقال له بدفء:
- أنا أستغل بابا واسعا من أبواب الجنة يا والدي، فالله قرن حق الوالدين بحقه سبحانه في أربعة مواضع في القرآن، وقرن شكر الوالدين بشكره أيضا في موضع، وخصص آية يأمر فيها الأبناء بحسن صحابة والديهم حتى إن كانوا على غير دين الله، سأترجم لك الآية يا والدي لتفهمها ثم أتلوها عليك كما أنزلت.
ترجم له كلمات الآية بينما والده يرمقه باهتمام وتركيز حتى فاضت مقلتاه بدمع التأثر حين تلاها عليه كما أنزلت بتجويد مؤثر سلب لبه وإن لم يفهم اللغة العربية:
- (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} *سورة لقمان* ...أمر الأبناء بعدم طاعة والديهم في معصيته والشرك به لكن مع حسن مصاحبتهم والاعتناء بهم والنبي محمد عليه الصلاة والسلام دعا بالمهانة والصغار على من أدرك أحد والديه او كلاهما ولم يدخل الجنة ببرهما، هل تعلم من كان يؤمن خلفه؟
رمقه والده باستفسار مهتم فرد عليه باسما بحنو:
- أمين الوحي، جبريل عليه السلام، أنا هنا ليس فقط لأنني أحبك يا والدي بل لأنني أحب الله وأتذلل إليك بأمر منه سبحانه لكي أحظى برضاك ورضا أمي الذي هو من رضا ربي.
رفع يده ومسح دمعات فرت من عيني والده حيث أصبح اللون الأخضر أقرب للرمادي من قتامته بينما الأخير يرمقه بتأثر ثم ربت على ذراعه المستريحة على جانبه قبل أن يعدل له طرف الغطاء الأبيض المزركش برسوم بتلات أزهار خضراء على حدود نصف صدره مضيفا بلطف:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


- أستغرب ترددك يا والدي فعينيك فيهما القناعة جلية فلماذا التردد؟
حرك والده رأسه بعدم يقين ثم أفصح له عن حزنه:
- وهل يقبل الله عودة عجوز مثلي إليه، على مشارف الموت؟! بعد أن قضى حياته الطويلة بعيدا عنه؟!
تشنجت ملامح سيباستيان بضيق من تعبير والده فرد عليه بهدوء حزين:
- وهل أنت تموت في هذه اللحظة يا أبي؟!
أومأ له والده بحيرة فابتسم له بأسى بينما يكمل:
- لحظة خروج الروح لا تقبل فيها توبة ولا ينفع فيها إيمان متأخر يا والدي، تسمى لحظة الغرغرة أو يوم شروق الشمس من مغربها، وبما أن في هذه اللحظة بالذات لم يئن أوانهما بعد فعودتك لله بإذن الله مقبولة مهما بلغت أخطاؤك ومهما كانت حياتك التي عشتها قبلا، لا تدع الشيطان يفوز في معركته معك يا أبي...أتوسل إليك...أنا أحبك وأتحسر على ما تحرم نفسك منه.
مسح الرجل على شفتيه وبلع ريقه الجاف وهو يرمقه بلهفة المحارب للنجاة يطالبه بارتباك وحروف متقطعة:
- إن أسلمت الآن الله سيتقبلني؟!
أومأ له ابنه بثقة ومقلتاه تلمعان بدموع وشيكة بينما يؤكد له بصدق:
- بالتأكيد يا أبي، خالقنا رؤوف بعباده لا يرفض بإذنه تائبا عائدا إليه، إنه الرحمن الرحيم ويقبل التوبة عن عباده.
صمت والده للحظة غارقا في سهوٍ وعى منه فجأة ليهتف بنبرته الواهنة:
- علمني الطريقة يا ولدي.
تلاحقت أنفاس سيباستيان بلهفة يسأله بعدم تصديق:
- حقا يا أبي؟ هل تريد أن تسلم؟!
هز رأسه بإيجاب وقد تدحرجت الدموع على وجنتيه المحمرتين من فرط تأثره يقول له بحزن:
- أدعو الله أن يقبلني، فماذا سأكسب إن لم أحاول؟! وبعد ما أخبرتني به أملي في الله كبير....هيا علمني ماذا أفعل؟
ضحك سيباستيان بسرور وهو يمسك بيديه يقبل ظهريهما ثم قال له بحنو:
- أولا يجب أن تنطق بالشهادتين، بهما تحدد عقيدتك وتصرح للكون أنك موحد لخالقه الذي لا إله سواه وتشهد لنبيه محمد بالرسالة، ردد خلفي يا أبي؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ردد والده الشهادتين خلفه ودموعهما النادرة مدرار على وجهيهما دون خجل أو كبرياء يرضخان لهيبة اللحظة ولهيبة وقدر من يرجوان رضاه ورحمته.
أليست بلحظة عظيمة تلك التي يعود فيها القلب ليتعلق بأصل خلقه؟!
أليست بلحظة عظيمة تلك التي يجد فيها القلب سلامه المفقود أخيراً؟! مرساه على شاطئ أمانه؟!
تلك أعظم اللحظات حين يجد المخلوق طريقه نحو خالقه، حين يعلن للكون أنه وجد ربه، وجد أمانه، وجد سلامه، وجد سعادته الأبدية.
مسح سيباستيان على جبهة والده المتعرقة، يبشره بحب:
- سأعلمك كيف تغتسل وكيف تتوضأ لتصلي، لكن قبل ذلك أنت الآن بإذن الله على صفحة بيضاء كما وُلدت من رحم والدتك يا أبي، فالإسلام يجُب ما قبله لذا دعْوتك الآن مستجابة بإذن الله، فاستغل اللحظة.
رمقه بشك فأومأ له بتشجيع يحثه ثم منحه وهلة يستجمع فيها أفكاره ليقول بعدها ويداه مرفوعتان أمامه كما رأى ولده يفعل من قبل:
- أدعو الله أن يقبل توبتي إليه، وأن يهدي والدتك وشقيقتك إليه، ويجمعنا جميعا في جنته بعد الموت، أدعو الله أن يرضى عنا ... آمين...آمين.
لم يعي سيباستيان على نفسه إلا وهو يخر ساجدا يحمد ربه، نحيبه يهز صدره ثم انتفض قائما إلى والده ليضمه الى صدره يحمد ربه مرارا وتكرارا ليسأله الأخير بدهشة من موقفه وصدق فرحه:
- هل أنت سعيد لهذه الدرجة؟!
قبل رأسه بحنو ثم ضم وجهه في بادرة لم تكن بينهما من قبل، بينما يخبره بحب صادق:
- طبعا أنا سعيد، قلبي يرفرف سعادة وسرورا، لقد كنت أخشى أن تموت على الشرك يا أبي وحينها لن أملك لك من الأمر شيئا ولا حتى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لن يملك لك من الأمر شيئا، فالله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء إلا الشرك لا يغفره الله يا أبي، ومهما دعوت لك ما كانت دعواتي لتنفعك وأنت مشرك بالله لكن الآن سأظل أدعو وقلبي كله يقين من أنه يستجيب لي.
رفع والده كفيه المرتعشتين ليمسح دموع ولده متسائلا عن عظم هذا الدين، وهذا الإله العظيم الذي يدفع بعباده نحو كل هذه الرقة في القلوب حتى يخشون على ذويهم وعلى غيرهم من الهلاك.
- هيا علمني الخطوة التالية، الآن ستجالسني رغما عنك حتى تعلمني كل ما تعرفه.
ضحك سيباستيان وتنهد يجيبه ببهجة وهو يقبل ظهر كف والده:
- لا أحَب على قلبي من ذلك يا والدي، لو فقط تعلم! أنا أحبك يا أبي.
اتسمت مقلتا والده باتساع طفيف للحظة قبل أن يضمه إلى صدره يهمس هو الآخر بحب لطالما حمله في قلبه نحوه منذ ولادته:
- وأنا أيضا أحبك يا ولدي.
***
(في يوم آخر وفي مكان آخر)
(شقة مهذب)
كانت نادين تهز رأسها وإلهام مستغرقة في ما تخبرها به، وهما قرب طاولة المطبخ تجهزان اللمجة المكونة من الشاي بالنعناع وفطائر ساخنة مع العسل والجبن وزيت الزيتون.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


- هل تشعرين بتوعك هذه الأيام؟
مسدت نادين على بطنها المنتفخة أسفل فستان فضفاض طويل إلى حدود الكعبين ثم أشارت إلى أسفل ظرها بملامح متشنجة:
- أجل، أسفل ظهري يؤلمني منذ أن دخلت شهري التاسع، وقدماي انتفختا مثل عجلات الطائرات.
ضحكت إلهام بمرح وهي تحمل صينية الشاي، وشاكستها بينما نادين تتبعها بطبق الفطائر:
- لا تقولي ذلك أمام مهذب سيمازحك بالأمر ولن يعجبك ذلك أبدا.
لمحت المعني يتوسط شقيقه الأكبر وزوج إلهام يتابع حديثهما بهدوئه المعتاد الذي لا يفقده سوى معها حين تثير جنونه، وإن كان أمرهما دخل في هدنة اتفقا عليها ضمنيا منذ أن أخبرته بحملها وطلب منها العودة، ليعود هو إلى صبره معها فيمتنع عن انتقاداته ورفضه لأغلب تصرفاتها، ولغرابة الأمر أضحت هي الأخرى أكثر حذرا ومراعاة لما يحبه ويريده منها، لتكتشف أن الأمر لم يكن بتلك الصعوبة خصوصا إذا كانت النتيجة لمعة الفخر كالتي تلتقطها الآن من عينيه الغارقتين في تأمل حجابها بلون الأرجوان كلون الفستان الساتر لسائر أطراف بدنها.
نادين تحجبت وقررت أن تتقرب من حبيب قلبها بما يحبه، قد يعتبرها كثير من الناس تائهة الأهداف بالبحث عن رضا زوجها وليس رضا خالقها كما يدّعون، لكن متى كانت تهتم بآراء الغير؟! هي مقتنعة بأنها أبدا لم تكن بعيدة عن ربها، هي فقط ظنت بأنها تطيعه بما هو في مقدرتها، وهو يعلم ما في نفسها وترجو منه أن يغفر لها برحمته، لكن لو كان ذلك غير كافٍ بالنسبة لزوجها ستحاول أكثر من ذلك، ألا يخبرونها بأن رضا زوجها من رضا ربها؟!
إذن هو يستحق وأسرتها تستحق! لقد عاهدت نفسها أن تجهز لابنها محيطا آمنا مليئا بالحب والتفاهم لينشأ بعيدا عن أي تعقيدات، تدين له بذلك كما كانت هي تدين لأهلها بالمثل، ومع مرور الوقت تأكدت من أنها أيضا كانت في حاجة لذلك السلام النفسي وتلك المصالحة مع نفسها العليلة.
ترك الرجلين مسترسلان في حديثهما والتقط فطيرة ليضعها على طبق أصغر قام بدهنها بالجبن والعسل ثم طواها على شكل مربع كما تحبها وقام من مكانه متجها نحوها.
تابعته ببسمة محبة متجاهلة همس إلهام المازح ثم رمقتها بعتاب فابتعدت عنها أخيرا تسمح لشقيقها بالجلوس جوار زوجته.
- خذي، إنها كما تحبينها.
هزت رأسها تبتسم له بحلاوة متناولة الطبق من يده فاستطرد بقلق بعدما تفقد الزرقة الشاحبة أسفل مقلتيها التعبتين:
- أنت منهكة، يجب أن تتسطحي.
عبست بخفة ترد عليه باستنكار خافت:
- بل يجب أن أتحرك أكثر، ابنك سيتضاعف حجمه داخل بطني فأتعذب أنا في ولادته، ولن يجدوا بُدا من عملية قيصرية لإخراجه.
عض شفته السفلى يكتم بسمته ثم قال لها بمرح:
- لا تقلقي، بإذن الله سيخرج بخير، احذري أنت من أن يتضاعف حجمك أكثر من هذا.
امتعضت بردها وفمها ممتلئ بقضمه كبيرة من الفطيرة:
- ظريف! لا أنصحك بالتمادي في ذلك، فرد فعلي لن يكون مضمونا، ألم ينصحوك بعدم إثارة غضب امرأة حامل من قبل؟!
رفع كفيه باستسلام بينما يجيبها بخوف مزعوم:
- آسفون يا حضرة الحامل وأجارنا الله من غضبكم.
بلعت ما في فمها لتجيبه بتعال مزعوم:
- من حسن حظك أنني منهكة القوى، وسأسامحك.
برقت مقلتاه بشغف خفي ومال نحو أذنها ليشاكسها بمرح:
- إذن لنعقد اجتماعا رسميا للصلح بعد انصراف الضيوف؟!
لم تستطع إخفاء الحمرة الزاحفة عبر بشرة وجهها وهي ترمقه بلوم وحرج، فضحك يكمل همسه بينما يسر في نفسه سعادة يدعو الله أن يديمها عليهما، فبعد صبر طويل ومرير بدأت غنائمه تهل عليه، وما أجملها من غنائم وما أعظمها من نتائج:
- إنها من وصايا الدكتورة لتيسير الولادة بإذن الله.
***
*لقاء بين الماضي والحاضر ومستقبل في علم الغيب*
(بعد شهور أخرى)
(زفاف إسحاق)
وكعادة آل عيسى في تنظيم حفلات العرس، نصبوا خيمة على سطح المنزل الشاسع وخصصوا يوما للرجال وآخر للنساء بعد أن أحضروا العروس من بيت أهلها الذي أقاموا فيه حفلا يخصهم.
كان التصميم باديا على وجه سفيان وهو يحاور زيد بهدوء وبرود.
منذ أن أخبره جهاد عن شخصيته الصعبة وما تعانيه عائلته بسببه وقد حمل على عاتقه مسؤولية محاولة استمالته إلى أن يأذن الله، ولقد كان إقناعه بحضور حفل عرس شقيقته أول إنجازاته.
- يا سيد زيد فقط أخبرني ما الذي يغضبك الآن؟
لم يغفل القعقاع ووالده كجهاد غير البعيدين عنهما، وزيد ينفخ الدخان الأسود من أنفه بصمت فاستدرك سفيان ببعض المكر:
- هل رأيت لا سمح الله ما يغضبه هنا؟ فأنا مثلك لن أرضى بذلك.
التفت إليه بعبوسه الشهير فينقبض قلب سفيان من مظهره ذاك ثم يستغفر ربه سرا، يسأله التوفيق، فسبحانه من يمنح نور القبول والمحبة لعباده ويمنعها عن آخرين:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


- كما ترى والحمد لله آل عيسى لا يرضون بما يغضب الله، ويرفضون الاختلاط دون ضوابط.
رفع أحد حاجبيه بخطورة ومال نحوه يرد عليه بتهديد:
- هل تظنني غبيا لأصدق عن عائلة نشأ أولادها على أرض الكفر الالتزام؟! أعلم بأن هذا كله تمثيل وسأكشفه لك يوما ما بما أنك تدعي أنت أيضا الالتزام.
في الحقيقة هو قد سبق له السؤال عن سفيان بعد أن احتك به مرات عدة مستشعرا رغبة الأخير في التقرب منه لغاية يجهلها لحد الآن، لكن ما سمعه عنه وعن سمعته الجيدة حال بينه وبين رغبته في الإطاحة به متهما إياه بتجاوزاته لو كان فقط حصل على دليل عنها لكنه لا يستطيع قول نفس الشيء عن آل عيسى فبالنسبة له من يكبر على أرض الكفر يعود محملا بفيروسات حتى لو كانت مجهرية سيظهر أثرها مع الوقت مسببة أمراضاً فتاكة، متجاهلا السبب الحقيقي والذي هو إحباط خطته بتزويج العنقاء من أحد رفقائه داخل جماعته، وبالتالي عودته إلى بيت والده طار أدراج الرياح.
منحه سفيان نظرة غامضة بينما زيد يكمل من بين نواجذه وهو يشير إلى مكان ما:
- وها هو الدليل الأول، ذاك الرجل الكافر ماذا يفعل هنا؟ لأنه ابن جيرانهم على أرض الكفر ...أنا متأكد!
ضيق سفيان عينيه على وجه زيد يفكر قليلا ثم التفت إلى من يقصده، يحيه بلطف شابه بعض الغموض:
- سيد عبد الرحمن كيف حالك؟
أخفى زيد دهشته حين نظر إليهما سيباستيان ليرد عليه التحية بلطف:
- الحمد لله، على خير حال ...الحمد والفضل كله لله...شكرا لك على سؤالك سيد سفيان.
نبرة سيباستيان ذات اللدغة الخاصة بالأجنبيين المتحدثين باللغة العربية أعلمت زيد أنه بالفعل أجنبي، لكن يقينه من كفره قبل قليل بدأ بالتزعزع.
تجاهل سفيان دهشة زيد وهو يلفت نظر الرجال الحاضرين بنبرته العالية حين طرح على سيباستيان سؤاله التالي:
- أخبرتني بأنك تبحث عن معنى التقوى، ولن تتوقف حتى تجد له مثالا بسيطا يجمع كل معانيه، هل توصلت لذلك يا سيد عبد الرحمن؟
ارتبك عبد الرحمن *سيباستيان* قليلا والحمرة تطغى على بشرته الشاحبة، ورد عليه ببسمة مجاملة:
- أظن ذلك ... لكن لست متأكدا إذا كان يجمع كل معانيه، فلقد تعلمت أن الله سبحانه لا ينزل مفردا أو آية إلا كانت معانيها خاصة وعامة يصعب حصرها في معنى واحد، وتلك بحد ذاتها معجزة لم تحدث من قبل.
أومأ له سفيان بتفهم والجميع مطرق سمعه بتركيز من ضمنهم زيد الذي بدا له متفاجئا أكثر من مهتم، فاسترسل سيباستيان بعد أن اعتدل في جلوسه يفسر ما أوصله إليه تفكيره بعد ما قرأه عن أمثلة وتفسيرات لمفرد التقوى:
- في الحقيقة لاحظت مثالا قريبا جدا على أرض واقعنا، وهو علاقتنا بإشارة المرور ذات الألوان الثلاث؛ الأحمر والأخضر والأصفر.
تلكأ يخفي إحراجه من الأعين المسلطة عليه ثم استدرك:
- سائق السيارة يلتزم بجانبه على الطريق ثم يخفف من سرعته وقاية وهو يلمح الإشارة تومض باللون الأصفر استعدادا للتوقف حين تنقلب إلى أحمر فيقف على مقربة من خط الوقوف وليس فوقه أو بعده، فيكون بذلك قائما بواجبه على أفضل وجه قبل أن يحصل على حقوقه ضمانا لسلامته الشخصية وسلامة من حوله ثم ...
رفع كفه يكمل استفساره بعد أن بلع ريقه:
- وحين تصبح الإشارة خضراء لا يتسرع بأخذ حقه المشروع له حتى يتفقد الطريق الخالي من كل الأخطار أمامه بعدها يتوكل على الله...لأن ذاك الحق حتى لو كان مشروعا له ويعاقب من يسلبه منه لأي سبب، عليه تفقد ظروف أخذه لحقه تحقيقا لسلامته، فمثلا لو أنه أخذ حقه المشروع له في الطريق بعد أن ومضت الإشارة باللون الأخضر دون أن يتفقد خلوه من الأخطار ثم ارتطمت سيارته بسيارة أخرى مهما كان سبب وجودها هناك في ذلك الوقت، ماذا سيكسب إن هو فقد حياته أو تسبب بالموت لأحد من الركاب في سيارته؟! أو أصاب أي منهم عاهة مستديمة؟ حتى والقانون يضمن له القصاص من ظالمه، هل سيعيد ذلك النفس التي أُزهقت؟! أو يصلح العاهة المستديمة؟! فالخطورة لا يمكن توقع نتائجها دائما بالخفيفة بل قد تكون شاقة، فيتمنى صاحبها أن يعود به الزمن ليتخلى عن حقه المشروع له بعدما اتضح له مدى ضآلته أمام خسارته الوخيمة...أتمنى أن يكون المعنى قد وصل.
تبسم سفيان بفخر فأن يهدي الله بك إنسانا لربه خير من الدنيا وما فيها، قائلا بتأثر:
- وصل المعنى يا سيد عبد الرحمن، جزاك لله خيرا.
ثم رمى زيد الصامت بنظرة ذات معنى وهو يكمل:
- من معاني التقوى أن يحقق المؤمن كل ما عليه من واجبات على أفضل وجه يرضاه الله عز وجل قبل أن يبحث عن حقوقه التي إن حان وقت أخذها يجب أن يتفقد ما تحضره معها؛ إما سعادة لصاحبها ومن حوله فيتمتع بها أو شقاء له ولمن حوله فيختار الاستغناء عنها حتى لو كانت حقا مشروعا له...أليس كذلك يا سيد زيد؟

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

10 Nov, 14:51


الفصل الأخير
إلهي قلوبنا بين يديك، امنحها صبراً لا ينتهي...محمد متولي الشعراوي.

(بعد شهرين)
(وكالة الأسفار آل عيسى)
تفقد شاشة هاتفه للمرة التي يجهل كم عددها! ثم انتقل نحو المكتب المجاور ليتبادل مع صديقه حواراً عفوياً ينتهي بنفس السؤال، كيف حال أهلك؟!
نظر إليه القعقاع عاقداً جبينه بحيرة يطالبه بتفسير:
- إسحاق! لا تسئ فهمي، لكن ألم تلاحظ أنك تسألني عن أهلي كل يوم منذ أن تزوجت؟!
تدخل جهاد معقباً بمزاحٍ، وهو يفارق مكتبه لينضم إليهما:
- أف! كنت سأسأله نفس الشيء.
التفت إليه القعقاع يخاطبه ببعض الريبة، وإسحاق المرتبك يضم ذراعيه إلى صدره بينما ينظر إليهما بتوتر:
- لقد بدأت أشك بأن مخاوفك على أختك مني انتقلت إليه.
اتسعت بسمة جهاد بمرح ماكر، وهو يرد عليه بتسلية على حساب الصامت جوارهما:
- أو هو بالفعل يسأل عن أهلك يا قعقاع.
ما يزال القعقاع مقطباً جبينه بحيرة كأنه يحاول فك لغز ما، بينما إسحاق يعبس في وجه جهاد الذي يرمقه بنظرة "أنا أفهمك وكشفتك"
- هل أذنبت لأنني قلق على أهلك بسبب شقيقك؟
نطق ببرود أخفى به توتره فتنهد القعقاع يرد عليه بوجوم عابس:
- أعتذر إليك يا إسحاق، يبدو أنني لم أتعود على من يسألني عن أهلي، نسيت بأنك تعلم كل شيء.
صمت بعبوس حزين فعبسا كلاهما تلقائيا يرمقانه بقلق:
- ماذا حدث يا قعقاع؟
سأله جهاد بعدما تناظر وإسحاق قلقاً من صمته، فرد عليهما باستياء وهو يميل نحو سطح المكتب ليستند عليه بمرفقيه:
- منذ أن علم بأن أبي لن يورثه البيت جن جنونه بشكل غريب، جميعنا نظن زوجته من يدفعه إلى ما يفعله، والدي لم يكن ليظلمه وعوضه نصيبه في بيت العائلة بمال وفير لكي يبعده عني وعن أختي، والتي يبدو أنه جعلها وسيلته ليبلغ بها أهدافه.
جعد إسحاق أنفه بامتعاض يجيبه بحنق يتصاعد بغضب مجنون داخل صدره:
- غريب أمر أخيك، وهل يضمن أجله؟ كيف يطمع في والده وهو على قيد الحياة ؟ ماذا تقصد بشأن أختك؟
عض جهاد شفته السفلى كي لا يبدي ملاحظة ساخرة لا تليق بجدية الموقف والقعقاع يجيبه بضيق ورفض:
- يسعى لتزويجها لأحد أفراد جماعته، هوسه يهيئ له أن أختي السبب في الشقاق بينه وبين أبي، ومتى ما تحكم بها ستعود المياه إلى مجاريها لأنها في نظره ضالة ويجب أن يدبر لها زوجا يعينها على الحق ويرشدها إلى طريق الاستقامة، وكل يوم يبعث لها بخطاب....وقد بدأ يستجير بأفراد العائلة بعد أن يئس من استجابة أبي لمعلميه، وحين مل أعمامي منه اقترحوا على أبي أن يسرع بتزويجها لمن يرضاه لكي يريح نفسه ويريحهم، ولقد بدأت فعلا أفكر في الأمر أنا أيضا.
قاطعه إسحاق بدهشة يقول له باندفاع متهور:
- لكن شقيقتك شغوفة بعلم النفس، ودراستها أكبر أحلامها فكيف تجبرونها على شيء ليست مقتنعة به لمجرد التخلص من رجل مريض؟!
تنحنح جهاد بحرج والقعقاع يرد عليه مدافعا عن موقفه قبل أن يتدارك نفسه:
- ليس بتلك الطريقة.. مهلا!... كيف تعلم ذلك؟!
حدق به مذهولا فرفع جهاد كفه يغطي بها فمه الباسم، وإسحاق يتأتئ بتوتر:
- م... ماذا؟! أنت أخبرتنا عن شقيقك واضطهاده لكم.
تشنجت ملامح القعقاع بخطورة ذكرتهما بصديقهما قبل شهور معدودة، تحديداً قبل زواجه يجيبه بتهديد:
- أذكر كل كلمة أخبرتكما بها، وليس من ضمنها شغف العنقاء بعلم النفس أو حتى حبها للدراسة.
بلع إسحاق ريقه ولسان حاله يشتم غباءه، فارتفع حاجب القعقاع الأسود حتى لامس مقدمة رأسه يستدرك بهدوء خطير:
- تحدث يا إسحاق!
تدخل جهاد باسما بمكر يحثه:
- أجل يا إسحاق أنا أيضا أريد أن أعرف.
رمقهما بعبوس حانق، فقلب شفتيه مثل طفل صغير مذنب يعترف مُكرها حين حُشر في الزاوية:
- سمعتها ليلة عرسك تتحدث مع صديقة لها قرب باب بيتكم، كنت أنوي البحث عن جهاد حين مللت من انتظاره لكنني شعرت بالحرج حين رأيتهما فاضطررت للوقوف مكاني، وسمعت حوارها مع صديقتها، ابنة دكتور في علم الفقه، أخبرك بهذا فقط كي تتأكد من أنني لا أكذب، ولعلمك لقد سمعتها تخبر صديقتها بأنها قد تضطر لموافقة أخيك على جنونه فقط كي تريح والدك من معاناته.
- لم أكن لأكذبك.
قاطعه القعقاع بثقة عائدا لوجومه، ومستدركا بكآبة بينما يرخي جسده على المقعد الجلدي البني، الشبيه بلون سترته:
- هذا ما كنت أخشاه، يبدو أنني ملزم بفعل ما كنت أفكر فيه.
احتدمت مشاعر مزعجة في صدر إسحاق وهو يسأله بقلق:
- ماذا تقصد؟
عقد جهاد جبينه بينما يضم شفتيه بتفكير في حل ما، طاردا مرحه السابق.
- هناك من سبق وذكرها من العائلة لكننا أجلنا الأمر إلى أن تنهي دراستها، سأجس نبضه، فهو أفضل من الذين يرسلهم أخي.
احمرت ملامح إسحاق بالتزامن مع تسارع نبضات قلبه فتشنجت أطرافه فجأة، وأضحى كمن يجلس على صفيح ساخن.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:26


التجميع

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


فكيف يصيحان على أبي؟! لا تستسلمي يا عنقاء، أنت طالبة مجتهدة وملتزمة أحسبك كذلك، وبارعة في علم النفس، ودائما أتعلم منك.
استشعر إسحاق مدى الحزن في نبرة العنقاء وهي تعبر عن حزنها وآمالها:
- كل ما أتمناه أن أكمل الدراسات العليا، لا يهمني العمل، أحب علم النفس، وأرغب في الإبحار في أعماق أسراره، والنهل من علمه، ونيل أعلى الشهادات فيه، والأهم من ذلك أن أقوم من نفسي فأنا أكتشف كلما تعمقت في دراسة علم النفس بأنني أعاني من اضطرابات نفسية وأقترف أخطاء أحيانا لا أعرف حتى كيف أقع فيها!؟
- من حقك يا عنقاء، ومن حقك الدراسة، وما دمت تمارسين حقك في ظل الحدود التي أمر بها الله فلا يحق لأحد منعك، لا تستسلمي صديقتي، سأدعو لك الله في كل وقت إجابه.. والله كريم مجيب الدعوات.
ارتبكتا حين ظهر جهاد على عتبة الباب فابتعدتا في لحظة واختفتا:
- أعتذر إليك يا صديقي، أعلم بأنني تأخرت، والداي قادمان، إسحاق هيييه!
أجفل إسحاق على كف جهاد أمام وجهه فرمش بجفنيه ثم هز رأسه بصمت مستديرا نحو سيارته. نبرة الحزن والشكوى بصوتها لم تفارق عقله طوال الطريق إلى بيت أهل جهاد ثم إلى بيت عائلته، حتى وهو متسطح على سريره يرمق سقف غرفته بوجوم سكن جهازه العصبي، وسؤال واحد يدور في رأسه؛ كيف لنبرة حزينة أن تتغلغل بكل ذلك التأثير في صدره لدرجة شعوره برغبة قوية في تحطيم أسنان ذاك الرجل الذي سبب لها كل ذلك الحزن؟!
بنفس قوة رغبته في تحقيق حلمها البسيط بأن تدرس علم النفس، فقط كي لا يسمع تلك النبرة تتكرر داخل عقله بكل ذلك البؤس!
فغر شفتيه ليزفر أنفاسه الحارقة هامسا لنفسه بغضب:
- ذاك البائس! لم يكفه ما سببه للقعقاع من حزن، وجاء دور الفتاة.
تلكأ قليلا يردد بشرود:
- العنقاء... العنقاء!
قطب حاجبيه بخفة يهمس باستغراب:
- مممم، اسم جميل، لابد من أن أبحث عن معناه....العنقاء!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


زوجاته الثلاث الطلاق.
ابتسم إسحاق بمرح بينما أيوب يكمل بهمس:
- بل وسمعت بأنهن أصبحن صديقات مقربات بعد موته.
كتم إسحاق ضحكه وسأله بيأس:
- إذن ما الحل؟
نظر نحوه مشيرا بسبابته إلى الأعلى:
- اتق الله ما استطعت، وحين تجد في نفسك استعدادا لمسؤولية الزواج توكل على الله واسأله زوجة صالحة، وحين تجد في نفسك القبول نحو فتاة في محيطك، استخره سبحانه هو علام الغيوب، وأعلم بمن يناسبك ثم بعد أن تتزوجها عاملها بما يرضي الله، واصبر على كل ما يواجهكما من مشاكل الدنيا ودع الانفصال خارج مجال تفكيرك نهائيا، وإن أردت نصيحة شخصية لتستولي على قلبها وعقلها...
اقترب نحوه هامسا بتسلية:
- دللها بالغزل طوال الوقت ثم استدرج عاطفتها حين تكون في مأزق، فهن يشفقن بسرعة.
قهقه إسحاق بمرح وهو يجيبه:
- أنت ماكر بالفعل، ولا فرصة أمام صبر معك، أشفق على المسكينة، ألا يكفي أنها تحبك بالفعل؟
جعد ذقنه يقول له بحب شع من مقلتيه بذكرها:
- هناك زيجات لا تحتاج لمجهود لإنجاحها، وعلاقتي بصبر إحداها، ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
تحكم إسحاق بعينيه كي لا يطرف بهما يستدرجه بمكر:
- ولماذا يا حكيم زمانك؟!
أرخى أيوب جسده على المخدة بينما يرد عليه بثقة:
- لأنها ليست الوحيدة التي تحبني، فأنا أيضا أعشقها ولا أحتاج لأي سبب كي أتقبل منها أي شيء، كل ما يصدر منها يعشقه قلبي.
رفع إسحاق كفيه ناظرا خلف أيوب قائلا لصبر ببهجة:
- لا شكر على واجب، لقد حصلتِ على اعتراف كامل وصادق.
التفت أيوب خلفه ليجدها تبتسم بحياء ووجنتاها تلتهبان بحمرة الخجل، فنهض من مكانه يرمقها بحب متبادل ونهض إسحاق مستدركا وهو ينصرف:
- أرزقنا يا رب!
عضت شفتها بخجل فمال نحوها، وهو يمسك بكفها مستفسرا منها:
- هل أنت خارجة؟
منح عباءتها نظرة متفحصة فردت عليه وهي تهز رأسها:
- كنت آتية لأطلب منك مرافقتي إلى السوق، إذا كنت غير مشغول.
ما لبثت أن تحولت النظرة في عينيه إلى مكر مشاكس، وهو يسحبها معه نحو الخارج:
- بالتأكيد لكن بعد السوق سنمر على شقتنا الخاصة لأحضر غرضا ما.
ضحكت ببهجة ويأس من مشاكساته، وهي تستسلم لسحبه لها كما استسلمت لمشاعره الصادقة الجياشة.
***
(بعد شهرين)
(منزل أهل القعقاع)

ما إن هل عليهم يزيد بهيئته الغاضبة والمشعة دوما بعصبية وغلظة، حتى تمكنت السخرية من ملامح وجه والده بينما يخاطبه بامتعاض:
- وعليكم السلام يا يزيد، حمدا لله أنك رضيت أخيرا بزيارة والديك.
مسح على لحيته وهو يجيبه بعبوس ساخط:
- أنت طردتني من بيتك يا والدي.
لم يُحد عن امتعاضه ولا عن جلوسه الأقرب إلى الاتكاء على أريكة من أرائك غرفة الجلوس حيث كان يحتسي الشاي برفقة زوجته، ويصغي للنشرة الإخبارية:
- أنا لم أطردك، بل طلبت منك الاستقلال بأسرتك ما دمت قادرا والحمد لله، ولم أقطع علاقتي بك، أنت من فعل، وأعلمت أمة لا إله إلا الله وفضحتنا.
تشنجت ملامحه بعبوس مُنفر، وغيّر الموضوع يزعق بغضب:
- كيف تقبل بزواج القعقاع بابنة أناس لا نعرفهم؟
مط والده شفتيه ورد عليه بسماجة متعمدة:
- تعرفنا عليهم وهم أناس طيبون وأحببناهم...الحمد لله.
- طيبون؟ وهل الزواج لعبة كي نكتفي بالطيبة؟
عقب بنزق وسخط وكأنه ينهر بهيمةً، فأجابه والده ساخرا:
- وماذا يكفيك يا شيخ يزيد؟
اشتعلت مقلتاه زاعقا بغضب:
- أن يتزوج من أسرة ملتزمة، نعرف التزامهم جيدا.
أصدر والده ضحكة ساخرة وزوجته تراقبهما بقلق، فزوجها لم تعد له قدرة على التصدي لغلظة ابنهما البكر:
- مثل أسرة أنسبائك أو مثل الرجال الذين كنت ترسلهم لخطبة العنقاء؟
اشتد به الغضب يصيح بغل:
- وما بهم يا والدي؟ مؤمنين بالله.
ابتسم له والده ببرود جامد معقباً:
- وكذلك أنسباء القعقاع، مؤمنين بالله، ولا حاكم إلا الله، وهو العليم بالقلوب....وانس الأمر يا يزيد فالقعقاع عقد قرانه اليوم، وبعد غد إن شاء الله العرس، ولقد قمت بإبلاغك سابقا.
زفر من أنفه لهيبا محرقا وكأنه تنين متجسد في رجل، وكانت تلك اللحظة التي عادت فيها العنقاء من الجامعة حين وجد فيها منفذا للهيبه المحرق.
- ما تزال تسمح لها بالذهاب إلى الجامعة حيث الاختلاط والضلال؟!
تنهد والده بيأس يجيبه بحسرة، بينما والدته تفر من أمامه ساحبة معها ابنتها خوفا عليها:
- لو توفرت جامعات منفصلة لذهبت إليها من نفسها لأن شقيقتك فتاة صالحة تخشى ربها والحمد لله، وبما أنها مضطرة لأخذ العلم من هناك، فهي تقوم بذلك محترمة حدود الاختلاط.
هتف يزيد بما توقعه والده لكنه حاول على كل حال:
- ليست مضطرة! لقد تعلمت القراءة والكتابة، وهذا كاف بالنسبة لها، فلتجلس في بيتها ولتقرأ الكتب!
مسح والده على وجهه بيأس ثم قال له بصبر يحسد عليه:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


- العلم ليس له حدود، وبما أن لها رغبة في الاستزادة بالعلم ولم يأتي نصيبها بعد، لا مانع في أن تكمل دراستها الجامعية، كما لم يسبق لي أن سمعت أو رأيت منها ما يشينها، فلماذا أمنعها؟!
- سيحدث! إن لم تمنعها عن الخروج سيحدث لا محالة!
- لا حول ولا قوة الا بالله!
تنهد والده من بين أسنانه غيظا، والآخر يستطرد بأسلوب مستفز:
- ثم ما هو هذا النصيب الذي لم يأتي بعد؟ نصيبها حاضر وأنت من يرفض.
انتفض والده واقفا وقد استبد به الغضب بينما صبره يطير أدراج الرياح:
- ابتعد عن ابنتي ولا علاقة لك بها! حتى بعد أن أموت أتركها أمانة في عهدة القعقاع وليس أنت!
- ماذا تقول؟!
هتف يزيد بذهول فاقترب منه والده يكمل بتصميم:
- حتى ما أملكه عرضته على قاض شرعي، لأقسمه حسب الشرع، وعوضتك في نصيبك من هذا البيت مالا، ليكون من حق القعقاع والعنقاء فقط، لا أريدك أن تتدخل في حياتهما وأنا حي ولا بعد موتي!
رمقه ابنه مستنكرا بصدمة وهو يبلع ريقه:
- هل تحرمني من حقي في هذا البيت؟
ابتسم والده بجمود متهكم وهو يرد عليه:
- الحمد لله على أن القعقاع لم ينتهِ نسخة منك، حتى بعد ما بذلته من مجهود كي تغسل دماغه، هل تعلم ماذا كان رده حين أخبرته بالأمر؟
مقلتا يزيد في اتساع مستمر بينما والده يستدرك بحسرة:
- استنكر فعلتي، وقال لي بأن الأجل بيد الله، وأخبرني بالحرف أنني قد أدفنكم جميعكم قبل أن يحين أجلي، هذا هو الإيمان الحق، أخبرني عنك يا شيخ يزيد!
تنفس يزيد بعنف وهو يضغط على شفتيه فزفر والده بتعب يضيف وهو يلوح بكفه:
- اذهب يا يزيد، هداك الله إلى طريقه المستقيم! أسوأ ما فعلته حين قررت إدخالك إلى تلك الدار، كانت غايتي أن تحفظ كتاب الله وتتعلم بعض الأخلاق لكن خطأي أنني لم أصغ لمن حذروني، ولم أع على خطأي إلا بعد فوات الأوان.. كان يجب أن أسأل وأتحرى جيدا عمن تركت لهم ابني ليعلموه، ربي اغفر لي... ربي اغفر لي، اذهب يا يزيد قبل أن يحل عليك غضب قلب الأب، وإن لم يعلموك مدى خطورة غضب الوالدين، فاعلم أنك لم تتعلم شيئا البتة.
أدار له ظهره فرمقه يزيد بصدمة وللحظة فقط ارتعد فيها بؤبؤا مقلتيه تيها قبل أن يشعر بهاتفه يهتز داخل جيبه فانصرف يضرب الأرض برجليه.
***
(بعد يومين)
أمسك القعقاع بعنق إسحاق، ينهره بعبوس فشل في ادعائه:
- يكفي احتفالا بي، لقد فضحتماني.
قهقه جهاد وهو يقول له بينما إسحاق يتخلص من قبضتي القعقاع حول عنقه:
- لا لم ننتهِ منك بعد، ربما بعد عام كامل قد نعتقك لوجه الله.
تلفت القعقاع متفحصا الرجال المغادرين من قاعة الحفلات ثم نظر إلى ساعته المشيرة للحادية عشر ليلا فعاد لسؤال جهاد:
- هل نغادر الآن؟
أومأ له جهاد ثم ضمه من كتفيه، وهو يسحبه نحو سيارة إسحاق الذي أصر على نقل العريس بعدما تكفل أيضا بنقل العروس زوال نفس اليوم ومن نفس القاعة بعد انتهاء الحفل الخاص بالنساء، وهمس له بجدية:
- أوصيك خيرا بأختي يا قعقاع، لقد أخبرتها نفس الشيء يا صديقي....عاملها بما يرضي الله.
التفت إليه يمنحه نظرة تعني ألف وعد، وهو يجيبه بلطف غريب عليه:
- أعدك يا جهاد، بإذن الله ... أعدك.
تجاوز النساء في الطابق الأول وهو مطرق برأسه، ملتقطا أنفاسه وحامدا ربه على انتهاء يوم العرس بسلام دون تدخل أخيه الذي فضّل عدم الحضور، وكما آلمه ذلك أراحه بطريقة ما.
توقف حين قابل والدته وشقيقته برفقة حماته وهن يخرجن من شقته، فباركن له وأخبرنه بأن العروس استقرت في شقتهما ثم انصرفن مع سيل من الدعوات بالبركة والصلاح.
توجه نحو غرفة النوم حيث توقع إيجادها وحين لم يفعل عاد أدراجه ليبحث في أركان الشقة.
توقف وسط البهو الصغير مستغربا من اختفائها فاستدار نحو غرفة النوم مجددًا ليجدها في وجهه فجأة، فغمغم مجفلا:
- بسم الله.
أطرقت برأسها حياء وهو يسألها بحيرة:
- أين كنت؟
فرت منه بمقلتيها بينما ترد عليه بهمس:
- كنت أتفقد الشقة.
هز رأسه بتفهم وعيناه تسرحان عبر جنبات قفطانها الأبيض ذو الخامة الحريرية الناعمة والشفافة يحتضن قدها الضئيل كقامتها مبرزا فتنتها بخفر جذاب، والطرحة من نفس اللون والخامة ترتخي على رأسها بدلال فتسللت بعض الخصلات الناعمة لتكمل على جمال طلتها البهية.
بلع ريقه وتساءل عن سر جفاف حلقه كلما نظر إليها وسر نبضات قلبه المتسارعة، وأمور أخرى يأبى أن يعيرها اهتماما كبيرا في ذلك الحين على الأقل، فنطق بتوتر:
- حممم، هل أنت على وضوء؟
هزت رأسها بصمت مجددًا فأشار لها نحو الغرفة مستدركا:
- لنصلي إذن ونسأل الله البركة، وصلاح الذرية.
تبعته بصمت كما صلت خلفه بصمت، ثم استدار ليلمس رأسها يتلو الدعاء.
تنفس بعمق ليتحكم بدقات قلبه الثائرة بينما يرمق هدوءها فوق سجادة الصلاة متسائلا إن كانت مثله تغطي على صخب أحشائها بذلك السكون.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


استغل كل الوقت كي يغير ثيابه ويمنح نفسه لحظات يتماسك فيها فلم يكن يوما شابا عابثا أو جرب أي شيء حتى في مرحلة مراهقته، ونشأ على أن العلاقات مع النساء حرام ومصدر فساد عظيم إن لم يكن بعقد شرعي صحيح الأركان، فتربى على ذلك وتشربه بكل خلية فيه.
لطالما حاول بعض من أصدقائه في الثانوية أن يقنعوه بضرورة خوض التجارب كونه رجل والمفروض عليه القيادة، لكنه كان يرفض تماما مقتنعا بأن فطرة الإنسان تعمل لحالها في وقتها المناسب كما خلقها الله، وإن كان ولابد من التعلم فلا أفضل من المطالعة وحتى تلك الأخيرة أرجأها بهدى من الله حتى يكون مستعدا للزواج وهذا ما فعله في الشهريين الماضين، وفي الحقيقة لم يسبب له ما قرأه صدمة على الإطلاق بل مجرد حماس وثقة أكبر في أنه سيستطيع اتباع الفطرة بطريقة سليمة.
لمحها تجلس على طرف السرير مطرقة برأسها، تفرك كفيها ببعضهما فأشفق عليها، هامسا لنفسه:
- إن كنت أنا متوترا، فكيف سيكون حالها هي؟!
اقترب منها يسألها بلطف:
- هل ستنامين بذلك القفطان؟
بللت شفتيها ترمقه بعينين متسعتين ومبللتين بدموع وشيكة ثم نطقت بهمس خافت:
- س... أغير... ثيابي.
أومأ لها وابتعد نحو طرفه على السرير يستلقي عليه ثم انتظرها بصبر حتى عادت ترتدي منامة طويلة لا تختلف كثيرا عن القفطان السابق دون طرحة، وشعرها ينساب على كتفيها بدلال لم تقصده، هو متأكد من ذلك.
دق قلبه مجددًا والدماء تدب في أوردته، فأشار لها إلى جواره:
- تعالي يا نهال.
تقدمت متعثرة وجلست جواره على السرير فتأملها بانبهار بينما يتذكر ما أخبره جهاد عن حالتها معترفا لنفسه باستحالة تصديق كون هذه الفتاة بكل رقتها وأنوثتها تمت للذكورة بصلة لا من قريب ولا من بعيد، حتى أنها لا تشبه جهاد سوى في شكل العينين ولونهما البني أما الشعر فلونه أغمق بدرجة.
تسللت يده ليقبض على كفيها فارتعشت وارتعد قلبه معها، لكنه تماسك يدعو ربه أن لا يخذله ثباته في ما هو مقبل عليه، وسحبها بروية حتى استكانت على صدره ليهمس لها بخفوت كي لا يظهر التوتر في نبرته:
- لا تخافي مني يا نهال، واسترخي، أتمنى أن تفتحي لي قلبك شيئا فشيئا، وتحكي لي عن كل ما تفكرين فيه، وكذلك سأفعل بإذن الله حتى نصل إلى نقطة لقاء بيننا فنبني معا أسرة صالحة نعيش بها في سلام وتفاهم.
التحمت أنفاسها الدافئة على صدره بالرائحة المنبعثة من شعرها إلى أنفه مباشرة وشعر في نفسه بما أعلمه أن الفطرة تسلك سبيلها بسلاسة كما وعد خالقها، وبينما يميل بذقنه لكي يقبل أعلى رأسها ظهرت بسمة خفيفة على ثغره، يتخيل صديقيه وهما يشهدان لحظة ضعفه واستسلامه لمشاعره الجديدة عليه كليا.
فمن يصدق بأن القعقاع يهمس ويتحدث بلطف بل ويضم إليه فتاة ويقبل أعلى رأسها بينما يشم رائحتها العطرة؟!
كشر فجأة برفض، وهو يصيح بعقله متشدقا:
*ليس أي فتاة! إنها زوجتي حلالي، وأنا مطالب بإسعادها وإسعادي!*
رفع وجهها إليه يتأمل قسمات وجهها مسترجعا كل ما طالعه مقررا تتبع الخطوات دون استعجال ولا حياء، فهو الرجل... أليس كذلك؟!
همس لها بعدما حثها لتنظر إليه:
- نهال!
رمقته بنظرات تشوشت من شدة توترها، فلمس وجنتيها برقة يستطرد:
- لا تخافي مني، لن أؤذيك، وإن كان في ما سأقوله عزاء لك فأنا مثلك وهذه المرة الأولى لكلينا.
مسحت على شفتيها توترا وبلعت ريقها فأضاف بتوتر:
- بسم الله.... اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا.
وضمها إليه مستسلمين للفطرة تقودهما بلين وتؤدة فطالت بهما الرحلة، وكلاهما يستكشفان أرضا جديدة لكن ليست بغريبة إنما جهلا بملكيتها إلى أن وجداها كلاهما عند نهاية طريق سوي حملهما إليها بكل أمان ليهبطا عليها بسلام.
***
(قبل لحظات)
(أمام منزل أهل القعقاع)
تنهد إسحاق بتعب وضجر من انتظار جهاد قرب سيارته فقرر أخيرا أن يهاتفه كي يخرج إليه بيد أن هاتفه لا يجيب.
انتظر لربع ساعة أخرى ثم توجه نحو المنزل لكنه توقف على بعد مترين خلف فتاتين مستغرقتين في الحديث، كلتاهما تغطيان وجهيهما فخجل من استئناف طريقه وهما على مقربة من عتبة باب المنزل.
- لا أعلم، أدعو الله أن أنهي هذا العام بخير، فأخي لا ينفك يطلب من أبي منعي عن الجامعة ويزوجني، أخشى أن يفلح في الضغط عليه، فأبي كبر وتعب كما أخشى من نفسي أن يتغلب علي حبي لوالدي فأقبل بالزواج من أي أحد فقط كي أريحه من ضغط أخي يزيد.
تعرف رأسا على نبرة الفتاة وادرك بأنها شقيقة القعقاع:
- يزيد هذا جاهل، أستغفر الله، سامحيني يا عنقاء، أنت تعرفين والدي حاصل على شهادة دكتوراه في علم الفقه، ولم يسبق أن منع إحدانا عن الدراسة بل يشجعنا على التسلح بالعلم، والوعي، وأنت تعرفتِ على شقيقاتي بنفسك منهن المنتقبات والمتحجبات، واحدة منهن أستاذة تدرس العلوم الفيزيائية والأخرى طبيبة، وأختي الأكبر مني بعامين رفضت العمل وفضلت البيت بعد أن أكملت دراستها وهي متزوجة، دائما يعاملنا بحنو سواء نحن الفتيات أو أخوينا الشباب، وعلمهما كيف يعاملاننا باحتواء وحب، ولم يسبق لأحدهما أن علا صوته على احدانا،

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


الله موافقة.
لم تخبره بأنها استخارت الله مرات عدة وأن ما أخبرها به شقيقها عنه يريح قلبها.
لاحظت عدم رده عليها فكان دورها لترفع رأسها بفضول، وفجأة اندفعت الدماء عبر أوردتها وازدادت وتيرة خفاقتها جراء تلك النظرة التي رمقها بها فلم تتحملها وفرت منه بتوتر وكلها يرتعش.
- هل انتهيتما؟
قاطعهما جهاد حين لمح القلوب الحمراء تتفجر من مقلتي صديقه بسبب شيء ما قالته أخته، وشعر بحياء الأخيرة حد الارتعاش فأدرك بأن الوقت حان لتدخله.
جلس جهاد قرب صديقه الباسم ببلاهة مضحكة وشاكسه بالقول:
- كيف الحال يا عاشق؟
رمش بجفنيه ببلاهة فضحك جهاد بهدوء قبل أن يقفز حاجباه تسلية والقعقاع يهمس له بحالمية:
- أنا عاشق بالفعل، إنها تجسد حلمي...أنا لا أصدق.
أوشك جهاد على التعقيب لكنه تراجع حين تحدث والد صديقه يقول لهم ببشاشة:
- العريس موافق، ونحن يشرفنا نسبكم، فما رأيك يا أبا جهاد؟
تناظر والد جهاد مع زوجته ثم تبسم يجيبه بلطف:
- ليقدم الله ما فيه من خير، ونحن أيضا يشرفنا نسبكم.
***
(منزل نوح آل عيسى)

علت ضحكة إسحاق، وهو يتأمل صورة القعقاع محمر الوجه من الخجل وهز رأسه بحيرة ودهشة من تغير حال صديقه.
- ما الذي يضحكك؟
سأله أيوب الذي انضم إليه على إحدى الأرائك في غرفة الجلوس، فنظر إليه إسحاق يجيبه بمشاكسة مرحة:
- أرى أنك أصبحت تعمر البيت يا رجل! ما إن تنهي عملك حتى تركض عائدا إلى هنا، لماذا يا ترى؟
منحه نظرة ساخرة وهو يجيبه بتهكم:
- أرى أن مزاجك رائق، لماذا يا ترى؟
تنهد إسحاق وهو يضع هاتفه على المائدة الخشبية الدائرية قبالته ثم عدل جلسته رافعا قدمه فوق أخرى فظهر جوربه الأسود كلون بدلته الرياضية التي لم تختلف كثيرا عن خاصة أيوب، يخبره بنبرة عادية:
- قعقاع في بيت جهاد ليخطب شقيقته.
لم يتفاجأ أيوب وهو يجيبه بتلقائية:
- توقعت أن يكون أول من يتزوج بينكم، لكن ما المضحك في الأمر؟
أجابه إسحاق بفكاهة:
- لأننا لم نتعود على القعقاع باسما ببلاهة، ويتنهد بحالمية، لا أصدق بأنه أحب فتاة من مجرد السماع بمواصفاتها، كنت أظنه سيتراجع أو على الأقل سيفقد قليلا من حماسه حين يقابلها لكن جهاد أخبرني قبل قليل بأن تمسكه بها ازداد بعد أن رآها وأنهم اتفقوا بالفعل.
أصدر أيوب صوتا مرحا ثم قال له بتفهم:
- لابد من أنها طابقت أمنيته، وجسدت رغباته فوقع في حبها.
رفع إسحاق حاجبه الأيمن بتسلية ثم سأله بحيرة:
- لكن لماذا توقعت أنه أول من سيتزوج بيننا؟!
أعتدل أيوب في جلسته وهو يجيبه:
- لأنه ملتزم ولا يقيم علاقات نسائية أو حتى ينظر إليهن.
قاطعه إسحاق مستنكرا:
- ولا أنا ولا جهاد نفعل، لا أحد منا أقام علاقة نسائية، قد أكون أنا وجهاد أكثر ليونة من القعقاع في التواصل مع النساء لكن لم يحدث أبدا أن تجاوزنا الحدود.
ابتسم أيوب بإعجاب وتقدير، وهو يفسر له:
- أعرف، لكنك وجهاد من النوع الذي يبحث عن الحب أو القبول على الأقل قبل اتخاذ قرار الزواج، أما القعقاع فمن النوع الذي توقعت له زواجا تقليديا كالاعتماد على تلقي مواصفات شريكة حياته المحتملة من غيره حتى يجد مأربه، وهذا ما حدث.
ضيق إسحاق عينيه مفصحا عن حيرته:
- لم أفهم وجهة نظره إلى الآن، هل حقا سينجح زواجه بهذه الطريقة؟
تحولت نبرة أيوب إلى جدية بينما يجيبه:
- نجاح الزواج يعتمد على ثلاثة أمور.
رفع كف يده يعدد على أصابعه:
- التوافق، حسن النية، والصبر.
تعمقت العقدة بين حاجبي إسحاق بعدم فهم فاسترسل أيوب مفسرا:
- يجب أن يكون هناك توافق أو قبول، وهذا قد يتحقق بطريقة مباشرة كأن يكون الطرفان على معرفة ببعضهما، أو بشكل غير مباشرة مثل ما حدث مع صديقك، وحسن النية أهم ما في الأمر، لا يتزوج المرء من أجل مصلحة من أي نوع سوى الأهداف الصحيحة؛ تحصين النفس وبناء الأسرة تحقيقا لأمر الله في عمارة الأرض، والصبر ثم الصبر ثم مرة ثالثة الصبر أساس الزواج والعلاقات الأسرية المتماسكة بصفة عامة.
تلاعب إسحاق بحاجبيه يمازحه:
- أنت معجب بحروف كلمة الصبر وترددها بسرور.
ادعى أيوب العبوس وهو يرمقه بامتعاض فضحك ثم سأله بفضول:
- وكيف أعرف أن بيني وبين الفتاة توافقاً والشرع ينهانا عن الاختلاط أو حتى النظر!؟
هز أيوب كتفيه وهو يرد عليه:
- لو سألتني وأنا في مثل عمرك لاستنكرت مثلك، وأتيتك بمئة حجة لأقنعك بأن من حقي التعرف على شريكة حياتي قبل أن أتزوجها، لكن الآن أنا أؤكد لك بأن العلاقة قبل الزواج لا تساعد في شيء، والغرب أكبر دليل على ذلك، يقيمون علاقات كاملة قبل الزواج بل وقد تكون العلاقة الجسدية سبب تعارفهما، ومع ذلك هم أصحاب أكبر نسب الطلاق في العالم، هل تذكر جيراننا ومعارفنا في الدولة الغربية؟ كم منهم انفصل لأتفه الأسباب؟ في الوقت الذي تمسك فيها والدينا ببعضهما مع أن زواجهما كان تقليديا، ولم يريا بعضهما حتى قبل الخطبة، وتغلبا بفضل الله على كل ما واجههما من مصائب، الحمد لله عائلة آل عيسى بكاملها لم يحدث فيها طلاق واحد حتى عمي يونس رحمه الله بكل مصائبه في الماضي لم تطلب أي من

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


الفصل العشرون
أكرمك الله بعقلك، فلا تهن نفسك بفعلك...محمد متولي الشعراوي.

(مقهى السلام)
صمت جهاد يلتقط أنفاسه بعد ربع ساعة كاملة من التحدث، ورفع أنظاره إلى سفيان المصغي بتركيز ورزانة متأصلة فيه.
لم يسبق له أن أفضى بمكنونات قلبه كما فعل مع ذلك الرجل القابع أمامه حول طاولة منزوية في مقهى السلام، حتى مع صديقيه. لطالما حافظ على ما يؤرقه لنفسه لا يتدخل في حياة أحد ولا يخالط أحد بما يتجاوز الحدود التي طوق بها خصوصياته.
لكنه كان في حاجة لنصيحة، لمشورة من إنسان واع ملتزم وهو يحسب سفيان كذلك، لن ينكر ذلك الإلحاح الخفي لقلبه أن يتقرب منه لسبب آخر يتوارى في الظلال، مثل أن يستدرج ردوده لحاجة أخرى في نفسه، لا يعلم! كل ما هو متأكد منه أنه يريد أن يفضي له دونا عن من يعرفهم من الناس بما يؤرقه ويحيره، وكله فضول لأن يطلع على ما يفكر به.
أومأ له سفيان بتمهل وهو يثني ذراعيه قليلا أمامه على سطح الطاولة بينما يلهو بطرف ورقة ما بين أصابعه، عقله يعالج كم المعلومات التي تلقاها منه معترفا لنفسه بأنه تفاجأ حقا! ثم سأله بهدوء:
- لماذا يحيرك موقف شقيقتك؟! هل كنت تتوقع منها الرفض؟
تذكر جهاد حين أخبر عائلته برغبة صديقه في مصاهرتهم متوقعا منهم رفضا مبدئيا يعينه على ما يفكر فيه، فلم يمر على عودتهم سوى أيام قلائل رغم أن شقيقته قد شفيت ومرت فترة نقاهتها بسلام، ولم يبق سوى مراجعات على فترات متباعدة للاطمئنان على صحتها، لكنه لم يتوقع منهم التبلد الذي أصابهم كأنهم صدموا لحد ألجم ألسنتهم عن التعقيب.
- صِدقا، كنت أظن بأنها ستتحرر من مخاوفها وتطلب القليل من حقوقها التي حُرمت منها لخجلها وخزيها من وضعها، وحين تجاوزوا ذهولهم وأبدى والداي قبولا وترحابا سألتها عن رأيها وشرحتُ لها كل ما يخص شخصية القعقاع، تفاجأتُ من ردودها فطلبتُ منها التريث وأن لا توافق بسبب صداقته بي أو اعتبارا لأي أمر مهما كان لأن الحياة أمامها مُشرعة الأبواب تستطيع فعل كل ما تحلم به دون خوف من أحد أو من انكشاف شيء قد يحرجها.
تلكأ جهاد يرمق سفيان بدهشة لم يستطع التخلص منها بعد من موقف شقيقته ثم تابع:
- لقد فاجأتني حقا، هي لا تعتبر نفسها مسجونة أو محرومة من شيء بل وتشعر في تقوقعها بالأمان، لم تخف يوما من أحد أن يؤذيها أو يطلع على سرها لأنها في مكانها الآمن، عالمها لحالها، ولم تشعر بالخطر سوى مع احتمال خروجها خارج نطاق مكانها الآمن، والآن بزوال ما كانت تخشى أن ينكشف ويطلع عليه الآخرون فيتخذونه سببا ليؤذوها لم تعد تخشى حتى المرات التي قد تضطر للخروج فيها لكن لو خُيرت ستختار دائما مكانها الآمن.
ابتسم سفيان بمودة ثم سأله مرة أخرى:
- وماذا تريد لتوأمك أن تفعله يا جهاد؟ ما هي في نظرك حقوقها التي حُرمت منها؟
حرك جهاد رأسه بلا معنى وهو يجيبه:
- لا أعلم، ما تفعله الفتيات عموما، الدراسة أو المشاركة في النوادي الحرفية، أو التجمعات النسوية، لا أعلم!
ما يزال سفيان على بسمته وهو يسأله مجددًا:
- وهل تراها غير سعيدة؟
قطب جهاد جبينه بتفكير ثم رد عليه بثقة:
- بالتأكيد، فهي منطوية صامتة لا تخالط أحد، تصبر على أي وعكة تصيبها كي لا تضطر للذهاب إلى المستشفى، لا تشارك في المناسبات العائلية، لا تعتب عتبة البيت يا سيد سفيان لشهور كثيرة.
قاطعه سفيان مفسرا له وجهة نظره:
- لا أسألك عن طباعها يا جهاد، ما تخبرني عنه طباع رأيتها أنا لدى أناس لم يعانوا من مصاب شقيقتك بل مجرد ميول نشأ لديهم خلال تكوينهم لأي سبب كان، فكما يوجد أناس لا يستطيعون البقاء في البيت ولابد أن يخرجوا عن محيط الجدران على الأقل مرة في اليوم هناك من هم عكس ذلك تماما لا يحبذون الخروج ويفضلون البقاء في بيوتهم، مؤسسين لأنفسهم عالما داخل جدران بيوتهم يغنيهم عن العالم الخارجي، ليس فقط من النساء بل أعرف رجالا لا يخرجون من بيوتهم سوى للعمل والمسجد، لا يحبون قضاء الوقت في المقاهي لرؤية المباريات ولا التسكع مع الأصدقاء، بل تَجد يومهم محصورا بين العمل والمسجد والبيت فيه يتابع ما يحبه ويرتب لنفسه برنامجه اليومي كما يحب، هذا الرجل الذي هو أصلا مخلوق للخارج فما بالك بالمرأة المخلوقة لداخل بيتها؟! ألم يقل الله جل جلاله في سورة الأحزاب *وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ* هذا دليل على أنه خلق المرأة في الأصل للبيت ولتقضي جل وقتها فيه، لأنها العامل الأساسي لنجاح المجتمع الذي يتكون من الأسر، وكل أسرة مشروع ضخم بدوام مستمر يحتاج إلى رعاية بتركيز كامل كي ينجح، ومن يقدر على ذلك سوى النساء؟! هن جبارات يا رجل حين يعملن لما خلقن له، تخيل ذلك! المجتمع بأكمله يعتمد عليهن.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


تبسم جهاد بمرح فاستطرد سفيان بلطف:
- متى تشعر بها منزعجة؟!
رد عليه بتلقائية:
- حين تضطر للاحتكاك بالناس، أو الخروج من البيت عموما.
- وكيف تكون في البيت؟
سأله سفيان بلهجة ذات معنى فأجابه جهاد بحيرة:
- تكون عادية وعلى طبيعتها.
فكر سفيان قليلا ثم استفسر منه مجددًا:
- هل اشتكت إليك يوما مللها أو ضجرها من الجلوس في البيت؟ أو أنها ترغب بإكمال تعليمها؟ ماذا كانت شكواها؟ متى تعبر عن شكوى ما؟
تشنجت ملامح جهاد بتفكير عميق ثم زفر بإحباط حين توضح له الأمر أخيرا، يجيبه باستسلام:
- لا تشتكي سوى إذا اضطرت للخروج أو إذا ضغطتُ عليها لتتخلي عن مخاوفها أو لتتعلم أي شيء خارج البيت.
عاد سفيان للتبسم ففعل جهاد نفس الشيء يستدرك بوجوم:
- لا بد من أنني أسأت فهمها.
حرك سفيان يديه يستند على مرفقهما قائلا له بلطف:
- بل عكست نفسك عليها يا جهاد.
عقد الأخير جبينه باهتمام فأردف الأول مفسرا له:
- أسقطت مخاوفك وأفكارك على أختك، أو ربما ضميرك يؤنبك لأنك أكملت دراستك ونجحت في مواجهة حياتك خارج جدران البيت بخلافها، فشعرت نحوها بما ستشعر به لو كنت في مكانها ولو حُرمت مما حصلتَ عليه.
لاحت على ملامح جهاد سمات التفكير، فأضاف سفيان ضاحكا بمرح:
- بينما في الحقيقة والواقع أن لو كانت شقيقتك فعلت مثلك وخرجت إلى الدراسة والعمل لانشغلت بمراقبتها وتتبعها، ولطوقتها بآلاف الحدود، وحرصت على أن لا تتجاوزها...اسألني أنا!
ضحك سفيان بهدوء فضحك جهاد مثله ثم سأله برجاء أن يطمئن قلبه وضميره:
- هل هذا يعني أننا لا نظلم أختي؟
رق له قلبه وما ازداد سوى احتراما له يجيبه بصدق:
- حين يُمنح الإنسان حريته وكرامته لا يكون مظلوما يا جهاد، هل ستجبرونها على الزواج أو على الجلوس في البيت؟
سارع في هز رأسه نفيا فبسط كفيه يقول له بمنطقية:
- إذن هي حرة، تختار ما تحبه مادام لا يتعدى حدود الله، وبالمناسبة يا جهاد زوجتي مع أنني تعرفت عليها هنا حين أحضرها شقيقها لتعمل لدي في تحضير الحلويات، إلا أنني وبعد أن تزوجتها اكتشفت أنها من محبي التركيز على البيت ورعاية الأسرة، ولقد اقترحت عليها إكمال تعليمها ورفضت، هذا لا يعني أنها جاهلة أو غير متحضرة كما يظن العديد من الناس بل هي ميول وهوايات تختلف من نفس إلى أخرى، وزوجتي تهوى المطبخ و تهوى القراءة أيضا لكن لا تحب الالتزام بمقررات أو أنظمة دراسية، وتحب الحرية في ممارسة ما تحبه كما لا تهمها شهادة رسمية.
تنفس ثم أكمل:
- أهم ما في الأمر، أن يكون الإنسان مطمئنا بممارسة حريته على الشكل الذي يفضله، وللأسف كل شخص يرى السعادة في الطريقة التي يحبها هو في ممارسة حريته وينسى أن الناس مختلفين، وكل واحد يشعر بسعادته الخاصة في ما يحبه ويهواه.
هز جهاد رأسه، وقد تخلص من حيرته فنظر إليه سفيان يسأله بغموض غلفه بالمرح:
- إذن ستناسب صديقك القعقاع؟
اتسعت بسمة جهاد ورد عليه بحرج:
- يبدو ذلك، والله أعلم، فأنا لم أقتنع بعد بأنه يستحقها.
ضحك سفيان يقول له بحكمة:
- صدقني لن تجد من يستحق شقيقتك أو ابنتك من وجهة نظرك أبدا لكننا نتتبع سنة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام *إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ١* وفي الحقيقة لقد نال القعقاع إعجابي أكثر بعد ما حكيت لي عنه، فهو لا يبحث عن جمال أو مال في شريكة حياته ويحرص على الظفر بذات الدين والأخلاق، وهذه إشارة جيدة لكن الحرص واجب واستخارة علام الغيوب مهم جدا.
أومأ له جهاد بتفهم فاستدرك سفيان لحاجة في نفسه يزداد يقينا من تمنيها:
- وأنت يا جهاد ؟! ألم يحن الوقت لتستقر وتبدأ في تأسيس أسرتك الخاصة؟!
رمقه بلطف يجيبه برضا شعر به سفيان:
- لا يمكنني ذلك الآن لأسباب عديدة، لا أظن بأن هناك من ستقبل الزواج مني بحالتي، كما أن علاج أختي قضت على مدخرات والدي، والحمد لله استطعت المساعدة لكن راتبي لحاله وراتب والدي لن يكفيا إذا حدث ووافقنا على زواج شقيقتي كي أقوم أنا بالعملية، على العموم لا ضير في الانتظار.
وضحك يكمل بمرح:
- على رأي إسحاق، ما نزال صغارا، والقعقاع مستعجل.
ضحك سفيان يجاريه في مرحه قائلا بفكاهة:
- خطأ التعميم مجددًا، متى سيقتنع الناس بأن الأوضاع لا تتشابه؟ ونحن نسير على سنة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام *يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ* وكل واحد حسب ظروفه وإمكانياته يقرر مصير حياته، إن كان يستطيع تحمل مسؤولية الزواج ماديا ومعنويا فلا يهم العمر، وكلما تزوج الإنسان صغيرا كلما حصن نفسه من الفتن باكرا لكن كما سبق وقلت الظروف تحكم صاحبها.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


عاد جهاد لهز رأسه بتفهم وقال له بامتنان:
- أشكرك سيد سفيان لقد كنت محقا حين هداني الله لاستشارتك.
تبسم في وجهه بلطف يرد عليه بود:
- مرحبا بك يا جهاد، يشرفني كوني موضع ثقة لديك لكنك مخطئ حين قلت أن لا أحد سيقبل بك في حالتك، جنسك معروف وأنت رجل...رجل من ظهر رجل في الحقيقة، وحدود الشرع في حالتك واضحة، ولا تحتاج لعمليات من وجهة نظري.
قطب جهاد جبينه بعد أن شعر بفخر وتأثر من حديثه ثم سأله بحيرة:
- كيف ذلك؟ لم أفهم كلامك.
مال نحوه يفسر له بصدق:
- حالتك واضحة شرعا وعضويا، فهرموناتك واضحة ذكورية، وما خُلقت به زائدا ضامر، إذن لا خطر منه، اعتبره كوحمة أو كأصبع سادس في الكف الواحد، ومن يحتاج الى عملية هم *الخنثى المشكل* الذين لا يتضح بالفعل جنسهم سوى من خلال تدخل طبي لحسم الأمر لجهة معينة، قد أعذر شقيقتك لأنها أنثى، والفتيات حساسات نحو أنوثتهن ويكرهن أنفسهن من مجرد ظهور الشعر في أيديهن وأرجلهن مع أنهن يكدن يقتلن من أجل الشعر الكثيف والطويل على رؤوسهن.
ضحك جهاد بهدوء فتبسم له سفيان مضيفا:
- أما أنت فرجل، ومثل تلك الأمور لا تعنيك في شيء، عليك بإخبار من تختارها لتكون زوجتك بأنك خلقت بعضو زائد لا يؤثر على جسدك، فإن وافقت كان بها، وإن لم توافق فتلك علامة على أنها لا تناسبك ونبحث عن غيرها.
توتر جهاد يرمقه بذهول يطالبه بتأكيد على ما يقوله:
- هل حقا هكذا ترى الأمر؟
رد عليه بثقة:
- بالتأكيد، هذه حقيقة الأمر يا جهاد صدقني، نحن من نجعل غيرنا يروننا كما نرى أنفسنا، إن احترمت نفسك واتقيت ربك فيها، وجدت الناس من حولك يحترمونك ويتقون الله فيك، أنت من ترى وضعك وتحكم حسب عقيدتك كيف يجب أن تحيا حياتك، لا تدع أحدا يفرض عليك قناعاته، بل عش كيفما تريد أنت ولا تكترث لغيرك ما دمت لا تعتدي على مساحتهم، وسنعود في كل مرة الى ما هو مهم، وضروري، تقوى الله، لا تقس حياتك بمقياس من حولك لكن قسه بمقياس الله، تقوى الله مفتاح كل باب مغلق.
أومأ له جهاد بتفهم وهو يرخي جسده على كرسيه يردد بهدوء:
- ونعم بالله، على العموم يجب أن أطمئن على أختي أولا ثم أفكر في الموضوع بجدية إن شاء الله.
هز سفيان رأسه موافقا يبتسم له بتقدير، فرمقه جهاد بامتنان وقرر المغامرة بالقول وقلبه يدق بسرعة:
- سأعود إليك حينها وأطلب منك أن تبحث لي عن عروس مناسبة، فأنا أثق بك وتهمني وجهة نظرك، ولو كان لديك عروس قريبة لك يشرفني مصاهرتك طبعا إذا وافقت، ورحبت.
لمع الظفر على صفحة عينيه، وهو يرمق جهاد الذي تشنجت شفتيه في ما يشبه البسمة ترقبا لرده الذي خرج من حلقه بمراوغة مرحة:
- طبعا يشرفني نسبك، لكن يجب أن تطلعني على صفاتها، لكي أبحث لك بتمهل وتروي، هل أنت مثل صاحبك تبحث عن الأخلاق والدين أم يهمك الجمال أولا؟
بلل شفتيه وقلبه يقصف أحشاءه فيشوش عليه تركيزه بينما يجيبه بمرح مزعوم:
- الدين والأخلاق يا سيد سفيان، وإن كانت نتاج تربيتك سأكون مطمئنا وسعيدا.
ارتفع حاجبا سفيان واتسعت بسمته فشتم جهاد ذكاءه الذي خانه. لابد من أنه يبدو مفضوحا للغاية حتى أن حبات من العرق البارد بدأت تلمع على جبهته من الإحراج، ويبدو أن سفيان قد تفهم وضعه وأشفق على حاله فمنحه جوابه بمودة:
- طلبك عندي يا جهاد بإذن الله، حين تكون جاهزا أعلمني، وليقدم الله ما فيه من خير.
ضاق صدره بأنفاسه اللاهثة فمال في جلسته نحوه يطالبه برجاء خفي:
- حقا يا سيد سفيان، ستكون في انتظاري حتى أستعد؟
ضحك سفيان فتبسم جهاد بخجل، فبسط الأول كفه ليربت على ذراع الأخير بمودة، يشعر بانشراح في صدره مجيبا بلطف:
- إن شاء الله، أدعو الله أن يكون نصيبك كما تحب، وهو الكريم مجيب الدعاء.

١حسنه الألباني في "صحيح الترمذي".
٢رواه البخاري (5066) ومسلم (1400) عن ابن مسعود*.
***
(بناية أهل سفيان)
(شقة السيدة سعاد)
أنهت سرور تجهيز الغداء، واستدارت إلى مشجب المناشف قرب مدخل المطبخ لتسحب واحدة وتنشف بها كفيها قبل أن تعيدها مكانها.
تبسمت بحنو وهي تلتفت إلى صغيرتها المستغرقة في النوم داخل كرسي الرضع فوق سطح طاولة المطبخ، فقبلتها بحنو وحملتها بكرسيها متجهة نحو غرفة الجلوس حيث سبقتها جفون قبل قليل.
لمحتها تتفقد بعض الأوراق والكتب فسألتها وهي تضع الكرسي على إحدى الأرائك المحلية الصنع ذوات القواعد الخشبية المنقوشة ببراعة فنية بديعة، عليها مراتب مغلفة بثوب أرجواني بدرجتين مختلفتين لتجلس جوارها:
- هل تستعدين للدراسة؟
رفعت جفون رأسها تمنحها بسمة دافئة مع ردها:
- أجل، يجب أن أراجع دروسي، لقد أهملت كل شيء في العطلة.
هزت سرور رأسها بتفهم فاستطردت الأولى تستفسر منها بحيرة:
- تأخرت والدتي، أليس كذلك؟

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


ردت عليها سرور بتلقائية، وهي تنضم إليها تطلع على محتوى بعض الكتب بفضول:
- بلى، من حسن حظنا.
تجمدت سرور بصدمة مما نطقت به فأردفت محرجة:
- هل قلت ذلك بصوت مسموع؟
ضحكت جفون وهي تومئ لها بمرح فاعتذرت منها برجاء:
- أعتذر إليك.
فوجمت ملامح جفون تجيبها بأسف:
- بل أنا أعتذر إليك، فوالدتي تحيل حياتك إلى جحيم بسببي، وكما قال سفيان هي أم لم تجد حلا لمعضلة ابنتها فاتخذت العدائية كرد فعل معبر عن إحباطها وحزنها علي.
تبسمت سرور بحزن، واقتربت منها مقررة المحاولة لإخراجها من الحالة التي سجنت فيها نفسها بسبب من أنجبتها، وأمسكت بكفها تسحبها بين كفيها بحنان وهي تخاطبها بحنو:
- جفون اسمعي وعي ما سأقوله لك.
نظرت إليها جفون باهتمام وترقب لما ستسمعه منها مستشعرة منذ أن تزوجها سفيان مدى صدق مشاعرها نحو الجميع، ورزانة حكمتها فأحبتها كما تحب شقيقتيها وكانت لها مصدر حنان ومواساة لما تتلقاه من والدتها من عدم تفهم:
- لا تدعي باطنك يتغذى على سلبية والدتك، افتحي عينيك وأذنيك واسمعي هذه الجملة ثم كرريها في أفكارك حتى يتشبع بها باطنك ليقوم بردها عليك حين تشعرين بالكآبة.
اتسعت مقلتا جفون بتركيز بينما سرور تكمل بثقة وهي تشد على كتفيها:
- أنت فتاة جميلة، لديك من الصفات والنعم ما يجعلك تفوزين بأصلح الرجال كزوج لك، كما أنك ذكية ما شاء الله وستنهين عامك الجامعي الأخير وتعملين مع شقيقك أو تكملين دراساتك العليا، وقبل أن تعترضي!
قاطعتها حين همت بالاعتراض لتكمل بحنو:
- مع أنني أراك جميلة، ولك حظك من الجمال مهما اعترضتِ أو قالت والدتك أو ظن بعض من البشر، فالجمال ليس فقط بتناسق ملامح الوجه بمقاييسهم، الجمال جمال النفس والأخلاق، ومع ذلك حبيبتي جفون دعيني أخبرك بأن الجمال ليس له علاقة بالأرزاق، وما تخشاه والدتك خطأ كبير.
صمتت جفون لتنصت إليها فاستدركت سرور وهي تبتسم بدفء:
- تنفسي يا جفون، تنفسي! الحياة ليست تلك الجدران التي طوقتك بها والدتك، وليس هناك مفتاح للأرزاق سوى ما أخبرنا به الله، تقوى الله وكثرة الاستغفار، لا تتزوج الفتاة لأنها جميلة أو غنية أو ... أو ... كل تلك الأسباب من اختراع الناس لما يرونه كشكل للحياة اليومية، ما لا يعرفه الكثير منهم أن جميع أنواع الأرزاق كالموت تماما، تختلف أسبابه لكنه قدر نافذ لابد أن يصيب صاحبه إن لم يكن بسبب معين فبآخر، رزقك الذي كتبه الله لك سيصلك يا حبيبتي مهما كنت وأينما اختبأتِ.
تلكأت لتردف بثقة:
- هناك دود يُخلق ويعيش في باطن حجر مغلق، فكيف يصله رزقه برأيك؟ من خلقه يتكفل به، والله خلقنا للعبادة وتكفل بأرزاقنا وستصلنا ستصلنا حتى لو تقاعسنا عن الأخذ بالأسباب أو اتخاذ أسباب لا تُرضي الله والفرق بين ذلك هو الظفر بالبركة، البركة يا حبيبتي جند من جنود الله إذا رافقت الرزق تمتع به صاحبه وقنع به، وإن جاء الرزق دون بركة الله شقي به صاحبه وتعذب به، هل تفهمين كلامي يا جفون؟
أومأت لها بتفهم، وقالت لها بحزن:
- أعرف كل ما تقولينه يا سرور، أخي سفيان حرص على إفهامنا ما يسميه حِكم وأسرار السعادة لكن كما سبق وأشرتِ تكرار الأمور التي نعيشها يوميا على مسامعنا ومرأى أبصارنا تتغلغل داخل أنفسنا حتى يبدأ باطننا بتصديقها إلى أن يردها علينا حين نبحث عن اليقين في داخلنا فنبدأ بفقدان الثقة.
ربتت سرور على كفيها بحنو ترمقها بتفهم ثم قالت لها بمواساة:
- إذن سأكون من يعيد على مسامعك أسرار السعادة إلى أن يصدقها باطنك، وأرى بسمتك الحلوة تزين ثغرك دائما.
اتسعت بسمة جفون، وهي ترمقها بتأثر، وردت عليها بلطف:
- الحمد لله الذي عوض أخي بك، أختي الكبرى كانت تخبرنا بأن سفيان عاش يتيم الأم باكرا، وحمل في بداية شبابه المسؤولية مع والدي رحمه الله بسبب مرض الأخير، وبعد موته حمل المسؤولية لحاله، ورفض الزواج مع أنه كان يستطيع لكي لا يُشعِر والدتي أو احدانا بأي تهديد بأنه قد يهملنا حتى استسلم لك، ولقد استغربنا حين أخبرنا عن رغبته بالزواج لكن بعد أن رأينا نظرته لك وهيامه بك أدركنا بأن العشق جعل أخي يسلم حصونه كاملة.
احمرت سرور بحياء وردت عليها بحب لمعت به نظراتها:
- الحمد لله الذي رزقني به ليعوضني الكثير، فأنا أيضا مثله مات والداي وأنا صغيرة مع أن شقيقي لم يقصر أبدا معي جزاه الله عني خير الجزاء ثم تعرضت لابتلاء زعزع إيماني بسبب قلة نضجي لكن الله كريم ورحيم بعباده، أصلح شأني وفرج همي...الحمد لله.
تنهدت جفون بتفهم فربتت سرور على خدها تقول لها ببسمة مرحة:
- أكثري من الاستغفار، وادعي الله أن يزيد قلبك المحب هذا طيبة وتعلقا به ثم اصبري على والدتك واحتسبي أجر صبرك على الله، واتخذي أسباب التوكل التي ترضى الله، وثقي بأنك ستسعدين برزقك حين يدنو أجله ويحضر معه البركة، بإذن الله.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


اتسعت بسمة جفون، وهي تعود إلى ما كانت تفعله كما عادت سرور لتفقد الكتب برفقتها، غافلتين عمن كانت تنصت بصمت وقد وقع حديثهما في نفسها بشيء من الأثر.
***
(بعد يومين)
(منزل أهل جهاد)
لم ير جهاد صديقه القعقاع بمثل تلك السعادة من قبل، يبتسم طوال الوقت حتى أنه بدأ يعتاد على ذلك بدلا من العبوس المحتل لوجهه طوال الوقت، كما أنه غير قادر على استيعاب كون موافقته هو ما جعل القعقاع سعيدا بذلك الشكل، دون حتى ضمان موافقة العروس أو أهلها.
تقدمت شقيقته تحمل صينية الشاي بعد أن تعرف والداه على القعقاع ووالديه ثم تبادلوا أحاديث متنوعة عامة وأخيرا هلت عليهم العروس.
نهض جهاد من مكانه ليتناول منها الصينية قبل أن توقعها بارتعاشها الواضح، وابتسم لها بحنو ثم عاد ليجلس مكانه بينما والدته تتكفل بتعريفها على أهل صديقه الذي فجأة اختفت بسمته وأطرق بمقلتيه أرضا، فمال نحوه هامسا له بتسلية:
- ألم تعجبك العروس يا عاشق؟!
نظر إليه مقطبا جبينه فأردف بمشاكسة ماكرة:
- أين بسمتك البلهاء؟! ولماذا عدت إلى عبوسك؟! لقد ظننت بأن عُقدك حلت ولله الحمد.
مط شفتيه بامتعاض عابس فاتسعت بسمة جهاد، وهو يضيف بمزاح:
- هذا هو صديقي الذي أعرفه.
هز القعقاع رأسه بيأس ووالد جهاد يحدثه بود:
- تعال بني، اجلس هنا، وانظر إلى من تريدها شريكة لحياتك، وتحدث إليها.
حدق بوالد صديقه كأنه يتحدث لغة لا يفهمها ثم تنحنح بحرج حين لكزه جهاد بكوعه في جانب خصره، وقام من مكانه ليجاور عروسه التي لم يلق عليها نظرة بعد.
كانت غرفة الضيوف طويلة نوعا ما لذا تعمدوا الابتعاد عنهما إلى الجانب الآخر، والخوض في أحاديث عامة كي يمنحوهما بعض الخصوصية.
عض جهاد باطن خده يكتم ضحكة لو أطلق لها العنان لأفزعت أهله وضيوفهم، فسحب هاتفه يراسل إسحاق على تطبيق التواصل علّه يخفف من ضغط التسلية على صدره:
جهاد: فاتك نصف عمرك (😂).
إسحاق: كنت أعلم، ولولا الإحراج لكنت أتيت(😛) أخبرني هيا (😁).
جهاد: قبل دخول أختي كان يبتسم مثل الأبله(😎) والآن يحمر خجلا يا إسحاق (😅) هل تصدق؟! خداه أصبحا أحمرين تماما كشقيقتي أو أكثر ( 😂)
إسحاق: يا إلهي!! لقد فاتني نصف عمري حقا! (😂😂😂😂😂😂😂😂) أرجوك صوره لي، يجب أن أراه.
كتم جهاد ضحكته وهو يجيبه بمرح:
جهاد: سأفعل لا تقلق (😜)
عدل هاتفه محاولا تقريب الشاشة لكي يلتقط له صورة واضحة، بينما المعني غارق في خجلٍ يضاهي خجلها هي الأخرى، فأطرقا كلاهما مخفضان بصريهما عن بعضهما.
تنحنح مدركا بأنه من يجب علي البدء بالحديث، ولم يزده ذلك إلا زهوا برجولته، ملاحظا مدى هدوئها وحيائها حتى أنه لمحها ترتعش وهي تحمل صينية الشاي، لكنه لم يرفع بصره أعلى من ذلك ليتحقق من ملامحها فهو يريدها مهما كان شكل وجهها:
- السلام عليكم.
- عليكم السلام.
ردت عليه السلام بهمس وهي تقاوم رغبتها في الهروب، واللجوء إلى غرفتها حيث أمانها، وحيث يكون قلبها مستكيناً لا يقفز وكأنه سينفجر بيْد أنها سنة الحياة.
لطالما سمعت من والدتها أن الفتاة والشاب مصيرهما الزواج يوما ما، رغم أنها كانت تلمح شبح الحسرة يعبر مقلتيها حين تأتي سيرة الزواج أمامها، لكنها دأبت على تطويق عقلها بعازل تبعد به كل ما يمكن أن يحزن قلبها ويغرقها في بئر الخوف والكآبة.
لقد قررت تعلم ذلك وبجدارة بعدما ملت من الحزن وانعدام الأمل بأن تستطيع العيش في أمان بعيدا عن أي تهديد بالأذى ثم بدأت بالبحث عن أمانها بخلق عالم خاص بها يعزلها عن الخارج بكل ما سيحمله لها من خزي وأذية يدمران أعصابها، وقد نجحت بعد سنوات من الانعزال والبعد عن الاحتكاك بالبشر، رويدا رويدا خلقت عالمها بما يناسب احتياجاتها فأصبحت أخيرا تنام بسلام وهدوء لقلبها عن القفز خوفا، فلم يكن يزورها الخوف سوى حين يلوح لها شبح الخروج من البيت في الأفق، فتلجأ إلى كل حيلة تحول بينها وبين حدوث ذلك.
والآن بعد أن استأصلوا ما كان يسبب تلك الحسرة في قلبي والديها رحل معه الخوف لكن لم ترحل معه رغبتها في التقوقع كما توقع جهاد أن تفعل.
فما لا يفهمه شقيقها أن انعزالها كان قرارها وبإرادتها هي، نتيجةً لفهمها البسيط والواضح عكس ما يظنه أفراد عائلتها بأنها معقدة.
فالتعقيد لا يعني التحليل ثم إيجاد الحل وتطبيقه بكل بساطة؛ هذه هي...نهال، كلما واجهتها معضلة تحللها وتبحث لها عن حل يريح قلبها فتطبقه بسرعة وبساطة، تلك هي طريقة تفكيرها وذلك هو منهج عقلها.
وبحسب تفكيرها الزواج ضرورة لا مفر منها، سيسعد والديها ويرتاح بالهما، وستُرضي ربها الذي هداها بفهمها الواضح البسيط أن غاية خلقها هو عبادته التي تعني السعي لرضاه سبحانه، لذلك وبكل بساطة عليها أن تتزوج.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

07 Nov, 15:05


لم تكن تحمل هم ذلك من قبل بسبب مصابها الذي يشكل مصدر خوف لدى الناس كما تأكد لها حين حدث واحتكت بهم أثناء الدراسة الابتدائية. ما تزال ملامح الصدمة والفزع على وجه إحدى زميلاتها يزور خيالها كذكرى بشعة حين دفعت باب الحمام معتقدة بأنه شاغر ومن هلعها اضطرت للوقوف فجأة من الصدمة، فلم تحتج زميلتها الصغيرة سوى ثانية لمحت فيها ما جعلها تصيح بأن نهال صبي متنكر في زي فتاة، فكانت الفضيحة مدوية وكانت تلك آخر مرة تُعتب فيها باب المدرسة، حتى بعد أن استعلمت الإدارة عن حقيقة الأمر وقدموا اعتذارا لأهلها وطلبوا منهم عودتها مرات عدة لم تقبل وفضلت البقاء في البيت، وكان من السهل جدا على والديها أن يوافقا، وكان ذلك كفيلا بأن يعزز شعورها الذي ربته فيها والدتها بأنها مختلفة بشكل سيجلب عليها الأذى إذا تعرف الناس على ذلك الاختلاف فيها، ففكرت وقررت؛ لا مزيد من الخروج ولا مزيد من الاحتكاكات بالناس، وبعد مرور العديد من السنوات لم يتغير الوضع وحدث نفس الشيء في ذلك اليوم في المستشفى حين لقبتها الممرضة بالمسخ.
- كيف حالك؟
جفلها سؤاله الخافت فبللت شفتيها تفكر في أن بزوال ما يخيف الناس منها صار لزاما عليها الزواج لتبني أسرتها الخاصة، فترضي ربها وترضي والديها وبالتالي يرضى قلبها وتعيش في سلام.
- الحمد لله.
نطقت بهمس وكلاهما محافظان على إطراقه:
- بما أن هذا لقاؤنا الأول، سأعرفك على نفسي، أنا قعقاع صديق جهاد وأعمل معه أظنك تعلمين ذلك، سبق وتعرفتِ على والداي، لدي أخت أصغر مني بسنتين، وأخ...
تلكأ وشعرت بتغيرٍ في نبرة صوته:
- أكبر مني بخمسة عشر سنة، متزوج ولديه أولاد، لكنه لم يعد يسكن معنا، لدي شقة خاصة بي في الطابق الثالث من منزل والدي.
لاذ بالصمت يتنفس بروية وانتظرها لتتحدث لكنها لم تفعل فحثها على التحدث:
- ألن تخبريني عن نفسك؟
للحظة خشي أن تكون رافضة للزواج حين تحدثت بخجل شديد:
- أنا...نهال.
صمتت تبلل شفتيها والخجل يكاد يُخرج قلبها من مكانه تفكر في أنها أفضل حالا حين كان يتحدث هو.
تزايد شعوره برفضها ونبرتها الخافتة المتوترة لم تساعده كي يستشف منها موقفها فلم يجد بُدا من البحث في ملامح وجهها.
رفع أنظاره إليها بعد أن كان مقررا عدم التعرف على قسمات وجهها حتى تصبح حلاله، لكن انعدام الثقة في نفسه وفي موافقتها جعله يستغل الرخصة أخيرا فقط من أجل التوصل إلى استنتاج وكل ما وجد في انتظاره سطح رأسها المكسو بطرحة بنية.
زم شفتيه مفكرا في طريقة كي ترفع رأسها فنطق بأول شيء خطر على باله:
- ماذا تتمنين في شريك حياتك؟
بلع ريقه مثبتا نظراته على ملامح وجهها المندهشة، وكأنها تبحث فيه عن شيء ما، وكأنها لا تصدق بأنه حقا ينتظر منها ردا على سؤاله هذا.
تفاجأ من نفسه حين لم يتمكن من انتزاع أنظاره عن وجهها، متذكرا خياله حولها شبيهة بصديقه إلى حد ما كونها توءمه، لكن العكس ما يراه الآن تماما، فهي أنثوية جدا، ضئيلة وقصيرة وملامحها كملامح طفل صغير، أم هي ربما البراءة التي تشع من عينيها مع مزيج من الدهشة والخوف، تركيبة غريبة جعلت من بشرتها البيضاء محمرة ومن عينيها البنيتين متسعتين بذهول، لامعتان بندى ينبئ بوصلة بكاء قادمة تماما كالصغار، وحتى شفتيها لم تسلما من صغر الحجم ومن الاحمرار المنتشر على صفحة وجهها، مما دفع به إلى ازدراد ريقه والتحدث إليها:
- مثلا أنا أفضل لو تغطي وجهك خارج البيت.
أطرقت برأسها من جديد فسحب أنفاسا جرحت صدره المقهور من قلبه المتوثب بقوة:
- ولماذا سأخرج؟!
- عفوا؟!
نطق بحيرة، فرفعت رأسها مجددًا لكن دون أن تنظر إليه فمنحته فرصة أخرى للتأمل في ملامحها وما ترتديه:
- لماذا ...س... أخرج؟
بلع ريقه، وحلقه الخائن جاف ولا يساعده ثم عقد جبينه وهو يقول لها بينما عيناه تتفحصان قفطانها الأنيق ببساطته:
- أقصد حين ترغبين بزيارة أهلك، أو ترغبين في الخروج للتبضع أو لأي سبب مهم آخر.
وجمت فجأة تفرك يديها بتوتر، فسألها بترقب:
- ما بك؟!
فتحت فمها مرات عدة دون أن تفلح في نطق حرف واحد، فحثها وقلبه يقصف وسط صدره خوفا من الرفض:
- آنسة نهال يمكنك إخباري بما تفكرين فيه.
تنفست لتزيح عن قلبها بعضا من التردد والخجل فعليها أن تكون واضحة معه منذ البداية تجنبا للمتاعب فيما بعد ثم قالت له بخفوت:
- لدي شرط مهم، إن وافقت عليه لا مانع لدي.
أومأ لها بتفهم:
- تفضلي.
استغرقت لحظات تفكر في صيغة واضحة لما تريد قوله ثم تحدث إليه أخيرا بنبرة مرتعشة:
- أنا لا أحب الخروج، أعني ليس فقط بالنمط العادي، بل أود لو لا أضطر أبدا لتجاوز عتبة البيت إلا لزيارة والديّ، وإذا مرضا حفظهما الله من كل سوء تسمح لي بالبقاء معهما حتى أطمئن عليهما، فلا تنتظر مني التسوق أو قضاء حاجات خارج البيت مها كانت، ليس لدي علاقات صداقة ولن تكون فمن الأفضل أن تبلغ أهلك بذلك، قد تغضب والدتك إن لم أسامر ضيوفها فأنا لا أعرف كيف ولم أتعود على الناس ومخالطتهم، سأفعل أي شيء يُطلب مني داخل البيت لكن لا تنتظر مني شيئا خارجه...إن وافقت أنا بإذن

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

05 Nov, 19:34


https://t.me/+yZR7JNKCiIA5M2E0

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

05 Nov, 19:34


حبايبنا في الجزائر دار ابداع حتعمل خصومات وهدايا خاصة للجروب هذا خاص بالقراء في الجزائر خلال معرض الجزائر

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

03 Nov, 15:11


- بعد غد بإذن الله، سننتظرك من أجل جلسة تعارف مبدئية.
حلت لحظة صمت أخرى عليهم، وكان القعقاع كأنه لم يصدق فضحك إسحاق يقول له بمرح:
- قعقاع أنت لا تحلم، ما سمعته حقيقي وأنا شاهد على ذلك.
نهض القعقاع من مكانه يسأله بدهشة:
- حقا يا جهاد؟! أنت موافق!
رفع جهاد سبابته محذرا بجدية:
- موافقتي ليست مهمة بل موافقة أختي ووالدي.
سحبه القعقاع يضمه ثم أبعده قليلا يقول له ببسمة صادقة:
- بل موافقتك ما يهمني حتى إن رفضتني أختك وعائلتك لا قدر الله... سأكون سعيدا لأنك اعتبرتني أمينا على عرضك.
تأمله جهاد بتفحص معترفا لنفسه بأنه بالفعل لم يتعرف على القعقاع بحق رغم كونه صديقا مقربا منه.
ربت على كتفه واستدار يبتعد عنهما قليلا ليسحب هاتفه بينما يراقب صديقيه يتعانقان بود ويتمازحان حول الأمر فشكر ربه على أن علاقتهم عادت أفضل مما كانت.
انتبه للهاتف حين أتته تحية السلام بنبرة محدثه الرزينة، فرد عليه بهدوء مناقض لما يجيش بصدره من فوضى وحيرة:
- عليكم السلام سيد سفيان، لو سمحت أريد مقابلتك والتحدث إليك في موضوع مهم.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

03 Nov, 15:11


- وقبل قليل حين أحضرت صينية الشاي وقفت بها جوار المدخل حين لمحتني لوحدي، وأنا من باب المساعدة نهضت لكي أتسلمها منها لأن القعقاع ذهب ليغير ملابسه لنخرج، هذا ما حدث، أنا وهي بريئان مما تدعيه تلك المرأة.
التفت النظرات حول المرأة التي قست نظراتها ترمق إسحاق بحقد، ثم قالت لهم بسخرية مقيتة:
- دفاعه عنها أكبر دليل على إدانتهما.
جز زوجها على أسنانه غضبا، ما يزال يصدقها فهم بالهجوم على إسحاق حين هتف والده ببرود اعتلى ملامح وجهه، يشعر بأنه اكتفى ولم يعد لديه من الصبر ما يقدمه:
- يزيد أخرج من بيتي!
تجمد يزيد مكانه واستدار إلى والده يستنكر بصدمة:
- ماذا قلت يا أبي؟!
خطا والده إلى أن وقف أمامه يحارب ليستقيم بظهره الذي بدأ بالانحناء تعبا، يقول له بقوة نبعت من صميم قلب اكتوى بنار العقوق:
- لقد حذرتك مرات كثيرة بعد أن تجاوزت عن كثير من زلاتك وتشددك البائس! لكن إلى هنا وانتهى الأمر، اجمع أغراضك وتوكل على الله، وحين أموت عد لتحصل على حقك الشرعي.
لم تكن مقلتاه في حاجة للاتساع أكثر لكن التعبير فيهما تحول إلى استنكار وصدمة فاختلطت فيهما بالقسوة والغلظة:
- تطردني لأنني أدافع عن عرضي؟ لأنني أُقَوم أهلي؟!
رمقه والده بنظرات اعتاد عليها قبل سنوات مليئة بالخيبة والحزن بينما يجيبه:
- صدق أو لا يا يزيد، أنت لا تحسن صنعا، أنت فقط تحسب أنك تحسن صنعا، ها أنا ذا أخبرك بالحقيقة واعتبرني ما شئت، ظالما أو فاجرا أو حتى كافرا... لكن ما تدعيه أنت ومن علمك التشدد أنه الحق فالإسلام منه براء.
احتدت أنفاس يزيد كأنه على وشك قتل أحدهم بينما يقول له:
- وما هو الدين يا والدي العزيز؟! التساهل في الذنوب والسماح بالاختلاط والفُحش.
رفع والده كفيه متسائلا بسخرية فهو تعود على ضلاله ولم يعد يندهش من أفعاله:
- أين هو هذا الفحش، والاختلاط؟ هل لديك شهود على الفحش دون ثرثرة النساء الفارغة؟ لقد قرأت سيرة نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ولم أجد فيها ضربا في التربية ولا عنفا في التقويم، لم يسبق للنبي الكريم أن ضرب ابنة له أو أختا أو زوجة أو حتى صبي ليقومهم ويعلمهم، حتى مع الكفار في الدعوة كان أساسها الحلم واللين، فبالله عليك حين يسألك الله عن ضربك لأختك اليوم ماذا ستقول له؟! ولا أريد سماع تكهنات لا أساس لها، لقد تعبت ولم أعد قادرا على نقاشاتك وجدالاتك ولا غلظتك! لذا من الأفضل أن ترحل عسى أن يمن علي الله بإصلاح ما أفسدته، وأنا صامت أكتفي بمراقبتك.
ظل يزيد على تجمده، وكأنه فجأة سحب البساط من تحت رجليه ثم صاح بعنف مستنكر:
- ما تقوله وتفعله سيحاسبك الله عليه، أنت تتساهل كثيرا، وهذا لا يجوز، ولا يجوز أن تطرد ابنك من منزلك!
تنهد والده ثم قال له ببرود:
- أنا لا أتساهل، والله سيحاسبنا جميعا، ومن حقي أن أبعد واحدا من أبنائي خصوصا وهو قادر على فتح بيت لذريته والصرف عليهم، حين أرى أن إبقاءه في بيتي مفسدة لصلة الرحم، لكن ما لا يجوز أن يعنف الابن أباه، وهذا خير دليل على أن غسيل العقل الذي أخضعوك له لا يمت للدين بصلة، هيا يا بني اذهب وابحث لك عن بيت، فليس بالشيء الصعب عليك، هداك الله وإيانا.
انصرف يزيد وهو يرغي ويزبد متوعدا بينما تتبعه زوجته فانحنى الرجل ليطمئن على ابنته التي ارتمت عليه تبكي بحرقة تقطع نياط القلوب.
اقترب إسحاق من القعقاع يقول له بحرج وقلق:
- قعقاع أقسم لك، أنا لم...
قاطعه صديقه محرجا هو الآخر يربت على كتفه:
- أنا أصدقك كما أعرف العنقاء جيدا.
- أعتذر إليكم، لأنني السبب في ما حدث بأي شكل من الأشكال.
همس له بتوتر فقال له القعقاع بوجوم:
- لم تكن السبب بل هو هكذا.... دائما هكذا.
رمقه إسحاق متأملا ثم سأله بترقب:
- هل هو من تخشى أن تصبح مثله؟
نظر إليه مجفلا ثم التفت إلى والديه وشقيقته التي وقفت تئن بألم يسألها بقلق:
- عنقاء، هل نذهب للمستشفى؟
هزت رأسها برفض، وتشبثت بوالديها تجيبه بهمس واهن:
- لا! سأرتاح وأصبح أفضل بإذن الله.
استدار والدها ليحدث إسحاق باسما بحنو شابه بعض الحزن:
- نعتذر إليك بني، عد لزيارتنا مرة أخرى، فأنا في شوق للتعرف على أصدقاء القعقاع.
هز إسحاق رأسه بإيجاب يغمغم:
- إن شاء الله يا عمي، شكرا لك.
ثم التفت إلى القعقاع يكمل برجاء:
- هل نخرج الآن؟
أومأ له القعقاع موافقا وانصرفا بعدما اطمأن على شقيقته.
***
(في وقت من الليل)
(منزل نوح آل عيسى)
(غرفة أيوب وصبر)
فتح مقلتيه يحدق بالسقف في الظلام، وبسط كفه ليشعل نور المصباح الخافت على المنضدة جواره ثم انتظر.
كان يشعر بها تتلوى فوق ذراعه، فهو لا يغفو حتى يضمها إلى صدره يستنشق عبيرها ليتأكد من أنها معه وليس حلما، فينام قرير العين حتى يصحو على انتفاضة أطرافها. الكوابيس تزورها مرة كل ليلتين أو ثلاث وكم خشي أن يكون سببها قبل أن تريح قلبه وتخبره بأنها قديمة، لكن تظل الأسئلة تشغل فكره؛ ماذا ترى فيها وما هو سببها؟!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

03 Nov, 15:11


اهتزت شاهقة وهي تلهث والعرق يتصبب من جبينها فضمها إليه هامسا بخفوت:
- اهدئي، استعيذي بالله من الشيطان الرجيم..لا بأس.
ما إن وعت جيدا حتى اندست بين أحضانه، وكأنها تخفي نفسها هناك وهو لا يخيب أملها بل يشدها إليه بقوة يعدها بالأمان والحماية.
- ربما لو أخبرتني بمخاوفك، تتخلصين منها وبالتالي تتخلصين من الكوابيس.
همس لها وهو يعود بها للاستلقاء فرفعت إليه عيناها ترمقه بترقب، تلك أول مرة يستفسر منها عن الكوابيس، لقد كان صبورا في الأيام السابقة، مانحا إياها الحب والدعم دون سؤال.
- لو كان الأمر سيريحك طبعا.
أضاف برقة فحطت برأسها على صدره وصمتت، فظن بأنها لن تخبره، لذا اكتفى بمحاولته ولاذ بالصمت هو الآخر يمسد ذراعها بحنو:
- هل تعلم لماذا قررت الانفصال عن آدم حين حدث ما حدث لباسمة بعد ما قدمته من صبر عليه، وحرصي على حسن تربية ورعاية أبنائي.
فاجأته وكم آلمه تذكر تلك الأيام لكنه من سألها ويجب عليه التحمل، فرد عليها بهمهمة أخفى بها النار في صدره.
- لأن أبي عرضني لموقف مشابه.
عقد أيوب جبينه بقلق، وهو يرفع ذقنها بأصابعه يسألها برقة:
- ماذا حدث؟
تنهدت بحزن، وسحبت راحة يده الدافئة تسند عليها بوجنتها بينما تجيبه ببؤس:
- كان يحضر صديقا له فيحتسيان الشراب معا في السطح، وفي ليلة تسلل صديقه إلى الغرفة حيث أنام أنا وأخي عبد الحفيظ، إلا أن الأخير كان في سهرة للمراجعة مع زملائه استعدادا للامتحان النهائي لشهادة الثانوية.
- يا إلهي!
همس أيوب وهو يضمها إليه بقوة فبكت بينما تهمس له بألم:
- لحقت بي والدتي في آخر لحظة، فهي لم تكن تثق به ولا حتى بأبي، وكانت تراقبنا جيدا لكن الخوف الذي عشته في تلك اللحظات قبل أن تأتي أمي لبث في أحشائي يكبر يوما بعد يوم، ومنحه زواجي من آدم وجبة دسمة اقتات عليها حتى أصبح هاجسا يزحف إلى أحلامي فيقلبها إلى كوابيس.
بكت بصمت وهي تدس وجهها في صدره فتنفس بعمق يكبت غضبا أهوجا نحو كل من يبيع نفسه وأهله للشيطان.
- وحين حدث ما حدث لباسمة عاد الوحش ليظهر لي في يقظتي ولم يكتفِ فقط بكوابيسي.
همست له وهي تمسح دموعها ففتح فمه ليسألها، لكنه تراجع ولم يستطع، لم يقدر على لومها بل أراد أن يخفف عنها بكل ما يملك، لكنها كانت تعلم لذا حملت نفسها لتنظر إليه في عينيه تكمل بحزن:
- لم أكن سأعود لآدم يا أيوب، كان من ضرب المستحيل أن أسامحه على ما فعل لباسمة ولخيانته ثقتي به.
ومع ذِكر الخيانة تذكر أيوب خيانة أخيه الفعلية ثم تذكر أيامه الأخيرة وطلبه السماح من الجميع حتى منه فطلب له الرحمة والغفران في سره..
- كيف أسامحه وأنا لم أسامح والدي إلى الآن؟ كيف أتأكد من أن ذلك لم يؤثر على ابنتي كما أثر بي؟ لقد قضيت ليال طويلة أتسلل فيها إلى غرفتها وأجلس قرب سريريها أراقب نومها باحثة عن ما أخشاه.
تلكأت قليلا فقال لها أيوب بإشفاق يحاول طمأنتها:
- باسمة بخير يا صبر، أنا أتحدث معها دائما.
ابتسمت بدفء فغاص قلبه في دفء قلبها منتشيا بحنوها ونعومتها:
- أعرف أن علاقتكما مميزة، إنها مغرمة بك كليا.
- وماذا عن والدتها؟
غمزها بمرح فضحكت برقة تجيبه:
- تعلم بأنها تعشقك.
قبّل جبهتها وأراح جبهته عليها، هامسا لها بعتاب:
- لقد ضغطتِ على نفسك وعدتِ إليه فقط كي لا تفتحي باب الأمل لك ولي؟ ألهذه الدرجة تحبينني؟
تنهدت بعمق فضم وجنتيها يكمل بشجن:
- لماذا رضيت بعذاب كذاك؟
أسدلت جفنيها ترد عليه بنفس الشجن:
- عودتي لآدم كانت شكلية يا أيوب لم أكن حقا زوجته، كان ذلك شرطي لأعود إليه، فقط من أجل باسمة وأحمد ومن أجلك أنت.
أغمض عينيه وصدره يحتدم بمشاعر هائجة ثائرة ولم يكن ليلجمها أو يكون سجانها فيصبح هو رهين سجنه، فضمها أقرب وأقوى كقوة مشاعره الصادقة نحوها.
***
(بعد أسبوعين)
(وكالة الأسفار آل عيسى)
زفر بضجر وهو يغلق حاسوبه الشخصي، ونهض لينتقل إلى مكتب القعقاع بعد أن اكتفى بمراقبته وهو يغرق نفسه في العمل، كحاله طوال الأسبوعين المنصرمين.
شيء ما انكسر بين الأصدقاء الثلاثة، وكأن تداخل حيواتهم الشخصية بشكل ما أفسد صفاء علاقتهم.
أصبح الصمت سيد اجتماعاتهم والتباعد سياسة جديدة في تفادي الأسئلة، لكن إسحاق تنتابه هواجس بأن ما يحدث مع القعقاع أكثر من خلافه مع جهاد، وهذا يعيده إلى ما يتحرق شوقا ليسأله عنه، بيد أنه دائما ما يتراجع خوفا أو حرجا لا يعلم! إلا أن الهوة التي تتسع بينهم تسبب له انزعاجا وغصة في قلبه، يريد استرجاع صديقيه فهو لم يعرف سواهما منذ عودته إلى الوطن ويشتاق إلى ما يجمعه بهما، حتى شطحات القعقاع اشتاق إليها.
تنحنح حين بدا على القعقاع تباعده بإغراق نفسه في العمل فرفع رأسه يرمقه باستفسار:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

03 Nov, 15:11


- حممم... أريد أن أسألك قبل عودة جهاد...
لم يخبرا جهاد بما حدث كأنهما اتفقا على ذلك ضمنيا.
- كيف الوضع في بيتكم؟!
وجوم كئيب ذاك الذي طغى على قسماته المظلمة بحزن، فحثه إسحاق:
- لماذا لا تجيب؟
ألقى القعقاع بقلمه من يده ليشبك كفيه ببعضهما، ثم رد عليه بتهكم:
- بماذا أخبرك؟! أن الوضع في بيتنا بائس؟ أو أخبرك عن أبي المكتئب بسبب طرده لأخي بعد فوات الأوان، وبعد ما تركه في البيت من أثر لا يصلحه رحيله.
فك اشتباك كفيه ووضع احداهما تحت ذقنه يضيف ببرود جاف:
- أو ربما يجب أن أخبرك عن معلمي أخي وأصدقائه يرسلهم كل مرة ليعيدوا أبي إلى رشده، ويقنعونه بأن يبدي ندما على فعلته ويعيد ابنه تحت كنفه، آه ونسيت أيضا الخُطّاب الذين يرسلهم أيضا من جماعته لأختي، وقد سمعت بنفسي آخر واحد منهم وهو يقول بالحرف لوالدي بأنه متزوج من ثلاث نساء، ومستعد ليتزوج أختي كي يسترها، وكل ذلك بسبب من؟
قست نظراته وهو يستدرك بجمود:
- زوجة أخي التي تخبر الناس بأن أختي التي باغتها يزيد تضاحك صديقي فثارت حميته وأدبها سبب تشتت العائلة، وطرد أبي لولده الذي صدق كذب وتمسكن ابنته، هل يكفيك هذا؟!
رمش إسحاق بجفنيه ثم قال له بحزن:
- كان الله في عونك، لو كنت أعلم بأن زيارتي لك س...
نهض القعقاع من مكانه ليدور حول مكتبه وجلس قبالته قائلا له بغضب تلته لحظة ضعف أوشك فيها على البكاء، *القعقاع بكل قوته يوشك على البكاء*:
- لا تكمل أرجوك، لا علاقة لك بما حدث لا من بعيد ولا من قريب، إنها قصة حياتنا يا إسحاق من قبل أن أتعرف عليك، هل تعلم متى أدركت أن ما يعيشنا فيه أخي من تشدد ضلال لا يرضي الله؟!
هز رأسه باستفهام، فأكمل:
- وأنا في السنة الأخيرة من الثانوية، حضرت درس عالم في الشرع، مشهود له بعلمه وحكمته كان في زيارة للمسجد الكبير والمعروف به مدينتنا...فهمت منه بالبساطة التي تحدث بها رغم أنه يتميز بفصاحة القدماء من العرب، وكان من نعيم الله عليه أنه يتعلم منه العالم والبسيط؛ أن المؤمن إذا أراد أن يختبر شكل علاقته مع الله وإن كان على الطريق المستقيم أن يتحرى حال نفسه وصدره، هل هو مرتاح البال منشرح الصدر مهما كانت حياته في شدة أو رخاء؟! إن كان كذلك فهو تمام رضا المؤمن عن ربه، وتلك هي السعادة يكون فيها راض عن أقدار الله عليه ومرتاح البال ثقة بخالقه، وصدره في انشراح فيكون الله راض عنه في المقابل.
تغضنت ملامحه وهو يكمل بألم:
- أدركت النتيجة في تلك اللحظة، فبيتنا كالجحيم المستمر، صياح أخي وعصبيته، عنفه وسخطه الدائم، عدم تفاهمه مع أحد سوى ما يراه هو صحيحا أو ما يريده هو، لم يكن أحد منا منشرح الصدر مطمئن البال، لا أنا ولا والداي ولا أختي، ولا حتى يزيد سبب تعاستنا، حينها تأكدت من أن كل ما يوهمنا به أخي على أنه دين الله ضلال، لذا حاولت أن أثور، أن أخرج عن نمطه فكنت أتخبط لأنني لم أعرف كيف؟! وأول ما فعلته كان اختيار أحد التخصصات الجامعية التي يمقتها أخي وجماعته، وكنت أناقض نفسي وما علمني إياه، أنازع معتقداتي وقناعاتي، وتمسكت بكما أنت وجهاد كطوق نجاة، مهما اختلفنا كنت أنصت لكما وأصبر على حنقي من نفسي حتى أتعلم منكما ولا أعود إلى بئر أخي المظلم فأعلق فيه الى الأبد، كل مرة كنت أتعصب فيها عليكما بسبب قضية ما كانت تلك طريقتي لأتعلم منكما لأنني للأسف لم أتربى على طلب النصيحة والعلم بل كان أخي يلقنني ويخبرني أن ما دونه خطأ، وما دونه كفر بالله وتزيف وتمييع للشرع حتى حضوري لدرس العالم حدث صدفة، لأن أخي حدد لي مجموعة من المشايخ وحذرني من أن أسمع من غيرهم.
بلع إسحاق ريقه يرمقه بإشفاق، فطوال تلك السنوات لم يكلف نفسه عناء البحث خلف شخصية صديقه، ولم يحاول التقرب منه ليستعلم عن حياته الخاصة وعن ظروفه، وكم كان سهلا إصدار الأحكام عليه!
- أنا اعتذر إليك يا قعقاع ... حقا! سامحني.
قطب القعقاع جبينه بحيرة يسأله:
- لماذا تعتذر؟
لكن الجواب أتاه من صديقهما الثالث الذي كان ينصت عند الباب، يرمقهما بلطف وهو مقبل عليهما:
- لأننا لم نتقرب منك كفاية لنعرف أي جحيم تعيش فيه، نحن صديقاك، وكان لزاما علينا أن نستعلم عن ظروفك وأن نبحث عن أسباب تصرفاتك لا أن نصدر عليك أحكاما دون معرفة، لذا نحن نعتذر إليك.
هز القعقاع رأسه بلا معنى وعاد إلى مكانه يقول لهما ساخرا:
- على الأقل صرت تعرف عني كل شيء، والآن ضمنت رفضك لي كنسيب، ولديك كل الحق.
نبرته كانت كل شيء سوى المرح، فالتفت إسحاق إلى جهاد الذي قال له بعد لحظة صمت:
- كنت أُفضل أن أبلغك بقراري قبل ما قلته الآن، لكي لا تربطه به لكنها الأقدار لا يد لنا فيها.
رمقه القعقاع بلهفة وكأن حياته متوقفة على ما سيقوله، فتابع باسما بلطف:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


-     لكنها بدأت بسورة الفلق، وليس الإخلاص، إنها تتعوذ من شري.
تنفس سفيان مخافة الانفجار ضحكا، وفر من مظهر زوجة أبيه المضحك إلى سرور يدّعي تنبيهها:
-     هل نسيتي الإخلاص يا سرور؟! فهي تسبق المعوذتين في الأذكار.
انتفضت المعنية واقفة ثم أخذت صغيرتها بينما تجيبه بجمود:
-     لقد نسيت فعلا، لذا أنا مضطرة للمغادرة لكي أركز على تلاوة أذكاري، عن اذنكم.
ثم التفتت إلى سعاد المتخصرة بحنق تستطرد بجدية تخالف سخرية التعبير:
-     سامحيني لأنني ودون قصد خربت خططك مع شقيقتك لكنها أقدار بيد الله لا بيدي.
غادرت تحت أنظار سفيان الذي شعر بكل الفكاهة تغادره بمغادرتها، وقلبه ينبض ألما من أجلها؛ حبيبة قلبه الطيبة والبسيطة، تلك السخية بعواطفها والكريمة بصبرها.
استقام واقفا، وفي لحظة خاطفة لمحت سعاد نظرة تحذير تعبر صفحة عينيه، سريعا ما وأدها لكنها كانت كفيلة بجعلها تتراجع عن جنونها بتردد، وهي تسقط ذراعيها إلى جانبيها.
ابتسم لأخته بحنو فرقت مقلتاها ثم التفت إلى سعاد وتنهد ليقول لها بجدية ولو اتصفت بلطفه المعهود:
-     أتمنى يا خالتي أن تنسي ما قلته قبل قليل، فللأسف ليس هذا المكان ولا الزمان المناسبين حتى لذكره، ومع أن لا حرج في السعي لتزويج البنات من رجال صالحين، لكن الأمر له حدوده وظروفه، وأنا رجل غيور لا أحب أن يتم عرض أختي على الرجال، وفي الحقيقة أن ربنا الكريم سيرزقها بإذن الله زوجا صالحا، أثق بهذا لأنني أحسبها صالحة وجميلة الروح قبل المُحيا، ولو كانت شقيقتك تريدها بالفعل هي وابنها ما وضعا شروطا لإتمام الزيجة، وهذا سبب آخر لتنسي أمر ابن أختك، عن اذنك يا خالتي.
انصرف وتبعته أخته لتوقفه عند الباب تناديه بحزن:
-     أخي.
استدار إليها مبتسما بدفء، ورأفة ثم قبل رأسها بينما يخاطبها بحنو:
-     اصبري عزيزتي، اصبري، إن أجر الصابرين عند الله عظيم.
تركها ونزل إلى شقته حيث ينتظره نبض قلبه الذي قرر التمرد اليوم على غير عادته، ابتسم تلقائيا فحبيبته الرقيقة حتى في تمردها رقيقة ولطيفة ومحببة.
 خفق قلبه بقوة من ذكر محاسنها، وعطرها الذي يستقبله عند عتبة باب غرفة نومهما، تلك من عاداتها التي يعشقها، امتناعها عن التعطر بسخاء سوى في غرفتهما حتى أنها خصصت ملابس تعطرها لا تخرج بها من شقتهما.
بحث عنها بعينيه فوجدها تنظر إلى انعكاسها على مرآة المنضدة حيث تمشط شعرها المجعد دون جدوى، فألقت المشط من يدها متأففة بتعب.
اقترب منها وطوقها من ظهرها، يهمس لها برقة مرحة:
-     هل أتممت تلاوة الأذكار؟
رفعت حاجبها باستهزاء بينما ترمق انعكاسه على المرآة ببسمة تحاول إخفاءها، فقبّل جانب وجهها قبل أن يكمل همسه اللطيف:
-     تعلمين بأنني أحبك، ولا أقبل بنساء الدنيا بديلا عنك، هل يكفيك هذا يا سرور حتى تنسي أي شيء آخر يكدر علينا صفو علاقتنا؟!
أسدلت جفنيها مسندة ظهرها على صدر زوجها  تتنهد باستسلام بينما تجيبه، وهو يستقبل استسلامها له بحب ورجاء في رب كريم أن يحفظ عليه استقرار فؤاده مع ساكنة قلبه:
-     أجل يكفيني ويفيض، أحبك يا سفيان، أحبك جدا، وأنت من يهون علي كل شيء يا حبيبي.
وكانت تلك آخر كلماتها قبل أن يطغى صمت العشاق بين جدران سترهما الذي أرخى بظلاله على حبهما العفيف ليكتمل بمباركة من خالقهما.
***
(بيت عبد الحفيظ)
عقد جبينه مستغربا من صمتها، وهي تحكم شد القماط حول صغيرها فهمس لها مرة أخرى:
-     هل تسمعينني يا سلمة؟ أيوب وصبر سيتزوجان غدا إن شاء الله.
حملت الصغير دون كلمة وأسندته على كتفها لتربت على ظهره بروية حتى تجشأ أمام نظراته المرتابة، وحين هم بالتحدث مجددًا حدجته بنظرة مهددة بلع على إثرها لسانه مضيقا عينيه بشك.
تأكدت من إغفائه فوضعته بتمهل داخل المهد، ودثرته بحب ثم استدارت إلى زوجها وسحبته بصمت وأغلقت الباب على الصغير، لتتوجه إلى غرفة الجلوس حيث أغلقت عليهما الباب أيضا.
تجمد مكانه والترقب جليا على قسمات وجهه المستغربة، وما لبث أن انتفض فزعا حين بدأت بالقفز كالمجانين تهتف بسرور:
-     هييييييه!! لقد فعلاها أخيرا، أنا سعيدة! لقد عرفت الخبر من أمي قبل ساعات لكنني لم أستطع التعبير عن فرحي، فلا أريد إفزاع صغيري، هبيييييييييه!! فاز أخي بحبه أخيرا! أيوب سيتزوج صبر وسنمازحها بلقب صبر أيوب.
تغنت بآخر حديثها، وهي تصفق وترقص بينما عبد الحفيظ متجمد مكانه يفغر فمه ببلاهة.
-     ماذا قلتِ؟
سكنت عن جنونها ورقصها لتنظر إليه ثم ضحكت بحمق تشير إليه بسبابتها:
-     أنت لا تعرف قصة صبر أيوب.... ها؟! لا أصدق أنني أعرف شيئا لا تعرف عنه أنت أي شيء.
 زوى ما بين حاجبيه ريبة فرفعت كفيها إلى الأعلى لتكمل بمزاح مرح:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


-     انتظر لكي أستمتع بحلاوة اللحظة.
أغمضت عينيها باسمة بمكر فخاطبها عبد الحفيظ بنفاد صبر بينما يقترب منها:
-     كفى جنونا يا سلمة، وأخبريني.
فتحت عينيها على وسعهما تشاكسه بمكر مرح:
-     وعلى ماذا سأحصل في المقابل؟
أشعلت الحماس في صدره مفتونا بجنونها المناسب لهيئتها الأنثوية الناعمة، بمنامة زهرية وطوق أعلى رأسها على شكل ضفيرة رقيقة، فارتأى مسايرتها بينما يجيبها بمرح مشاكس:
-     سأمنحك الكثير، ففي قلبي لوعة.
حركت سبابتها أمام وجهه محذرة بمرح:
-     استح يا عبد الحفيظ، أنا لم أكمل الأربعين بعد!
هز رأسه بمكر مشاكس، وهو يراوغها بنفس مرحها:
-     لم يبق سوى يومين، ولقد لمحت السجادة مفرودة وعليها ملابسك للصلاة، فاستحي أنت يا حبيبتي ولا تحرميني حقي.
تخصرت بينما تؤنبه بعبوس طفولي:
-     كيف قلبت الأدوار هكذا؟ أنا من كانت تبتزك قبل قليل.
سحبها فجأة لترتطم بصدره يمازحها بمرح: 
-     اسمه فن المساومة يا صغيرة، والآن أخبريني بما لديك حتى نفتتح ليلتنا المباركة قبل أن يستيقظ مدللك فيكون حظي منك الجنون فقط!
ضحكت بدلال وبسطت كفيها على صدره بينما تجيبه:
-     أيوب كان يحب صبر منذ صغره، وآدم  رحمه الله سبقه لخطبتها، ولا أعلم سبب موافقة شقيقتك، فبالرغم من صغر سني إلا أنني كنت أشعر بها تبادل أيوب إعجابه، وبعد موت آدم سعينا جميعنا لنجمعهما لأن أيوب لم يستطع تجاوز مشاعره نحوها، وكان هذا سبب عدم زواجه بل وسبب انحرافه من قبل حتى أننا استغللنا مساعدته حتى نثير غيرتها وقد أفلحنا على ما يبدو وحُلت العقدة.
أخفت الكثير خلف خلاصة قولها، فمن مات دُفن تحت الأرض مع أسراره. عاد لتضييق مقلتيه بعدما أبعد رأسها لينظر إلى عينيها محتفظا بها بين ذراعيه:
-     لم أشعر بكل ذلك، لقد كان صديقي المقرب.
زمت شفتيها ترد عليه باستخفاف وهي تهز كتفيها:
-     أيوب أخفى مشاعره لصغر سنه فما كان ليفصح عنها وهو غير مستعد للزواج ثم بعد ذلك أصبحت زوجة أخيه، لذا الأمر كان مربكا برمته، وما يهم الآن أن كل شيء بخير ولله الحمد.
-     أنتم خططتم لجمعهما...ها؟!
لمع الحماس الماكر من مقلتيها، وهي تؤكد له بمشاكسة:
-     أجل، وفكرة إثارة غيرتها من مساعدته كانت من بنات عقلي الذكي.
رفع  أحد حاجبيه يغازلها بتسلية:
-     سلم الله لي الذكي، بعد أن ارتاح بالك ونجحت خططك بالجمع بين أخيك وأختي، هلا استغللت هذا الذكاء الفذ بابتكار طريقة تمر بها ليلتنا المباركة بسلام ودون مقاطعة من مدللك.
حاولت التسلل من بين ذراعيه تراوغه رغم حبها الكبير له لكنه أحكم طوقها جيدا يستدرك بمشاكسة فكاهية دفعت بها إلى الاستسلام لمشاعرها التي يتربع على عرشها:
-     لا مفر لك مني الليلة يا سولي، شغلي مكرك وجنونك هذا لإسعادنا معنا.
***
(اليوم التالي)
 (داخل سيارة أيوب)
أربكهما الصمت داخل السيارة فالتزم بالقيادة موليا كل تركيزه للطريق أمامه بينما هي تحارب للسيطرة على صخب دقات قلبها.
لقد فعلتها وتزوجت منه... بعد كل شيء أصبحت زوجة أيوب آل عيسى.
ما إن خرجا من مكتب قاضي العدل حتى استأذن أيوب من الجميع كي يستفرد بها، وكم كان الموقف محرجا لها ولولا تشجيع خالتها وسلمة وشقيقتها اللاتي أصرين على حضور عقد القران، لتراجعت وجبنت، وها هي تجلس قربه تفرك كفيها بتوتر لا تدري أي وجهة يقصدها.
لم تطل حيرتها وهو يوقف السيارة أسفل بناية شقته، فاستدارت إليه تسأله بتوجس:
-     لماذا أتيت بنا إلى هنا؟
تفقد ما ظهر من فستانها تحت الحجاب العريض يفكر في أن لشقيقته يد في ذلك لا ريب، وأطفأ المحرك بينما يستنكر بمكر مبطن:
-     حقا تسألين؟!
تزايد شعورها بالارتباك مع احمرار خديها، فتبسم بتسلية يردف وهو يترجل من السيارة:
-     ألم تكوني تنتظرين ردي؟ ستحصلين عليه هنا، هيا انزلي!
كان قد التف حول سيارته وفتح لها الباب، فنزلت بقدمين مرتعشتين وأمسك بكفها دون تردد يسحبها خلفه، وهي مستسلمة لمصيرها.
دخلت الشقة بوجل وتسمرت قدماها وسط طرقة المدخل، فانتظرها حتى يئس من تحركها فحملها فجأة ليتوغل بها داخلا. شهقت بدهشة فقال لها بنفس التسلية التي لم تغادره:
-     لقد انتظرت بما فيه كفاية، أليس كذلك؟
أمسكت بعنقه خشية الوقوع فاستدرك وهو يغمزها بمرح:
-     لا تقلقي، لن أفلتك أبدا.
بللت شفتيها الجافتين كحلقها ثم نظرت إليه بلهاث بينما تهمس بقلة حيلة:
-     أيوب.
تأمل للحظات طالت حتى ظنت بأنه لن يتركها لكنه وضعها على الأرض. حاولت الابتعاد عنه فمنعها مقربا إياها منه ثم وضع جبينه على جبينها محاولا إبعاد تأثره بقربها وبكل ما تمثله لقلبه وروحه هي... صبر.
-     كي أمنحك ردي، أريد توضيحا أخيرا فقط، بعدها سنغلق باب الماضي نهائيا.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


أسدلت جفنيها واللهاث يتصاعد في أحشائها بينما هو يثبتها حتى لا تفر منه بيده اليمنى، والأخرى تبحث عن عقد ودبابيس حجابها لكي يرخي أستاره:
-     لماذا عدت لآدم بعدما قررت تركه؟
-     أيوب.
همست برجاء وتعب، فأستدرك مصرا، وهو يفك العقدة الأولى مستمرا بنزع الدبابيس كما يستمر بنزع الاعترافات منها عله يصل لعقدة روحها العميقة فيتمكن أخيرا من فكها:
-     تلك المرة كانت القاضية يا صبر.... فأخبريني بالسبب؟! هل عدت إليه لامتنانك له؟! فهو في النهاية ساعد أهلك أو كان سببا في ذلك، أم أنك أحببته حقا يا صبر؟!
كان يعلم بأنه يؤلمها ويؤلم نفسه قبلها ومعها لكنه يريد سماعها، شيء ما داخله ينبئه بأن ما ستقوله له سيرضي كبرياءه كرجل ويرضي قلبه كعاشق بائس:
-     ردي علي يا صبر، لملمي ما بعثرته يداك عبر السنوات، وانثري البلسم على جروحك  الدفينة داخل قلبي، تحدثي إلي!
تنفست بصخب وهي تبكي بينما يرخي عنها الطرحة لتسقط أرضا ويصل إلى مبتغاه في بعثرة خصلاتها الناعمة، فألحق يده الحرة بأختها ليمسك بجانبي وجهها يمسح عنها الدموع، وهي تجيبه بهمس دافئ كان كالبرد والسلام على جحيم عذابه:
-     عدت إليه لأنني رأيت الأمل ينبثق من صميم عينيك، أنا طعنت قلبي مرة أخرى وعدت إليه، لكي أقتل معه أي أمل لديك يا أيوب، هل ارتحت الآن! لطالما تعلق الأمر بك... أنت وفقط!
ضمها إلى صدره أخيرا فسكتت عن الكلام وهي تنجرف مع تيار أقوى منها من غير حول منها ولا... سلطة،  فاستسلمت وسلمت حصونها بعد أن رفعت رايات خسارتها بل نصرها لترسو على بر أمانها...صدره الرحب والذي كان في انتظارها منذ الأزل:
-      ردك يرضيني، وهل تضنين علي بالراحة بعد كل هذه السنوات؟! باب الماضي أغلق في هذه اللحظة، ولن نتذكر منه سوى  براءة طفولتنا وحبنا الفتي، ورَدي عليك هو.... أنا أحبك يا صبر، أحبك لدرجة أنني كأبله لم أهتم لأي شيء في حوار أمس باستثناء اعترافاتك بمبادلتك مشاعري في الصغر، والآن بعدما قلته عدت ذاك الفتى العاشق، وقلبي ينبض بجنون....بجنون من أجلك فقط، فقوليها يا صبر... اهمسي بها في أذني مرارا حتى تنسيني ما قد بدأت بنسيانه بالفعل، وأنت هنا بين ذراعي حقيقة لا حلما محرما نفيته قسرا حين اليأس من تحقيقه.
ضمها إليه بقوة كأنه يتأكد من وجودها بين ذارعيه بالفعل بينما يطالبها بحقه فيها، وهي تهمس مرارا بحقيقة مشاعرها التي خانت رزانتها، وتفجرت من ينابيعها لتسيل عبر حقول جفت وأضناها القحط، فاهتزت فرحة وبهجة أزهرت لها من جديد بحدائقها الغنّاء:
-     أحبك أيوب .....أنا أحبك.
***
(وكالة أسفار آل عيسى)
رفع القعقاع رأسه عن الملف أمامه بينما إسحاق يدخل عليه باسما بحالمية فرفع حاجبه، يخاطبه باستغراب:
-     كل هذه الحالمية وشقيقك من تزوج؟! ماذا ستفعل في يوم زواجك؟ ستتنهد كالنساء؟
عبس إسحاق فجأة يرمقه بامتعاض، ورد عليه برفض وهو ينسل من سترة بدلته الرمادية:
-     هادم اللذات، أين جهاد؟ لو كان حاضرا لتفهم مشاعري، وشاركني فرحتي.
هز القعقاع كتفيه بخفة يرد عليه، وهو يعود إلى ما كان يفعله:
-     لقد هاتفني قبل قليل من العاصمة، لم يرد إزعاجك، لذا طلب مني أن أبلغك سلامه.
تحرك إسحاق ليجلس خلف مكتبه يقول له باستغراب:
-     أي ما كان مصاب شقيقته، أدعو الله أن يشفيها.
تمتم القعقاع بآمين، وإسحاق يكمل بتلقائية:
-     لكن الدكتور* جيد جدا وسمعته تسبقه، وسيقوم بعمله على أحسن وجه بإذن الله.
نظر إليه القعقاع فجأة بعينيه السوداوين يسأله بحيرة:
-     كيف عرفت هوية الطبيب؟ فجهاد كان حريصا على عدم إخبارنا بشيء؟
هز كتفيه يجيبه بعفوية:
-     لمحتُ البطاقة في يده في وقت سابق، وحين سألته قال بأنه أحد أفراد فريق الأطباء المختصين بحالة شقيقته.
استغرب القعقاع من قول صديقه، ودون تردد أدخل اسم الطبيب الذي شعر بأنه مألوف لسمعه إلى شبكة المعلومات على الحاسوب جواره، وما هي إلا لحظات حتى اتسعت مقلتاه المظلمتين مع ملاحقتهما لما يقرأه ثم هتف بينما ينتفض كمن لمح وحشا ضاريا يهتف بتهديد ووعيد شديدين، مفزعا إسحاق بقوة أسقطته عن كرسيه:  
-     يا ويلك الأسود يا جهاد! أنا قادم إليك، ولو كان ما أظنه حقا سأقيم على أختك الحد، وإن كانت توأمك.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


تنفست بعمق، وأيوب يصغي بانتباه، وتركيز لتتابع بألم ارتعشت له نبرة صوتها:
-     فكرتُ جيدا واكتشفت أن ما قالته للأسف هو الواقع، وأن أي علاقة بيننا لن تسير على طريق سوي طبيعي، ولن يسعد بها جميع أفراد العائلة لذا اخترت الأسهل، ورفضت الأمر برمته.
عادت للبكاء بصمت، فخطا نحوها محافظا على كفيه المنقبضتين بقوة داخل جحريهما حتى توقف قبالتها يسألها بجمود:
-     ما الذي حدث ودفع بك إلى الموافقة على آدم بعد أن رفضتِ؟!
تشنجت ملامح وجهها وعيناها الضيقتين محمرتين من البكاء حتى أوشكتا على الاختفاء بين الجفون المنتفخة، ترمقه بألم مشوب بخجل، فحثها بنفس الجمود:
-     ماذا حدث يا صبر؟!
صدرت عنها شهقة أخرى قبل أن تجيبه ببكاء حارق:
-     الذي حدث أن والدي توفي وترك لنا ديونا كثيرة، وأخي ما يزال في عامه الثاني في المعهد العالي، دون ذكر سرور التي حان تسجيلها في صفها الدراسي الأول، وأنا لم أستطع إكمال دراستي بعد شهادة الثانوية، فعملت بحرفة الخياطة كي أساعد أسرتي في تحمل النفقات مع عبد الحفيظ الذي كان يستغل المساء في العمل في المقاهي، وكان ذلك أيضا رد والدتي على خالتي، وسببا قويا لتبرير رفضي لابنها دون حرج لكن خالتي كانت مصرة بشكل غريب، ووعدت أمي بتسديد كل ديوننا وتحمل نفقات دراسة سرور.
تجمد أيوب على صدمته، محدقا بها بينما هي تسترسل من بين شهقاتها الحارقة:
-     لم تستطع أمي إخبار أحد غيري يا أيوب، لم تخبر عبد الحفيظ لأنها أدرى بكبريائه، وكان سيرفض قطعا لذا أخبرتني لوحدي، المرض أوهن عزيمتها وشبح الموت أرعبها من ترك أبنائها دون معيل، لقد ترجتني يا أيوب، أمي توسلت إلي  لأوافق.
صمتت لتبلع ريقها وتستنشق أنفاسها قبل أن تكمل بكبد:
-     ضعفت أمام وهنها وقطعت قلبي بعذابها، فوافقت، ولن أنكر بأنني أردت لها الراحة والطمأنينة ولعائلتي، رغم أنه كان صعبا عليّ، أقسم لك أنه كان صعبا جدا، وأصعب ما فيه حين اكتشفت أنه يحتسي الخمر، كنت أواجه كل ما تنفر منه نفسي وأقنعها بالعكس ولكم كان شاقا علي إقناع نفسي بما تعافه، وتمقته؛ بيع نفسي لرجل سكير من أجل المال.
 وفجأة تفهم أيوب ما كان يراه يجاور العذاب على ملامح وجهها ولم يصدق بأنه الخزي، إنها تخجل من نفسها. هزت رأسها بينما تعض شفتها السفلى ثم قالت له بحزن، وهي تشير إليه بكفيها المبسوطتين نحوه:
-     وما جعله أشد مقتا وجودك أنت في محيطي، كل يوم، بل ومشاركا في حياتي وحياة أبنائي، تصلح من أخطاء شقيقك وتكمل نواقصه، لم تجعله سهلا أبدا يا أيوب...أبدا!
غطت وجهها تنتحب بصمت فتنفس بعمق مرات عدة، شهيق زفير، شهيق زفير ثم تنهد ونظر إليها للحظة قبل أن يقطع الباقي من المسافة بينهما ليقف أمامها وقريبا منها يناديها بهدوء:
-     صبر، انظري إلي!
شهقت بحدة ثم أزالت يديها بروية عن وجهها كما رفعت رأسها لتجده يناولها منديلا ورقيا. منحته نظرة سريعة قبل أن تعود إلى يده الحاملة للمنديل لتتسلمه منه وتمسح وجهها المحمر من بلله.
منحها كل الوقت الذي تحتاجه كي تجفف وجهها، قلبه يكاد ينسلخ من مكانه فكل شيء توضح له وبات منطقيا، ولا يعلم لماذا لم يتشبث فعليا بذهنه سوى اعترافاتها بمبادلته كل ما شعر به نحوها منذ الصغر، ومع أول خطواتهما نحو النضوج. 
تنهد مجددًا ثم استدرك بنفس الهدوء:
-     عودي إلى البيت يا صبر.
رمقته بحزن ودموعها تسيل مجددًا ساخنة تحرق خديها الملتهبين، ثم أومأت له بينما ترد عليه بإحباط:
-     لقد أخبرتك، اسمعني أولا قبل أن تقرر الزواج مني، قرارك صائب يا أيوب، أعتذر عن كل ما سببته لك من ازعاج، عن اذنك.
كانت على وشك فتح الباب كي تغادر حين شهقت بصدمة وهي تشعر بجسدها يتراجع إلى الخلف لتجد نفسها مقابلة لوجهه الغاضب يهتف من بين نواجذه بحنق:
-     لا يجب أن يفاجئني سهولة تخليك عني في كل مرة، أليس كذلك يا صبر؟!
فغرت فمها بذهول غير مستوعبة بينما يكمل بهمس حازم لا يقبل النقاش:
-     رَدي ستحصلين عليه بعد زواجنا، والذي هو بالمناسبة سيكون غدا بإذن الله، فأنا لن أقدر على التحكم بردود أفعالي، بعد اعترافاتك الأخيرة.
ثم ترك مرفقها الذي أمسك به حين سحبها بغضب كي يفسر لعقلها الأحمق أنه أبدا لن يتخلى عنها. استدار يبتعد عنها ثم التفت إليها قرب مكتبه يكمل بحزم:
-     غادري! ومن الأفضل أن تمري على عبد الحفيظ في طريقك لتخبريه، فأنا سأطلبك منه ومن أحمد اليوم، ومهما كان ردهما سنذهب غدا ومعنا والدي أيضا لنعقد قراننا، هل سمعتني يا صبر؟!
ما تزال على دهشتها جامدة حتى انتفضت على هتافه:
-     صبر!
ازدردت ريقها وهي تومئ له مرات عدة، فقال لها، وهو يشير إلى الباب وكأنه لا يطيق صبرا حتى تختفي من أمامه:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


-     تعال هنا يا أخي، مبارك لك.
جذبه إسحاق ضاحكا يكمل بمكر:
-     لا أعرف من خطف مني شرف الدفع بها إلى فوهة البركان لكنني سعيد من أجلكما، لا تنس خدماتي.
لكمه على كتفه بخفة، يرد عليه مزاحه:
-     جدها فقط، وسأقدم لك أي عون تريده.
مسد إسحاق على كتفه يدّعي الألم، مستنكرا بعبوس مزعوم:
-     ما أزال صغيرا على الزواج.
تأوّه فتشنجت ملامحه الوسيمة، ووالده يقبض على طرف أذنه يؤنبه بمرح هو الآخر:
-     صغير على ماذا؟! لقد تزوجت في مثل سنك.
ضحك أيوب مستسلما لضمة والده الذي بارك له بحنو ثم التفت باحثا عنها الغائبة الحاضرة بذكرها، فأشارت له باسمة أنها في غرفتها منذ أن بلغتهم بقرارها، ولم تخرج منها كما لم يجرؤ أحد منهم على اقتحام خلوتها.
أومأ لها بتفهم ثم استدار إلى بقية أفراد عائلته يستأذن منهم، على وعد بتخصيص الغد لعقد القران مع تأجيل الوليمة العائلية إلى موعد يناسبهم.
***
(بناية عائلة سفيان)
 (شقة زوجة والده)
وضعت جفون الشاي على المائدة المنخفضة في غرفة الجلوس، ووالدتها تتميز غيظا بلغ مداه فأحرق لجام لسانها الذي تحرك بما في صدرها من حقد بينما تحدج انبساط أساريريهما، وهما يتبادلان نظرات الهيام والحب:
-     لا أفهم كيف يتزوج أيوب امرأة أرملة وأكبر منه؟! لمجرد أنها أرملة أخيه، تلك العادة عفا عليها الزمن.
شهقت جفون بحرج وسرور تتجمد ملامحها بصدمة، فتنحنح سفيان وهو يمسك بكف صغيرته النائمة قربه يمسد عليها بحنو:
-     مع أن السيدة صبر أصغر من أيوب الذي هو قريني بالمناسبة، لكن ذلك ليس بعيب يا خالتي سعاد، والزواج رزق يقدره الله من فوق سبع سموات، ولا أظن بأن أيوب قرر الزواج من أرملة أخيه من أجل العُرف، بل لأنه يريد ذلك ويرغبه.
تجاهلت دفاعه الذي أجج من نيران الغل في صدرها، فشخرت بتهكم تتقصد إثارة حنق سرور:
-     ولماذا يقبل رجل لم يسبق له الزواج بامرأة، أولادها يفوقونها طولا؟ سوى الضغط من العائلة، فهي ابنة خالته... الدم يحكم في النهاية، يا حسرتي أنا!
تمتمت في نهاية حديثها، فرد عليها سفيان بهدوء لا يعبر عن الغضب الذي بدأ يعيث فسادا في أحشاء سرور:
-     ولو يا خالة، له الأجر الكبير إن كانت نيته ضم أولاد شقيقه تحت كنفه، فعلام تتحسرين؟
نظرت إليه بحدة وإلى زوجته ثم الى ابنته فقررت كشف أوراقها، فإن لم تحقق مأربها على الأقل ستكدر العلاقة بين عصفوري الحب ويشاركها القليل من غيظها:
-     أتحسر على حظي، فأنا وشقيقتي كنا سنفعل مثل ما فعلته خالة زوجتك.
أولاها سفيان انتباهه وجفون تحمر وتصفر من فرط خجلها وحرجها بينما سرور تعبس بتأهب، تشعر بأن ما ستقوله لن يعجبها بالتأكيد:
-     اتفقت وأختي على تبادل النصيب يا ابن زوجي.
ارتفع حاجباه دهشة، وهو يسألها باستغراب وعدم فهم:
-     تبادل النصيب؟!
ضربت على فخدها حسرة بعد أن شدت على عقدة طرفي طرحتها فوق حلقها، ترد عليه بسخط:
-     اتفقنا على عرض ابنتها عليك، وعرض أختك جفون على ابنها، وهكذا تضمن كل واحدة منا ستر ابنتها تحت سقف الأخرى.
فغروا أفواههم حتى جفون، رغم معرفتها بنية والدتها لكنها لم تتوقع جرأتها على التفوه بها بشكل مباشر هكذا، وأمام زوجة سفيان، أي ذل بعد هذا ينتظرها؟!
حرك سفيان شفتيه مرات عدة دون النطق بحرف واحد، وعيناه متسعتان على آخرهما بطريقة تثير الضحك لولا سماجة الكلمات والوضع ككل:
-     من حقي التحسر أم لا؟! فلا ضمنت زوجا صالحا لابنتي ولا لابنة أختي، في الوقت الذي فازت بك سرور وأختها الأرملة فازت بابن خالتها الأعزب الصغير، إنها حسرة ما بعدها حسرة.
-     يا إلهي!
التفت سفيان إلى سرور حين همست بصدمة تستدرك:
-     بسم الله الرحمن الرحيم.... قل أعوذ برب الفلق...
انتفضت سعاد تهتف بغضب، وسفيان يكاد يضحك من رد فعل زوجته المصدومة:
-     هل سمعت زوجتك يا سفيان؟ إنها تخشى مني الحسد.
كح سفيان ثم التفت إلى زوجته، يوجه لها عتابا مزعوما لمحت فيه الأخيرة مرحه الدفين داخل مقلتيه:
-     هل تخشين من خالتي الحسد يا سرور؟
رفعت حاجبها بتحذير غير مسبوق بينما ترد عليه بنبرة لم تستطع إسباغ الجمود عليها فخرجت كعادتها رقيقة:
-     بالطبع لا! فكيف تحسد أما ولدها؟ تذكرت أنني لم أقرأ  أذكار المساء بعد، وهي تبدأ بالإخلاص والمعوذتين.
عض سفيان باطن خده، يلجم رغبته بالضحك، حتى جفون تأثرت بفكاهة الموقف فزحفت بسمة بسيطة تشق طريقها بصعوبة عبر ثنايا شفتيها المزمومتين.
أدار سفيان رأسه إلى زوجة أبيه يقول لها بنفس الهدوء المجهول المعالم:
-     العفو خالتي، هي تقرأ أذكار المساء فقط.
ضربت سعاد بقدميها على الأرض، تنطق بتقطع حانق كطفل غاضب ساخط:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


-     أنت سألتني لماذا...؟ لماذا تزوجت آ....
تحركت شفتاها بصمت متشنج، ومقلتاها في بحث عن قرار لها بعيدا عن ناظريه، فخاطبها بوضوح حازم:
-     يبدو أنه لا مفر من ذكر اسمه ما دمنا لم نتلخص من ماضينا بعد! ارفعي رأسك وأخبريني لما قبلتِ بآدم يا صبر؟! فأنا وأنت نعرف جيدا ما جمع بين قلبينا، ولولا صغر سني ودراستي التي لم أكن قد أنهيتها بعد لتقدمت لخطبتك.
نظرت إليه بينما دمعة تفر من سجنها لتتدحرج بخزي على وجنتها فضم شفتيه بوجوم ثم أضاف بهدوء ونبرة رقت عن حزمها السابق:
-     لقد تجاوزت صدمتي يا صبر، منذ سنوات لكنني لم أستطع تجاوز غضبي منك من أخي، ووالدتي أيضا سوى في الأيام  الأخيرة واقتنعت بأنني ربما لم أفلح في إقناعك بصدق مشاعري بسبب سكوتي وعدم قدرتي على فعل شيء سوى تمنيك من بعيد، وأن آدم رحمه الله قام بالخطوة المناسبة، مهما كان حافزه، ومهما كانت أسبابه.
حانت منها نظرة مريبة نحوه، فلوح بيده اليمنى مستطردا:
-     لا يهم الآن، كل ذلك مضى وانتهى، ولم  أعد أريد الخوض فيه، وما يهمني هو الحاضر، والأيام التي تمر بنا كحلم يتسرب من بين أيدينا.
بللت شفتيها تقول له بنبرة متقطعة أقرب للهمس:
-     لا! أنا لا أستحق ما تقابلني به من تسامح و.... و... ح...حب، أنا لا أستحقه.
عقد جبينه بحيرة فاضت به، وهي تحارب لتكمل بنفس التقطع المرتبك:
-     ما نشأ بيننا من مشاعر كانت بالفعل متبادلة يا أيوب حتى لو كان التعبير عنها على استحياء وصمت، وحين طلبت مني الانتظار بطريقتك المرحة أثناء حديث عائلي، صدقتك وكنت على استعداد لانتظارك بالفعل.
رمقته بحزن والدموع على خديها جاريات، وكأنها تذرفها للماضي من العمر بأكمله، فانقطعت أنفاسه من اعترافها بحبه ولو ضمنيا، واستفسر منها بحزن حين لاذت بصمت مرتبك:
-     ماذا حدث إذن يا صبر؟! لماذا لم تنتظريني؟ ما الذي تغير؟!
عضت شفتها تواري الخزي داخل أحشائها لكنه ورغما عنها يطفو ليبدي جراحه الأليمة.
-     تحدثي يا صبر! ما الذي حدث؟!
هتف بنفاد صبر فارتعشت توترا، فزفر بضيق مما سببه لها من خوف ثم هادنها بالقول:
-     لا تخافي مني صبر، قولي ما لديك لننتهي من الماضي ونغلق أبوابه، فما أكنه لك يفوق كل ما قد تظنين أنه قد يحول بيننا، يكفي أنه هزم ما مر علينا خلال السنوات الماضية، وبقي على عهده ووفائه.
مسحت على شفتيها وهي ترفع ذراعيها تضم بهما جسدها من الارتعاش فوق حجابها العريض الساتر لنصف جسدها العلوي، فلا يظهر من فستانها المحلي الصنع سوى نصفه السفلي بلون بني غامق، عليه تطريزات على شكل وريقات شجر بنفس اللون لكن أفتح بدرجات:
-     كانت والدتي تلازم الفراش مرضا، وحالتنا المادية متردية بسبب والدي الذي باع كل شيء نملكه من أجل الخمر التي أفقدته صحته هو الآخر فأصبح عاجزا، أنت أدرى بحالنا حين ذاك.
 أومأ لها بتفهم، فشهقت تكمل بلوعة:
-     وجدت أمي رحمها الله في ذلك اليوم المعلوم تبتسم بسعادة على غير عادتها بعد مكالمتها الهاتفية مع والدتك، وأخبرتني بأن خالتي طلبتني للزواج من ابنها.
رمقته بوجع تكمل والدموع متفجرة من ينابيعها بسخاء:
-     وأنا... أنا ظننت بأنها تقصدك أنت! أقسم لك، شعرت بنفسي أطير فرحا، وأخبرت أمي بموافقتي حين سألتني عن ردي، قبل أن تسقط الصاعقة على رأسي وهي تؤكد لي بأنني سأسعد مع آدم.
جحظت مقلتا أيوب بصدمة ولهثت أنفاسه بعد انقطاعها، وهو ينتظر القادم، قدماه متشبثتان بمكانهما بينما يدس قبضتاه في جيبي سروال بدلته السوداء ذات السترة المنزوعة، والملقاة فوق المقعد الجلدي بإهمال، والقميص الملتف حول جذعه بأناقة:
-     رفضتُ واستنكرت تحت أنظار والدتي المصدومة ثم أخبرتها عنك حين افتضح أمري أمامها، لاذت بالصمت لتفكر وأنا أنتظرها بندم، فما كان عليّ أن أخبرها عنك، ولا أن أتسرع في الرد، كان علي التريث والصبر... لكن الأمر كان يتعلق بك...
 منحته نظرة لا يظن بأنه سينساها أبدا، فأهدت قلبه دفعة أخرى ليسرع من دقاته، وهي تكمل بألم:
-     كل شيء يتعلق بك يفقدني رشدي، وحكمة قراراتي، ولأول مرة لم تكن أمي في صفي ولا مساندة لي، بل طالعتني بحزم وواجهتني بالواقع.
بلعت ريقها لتستأنف بوجوم رحل بها إلى ماضٍ ما تزال تعاني من تعلقها بأذياله:
-     بما أن شقيقك سبقك وطلبني للزواج، فرفضي له لن ينفعني بشيء، كونك أخا له سيمنعك من النظر إلي مرة أخرى، وطبعا خالتي لن تقبل بأن تزوج فتاة رفضت أحد أولادها لآخر، حتى لو كانت ابنة أختها، لن ترضى بأن يعيش بكرها مع من رفضته وفضلت شقيقه عليه حتى لو كان هذا الأخير بالفعل يكنّ لها المشاعر، وسيطلبها للزواج رغم كل شيء، فأمي لم تصدقني فيما يخص مشاعرك نحوي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


-     هيا غادري!
انطلقت مهرولة تسابق قلبها النابض بسرعة مرهقة، فزفر وهو يرتمي على مقعده وما لبث أن تسللت بسمة مشاكسة إلى جانب ثغره يهمس بسعادة خفية:
-     وأخيرا يا صبر، أخيرا.
***
(بلدة أهل ميرا)
 
حانت منه نظرة متفقدة لانعكاس زوجته على المرآة الأمامية للسيارة بينما تهدئ من روع الباكية بحرقة جوارها، قبل أن يعود إلى التركيز على سير طريقه:
-     اهدئي يا نادين، اهدئي!
لم تظن ميرا بأنها ستصبح صديقة لمن كانت تغار منها في الماضي، لن تنسى يوم عرّفها عليها سيباستيان لتتأهب جميع حواسها غيرة عبرت عنها برفض واضح التعاطي معها كليا لكن زوجها كالعادة بلطف معاملته وحواراته المنطقية حاول التقريب بينهما، وهدفه الأساسي أن يبتعد عن صداقته لها بينما يحاول التقيد بحدود إيمانه بربه، وسريعا ما تفهمت موقف نادين التي تعتبر سيباستيان بالفعل صديقها المقرب بسبب تربيتها وما كبرت عليه من عادات غربية رغم رفض الأخير المستمر، ولطالما اتخذت جانب نادين مستخفة بتفكير زوجها إلى وقت قريب حين لفت انتباهها إلى أن نادين صديقة كانت أم لا تبقى أنثى جميلة مرغوبة وهو مهما تحلى بضمير وأخلاق حسنة رجلٌ، والرجل الطبيعي ينجذب إلى جمال الإناث لذا وجب عليه وضع حدود آمنة لنفسه.
جفلت من تفكيرها على بكاء نادين وردها الحزين:
-     لقد جرحني يا ميرا، لم يكن قاسيا معي من قبل هكذا، وكل ذلك بسبب أوهام في عقله.
عبست ميرا بحيرة فسبقها زوجها يسألها من مكانه خلف المقود:
-     ماذا حدث بينكما نادين؟ لماذا تشاجرتما؟
مسحت خدها بخشونة وتركت حضن ميرا، وهي ترد عليه بسخط:
-     غيرته سيباستيان، أصبحت خانقة؛ لا ترتدي هذا، ولا تتحدثي هكذا، ومع هذا وذاك... تصور سيباستيان اتهمني بالتباسط مع أزواج أخواته، ومع اخوته! لا أفهم كيف ينعت مجاملتي لأفراد عائلته تباسطا وتجاوزا للحدود؟! وحين دافعت عن نفسي، عيّرني ب...
زمت شفتيها بخزي وحسرة ثم أردفت بحزن:
-     لقد جرحني، ولا أظن بأنني سأسامحه هذه المرة.
تناظر سيباستيان مع زوجته في المرآة ثم سأل نادين بريبة، وهو يستدير بالسيارة عبر المنعطف المؤذي إلى وجهتهم:
-     بماذا عيرك نادين؟! أنا لا أفهم.
فرت بمقلتيها بينما تنزوي بعيدا عن ميرا لتطل على الحقول من النافذة، مغمغة بشرود دفع بهما إلى السكوت احتراما لعدم رغبتها في اخبارهما:
-     جرحني مهذب، جرح قلبي.
ساد بينهم صمت لم يغط على صخب أفكارها حيث الكلمات من فم مهذب ترج عقلها رجا، لتهمس لنفسها بأنه أبدا لم ينس، ظنته مختلفا لكنها اكتشفت أنه في النهاية رجل، رجل أراد من زوجته أن تتغير وأن يشكلها حسب رغباته ومبادئه.
لكنها لم تستجب له، لم تستطع التحول إلى فتاة أحلامه وذلك يؤلمها أكثر مما يؤلمه هو، وها هو اليوم يستعمل آخر بطاقاته معها فعيرها بخطأ والدتها، وذكرها بأنها قد تسقط في نفس خطأها لأنها تتبع نفس طريقها في الحياة.
أغمضت عينيها تعتصرهما بشدة رافضة حتى ما يشير إليه، فكيف يتخيل أنها قد تخونه مهما ظن بأنها تصرفاتها متحررة؟!  فهو ينسى أنها تملك قلبا متيما به هو لا غيره، كما تملك عقلا تفكر وتتحكم به في نفسها.
***
(منزل أهل مهذب)
نظراته المكتئبة تتجاوز المباراة المعروضة على الشاشة  المسطحة والمحتلة لنصف الجدار قبالته، وعقله بالطبع لا يتابع ضربة الترجيح، لكنه منغمس في أفكاره المحترقة حزنا وكمدا.
لقد رحلت وذهبت إليه، إلى صديقها. لم يخفف عنه كونه برفقة زوجته، ولا كونه رجلا ملتزما عبّر له سابقا عن عدم رضاه هو الآخر عن علاقتهما الوحيدة التي تبقت من بين علاقات صداقاته الكثيرة قبل أن يسلم لربه ويتبع طريق رضاه، فوعده بأنه سيجعلها تفهم ذلك بتمهل وتروي ويجمع بينها وبين زوجته بدلا منه.
لكنه فشل كما فشل هو في تغييرها نحو ما يريده ويريحه. زفر نفسا حارقا اعتبره من حوله توترا من أجل فريقه الذي يشجعه، ولم يطّلعوا على النار المشتعلة في أحشائه.
ليته لم يعيّرها بأمها، ليته صبر أكثر على قرار اتخذه رغم أجراس الإنذار الكثيرة التي تجاهلها ليجتمع بها بحجة التصرف على حريته معها وهي تحل له، ليته قدم المزيد من الإحسان! فرؤية الخيبة والحسرة في عينيها لا يفارق خياله، لقد جرحها لكنها من أجبرته على ذلك. لقد أراد تقريب مخاوفه وتوضيحها أمام عينيها علّها تتفهم العذاب الأليم في جوفه، ولم يتوقع أبدا أن يقفز له الخزي والعار من الماضي في رمشة عين ليحتلا نظراتها المصدومة.
ضغط على شفتيه وغامت مقلتاه بسواد قاتم بينما يصيح بأفكاره الحائمة حولها؛ لماذا غادرت وذهبت إليه؟!
 لماذا لم تواجهه بجنونها المعتاد ثم تتشبث به كالعادة تبثه حبها وعشقها له؟! لماذا غادرت؟! وإليه هو! من يشعر بغيرة حارقة نحوه!؟ ليس شكا فيها فهو متأكد من حبها له، لكنه يريدها كلها له ومن حقه ذلك. هي زوجته هو ويريد كل ما فيها له وحده، أطرافها التي لا تسترها كما يجب، ضحكتها مع صوتها الناعم اللذين تخاطب بهما من هب ودب من الرجال، شكواها وصداقتها اللتين تخص بهما سيباستيان.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


تنهد مجددًا فنظرت شقيقته إلهام إلى زوجها تشير له بخفة، فاستجاب لها الأخير وتحرك قربه يهمس له بفكاهة مهادنة:
-     فريقك المفضل يفوز، فلماذا أنت عابس هكذا؟!
وعى من حرقة أفكاره على بسمة نسيبه الحانية، رجل في الستين بشوش الملامح سمح الأخلاق والمعاملة، له مكانة عظيمة بين أفراد عائلته بحكمة قراراته ورجاحة عقله.
تبسم له مهذب بمجاملة يخفي بها ما يهمه قائلا له بنبرة عادية:
-     إنه عبوس التركيز فقط، لا ندري، قد تنقلب الأمور في آخر لحظة.
هز كتفيه باسما ببشاشة يجيبه بمرح:
-     أنت محق لكن مع ذلك العدد من الأهداف وتلك الخمس دقائق المتبقية، لا أظن ذلك.
هز رأسه موافقا بصمت فحاول نسيبه مجددًا بطرح سؤال بخفوت لطيف:
-     أين زوجتك يا مهذب؟! لقد اختفت فجأة.
بلع ريقه يرطب من حلقه الذي جف، وبلع معه توتره ليجيبه بثبات لم يخف الجمود في نبرة صوته:
-     ذهبت لزيارة أقارب لها.
أومأ له زوج شقيقته بتفهم وحك لحيته متمعنا بتأمل ملامح وجهه المتشنجة، ومع انطلاق صفارة الحكم إعلانا عن نهاية المباراة، استدرك بتعبير مبهم المعنى:
-     مبارك فوز فريقك، إنه فريق يستحق الاحترام، دخل المنافسة بأقل الامكانيات والجميع توقع خسارته، وها أنت ترى بنفسك، لقد تأهل للنهائي، وانقلب من كان يتوقع خسارته بالأمس يتوقع فوزه اليوم.
عقد مهذب جبينه حيرة فربت على فخده، يكمل بنفس البسمة الغامضة وهو يقوم من مكانه:
 
-     المثابرة مع الإيمان بالهدف يحقق أهدافا مذهلة، تذكر ذلك بني، ولا يجوز أن ترسل زوجتك إلى زيارة أقارب لها دون مرافقتها، إنه العيد.
طرف مهذب بجفنيه اضطرابا ثم تحرك مغادرا لينفرد بنفسه قبل أن يتخذ قرارا حاسما.
***
(مساء)
(مقهى السلام)
تعالت ضحكات الأصدقاء بينما أحمد يبتسم بدفء غير مصدق قرار والدته، نظر إلى عمه والضحكة تزين ملامح وجهه بسرور سبق ولمح ظله على ملامح والدته، وإن شابه بعض الحزن و...التوتر:
-     لا أصدق يا سفيان، لقد فاجأني أنا أيضا، ويقول بأنه فقط يبلغني، يعني موافقتي تحصيل حاصل لديه.
أخبره عبد الحفيظ باسما بمرح يخفي به الكثير من الراحة والسعادة، فرغم مفاجأته لكنه بعد كل شيء هو أنسب رجل لشقيقته:
-     هما راشدان يا عبد الحفيظ، تجاوز ذلك وبارك لهما ثم سلمها له كأي ولي حنون فخور بتربيته.
أجابه سفيان بمرح فتدخل أيوب قائلا بمزاح هو الآخر:
-     تربية من يا رجل؟! إنه يكبرها بسنتين، ولا استبعد أن تكون هي من قامت بتربيته.
عبس عبد الحفيظ بطفولية ثم رقت ملامحه بينما يجبه بدفء:
-     لطالما شعرت بها كوالدتي حقا، مبارك عليكما يا نسيب!
توالت المباركات وتبادلوا المجاملات، والحوارات ثم حان موعد الفراق وحين طال الصمت داخل السيارة التفت أيوب لأحمد يخاطبه بترقب:
-     تحدث إلي يا أحمد.
التفت إليه المعني يرمقه بحيرة فاستدرك بينما يعود لمراقبة طريقه:
-     كنت صامتا طوال الأمسية، وما تزال، ألست سعيدا بزواجي بوالدتك؟
سارع أحمد بالرد عليه مستنكرا بهدوء:
-     بل أنا سعيد لكن...
سكت مترددا فحثه عمه بلطف:
-     لكن؟!
أمال أحمد رأسه مفكرا ثم قال له، وهو يسند مرفق يده على حافة النافذة المجاورة له:
-     لست متأكدا من موقف والدتي، كانت تبدو... لا أعلم كيف أشرح ذلك.
ابتسم ببرود يكمل عنه:
-     لم تبدُ عليها السعادة ببلاهة مثلي، هل هذا ما تقصده؟
حيره إدراكه بما يجول في خاطر عمه، فاستفسر منه بفضول:
-     كيف وافقت فجأة؟!
اختفت البسمة عن شفتيه وتقوستا في وجوم بينما يجيبه بجمود:
-     تحدثنا عن الماضي، وقمنا بتوضيح كل شيء فلا تقلق يا أحمد! والدتك تظن بأنها لا تستحق أن تحظى بأمانيها، غافلة عن سلطة القدر، كما أنها لم تكن المذنبة الوحيدة في ما مضى.
عقد أحمد جبينه بريبة فاتسعت بسمة أيوب، وهو يستدرك بمرح:
-     لا عليك، بعد الزواج إن شاء الله، سأقتلع أي أثر للحزن في قلبها لا تقلق أنت!
رمقه بشك فالتفت نحوه مؤكدا بفكاهة، وهو يتلاعب بحاجبيه:
-     لدي أساليبي يا أحمد، أؤكد لك.
ابتسم أحمد بخجل يحذره بفكاهة أيضا:
-     لا تنس أنها أمي.
ارتفع حاجبه الأيمن يشاكسه بحزم مزعوم:
-     ولا تنس أنني عمك، إسحاق يؤثر على عقلك! وا حسرتاه على التربية والأخلاق، ماذا ظننت بحديثي؟
احمر أحمد بإحراج، فقهقه عمه يردف بمرح، وهو يدوس على الفرامل متهيئا للوقوف على باب منزل العائلة:
-     يا إلهي! أنت تحمر خجلا يا أحمد!
ترجل أحمد من السيارة دون رد باسما ببهجة، وحين دخلا المنزل اندهش أيوب من اجتماع أفراد عائلته واحتفائهم به، واستقبل ضمة باسمة الفرحة وإشارتها له بأنها سعيدة باستجابة الله لدعائها ليجتمعوا جميعهم تحت سقف واحد بحب أبوي صادق ودفء لم يستطع الشعور به حين ضمته والدته تبارك له، وقد لاحظت بروده وفرار أنظاره منها فعبست بتفكير لم يوصلها لنتيجة واضحة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


تحولت نبرتها إلى الجدية في آخر حديثها ليقاطعهم رنين هاتف سيباستيان الملح، استله وردّ عليه واجما بعد أن تجهّمت ملامحه، فأدركت ميرا أنها نادين:
-     مرحبا نادين، كيف حالك؟
وجه كرم سؤاله بمكر لشقيقته: 
-     من نادين هذه؟ لا أظنها قريبته، فالاسم محلي.
عبست ميرا دون رد فردت عليه مادلين باسمة، تفسر له حين فهمت فحوى سؤاله من اسم نادين:
-     إنها صديقة سيباستيان، *أفضل الأصدقاء*.
عاد كرم بنظراته الماكرة الساخرة إلى وجه شقيقته الجامد، يردد بتهكم:
-     أوووووه... *أفضل الأصدقاء*
تلكأ يغمز لمادلين الشاردة بتأمل ملامح وجهه بحالمية بلهاء ثم عاد إلى ميرا يستدرك بسخرية وبلهجة بلدته:
-     ألم يصل زوجك إلى قسم حرمة الصداقة بين الرجل والمرأة بعد؟! أم أنه حلال عليه و..... حرام علينا!؟
اقترب من مادلين مع آخر جملته فهمست له شقيقته بحنق من بين نواجذها بينما تحول بينهما مجددًا:
-     استحي من ربك يا كرم وابتعد عن شقيقة زوجي، ونادين تكون صديقتي أيضا ولا يتحدثان سوى أمامي، فما هو عذرك يا من ورثت الدين وكبرت بين المسلمين، والقرآن يُتلى على مسامعك منذ نعومة أظافرك؟
وكأنها أجفلته للحظة قبل أن يستعيد برودة ملامحه الساخرة يرد عليها بنفس التهكم، وهو يدس كفيه في جيبي سرواله الجينز الكحلي:
-     يبدو أن صداقة زوجك ما يهمها أكثر، فهي لم تهاتفك أنت، فاحرصي على الحضور بينهما كلما اجتمعا لكي تكوني أنت ثالثهما بدلا من الشيطان.
-     ماذا؟! هنا؟! أين؟! نادين ماذا يحدث؟)
هتف سيباستيان بصدمة فنظروا إليه بريبة ثم استدرك بجمود قبل أن يقطع الخط:
-     حسنا نادين، أنا قادم.
دس هاتفه في مكانه على حزام سرواله، وأخبرهم بينما يشير لميرا ومادلين بأن تلحقا به:
-     نادين في محطة البلدة، إنها تبكي ولم أفهم شيئا منها، هيا ميرْ لنحضرها.
أصدر شقيقها صوتا ساخرا من حلقه، فأسرعت تسحب مادلين خلفها بتجاهل لكنه لم يتوقف، وهو يهمس لها بينما تهم بركوب السيارة:
-     *أفضل الأصدقاء*... ها؟!
عبست في وجهه وهي تزم شفتيها فابتسم بعبث وهو يهز كتفيه متراجعا نحو الباب الداخلي لبيتهم حيث وجد والد مادلين يقف جوار ابنته يضمها بحمية ويحدجه بنظرات مهددة، فاتسعت بسمته قائلا بلهجة بلدته غير المفهومة لهما:
-     مزيد من الفتيات، العيد هذا العام بنكهة مختلفة.
***
(وكالة أسفار آل عيسى)
(مكتب أيوب)
 
كاد فراغ رئتيها من الهواء أن يفجر صدرها، ففتحت فمها لتعبئ منه الكثير مما قد يحييها من جديد، متسائلة بصدمة هل ما تسمعه حقيقة، أم أنها أوهام جديدة نتجت عن يأسها؟!
لم تدرك بأن لسانها تحرك بسؤالها إلا حين تحرك أقرب منها ليجيبها بينما عطر أنفاسه يمتزج بالهواء المتسرب إلى كيانها بعبيره المسكر:
-     أجل يا صبر، أنا أريد الزواج بك، فهلا قبلتي ولننهي هذه اللعبة السخيفة، لقد طالت وكدت أستغل إنسانة لا ذنب لها في ما يحدث بيننا.
طرفت بجفنيها مرات عدة قبل أن تسأله مجددًا بحيرة مدهوشة،  وهي تتجاهل ما أخبرها للتو عن الإنسانة التي تعرف هويتها:
-     أمنحك فرصة لتعرف كل شيء، وتطلب مني الزواج؟
تنهد أيوب فتراجعت خطوة إلى الخلف تفر من تأثير عطر أنفاسه الدافئة، فبلع ريقه وهو يسدل جفنيه ثم أمال رأسه للحظة وجيزة قبل أن يعود إليها، يقول لها بنبرة خافتة:
-     لقد تعبت يا صبر، لا أحد يعلم بما يجيش به صدري، لا أحد  مطلع على ما أشعر به سوى ربي، ولكي نتحدث يجب أن تكوني زوجتي، لن تتخيلي كم أضغط على نفسي لكي أتحكم في ردود أفعالي قربك، لقد كان الأمر أسهل حين كنتِ....
ضغط على شفتيه وظهر الألم جليا على ملامح وجهه، فردت عليه والدموع تطفو منذرة بقرب هطولها على صفحة مقلتيها البنيتين:
-     لا!
تحفز يهم بالاستنكار، فأردفت بسرعة وبنبرة مرتعشة كارتعاش نظراتها:
-     يجب أن تسمعني أولا ثم أعد عرض الزواج عليّ إن بقيت على إصرارك.
عبس بخفة ورفع أصابعه يمشط بها لحيته السوداء المشذبة بسهو حائر، فاستدركت بحزن:
-     من يدري؟ قد تغير رأيك يا أيوب!
احتدت ملامحه وهو يسقط ذراعيه إلى جانبيه هاتفا برفض قاطع:
-     لا شيء يا صبر! لا شيء على الإطلاق سيغير ما أشعر به نحوك! فلا تحاولي وكفي عن التردد، يا إلهي، ما بك؟! لم تكوني هكذا من قبل.
ثم رفع وجهه إلى الأعلى ينفخ بقوة قبل أن ينظر إليها مستطردا بحزم، ومتتبعا العذاب يرتسم على ملامحها مختلطا بإحساس آخر لا يعرف كنهه أو لا يصدق بأنه قد يكون له موقعا على  خريطتها.
-     تحدثي يا صبر، ماذا لديك؟!
ارتبكت تفرك كفيها بشدة، والحمرة تعلو خديها فعادت الحيرة لتتمكن من صدره من ضعفها الغريب أمامه، مثيرة ريبته مما هي مقبلة على قوله:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

27 Oct, 14:33


الفصل السابع عشر
كل الأشياء تذبل إن تركتها، إلا القرآن إن تركته تذبل أنت... محمد متولي الشعراوي.
 
(الوطن)
(بلدة أهل ميرا)
تناول سيباستيان فنجان قهوته يرتشف منه بتلذذ، وهو يتأمل الحديقة المصطفة بأشجار الزيتون والتين، والممتدة على طول نظره حيث يجلس برفقة والده في أحد أركانها القريبة من المنزل، متجاوران أمام طاولة حديدية:
-     أنا أستغرب حقا حال أنسبائك.
ابتسم سيباستيان يجيبه بنفس لغتهم الأم التي تحدث بها والده:
-     ظننت بأنك لن تتحدث في الأمر أبدا.
عبس والده بسخرية ثم ارتشف من فنجانه قبل أن يضعه مكانه، مستفسرا منه بنفس العبوس الساخر:
-     ألم يسلموا بعد؟!
ضحك سيباستيان بمرح بينما يهز رأسه بيأس ثم رد عليه، وهو يضع قدما على الأخرى ليستند عليهما بمرفق يده اليمنى التي وضعها تحت ذقنه:
-     أضحكتني بابا، كنت على يقين من أنك ستلاحظ ذلك، وأنت تعلم بأنهم مسلمين، فبالرغم من كل التجاوزات التي لاحظتها فلقد رأيتهم وهم يصلون، وسمعتهم وهم يوحدون الله ويشهدون لنبيه محمد بالرسالة ثم يا أبي ألم تر آخرين على ديانات أخرى ليسوا ملتزمين بها؟ فالخمر مثلا والزنا محرمان عند جميع الديانات السماوية، وبالرغم من ذلك منهم من يحتسيها ومن يمارس علاقات خارج إطار الزواج، لو حكمتُ على دين الإسلام من خلال ما نراه من بعض المسلمين لحرمت نفسي من خير عظيم، أحمد الله وأشكر فضله كل حين لأنه هداني إليه.
غامت مقلتا والده بتأملٍّ عميق لابنه كعادته كلما تحدث الأخير عن دين الإسلام بكل ذلك الشغف واللهفة.
-     لا تشغل بالك أبي، ميرا تحاول لفت انتباههم وأنا أيضا، إن شاء الله سيلتزمون أكثر.
شخر والده بتهكم، ونظر نحو مكان ما بينما يوبخه بامتعاض:
-     فليكن شقيقها أول من تلفت نظره إذن، وليبتعد عن ابنتي قبل أن يرى وجهي الغاضب.
ارتفع حاجبا سيباستيان بدهشة، والتفت ناظرا إلى ما يشير إليه ثم سأله بريبة:
-     هل تظن أنه ...؟!
حاصر نظرات ابنه يمنحه بتهديد، فابتسم سيباستيان بتوتر ثم قال له بحنو:
-     هل تعلم بأن أغلب مبادئك مطابقة لدين الاسلام يا أبي؟! غيرتك وخوفك على عرضك، لطالما اعتبره أصدقاؤك وأفراد عائلتنا عيبا فيك وعقدة، رغم أنه ليس عيبا بل هو في الإسلام خلق محمود وجهاد مشروع.
لاذ والده بالصمت يفكر، فنهض سيباستيان وهو يستدرك بعدما لمح زوجته تلحق بشقيقته وشقيقها بعدما اختفيا بين الأشجار:
-     عن اذنك أبي.
عقدت ميرا حاجبيها مهرولة خلف شقيقها الغبي، بعدما لمّحت لها حماتها إلى انزعاجها من نظراته نحو ابنتها فتذكرت فجأة أن شقيقها بالفعل يطارد كل من وُلد أنثى، وحسب معرفتها به سيبحث عن أكثر من مجرد نظرات وبضع كلمات غزل. شهقت بينما تُسحب فجأة لترتطم بصدر زوجها الذي همس لها بعاطفة مرحة، وهو يطوقها:
-     ما بها جميلتي عابسة بهذا الشكل؟
رمقته بتوتر تحاول إيجاد مفر لكي لا تخبره عن أمر أخيها الأحمق ليسبقها هو ضاما كتفيها يسحبها معه مستأنفا طريقها:
-     اهدئي حبيبتي... سنلحق بهما.
رفرفت برموشها ناظرة إليه بخجل فطبع قبلة سريعة على وجنتها ثم استطرد بفكاهة:
-     أبي يستشيط غضبا من شقيقك الذي يظن بشقيقتي لقمة سائغة، ولكونها أجنبية أظنه سيتجرأ على تجاوز الحدود معها.
شهقت بهلع، فهي قطعا لم تتوقع معرفة زوجها بنوايا شقيقها، ولا أن يكون حماها قد لاحظ هو الآخر بل ويستشيط غضبا منه:
-     أعتذر إليك حبيبي.
قطع حديثها بضم كتفيها أقرب إليه، قائلا بهدوء:
-     لا تفعلي حبيبتي، لا علاقة لك بالأمر، فقط حاولي مع أهلك واستغلي والدك فهو بالفعل يحب الله، ويظن نفسه على الطريق الصحيح لذا كل ما عليك فعله هو تصحيح بعض المفاهيم لديه... مادلين!
هتف حين لاح له طرف فستانها بين الأشجار فظهرت له مبتسمة ببهجة، وخداها يشتعلان أكثر من حمرتهما الطبيعية التي تضاعفت بعد تعرضها لأشعة الشمس الحارقة:
-     إلى أين تنويان الذهاب؟
جمعت خصلاتها الذهبية لترميهم خلف ظهرها بينما ترد عليه بمرح، والآخر يظهر خلفها مبتسما بمكر ساخر:
-     عرض عليّ كرم جولة عبر حقول عائلته، وأنا متحمسة للغاية.
 رفع سيباستيان حاجبه الأيمن ناظرا إلى كرم، ليخبره بنبرة ذات معنى:
-     جولة في هذا الحر يا كرم؟ أنت تعلم بأنها لن تتحمل وستصاب بالدوار.
عض كرم شفته بسماجة، وهو يقترب من الفتاة الباسمة بإعجاب بالشاب الأسمر الوسيم:
-     أنا هنا لأسندها سيباستيان أم تحب أن أدعوك عبد الرحمن كما يحب أبي أن يلقبك.
ما يزال حاجبه في ارتفاع مستفز، وهو يميل برأسه مهددا إياه بنظراته الغامضة، فتدخلت مير تقول له بتوتر، وهي تجذب مادلين لتجاورها:
-     أنا سآخذها في جولة، وأنت عد لأبي لأنه يبحث عنك.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


زفر القعقاع ثم استغفر ربه بخفوت، وإسحاق يتأمل صديقه بغموض أربكه فاستطرد بتوتر قبل أن يغادر:
-      عن اذنكما سأغادر، يجب أن اطمئن على شقيقتي، شكرا لك يا إسحاق على الدعوة، ومرة أخرى مبارك عليكم رزق الله.
تبسم صديقه وصافحه فتدخل القعقاع قبل أن يودع إسحاق هو الآخر:
-      انتظر يا جهاد سأرافقك، شكرا لك إسحاق، وأصلح الله المولود وبارك فيه، نراك في العمل بإذن الله، السلام عليكم ورحمة الله.
ودعهما بلطف ووقف مكانه يشيعهما بنظرات ساهمة قبل أن يجفل على أفراد عائلته الذين قرروا الرحيل باستثناء والدته، فتقدم نحوهم ليودع عبد الحفيظ. حانت منه نظرة نحو صبر الشاحبة على غير عادتها، وتتبع مسار نظرات خانتها فاكتشف تلصصها على من هتف قائلا ببسمة بدت له متكلفة:
-      سأقل الآنسة لطيفة إلى بيت أهلها، تعالي يا باسمة رافقينا أنت وأحمد، وسأعود بكما إلى البيت قبل أن أذهب إلى شقتي. 
شكرته لطيفة باسمة بتوتر وتأثر واضح للجميع:
-      لا داعي يا سيد أيوب، سأستقل سيارة أجرة.
التفتت رؤوسهم إلى أيوب حين رد عليها بلطف أيضا تعرف الجميع على المرح والمكر بين طياته باستثناء من تجمدت الدماء في عروقها بطريقة أخافتها هي شخصيا:
-      ماذا؟! سيارة أجرة في هذا الوقت من الليل؟! ماذا تظنين بي يا آنسة لطيفة؟! غير مسؤول؟! تفضلي من فضلك، وشكرا لك على كل ما قدمته لمساعدة عائلتي.
عادت الرؤوس إلى الباسمة بحياء وقد احمرت وجنتاها وغامت نظراتها بحالمية مضحكة، ترد عليه برقة وامتنان:
-      العفو سيد أيوب، لا داعي للشكر.
تدخل أحمد بمرح مزعوم، وهو يسحب باسمة نحو سيارة عمه، ليرحم والدته التي حاكى شحوبها وتجمدها على وضعية الدهشة شحوب الأموات:
-      هيا يا عمي، آلمتني رقبتي ونحن نتابعكما ككرة التنس، يمينا شمالا، شمالا يمينا.
ضحك أيوب من صميم قلبه، وهو يبتعد بينما قلبه يكاد يخرج من مكانه ليضم إليه من سكنت أحلامه لسنين طويلة حتى فقد الأمل.
-      صبر!
رمشت بجفنيها مرات عدة قبل أن تمنح إسحاق، ووالده نظرة تساؤل حائرة، فاستطرد الأول برأفة:
-      يجب أن نغادر.
تلفتت حولها فاكتشفت أن المكان خالٍ سوى منهم، فحثها نوح قائلا لها بحنو:
-      هيا يا ابنتي، لنغادر.
ثم غمغم من بين نواجذه بامتعاض:
-      يبدو أن رحمة محقة، ولم أنجب سوى حفنة من المجانين.
رمقه إسحاق بدهشة عبر سطح سقف سيارته، وهو يهم بفتح الباب:
-      لقد سمعتك بالمناسبة.  
فأغلق نوح الباب الخلفي على صبر ثم رفع رأسه للجهة المقابلة وهو يهز كتفيه متسائلا باستخفاف:
-      و؟!
عبس إسحاق بطفولية فركب والده بصمت ليتنهد هو الآخر قبل أن ينحني ليحتل مقعد السائق، هامسا لنفسه دون صوت بينما يتفحص انعكاس وجه صبر الواجم على المرآة الأمامية الصغيرة:
-      أيوب بالفعل مجنون.
***
(لاحقا في وقت متأخر من الليل)
(غرفة صبر)
 
أسندت جسدها على دفة النافذة، تتعلق نظراتها بالباب الأمامي للمنزل الكبير، ولسان حالها لا يرحمها بأسئلته.
ماذا يحدث معها؟! لماذا يغتم كيانها بهذه الطريقة المؤلمة؟!
لطالما كانت مسيطرة على نفسها، مشاعرها وأفكارها، فلماذا هذه الغصة؟! وما هذا الألم الموجع؟!
اتسعت مقلتاها بشكل طفيف حين لمحت سيارته تقف في الشارع بينما أحمد وباسمة يترجلان منها ضاحكين بمرح وبهجة.
غمرها مزيج من الحنان، و... غيرة دفينة حين عادت باسمة لتطبع قبلة على وجنة عمها فتلوح له بحب ومرح قبل أن تمسك بيد شقيقها ليدخلا، ويغلقا الباب فينطلق أخيرا راحلا وآخذا معه شيئا ما تجهله لكنه مهم جدا لدرجة شعورها بالفراغ يغمرها بالكامل. 
تجمدت مكانها تتنفس بكآبة، تفكر في أن حالتها غير مستقرة بالمرة، وتشك في أنها قد تتحمل مرة أخرى.
لقد حاربت في المرة السابقة بكل قوتها وتحملت لأن التضحية كانت تستحق كل ما فعلته بقلبها ومشاعرها، عدا عن كونها يافعة والعنفوان عنوان إقدامها لكن الآن!
ابتعدت عن النافذة دافعة بوابتها لكي تغلقها ثم عادت إلى سريرها تشكر ربها على أن ابنها وابنتها لاذا بغرفتيهما دون أن يتفقداها، فلا طاقة لديها لتخفي دموعها بعد ولا طاقة لها على تكلف عبء بسمة مزيفة. 
اندست تحت فراشها بعد أن أزالت وشاحها، وتخلصت من مشبك الشعر جانبا لتنثره فوق مخدتها ثم بدأت بتدليك جبينها متمتمة بذكر الله حتى غفت، وشخص واحد أصبح هاجس صحوها ونومها...أيوب.
***
(بعد شهر)
 (منزل أهل جهاد)
فتح جهاد باب بيتهم وتقدم بينما يذكر اسم الله ليضع الحقائب أرضا ثم ارتمى على أحد الكراسي البلاستيكية في  البهو الصغير لشقتهم. علت ملامحه بسمة حانية حين لمح بسمة الأمل تتشكل باستحياء على ثغر شقيقته التي جلست جواره كما فعلا والداه، فتحدث إليهم بتعب:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


والدته تثير حيرته، بعدما ظن بأنها ستستغل خططه بتحقيق أمانيه وقد كانت بالفعل قبل أن تخبره أمس بأن مساعدته نالت إعجابها وإن قرر الزواج منها فسيحصل على مباركتها وباقي أفراد العائلة، ففقد تركيزه ونباهته.
زوى ما بين حاجبيه في نفس اللحظة التي زم فيها شفتيه، وهو يفتح أول زرين من قميصه، متسائلا إن كانت والدته تلهو به كما تفعل مع صبر أم أنها يئست من إقناعها فبدأت بإقناعه هو ليصرف النظر عنها! ضرب على سطح المكتب بعنف، لاهثا بهمس بغضب:
-      لا! لن يحدث!
منذ تلك الليلة التي حاول أن يدفع بها إلى الحافة لتبوح له بما تخبئه عنه ويؤرقها بتلك الطريقة التي يراها في عينيها وهو يلوم نفسه، لقد أخطأ وهو يقر بذلك، لكنها من تستفز أعصابه وتشعل جميع نيران أحشائه! ما كان عليه التمادي مدفوعا بحزنه وخيبته التي لم يتخلص منها كليا سواء من شقيقه أو والدته أو حتى هي! وما جعله يتباعد عنها وعن المنزل سوى احساسه بالذنب، لم يعد يستطيع الحياة هكذا، إنه يتحمل الكثير وأهله يحملونه الكثير.
دق الباب فرفع رأسه مستغفرا ربه، وملامحه ما تزال مشدودة يهتف بصلابة:
-      نعم!
أطلت مساعدته برأسها تخبره بنفس لطفها الزائد:
-      السيد عبد الحفيظ هنا.
أومأ دون رد فعادت بجسدها، وفتحت الباب ليدخل عبد الحفيظ الذي تجاوزها مطرقا برأسه. صافحه وجلس، فسأله أيوب متمعنا في ملامح وجهه الشاحبة قليلا:
-      ما بك يا رجل؟ هل أنت مريض؟
ابتسم عبد الحفيظ مرهقا يجيبه بمرح:
-      شقيقتك وابنها سيتسببان بموتي أسرع مما تظن.
ضحك أيوب، وهو يهز رأسه بتفهم يجيبه:
-      أصدقك، كادت أن توقف قلبي فزعا على الصغير ذاك اليوم حين اتصلت بي تبكي لأنك لا تجيبها على الهاتف، فأسرعت بقلق إليها، وكنت على شفا ذبحة صدرية من وجهها المحمر بكاء وهتافها الهستيري بأن صغيرها مات وأنها من قتلته.
تلكأ أيوب كي يدخل أنفاسه ضاحكا، وعبد الحفيظ يكمل عنه بنبرة يائسة:
-      وكل ما في الأمر أن ابني المسكين تعب من قلة النوم بسبب قلقها المفرط عليه حتى نام بعمق، ولم يستجب لحركاتها الناعمة لإيقاظه.
قهقه أيوب حتى سعل ثم قال له بمرح:
-      لو رأيتها  حين انقلب نحيبها الفزع إلى غضب مني لأنني هززت جسد الصغير ببعض الحزم واستيقظ خائفا وبدأ بالبكاء، كانت على وشك ضربي لولا عبوسي المنذر بغضب حارق أخرسها واكتفت بالعبوس هي الأخرى بينما تضم صغيرها تدلِّلُه بكلمات حمقاء.
مسح عبد الحفيظ وجه وهو ما يزال يهز رأسه بيأس، فاستدرك أيوب بجدية بعدما هدأ عنه الضحك:
-      يجب أن تجد حلا لها يا عبد الحفيظ، أنا خائف على الصغير، سيتخنث بسببها، ولن ينشأ رجلا.
امتعض عبد الحفيظ بينما يضع ملف العقود أمامه، ورد عليه وهو قائم:
-      لا تزدها علي أنت أيضا يا أيوب، سأفقد عقلي من تصرفاتها، وتعلل دلالها الزائد بخوفها عليه، أنا تعبت، عن اذنك.
مسح على شفته السفلى باسما بمرحٍ اختفى ما إن دخلت لطيفة تقول له ببسمتها التي يراها الجميع مشرقة بينما هو يشعر بها عبء عليه، حتى أنه بدأ بالفعل في البحت عن رجل مساعد مقررا إرسالها إلى مكتب آخر رأفة بها، فهو أبدا لم يظن بأن الأمور قد تصل إلى إعجاب والدته بها ودفعه دفعا نحوها.
انصرفت الفتاة مستغربة من وجوم رئيسها بينما هو غارق في شعوره بالذنب نحوها، ليس أيوب آل عيسى من يلهو بالفتيات وأحاسيسهن من أجل مصلحته مهما كانت، لم يفعلها وهو يمارس التحرر بمعناه المشوه سابقا فكيف الآن وهو يبكي كل ليلة ساجدا بين يدي خالقه يسأله الغفران لذنوبه الكثيرة، وقبول توبته إليه.  
تنهد بيأس وهو يفتح الدرج ليرفع منه ساعة حديدية أضاف لها الزمن بسنينة الطويلة بساطة وعتاقة ليتأملها بحنو عاطفي يمسد على حوافها بتأني وحرص، هامسا بوجوم:
-      إلى متى يا صبر؟! ... إلى متى؟
***
(بعد يومين)
(عيد الاضحى)
(منزل عائلة مهذب في الوطن)
وضعت الإناء بعنف صاخب فوق طاولة المطبخ، فاستدارت أختاها نحوها مستفسرات بصمت، فهتفت بسخط غمر قلبها حد الانفجار:
-      فلتذهب احداكما إلى مهذب، ولتخبره بأن ينبه زوجته إلى ما ترتديه أمام الرجال، وإذا نصحها بخصوص تباسطها في الحديث والضحك فسيؤول حالنا لخير بإذن الله.
تناظرتا الأختان الأكبر منها بتعبير مبهم ثم عادتا إلى تحضير شرائح الكبد استعدادا لشيّها، فعادت الأخرى للهتاف باستنكار:
-      ما هذا البرود؟ يا إلهي! إنهم زوجاكما وزوجي من تضحك بدلالها وتستعرض أطرافها أمامهم، كيف يقبل أخي مهذب بمثل هذا التصرف؟ لا أفهم دوافعه حقا، كما لا أفهم سر صمتكما.
كانت قد جاورتهما قرب طاولة المطبخ الرخامية، فقالت لها إلهام بهدوء:
-      زوجي وزوج أختك ولله الحمد ملتزمان، ولن ينظرا إليها مهما ارتدت، أما هي فهداها وهدانا الله، ومهذب شقيقنا بل ابننا وصية وأمانة أمي وأبي لنا، لن نغضبه مهما حدث، فهو أدرى بتصرفات زوجته، لذا تجاهلي الأمر، ولا تتحدثي هكذا عن أخيك وزوجته أمام زوجتي أخويك.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


تنفست بحدة لاهثة فأمسكت بصدرها موضع قلبها تضغط عليه بقوة مخافة توقف خفقاته التي رجته رجا، بفعل اكتشافها وصدمتها من نفسها.
***
(مساء)
(بيت سفيان)
فتحت سرور الباب ودخلت مع صغيرتها الغافية على كتفها، جفناها ثقيلان كحال جميع أطرافها تئن من التعب والعياء، وليت التعب مقتصر على البدن ولم يمتد ليشمل الجهاز العصبي بأكمله.
تلفتت متفحصة أرجاء الشقة تبحث عن أي أثر لزوجها، فتوجهت نحو غرفة نومهما حيث توقعت وجوده، ولم يخب ظنها وهي تلمح جسده المستريح على سريرهما مستغرقا في كتاب ما انتشله من الواقع في رحلة عبر سطور صفحاته.
تمهلت بخطواتها بينما تلقي عليه السلام بتمتمة ناعمة دفعت به لرفع رأسه عن كتابه يرمقها بتمعن وهي تبتسم له ثم وضعت صغيرتها في مهدها. بادلها البسمة بأخرى محبة وبسط يده نحوها فاستجابت له مرحبة، وجلست قربه على السرير متنهدة بتعب.
-      لقد تأخرت!
همس لها وهو يلمس ظهر كفها برقة، فردت عليه بينما تمسد بكفها الحرة جبينها:
-      أنت أدرى بأشغال عيد الأضحى، يجب توضيب اللحم كي لا يفسد.
أومأ لها بتفهم ثم سألها بقلق:
-      كيف هي جفون؟
التقطت معنى سؤاله فمنحته ردا مختصرا: 
-      كالعادة.
مالت ملامحه إلى الوجوم، فهو ومنذ تلك الليلة حين وجدها تناظر الشاب صديق إسحاق بكل ذاك الجوع والإعجاب الذي لمع في مقلتيها لمجرد سؤال عابر عن حالها، وعقله لا ينفك يذكره بما نسيه أو تناساه في ظل ثقته بأخته وتربيته لها، بأنها فتاة جائعة للحنان والاهتمام، اهتمام خاص فقدته من والدها بسبب الموت، ومن أمها الفاقدة للحكمة، وستبحث عن تعويض له في علاقات خاصة حين تتوقف عن الاكتفاء بحنانه وخاصة أختيه، فأدرك أنه ملزم بالتصرف وإيجاد حل ليغلق بابا مفتوحا على مصراعيه في وجه الشيطان.
أيقظته لمسة دافئة غمرت وجهه من شروده، فتبسم لها بحب وهو يمسك بكفها يقبلها برقة، ناظرا إلى عمق عينيها حيث تقبع شكواها دون أن تتجرأ على تجاوز عتبة ضفافهما الرحبة، فقرر منحها دعما صادقا كعادته يواسي به معاناتها، خوفها، وقهرها:
-      أنا أحبك يا سرور، أنت سرور حياتي كما كنت سرور حياة أخيك وأختك، ووالدتك.
اقتربت منه تريح رأسها على صدره متفهمة عاطفته السخية معها، يمدها بمساندته ويبثها حبه دون أن يفتح لها بابا للشكوى، ودون أن يقبل ذكر غيبةٍ لفرد من أفراد عائلته مهما رأى منهم ثم يشعرها بمعرفته وكونه غير عاجز على الإتيان برد فعل زاجر، لكنه سفيان من يقدم الرحمة عن العقاب، ومن يقدم التفهم والتماس الأعذار قبل اللوم والاتهامات، إنه دأب زوجها الحنون.
-      وأنا أيضا أحبك سفيان، أحبك جدا.
ضمها أقرب إلى  صدره وهو يلهج بالدعاء إلى ربه، ولم يلبث أن شعر بثقل جسدها ليكتشف أنها غطت في نوم عميق. تبسم بإشفاق ورأفة بينما يسحبها ليرخي جسدها على كتفه مستلقيا برفقتها، ثم ربت على شعرها الذي فكه من عقاله بعد أن نزع عنه الطرحة برفق، ليلحق بها إلى عالم الأحلام بعد لحظات قليلة من التفكير.
***
(بعد يومين)
(وكالة آل عيسى)
تفاجأت قليلا حين لمحت مكتب المساعدة فارغا، وكادت أن تعود أدراجها، فاستدارت بالفعل لكنها توقفت وهي تحزم أمرها وعادت لتدير جسدها مستأنفة طريقها نحو باب مكتبه الخاص بعزم أيضا خاص.
دقت الباب فرفع رأسه عن حاسوبه يهتف بالإذن متوقعا أي شخص آخر سوى من دخلت، وملأت المكان بحضورها المميز لقلبه. فتح فمه مأخوذا بفعل الدهشة للحظات وجيزة قبل أن يستعيد غضبه منها ومن برودها السابق وتأخرها، فعاد بظهره على مسند مقعده وسألها بجمود يناقض الفوضى الحارقة في أحشائه:
-      لمن أدين بشرف هذه الزيارة يا ترى؟!
جموده ونظرته القاسية ضاعفت من توترها، فرفعت كفيها تمسد بهما ذراعيها كأنها تشعر ببروده في أطرافها، فعبس يستطرد بقلق ترجمه قلبه إلى ارتفاع في دقاته.
-      ماذا هناك يا صبر؟!.... تحدثي!
بللت شفتيها ثم نظرت إليه تجيبه بألم، والدموع تحرق جفنيها حرقا موجعا لفؤادها:
-      اسأل يا أيوب، أنا مستعدة لأمنحك الأجوبة، ارحمني وأسأل.
ارتد رأسه صدمة واتسعت مقلتاه بشدة غير مصدق؛
لقد أتت إليه أخير!
كما وعد نفسه بأنه سيفعل ويدفع بها لتأتي إليه.
كما عاهد كبرياءه بأنها من ستسعى إليه هذه المرة!
لكن عفوا، هل قال كبرياءه؟!
منذ متى وهو يسمح للكبرياء بالتحكم في قلبه وجموح مشاعره؟!
منذ متى وهو يعاملها هي بالذات كما يعامل غيرها؟!
إنها صبر! ابنة خالته الحنون! حب حياته في صغره وكبره!
وسيكون مجنونا إن لم يستغل الفرصة كما وعد وعاهد قلبه!
تنفست بعمق حين لمحت نهوضه عن مقعده الجلدي، فجف حلقها بعد ذلك مع كل خطوة تقربه منها وتقلص المسافة بينهما إلى أن توقف على بعد خطوتين منها، يتأكد منها بهدوء خالف ارتعاش بؤبؤي عينيه السوداوين:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


تنفست بغضب وهي تضم ذراعيها ترد عليهما بسخط قبل أن تلتزم الصمت، غير واعيات لمن كان ينصت للحوار الذي طعن قلبه بعذاب أليم ليعود أدراجه بصمت مخز، محملا بخيبة أمله في حبه الذي تحدى به كل كيانه فلم يهديه سوى الخسارة تلو الأخرى.
-      سأرحل برفقة زوجي إذن بعد الغذاء، على كل حال عمه قام بدعوتنا لقضاء باقي يوم العيد واليوم الذي يليه في منزله لكي يؤازر وحيد شقيقه في وفاة والده لكنني لست راضية عما يحدث.
***
 (بعد الظهر)
(منزل نوح آل عيسى)
جلست أخيرا تريح ظهرها بعد وصلة الأشغال الكثيرة الخاصة بعيد الأضحى، فأخذت تتأمل من يشاركها غرفة الجلوس بدءا بخالتها التي تحمل صغير ابنتها العابسة بغير رضى على ما يبدو، لتبتسم برقة وهي تتجاوزهما إلى باسمة المتتبعة لحركات الرضيع بين يدي جدته بينما نساء من الأقارب اللاتي امتلأ بهن المنزل وبعض من الضيوف، يتدخلن في الحوار السائد والذي يتمحور حول أفضل الطرق لرعاية الرُّضع.
تطلعت إلى الساعة، ونهضت مقررة الخلود لقيلولة قبل أذان العصر، وعقلها يذكرها بتجاهل شاغل أفكارها وساكن أحلامها وصحوها، بطل هواجسها ولأول مرة تعترف بصدقٍ أن الأمر أوجعها بحق، وجعا عنيفا كفيلا بهدّ حدود كثيرة عانت الأمرين لبنائها.
تجمدت قدماها وسط البهو عند بداية سلم الدرج حين تناهى إلى سمعها نبرة تتحسس منها رغما عنها، لتستدير خلفها في نفس اللحظة التي وقع فيها قلبها بين رجليها المتجمدتين على الأرض، وهي ترمق بعينيها المتسعتين أيوب يبتسم بدفء فسرته بشكل خاطئ لتلك الفاتنة الأجمل منها، والأصغر منها.
بلعت ريقها والفتاة تهديه بسماتها المشرقة، والكاشفة عن لمعة أسنانها البيضاء، وهو يبادلها البسمة بأخرى لم تر منها سوى إعجابا من وجهة نظرها، ومراعاة... أو ربما حب.
طفرت الدموع من عينيها، وعادت لتستأنف طريقها نحو غرفتها حيث ستغلق عليها، وتخبئ بكاءها في وسادتها بصمت وسرية دون أن يقتحم خلوتها أحد.
 ***
لم يكن أيوب في حاجة للنظر إلى مساعدته لكي يدرك أن بسمتها تذبل مع كل كلمة ينطق بها، بعد أن كانت متسعة بسرور تخبره بدعوة والدته لها كي تشاركهم فرحة العيد بعد الظهر، فنبرة صوتها المدهوشة كانت كفيلة بإيصال رفضها واستنكارها المهذب:
-  لكن لماذا سيد أيوب؟! هل قصرت في عملي؟
أجابها مسرعا، ينفي قولها:
-      لا أبدا، بل لأنك مجتهدة قررت الإدارة ترقيتك.
 أومأت له بوجوم واضح، فاستدرك غير غافل عن التي تلصصت عليهما دون نية حقيقية منها، وكم أراد وتمنى أن يشبع عينيه من محياها الذي فقد بسمته الدافئة بسببه، حتى أن جسدها فقد من وزنه بشكل واضح كما أخبره أحمد الذي بدأ يفقد دعمه هو الآخر لخطته، بسبب خوفه على والدته وصحتها وسلامة عقلها، لكن كيف ينتظرون منه التصرف، وهو لا يستطيع حتى النظر إليها كما يريد ويعشق؟! وكم يعاني الأمرين ليلجم مقلتاه من رغباتهما الحارقة؟! وكم لام نفسه واستغفر ربه عن تهوره حين أخبرها بحبه الواضح للجميع! فكيف يجعلها توافق لتكون له دون أن يوقع نفسه في أي نوع من الذنوب؟!
-      سيد أيوب!
جفله نداء مساعدته ففر بمقلتيه كعادته معها، وتراجع خطوة حين لاحظ قربها منه بينما يشعر بأن قراره صائب نحوها، واستعاد أسلوبه الحازم الجاد، وهو يخاطبها:
-      ستلتحقين بمنصبك بعد عطلة العيد مباشرة بإذن الله، عن إذنك والدتي مع النساء في غرفة الجلوس.
ثم انصرف دون لحظة تردد أو شك متلافيا تمثال نُحت مكانه على وضعية الدهشة، وإن كانت توقعت شيئا كذلك، فرئيسها لم يسبق له أن وعدها بشيء أو حتى منحها نظرة تحلل معناها.
أما صبر في غرفتها فقد تمكنت منها الغيرة، واستحكمت بقلبها فأفقدتها أهم صفاتها والتي كُنيت باسمها *الصبر*، تروح وتجيئ ضاربة الأرض برجليها توترا، وانزعاجا تفرك كفيها بشدة وعنف حتى احمرا.
هل ستسكت بعد كل ما تشعر به من ألم؟!
ألم يسألها عن السبب؟! ألم يسألها عن مشاعرها هي؟!
وعن الماضي؟!
ألم يعترف بحبه لها؟! أم أنها تتوهم ذلك؟!  لم تعد متأكدة وهي تشعر بذلك اليوم بعيدا جدا!
مسحت على وجهها، تفكر في أنه ربما قرر أن يلبي طلبها بأن يجد امرأة أخرى يحبها، امرأة بتول وشابة لم يسبق لها أن استُنزفت وجُردت من أحاسيسها، وها هو يفعل ما طلبته منه تماما، إذن لماذا تشعر بروحها تنتزع منها؟!
لماذا تشعر بأن الشمس غابت ولن تشرق من جديد؟!
لماذا فقدت صبرها؟! ما الذي تغير؟!
اتسعت مقلتاها مفغرة فمها، تنظر إلى انعكاسها على المرآة الطويلة في غرفتها، هامسة بذهول:
-      يا إلهي الرحيم! أنا، أنا أحبه، ولم... لم أتجاوزه كما ظننت بأنني فعلت، وكما لطالما افتخرت بيني وبين نفسي... حبه ما يزال يقبع هناك في صميم قلبي رغم رقوده لسنوات طوال، والآن... الآن وبعدما خلا طريقه من الحدود ثارت ثائرته وعاد بكل قوته مطالبا بحقه.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


-      أسأل أنا وتجيبين أنت!
أومأت له بتوتر ثم فرت منه بعينيها إلى كل مكان سوى ظلمتيه الآسرتين، فاستطرد بحزم أخاف قلبها فأطاعته فورا:
-      أنظري إلي صبر وأنا أسألك، أنظري إلى عيني وأنت تمنحينني الجواب.
وكما خشيت ضاعت عبر عتمة ليله، وانهارت آخر أسوار حدودها التي دأبت على التواري بها على مر الزمن، فوقفت أمامه متجردة من أسلحتها، وعتادها تنتظر مصيرها كأي أسير وقع بين براثن سجانه.
انطلقت نبضات قلبه بوتيرة أسرع، فتحرك لسانه مشكلا حروف كلمات كانت حلمه منذ أن كان مجرد فتى سبى العشق قلبه وعقله، فتحول ذاك العشق إلى كابوس حارب للتخلص منه حتى ظن بأنه نجح بالفعل، وكم سخر من نفسه حين اكتشف بأنه لم ينجح سوى بطمره خلف آلاف من الحدود والقوانين، وما إن وجد لنفسه مخرجا حتى فر من سجنه بكل قوته، وانبثق من عمق انهزامه ليحقق نصره الساحق، ولم تكن غايته سواها؛ حلمه الأزلي...صبر:
-      هل تقبلين الزواج مني يا صبر؟

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


-      يجب أن اذهب إلى العمل، مع أن التعب بلغ مني مبلغه لكنه واجب وعلي تأديته.
رقت نظراتهم بالإشفاق، فاقترحت عليه والدته بحنو:
-      يا بني اتصل بهم، واستأذنهم كي ترتاح لساعة أو ساعتين.
 أومأ لها جهاد رافضا، فتدخل والده داعما:
-      أتركيه يذهب إلى عمله، هو أدرى بوضعه وظروفه، توكل على الله بني، يسر الله أمرك.
تأهبت أطرافه ليقوم من مكانه، وهو يشير إلى حقيبة ما:
-      احتفظوا بالحقيبة في مكان آمن لقد جمعت فيها كل التحاليل ونتائج الأشعة، ما إن يمر عيد الأضحى بأسبوع بإذن الله، سنعود إلى العاصمة من أجل الجراحة.
كان قد نهض بالفعل حين قالت له والدته بإشفاق:
-      لا تقلق بني، حين نطمئن على شقيقتك بإذن الله سيحين دورك.
حك أعلى رأسه بمرح يجيبها قبل أن ينصرف:
-      لا أعلم كيف أقنعك يا أمي بأنني لا أهتم بنفسي بقدر ما يهمني الاطمئنان على أختي، على كل حال يسر الله أمورنا، ولكل حادث حديث...السلام عليكم ورحمة الله.
ردوا عليه السلام بخفوت، فنظرت والدته الى نهال تخاطبها بحنو:
-      هيا يا ابنتي، قومي لغرفتك وارتاحي قليلا ثم الحقي بي، سأكون في المطبخ.
نهضت بينما تومئ لها بطاعة كعادتها وانصرفت باسمة بأمل، فتحمد والده لربه بخفوت يسأله التيسير والفرج لهموم ولديه.
***
(منزل آل عيسى)
(القبو، أو الطابق تحت الأرض)
ألقت صبر بالسجاد، وأخفت أنفها بكفها تحميه من الغبار المتصاعد فقال لها إسحاق بامتعاض بينما باسمة وأحمد يبتسمان بمرح:
-      لا أعلم سر تغيير السجاد وأغطية الأفرشة في كل عيد، لقد غيرناهم من أجل عيد الفطر بالله عليكم.
لم تجبه صبر وهي تعاود حمل السجاد كي توقفه، وابنها يساعدها قائلا بمزاح:
-      لقد مر شهرين وأسبوع على عيد الفطر يا عمي، وعيد الأضحى بعد غد بإذن الله، اعتبره واجبا منزليا مرتين في السنة، وأرح بالك.
ضم إسحاق ذراعيه إلى صدره يقول له برفض:
-      ولماذا لا ندع أمر ذلك للخادمة؟!
نفضت صبر كفيها محافظة على صمتها ثم بدأت بالنظر حولها باحثة عن شيء ما، فكانت من ردت عليه باسمة التي وقفت أمامه تشير له ببسمة حلوة:
-      نحن نشفق عليها، لقد فعلت كل شيء تقريبا، نظفت البيت بأكمله، فلا ضير من اهتمامنا بتغيير الأغطية والسجاد.
تخصر يرد عليها بفكاهة مشاكسة:
-      لمَ لا نطلب من أيوب إرسال تلك الجميلة مساعدته؟ إنها فتاة نشيطة و مممممم
تلكأ باحثا عن وصف مناسب، محاولا كسب التحدي الذي اتفقوا عليه ضمنيا من غير إعلان ظاهر، بمن يحظى بلقب القشة التي قصمت ظهر البعير، ويدفع بها إلى الانفجار لكنه تفاجأ بحمل ثقيل يلقى على كفيه كاد أن يوقعه أرضا لينظر إلى من ينتظر انفجارها تقول له ببسمة باردة:
-      يمكنك الانسحاب بعد أن توصل هذه الأغطية إلى الطابق الأول، سأقوم بكل شيء بعون الله، لا تقلق أنت.
زم شفتيه فغمزه أحمد وهو يتجاوزه حاملا باقي الأغطية، وهامسا له بخفوت مرح:
-      لن تفوز بالتحدي، فلا تتعب نفسك.
جعد إسحاق ذقنه ممتعضا ولحق بأحمد مغادرين، وكذلك فعلت باسمة لتبقى صبر وحيدة ترتب الخزانة حيث سحبوا الأغطية النظيفة.
تنفست بتعب وهي تستدير ثم تخصرت تفكر وقد اختفى أي أثر للبسمة على ثغرها، ليبدأ ذلك الصوت المزعج في الصدوح من حولها كعادته. لقد أرادت البقاء قليلا لتنفرد بنفسها في ظل هدوء المكان، لكن ذلك الصوت الذي لا يعلمون لحد الآن مصدره يزعجها ويعكس ما يجيش في صدرها.
أنصتت مطرقة بأذنيها في محاولة لتحديد منبعه لكن دون جدوى كل ما تسمعه هو صياح امرأة موجوعة، مثلها مثلا!
تأففت بضجر؛ لن تبدأ مجددًا بالتفكير المتعب، إنها مرهقة للغاية، ولا حتى هذا الصوت الذي يخيف أفراد عائلتها يحرك فيها سوى المزيد من القهر والحزن، لذا قلبت عينيها تستغفر بخفوت وانصرفت لتكمل أشغالها قبل أن يتطوع أحدهم باستدعاء صاحبة البسمة المشرقة، فالأمر لا يتحمل فعلا ولن تستطيع مجابهة إعجابهم وانبهارهم بها، حتى باسمة أصبحت صديقتها وتتحجج بزيارة عمها في المكتب كي تلتقي بها، فتبدأ حين عودتها بسرد تفاصيل حوارهما الشيق دون ذكر تدخلات خالتها رحمة لو صادف حضورها تثني عليها كل حين حتى أنها تشك برغبتها في تزويجها لأيوب.
توقفت وسط سلم الدرج عابسة، تفكر في أن خالتها ربما ضجرت من محاولاتها في جمعهما فانتقلت إلى الخطة البديلة، تزويج أيوب بأي فتاة مستعدة للزواج؛ جميلة ومشرقة و... صغيرة.
هزت رأسها منفضة عنها الانزعاج بما وصلت إليه أفكارها، وعادت للاستغفار وهي تستأنف طريقها.
***
(وكالة الأسفار آل عيسى)
(مكتب أيوب)
-      أجل يا عبد الحفيظ أحضر العقود، أنا أنتظرك.
وضع سماعة الهاتف مكانها وأرخى ظهره رافعا رأسه إلى السقف، متنهدا بتعب فهو لم يغفو للحظة واحدة ليلة أمس. برقتا عيناه نحو السقف الأبيض وهو يعض على شفته السفلى.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


عليها بالكامل أن تلك الفتاة بكل رشاقتها وجمالها، والأهم اشراقتها وبسمتها المشعة تداوم  في مكتب أيوب يوما بعد يوم تروح وتجيئ أمام عينيه، تقدم له القهوة والأوراق، محدثة إياه ببسماتها المشرقة ونبرتها الناعمة.
لمحت شاغل أفكارها فدق قلبها بسرعة وهمت بالتوجه نحوه لكي تأخذ منه ما يحمله من قناني مياه بلاستكية فارغة لكن وفي رمشة عين سبقتها الفراشة فتجمدت قدماها مكانهما، تراقب بسمة أيوب الصادقة، وهو يناولها ما في يديه شاكرا إياها على كل ما فعلته من أجل عائلته.
لم تدرك صبر بأنها حبست أنفاسها إلا حين انطلقت من عقالها بحدة تجرح رئتيها بعد أن اختفيا من أمامها دون أن يلتفت إليها أحدهما، فعضت شفتها بشدة حين غمرها إحساس رفضت وبقوة أن تستقبله يوما حتى، وهي على ذمة زوجها الأول بكل ما عانت منه؛ وهو القهر.
ازدردت ريقها، والدموع تحرق عينيها فرفعت رأسها تتنفس بعمق تقاوم تأثرها الذي اجتاح جسدها بكل طغيان وتجبر.
-      أمي.
نظرت إلى أحمد، وابتسمت بشكل تلقائي فعبس بنفس التلقائية مقتربا منها يستدرك بقلق:
-      ما بك يا أمي؟
زوت ما بين حاجبيها بحيرة فأصبحت أكثر شبها بابنها الذي أضاف بثقة:
-      أنت على وشك البكاء يا أمي، ما بك؟
تفاجأت بعمق معرفته بها فرقت مقلتاها، ودون وعي منها ترقرقت بالدموع، فأسرعت بمسحها حين اقترب منها ولدها يعيد عليها سؤاله بقلق بالغ:
-      أماه، يا إلهي! ما بك؟
بللت شفتيها وضمته بقوة واضعة رأسها على كتفه الذي أصبح بمستوى جبينها تهمس له بخفوت متأثر:
-      لقد كبرت بني، كبرتَ وصرت رجلا، وكبرتُ أنا أيضا.
أوجعه ألمها، يشعر بها وبحيرتها مع أنه لا يفقه موقفها ورفضها لرغبة العائلة بأن تتزوج من عمه. ابتعد عنها قليلا وقبّل رأسها بينما هي تبتسم له بتوتر ثم سألها برقة:
-      هل أنت تعبة؟
شعرت بسؤاله يتجاوز معناه الحرفي، فردت عليه بصدق بينما تومئ له بإيجاب:
-      أجل بني، أنا تعبت، لن أقضي الليلة هنا كما سبق ووعدت عبد الحفيظ، سأخبره وأغادر معكم.
ضم أحمد كتفي والدته يوجهها نحو غرفة سلمة وعبد الحفيظ، غافلين عمن كان قريبا منهما يراقب باهتمام متلهف، ورغم حزنه عليها إلا أن قلبه يرقص فرحا، يمني نفسه بغيرة تلوح له برايات النصر في الأفق ال.... قريب.
***
(أمام البناية)
همّ سفيان بترك الأصدقاء حين لمح خروج زوجته الحاملة لصغيرتهما برفقة شقيقها، فقال لهم ببسمة لطيفة:
-      سررت بالتعرف إليكما قعقاع وجهاد، وسعيد بصداقتكما المتينة مع إسحاق، تحابوا في الله، وأخلصوا لبعضكم ثم تواصوا بالحق والصبر فيما بينكم، فهو ثمن الحب في الله، وأثره في القلب بليغ من حلاوة الإيمان، وجزاؤه اجتماعكم تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظل عرشه سبحانه، لكن النصيحة تكون باللين والرفق، فإن أوصى الله نبيه موسى عليه السلام باللين وهو يرسله ليدعو من ادعى الألوهية، فالأولى بها المؤمنون فيما بينهم، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
ابتعد سفيان فمنح جهاد القعقاع نظرة ذات معنى بينما يخاطبه بتنبيه:
-      هل سمعته يا قعقاع؟ اللين والرفق، هل تعرف معناهما؟
رفع القعقاع حاجبه بامتعاض، ورد عليه ببرود مزعوم:
-      ها ها ها، ظريف!
ضحك إسحاق، وجهاد يشرد عن حوار صديقيه حين فرت منه مقلتاه نحو المقاعد الخلفية لسيارة سفيان الناظر لزوجته، وهي تستقل نفس المقاعد جوار من سلبت اهتمامه بغرابة بينما المقعد الأمامي تحتله امرأة كبيرة يظنها والدته. غريب كيف علق اسم الفتاة في ذهنه "جفون" فهو لا يعرف الكثير عن سفيان، ولا عائلته سوى ما ذكره إسحاق من ومضات عن التزامه وصلاح أخلاقه ودينه.
-      يا جهاد أين سرحت؟
-      ها؟!
نظر إليهم ببلاهة فالتفت إسحاق إلى حيث كان ساهما ثم شاكسه بمزاح:
-      يبدو أن السنارة تلقفت سمكة ما، لكن احذر يا جهاد، فسفيان كما رأيت ملتزم وغيور على أهله.
تدخل القعقاع يقرعه بجفاء:
-      ألا تخجل من نفسك وأنت تستبيح حرمات غيرك؟!
اتسعت مقلتا جهاد بدهشة وإسحاق يتنهد بيأس، بينما القعقاع يكمل بنفس السخط:
-      من الأفضل لك أن تتزوج كي تحصن نفسك وعيناك حتى لا تقع في فخ المعصية، فتتلقف سنارتك قرشا قاتلا يفترسك وسنارتك.
حلت عليهم لحظة صمت قبل أن ينفجر إسحاق ضاحكا ليحذو جهاد حذوه متناسيا تلك الغصة المستحكمة بقلبه، فصديقيه لا يعلمان بأنه ممنوع من أي نوع من أنواع العواطف أو أي نية للارتباط حتى يأذن الله له بخلاف ذلك.
كتم القعقاع بسمته ودس يديه في جيبي جلبابه الأبيض المفتوحين ليدخلهما في جيبي سرواله أسفله بينما جهاد يقول له بأسف، وهو يتمالك ضحكه:
-      لا فائدة منك يا قعقاع، هل نسيت ما أخبرك به سفيان قبل قليل؟! ثم أريحا نفسيكما أنا لا أملك سنارة من الأساس، ولا يحق لي في واحدة، على الأقل الآن، ولم أكن أستبيح حرمة أحد يا قعقاع، فاحذر أنت من الوقوع في البهتان.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


-      عفوا يا آنسة، هل أنت بخير؟!
رفعت رأسها منتفضة فوجدت أمامها رجل بلحية كثيفة لكن مشذبه بطريقة أنيقة، يرتدي بدلة لم تتبين لونها جيدا بفعل قتامة إنارة السلم الخافتة، ينظر إليها بتردد لامسه نفس الحنان الذي استشعرته في نبرة صوته، وليس كما ظنت مجرد وهم احتياج اجتاحها، فارتبكت ولم تدرِ بماذا تجيبه.
تنفس بعمق حين رفعت رأسها، وهاله كم الألم المرسوم بدقة على محياها المبلول بدموع الوجع والكبد، لطالما رآه  يسكن قسمات وجه توأمه نهال، ولطالما لمحه في انعكاس ملامحه هو على مرآته.
إنها تتألم بصمت وتشعر بالخزي والخجل من نفسها، يكاد يقسم أنها مثله! انعكاس آلامه وأوجاعه.
-      جفون!
همسة حنونة هادئة أخرجتهما من لحظة تبادل النظرات الحائرة المتفهمة بطريقة غريبة، لتنتقل إلى من وقف أعلى السلم يحدق بهما بتمعن:
-      أخي!
نطقت بنفس همس أخيها قبل أن تنطلق نحوه في نفس اللحظة التي ظهر فيها إسحاق خلف سفيان يهتف باسم صديقه، ويستدرك غير مدرك لغرابة الموقف:
-      جهاد؟! أتيت أخيرا؟! مرحبا بك يا صديقي، انضم إلي فالقعقاع سيفقدني عقلي، هيا أسرع! عن اذنك سفيان، سأعرفك عليه حين تعود إلى الداخل.
ابتسم سفيان وقد أخفى جسد أخته خلف ظهره، يرد على إسحاق شاكرا له عفوية طباعه الموافقة للفطرة في أغلب تصرفاته، بينما جهاد بدأ بتسلق الدرج مطرقا برأسه مخافة استفزاز الرجل قريب الفتاة،  فيظنه متحرشا ما يحاول استدراج أخته فاكتفى بتحية خافتة وهو يتجاوزهما:
-      حسنا إسحاق وأنا متشوق للتعرف على صديقك الثاني.
-      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رد سفيان تحية الشاب الخافتة، وقلبه يستعيد نبضاته الهادئة بعد أن احتدت حين أرسلت له زوجته رسالة عبر الهاتف، تبلغه فيها باختصار وبكلمات مختارة بعناية، وإن كان معناها واضحا، تخص زوجة أبيه التي أطلقت لسانها مجددًا، غافلة عن السهام المسمومة التي تطلقها باعتباطية لا ينجو منها القريب ولا البعيد.
-      عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم استدار إلى أخته بعد أن تأكد من خلو المكان ليتلقى ارتماءها  بين ذراعيه، وهي تشهق بخفوت باكية بحرقة:
-      اهدئي جفون، اهدئي عزيزتي.
رفعت رأسها بشلال الدموع المنهمر على وجهها، تهمس له بألم انبثق من صميم أحشائها:
-      لماذا يا أخي؟ إنها أمي، لماذا تحطمني هكذا؟! انها لا تشعر بي، ولا بألآمي التي تسببها لي، لماذا يا أخي؟ لماذا؟
مرغت وجهها في صدره مرددة تساؤلها بعذاب شق دواخلها بطعنات سامة مهلكة، فتنهد سفيان بينما يضمها إليه ويربت عليها بحنو يردد هو الآخر بحزن:
-      لا حول ولا قوة الا بالله.
رفع رأسها بكفيه ليخاطبها برقة، وهو يتطلع إلى عينيها الباكيتين:
-      تذكري ما أقوله لك دوما يا جفون، هي والدتك ولا يمكنك تغييرها بل ومطالبة بالصبر عليها، وطاعتها مادامت لا تدعوك إلى الكفر بالله أو معصيته، وإن حدث تكتفين بالإحسان إليها دون طاعتها، مقام الوالدين عند الله رفيع جدا مهما كانوا ومهما اقترفوا من أخطاء، لأنهم للأسف جل أخطائهم يكون سببها حبهم المفرط وخوفهم على أبنائهم، لذا ماذا يكون الحل إن لم نستطع تغيير قناعات والدينا باللين واللطف يا جفون؟
أخرجت نفسا مرتعشا ترفه به عن صدرها المحترق ثم قالت له بقهر:
-      نحاول تغيير أنفسنا لنتكيف مع طباعهم، ونتدرب على تحمل تصرفاتهم لكن يا أخي...
ضغطت على شفتيها، وقد تدحرجت دموع جديدة على وجنتيها لتكمل بألم:
-      لقد حاولت، وكلما ظننت بأنني اكتسبت قوة للصبر والتحمل فاجأني الضعف وبالأخص في مثل هذا اليوم، وأنا ألمح نظرات الامتعاض من الناس أو الشفقة، فأشعر بالتعب وعدم القدرة على التحمل.
عاود سفيان التنهد، وهو يربت على وجنتها قبل أن يمسح عنهما الدموع، يقول لها بلطف:
-      ما إن تعودي إلى البيت بإذن الله وتصلي لله بخشوع سيفرج همك، وتجدين في نفسك الصبر من حيث لا تعلمين، فالصلاة تولد الكثير من الصبر وسعة الصدر، ومهما قال وصدق به مَن حولك فالأرزاق بكل أنواعه والأقدار بيد الله، وهو ما يهمنا رضاه، وما دونه مخلوقات نتعامل معها كيفما أمرنا سبحانه، ولا تنسي أننا ممتحنون في السراء والضراء، اتفقنا؟!
أومأت له وموجة من البرودة  تتسلل إلي جحيم أحشائها لتنثر قطرات من البلسم الشافي بإذن من ذُكر اسمه بينهما فغشيهما برحمته وحلمه أرحم الراحمين.
***
(عند نهاية الأمسية)
خرجت من المطبخ وهي تمسح جبينها ثم مسدت على عباءتها بيدها الأخرى تتنهد بتعب.
 لقد كان نهارا طويلا بكل ما حمله من أعمال وأعباء بين ذبحٍ وتحضير الطعام للضيوف، وكعادتها تفرق بسماتها هنا وهناك متجاهلة كل ما يعتريها من مشاعر مزعجة رفضتها بخجل من نفسها ومن خالقها كلما لمحت الفراشة المتنقلة بكل خفة وسلاسة تتعرف على من تلتقي به حتى اندمجت بسهولة، ودخلت قلوب من حولها بظرافتها وتواضعها وصدق بسمتها المشعة بأنوار التفاؤل والسرور، بينما هناك في نقطة عميقة حيث تتجمع سائر أفكارها التي تتجاهلها بتجبر وقسوة تكمن فكرة طغت

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


-      هل ما تزال على عادتها معك يا ابنتي؟
تنهدت سرور ترد عليها بوجوم:
-      أتمنى أن أحصل على رضاها لكنني لا أفهمها.
 اقتربت منهما خالتها، وسلمة تعقب بنفس السخط:
-      لا أعلم سبب صمت زوجك على تصرفاتها، فهو على حسب ما سمعته من عبد الحفيظ إنسان ملتزم ومراع.
ابتسمت سرور بدفء وحب تكنه له، وهي تدافع عنه بصدق:
-      لأنه يراعيها لوجه الله، فهي والدة أخواته، وفي مقام والدته ثم الحق يقال بناتها حنونات يشبهن سفيان، وكثيرا ما يُهَوّن علي لذاعة لسان والدتهن.
ضحكت سلمة تمثل الحالمية بقولها المتهكم:
-      سفيان حنون، يا الله! أنت غارقة حتى  أذنيك يا فتاة.
 احمرت وجنتا سرور تبتسم بحياء، وصدح صوت جرس الباب في ذات الوقت، فقالت لهما رحمة وهي تنصرف:
-      لابد من أنها الفتاة التي أرسلها أيوب، هيا يا سرور كثير من الاشغال في انتظارنا، وأنت يا سولي نامي وارتاحي قبل أن يستيقظ الصغير، فأنا لن أسمح لعبد الحفيظ بأن يرهق نفسه أكثر مما فعل.
 جعدت أنفها مستنكرة بطفولية:
-      من يسمعك يظنني طاغية، وزوجة ظالمة.
كانت والدتها قد غادرت بالفعل، فهتفت بفضول:
-      لكنني أريد رؤية الفتاة أنا أيضا.
تحركت تهم بالنهوض حين انطلقت صرخة صغيرها، فتأففت مستديرة نحوه لتحمله، قائلة له بنزق مزعوم:
-      لا تكن كوالدك يا ولد! ينتقدني طوال الوقت.
ثم ما لبثت أن زينت البسمة الدافئة ثغرها تكمل بهمس محب:
-      لماذا أنت جميل هكذا؟ صغيري الحبيب.
***
كانت قد ملأت إناء بلاستيكيا بالماء الدافئ، لكي تغسل رداء الصغير بالصابون الطبيعي لتتركه دون وعي حين تناهى إلى سمعها صوت جرس الباب.
دق قلبها بعنف وشعرت بموجة حرارة تغمر جسدها، وهي تفتح الباب لتجد شابة عشرينية تشع حيوية و.... جمالا، بداية بقدها الرشيق المناسب لفستانها الطويل الزهري بسترته السوداء، وطرحتها الزهرية المحتضنة لوجهها البيضوي ذي الملامح الصغيرة الجذابة. تنهدت صبر بإحباط وكل تفكيرها منصب حول  البسمة الكاشفة عن صف الأسنان كالبلور، ولسان حالها يهمس لها مجددًا *إنها تشع حيوية و .... جمالا*.
-      عفوا، هل هذا بيت السيد عبد الحفيظ؟
جفلت من تأملها المحرج للفتاة على هتاف خالتها التي تجاوزتها، تقول لها بترحاب استشعرت صبر مدى غرابته:
-      أجل يا ابنتي، تفضلي، تفضلي!
لمحت صبر لمعة على أسنانها البيضاء خلف بسمتها المتسعة بينما تجيبها بحبور:
-      شكرا لك يا خالتي، أنا توفي، أقصد لطيفة.
ضحكت الفتاة قبل أن تستدرك بنبرة مرحة كلها نشاط وفرح بينما صبر تراقبها بتمعن مع سرور وخالتهما:
-      المقربين مني يلقبونني بتوفي...لكن اسمي هو لطيفة...السيد أيوب أخبرني بأنكم في حاجة إلى مساعدة!
حلت لحظة صمت مضحكة، وجميعهن يتناظرن فيما بينهن ببلاهة قطعته رحمة وهي تسحبها قائلة بلطف:
-      تشرفنا بمعرفتك يا ابنتي، تفضلي من هنا.
اقتربت سرور من أختها تهمس لها، وهما تشيِّعان انصراف الأخرى مع خالتهما تضاحكها، وكأنهما على سابق معرفة:
-      إنها جميلة بالفعل، وتبدو ظريفة.
أخرجت صبر نفسا واجما، تجيبها بانهزام:
-      أجل إنها جميلة، وظريفة للغاية.
***
(مساء)
امتلأت شقة عبد الحفيظ بالضيوف من نساء العائلة، والأقارب بينما الرجال استضافوهم في شقة الطابق الثاني بعدما سمح لهم صاحب البناية باستغلالها في المناسبات.
تسللت جفون تخفي دموع القهر لتقف بين بداية سلم البناية والباب الخارجي، وانزوت مكومة على نفسها تكتم شهقاتها المعذبة لصدرها.
كيف يكون أقرب الناس إليها مصدر عذابها؟!
كيف تُعتبر قلبا حنونا، وكل كلمة تصدر منها بطعنة؟!
كل همسة منها نحوها بسهم مميت؟!
 بل كل نظرة ممتعضة أو حتى مشفقة منها نحوها بضربة قاضية؟!
أخفت وجهها بكفيها تكتم باقي شهقاتها قبل أن تحبس أنفاسها على نبرة أجشه تخللها الحنان... الكثير من الحنان كالذي ألفته من أخيها  سفيان وقبله ومنذ زمن بعيد والدها الحبيب.
-      عفوا يا آنسة، هل أنت بخير؟!
***
(قبل برهة)
ترجل جهاد من سيارة الأجرة، وأسرع يحث خطاه ممسكا بالهاتف في يده يهتف ضاحكا؛ ضحكة صادقة من صميم قلبه تخللته بأعجوبة منذ أن تنفس معنى الحياة بكرامة كما ظنها بأفكاره التي سجنها بين جدران المظاهر وقوانين المجتمع الجائرة.
-      سامحني يا صديقي، أخبرتك  بأنني قد أتأخر، أنت أدرى بمعاملات إخراج مريض من المستشفى، حسنا! لقد وصلت.
ما إن حط بقدميه على عتبة الباب حتى لمح ظل جسد متكوم على نفسه قرب نهاية حاجز السلم الحديدي، فتمهل متفاجئا ومرتابا حين سمع أنين بكائها وشهقاتها المكتومة.
قطب جبينه وهو يبلع ريقه متمعنا في وقفتها المهتزة وتكومها المخز، لا يعلم أيرجع أدراجه أم يتقدم متجاهلا تلك النغزة التي طعنت قلبه بألم مبرح؟!  تلك الفتاة وبشكل ما تجسد آلام روحه الدفينة. برقت مقلتاه حين رؤيته لانعكاس وجعه وخزيه على صفحة محياها البائس، فتنحنح مرغما يسألها بحنو صادق لا مكان للشفقة أو الزيف فيه:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

24 Oct, 14:44


الفصل السادس عشر
الخوف من الله شجاعة، وعبادته حرية، والذل له كرامة، ومعرفته يقين... محمد متولي الشعراوي.
 
(بعد يومين)
(منزل عبد الحفيظ)
 
ارتفعت كفه تلقائيا ليخفي تثائبه للمرة التي لا يعلم كم؟! جفناه يرتخيان تعبا بينما يقف مستندا على دفة باب غرفة نومه بكنزة رمادية وسروال بيتي من نفس اللون والخامة، إلى جواره شقيقته سرور المحتضنة لابنتها تهزها برفق علها تعود للنوم كي تتمكن من المساعدة.
-      ماذا تقول يا أيوب؟ أي فتاة؟ لقد ظننتك تمزح!
 التفتت صبر المنحنية على مهد الرضيع كما فعلت سلمة المتسطحة على سريرها نحو رحمة الممسكة بالهاتف، ترد على ابنها بملامح عابسة برفض:
-      لا، شكرا لك، لا يلزمنا مساعدين أو بالأحرى مساعدات.
قلبت رحمة شفتها السفلى والعبوس يتعمق بأخدوده بين عينيها، وهي تلوذ بالصمت لتصغي إليه بتركيز، وعبد الحفيظ يتململ في مكانه ماسحا على عينيه ثم ناظرا نحوها باستفسار هو الآخر:
-      حسنا لا بأس، أرسلها، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مسحت على شاشة الهاتف لتقطع الاتصال، وشردت بنظراتها نحو السراب قبل أن تجفلها سلمة بسؤالها:
-      ماما، ماذا يريد أيوب؟
تنفست، وهي تنظر إليها ثم ردت عليها بحيرة بينما تتقدم نحوها:
-      منذ يومين وهو يخبرني ببراعة مساعدته، ونباهتها في التنظيم والتخطيط، لذا فكر بإرسالها لكي تساعدنا في التحضير لحفل العقيقة.
عبست صبر شاردة هي الأخرى عما تفعله، وفي تلك اللحظة التفتت إليها سلمة بدافع من مجهول أو ربما معلوم قبل أن تتبلور الفكرة في رأسها بسرعة قياسية، وقررت خوض غمار المغامرة، فابتسمت بخفة وهي تلتفت لوالدتها تجيبها بمكر:
-      يبدو أن فتاةً استمالت أخي في النهاية.
كانت والدتها على وشك نهرها عن الهراء الذي تتفوه به بعد أن شعرت بصدرها يضيق رفضا للفكرة لكن وبدهاء التقطت نظرة ابنتها الماكرة قبل أن تنتقل بسرعة الضوء إلى وجه الأخرى العابس بشكل غير مألوف، فتتبلور الفكرة بنفس السرعة في رأسها تعقب بقلق مزعوم:
-      يبدو ذلك فعلا يا ابنتي، فلقد استغربت حقا مدحه كمال صفاتها وحسن أخلاقها، ولم أكن على يقين بجدية تفكيره في إرسالها لكن ها أنت سمعته بنفسك، الفتاة قادمة.
 أرخت سلمة رأسها على وسادتها، وقالت لها بمرح ماكر:
-      أنا متشوقة لرؤيتها، تلك التي تمكنت أخيرا من فك عقدة أيوب، ومن يدري؟! قد يتزوج أخيرا.
بللت والدتها شفتيها توترا بينما ترمي صبر التي عادت إلى الرضيع تحكم شد القماط حول جسده الصغير، فقال لهن عبد الحفيظ بتعب غافلا عن نوايا زوجته وخالته:
-      لا تتفاءلي كثيرا يا سلمة، أيوب غامض في مشاعره ومساعيه، وكلما فتحت له موضوع الزواج تهرب بشتى الأسباب، ولولا يقيني من تغيره والتزامه الصادق بطريق الله المستقيم، لشككت في أمره.
عبست رحمة ناظرة إلى صبر الصامتة بامتعاض، وسرور تتدخل قائلة لهم بخفوت كي لا توقظ صغيرتها التي غفت أخيرا:
-      أدعوا الله أن تكون الفتاة مناسبة، فأنا خائفة من خياراته منذ تلك الفتاة الأخيرة التي رفضتموها.
جلس عبد الحفيظ على طرف السرير وهو يتثاءب مرة أخرى، يجيبها بتلقائية بينما صبر تترك الصغير لتجمع ثيابه الوسخة متجاهلة النظرات القلقة التي تبادلتها سلمة ووالدتها:
-      لا يا سرور، أيوب تغير، ولن تكون كنادين.
-      بني، اذهب إلى الغرفة الأخرى وخذ قسطا من الراحة، أنت متعب للغاية.
قاطعته خالته مغيرة دفة الحوار فاستنكرت سلمة، تساند والدتها في غايتها وتشاكس زوجها بمرح:
-      لماذا يا ماما؟ لقد تعود الصغير على رائحة والده، وإذا استيقظ وكنت أنا تعبة، لن يعيده إلى غفوته سواه.
تكومت ملامح عبد الحفيظ بعبوس قانط، وخالته تعاتبها مدافعة عن ابن أختها بينما صبر تعود لتبسمها وإن شابه بعض الوجوم عكس سرور الباسمة بمرح:
-      هل فقدت عقلك يا فتاة؟ لقد رابض قرب مهد الصغير لليلتين كاملتين، الرجل سيعود لعمله بعد غد بإذن الله لذا يجب أن يريح بدنه ثم أنت الأم ومن ترضع الصغير وليس هو.
هز عبد الحفيظ رأسه مرات عدة يوافقها الرأي بلهفة، فقلبت سلمة شفتها السفلى وهي ترد عليها برفض:
-      إن كنت أنا أمه فهو أبوه، وكلانا والديه يا ماما، ومسؤولان عنه، ولا ضير في تقاسم مهام رعايته.
رفعت رحمة حاجبها بتجاهل لها، وهي تسحب عبد الحفيظ وتدفعه خارج الغرفة، تقول له بحنق:
-      اذهب بني، نم قليلا قبل وصول الضيوف، هيا!
 كانت سرور تضحك بهدوء، وهي تدثر ابنتها فسألتها سلمة زاجرة إياها بعبوس مدّعي:
-      كيف سمحت لك حماتك المصون بالقدوم؟ لم أكن متأكدة من أنها ستفعل.
اختفت بسمة سرور وانقلبت إلى امتعاض، وصبر تنصرف دون كلمة فسألتها رحمة بقلق:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


عبست ترد عليه بطفولية:
- أنا أيضا أكره حين نتشاجر.
ابتسم بمكر فرض عليه نفسه، وهو يخبرها بمرح:
- وأنا أكثر ما أحبه هو ما بعد أن نتشاجر.
ابتسمت بحياء ثم عادت لترجوه ما يكدر عليه صفو حياته:
- لماذا لا تدعني أصحح مساري؟ حتى إن انحرفت بعض الشيء، لا بأس! سأتعلم وأعود إلى طريقي الصحيح.
غامت مقلتاه بيأس من افهامها، فقال لها بحزم يحمل بين طياته الكثير من التحذير:
- أخشى عليك يا نادين، لن تتحملي عبء الندم لكن أنت حرة، لقد وعدتك قبل الزواج، ستكونين دائما حرة في اتخاذ قراراتك لكن لا تنسي مع كل حرية يأتي الحساب، والحساب كما قد يكون يسيرا، قد يكون عسيرا جدا.
انقبض قلبها بشدة، لكن تصميمها النابع من تربيتها ونضوج قناعتها كما تظن يُصر عليها بفخر مزيف، فلم يكن منها إلا أن ردت عليه قبل أن تقبل وجنته لتعود إلى مرساها وتنام قريرة العين:
- شكرا لك، وأنا لن اخيب ظنك، أحبك مهذب، أحبك جدا جدا.
***
(صباحا)
(الوطن)
(وكالة آل عيسى للأسفار)
اجتمع بصديقيه في الحجرة التي تضم مكاتبهم بعد أن اطمأن على شقيقته وتركها برفقة والدته، الفرحة تشع من ملامحهما المشرقة مستبشرات بما حملاه هو ووالده من خبر عادا به من المجلس العلمي الشرعي، فكأنما حمى السرور تلبست كل فرد منهم، بل وكأن كل واحد منهم تمكن من التنفس أخيرا.
- متى ستتحدث يا جهاد؟ الوقت يمر والعمل لا ينتظر.
أيقظه إسحاق من شروده بحيرة، بعد أن سأله عن حال شقيقته من قبل، فعقب القعقاع بنبرة مازحة لا تخلو من جفائه:
- يقصدُ شقيقه لا ينتظر.
التفت إليه إسحاق يؤكد قوله ببسمة تعمد إظهار السماجة فيها:
- أجل، شقيقي لا ينتظر، هل ارتحت الآن؟ تحدث يا جهاد، ما بك؟
لم يفتهما ما تغير في ملامح جهاد، عيناه لامعتان مليئتان بالحياة، ثغره منبسط وكأنه لم يفارق البسمة قط، ليس لأنهما لا يهتمان بل يكاد الفضول يقتلهما ليستفسرا منه عن خطبه، لكنها قاعدة وضعوها لصداقتهم أملا في أن تستمر بفضل الله.
- لن أطيل عليكما الحديث، أحتاج مالا من أجل علاج شقيقتي، أخبركما بهذا لأنني سأبحث عن وظيفة مسائية، لذا يجب أن أنهي عملي دوما في نهاية الدوام الرسمي هنا، ومن أجل ذلك سأحتاج لمساعدتكما.
تجعد جبين إسحاق بتفكير، مستفسرا منه بريبة:
- ألم تقل بأن شقيقتك بخير؟! والعملية مرت على خير؟!
أومأ له بإيجاب فاستدرك إسحاق باقتضاب:
- إذن؟!
تلكأ قليلا قبل أن يفصح عن نصف الحقيقة، مخفيا نصفها الآخر داخل صدره مع فرحته:
- إنها في حاجة لعملية جراحية أخرى لكن بعد أن تشفى طبعا.
هز إسحاق كتفيه يقول له بإشفاق صادق:
- شفاها الله وعافاها، يمكنك الاعتماد علينا بعد الله بكل تأكيد سنساعدك، ويمكنك طلب المال من أيوب، فكما تعلم هو يقرض للموظفين دون نسب ربوية.
هز رأسه بتفهم يرد عليه بامتنان:
- شكرا لك صديقي، كنت أعلم بأنكما لن تخيبا ظني فيكما.
رفع القعقاع حاجبه يحذره:
- أنا لن أكذب من أجلك إن غادرت قبل نهاية الدوام، أخبرك منذ الآن.
تنهد إسحاق بيأس وجهاد يضحك بمرح لم يكن القعقاع سببه الحقيقي ثم قال له:
- لا تكذب من أجلي يا صديقي، ولا من أجل غيري،
- كل ما أطلبه منكما مساعدتي على مغادرة العمل في نهاية الدوام.
وعداه بدعم ومؤازرة صادقة ثم ربت إسحاق على كتف جهاد بينما يوصيه:
- اعتني بشقيقتك يا جهاد، ولا تنس أننا أصدقاء ويمكنك الاعتماد علينا بعد الله في كل ما تحتاجه.
***
(مكتب أيوب)
دق باب مكتبه فلم يرفع رأسه عن حاسوبه، وخطت بكعب حذائها العالي وأيضا لم يرفع رأسه، سبقها عطرها الفواح وهي تميل بجذعها قربه، وقطعا لم يرفع رأسه ثم تحدثت إليه بنبرتها المهذبة بنعومة، فلم يتساءل كعادته؛ منذ أن رحل مساعده الشاب لوظيفة أفضل، ويئس من إيجاد بديل له وكل مرة يوظف مساعدة مؤقتة؛ عن حظه السيء فيهن، لأنه وببساطة باله مشغول جدا:
- البريد سيدي.
رسم توقيعاته هنا وهناك ثم عاد إلى حاسوبه، فعبست الفتاة متحسرة على أناقتها المفرطة، وفشل مخططها قبل حتى أن يجد فرصة للتنفيذ لكن حمقها وفخرها بنفسها غلبها، فاستدارت تسأله بنبرة ناعمة مصرة على تحقيق هدفها:
- سيد أيوب، هل أحضر لك قهوة؟
ارتبكت تأثرا حين رفع أنظاره إليها، فهالها ما لمحته من ضياع يائس سكنهما قبل أن تلمعا بتعبير مبهم حيرها بينما يجيبها بنبرة مجاملة:
- شكرا لك يا آنسة، في الحقيقة هناك خدمة سأطلبها منك لو سمحت.
تراجعت غير مصدقة حظها لتقف قبالته، وهي تتمالك ارتعاش أطرافها تقول له بتوتر وارتباك:
- بالتأكيد، تفضل سيدي.
أرخى ظهره على مسند كرسيه يخاطبها بروية وتمهل غريبين، وكأنه يعيد التفكير في ما سيطلبه منها:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


- أنا محرج منك في الحقيقة، لكن لا بأس سأجرب.
رغما عنه ابتسم حين تذكر حفاوة استقبال والدته له في صباح يومه، ومحاولاتها الفاشلة مجددًا لتجمع بينه وبين من تأبى الانصياع لقلبها، فطلبت منه العودة لمساعدتها على التجهيز لحفلة العقيقة في بيت عبد الحفيظ. التوت شفتاه سخرية لا تشبه البسمة قبلها بشيء، متفهما رغبة والدته التي لا تعرف أن الحجر الصوان هي ابنة أختها وليس هو.
- شقيقتي وضعت حملها أمس ولله الحمد، ووالدتي تحتاج مساعدة في التجهيز لحفل العقيقة، فهل بإمكانك مساعدتها؟
هتفت بفرحة عارمة أثارت في نفس أيوب الشفقة، وبعضا من الذنب رغم أنه يعرض عليها عملا وسيمنحها مقابلا ماليا، لكن أمل قلبه ينغص على ضميره راحة باله:
- بالطبع سيد أيوب، هذه ثقة كبيرة، وأتمنى أن أكون عند حسن ظنك وظن السيدة الوالدة.
غلبه ضميره فحذرها بحزم لكي لا يمنيها بأي شيء مهما كان صغيرا، ومهما ألحت عليه مآربه يرفض أن يجرحها، فما ذنبها سوى أنها تمنت مكانة لن تكون لها على الإطلاق!
- ستكونين بإذن الله، أمي إنسانة مرحة وطيبة القلب، وحين تعرف اسمك ستبحث لك عن لقب، فلا تغضبي من فضلك، إنها من عادتها المرحة لتتقرب من الغريب عنها.
تطلع إليها مترقبا رد فعلها الذي أفلح فعلا في إدهاشه، وهي تهتف من بين ضحكاتها المتوترة:
- لا تقلق سيد أيوب فأنا لدي لقب بالفعل، وسأخبرها به بدلا من اسمي
أومأ لها بملامح متبلدة بينما يضم شفتيه بتعجب ثم عاد إلى حاسوبه يهمس بتقريع لنفسه:
- يجب أن أحصل على مساعد رجل، وفي أقرب وقت بإذن الله.
- لم تسألني عن اللقب سيدي!
رفع رأسه وشعر برغبة في الضحك من تحفزها وحماسها، ثم رد عليها:
- آه، عفوا منك، ما هو لقبك؟!
أسبلت جفنيها حياء يناقض تصرفاتها الحمقاء لتحصل على اهتمامه، وهي تمسك بطرفي طرحتها بينما أيوب قد فر بنظراته بالفعل إلى ما كان يعمل عليه في الحاسوب مدعيا الانتظار، فلم يلمحها وهي تفتح فمها مرات عدة قبل أن تنجح بدفع صوتها عبر حلقها مرتبكا:
- توفي، اسمي لطيفة، ولقبي هو توفي.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


هتف بدهشة مصطنعة فتنهدت بحنق وتركت أذنه لتنصرف فتبعها، يكمل بمرح:
- ماما حبيبتي، يا قلب إسحاق، يا روح إسحاق.
عبس ما إن دخل المطبخ وأحمد يقابله بقطعة ثوب للتنشيف، يقول له ساخرا:
- جئت إلى قدرك برجليك، تفضل يا حبيب أمك لتساعدنا.
رمش مرات عدة وهمّ بالرفض لكنه تراجع مستسلما حين وقفت باسمة أمامه تقبله على خده، وتشير له ببسمة تطيح بقلبه دائما فينفذ لها رغباتها دون وعي منه:
- من فضلك عمي هلا ساعدتني؟
تبعها مستسلما فابتسمت بمكر لجدتها، وأحمد الذي قال لهم بمزاح قبل ان ينصرف:
- المطبخ سينفجر بالكثافة السكانية، أنا منسحب، السلام عليكم.
ضم إسحاق حاجبيه بينما يتناول طبقا من باسمة، ليعبس بعد أن قالت لهما والدته هي الأخرى بمكر قبل أن تغادر:
- أشعر بدوار، لقد كان يوما متعبا، عن اذنكما.
منح باسمة بسمة دافئة اختفت حين أشارت له بقلق، وانسحبت هي الثالثة:
- أمي تشغل بالي، سأذهب لأطمئن عليها، من فضلك عمي أكمل الباقي.
ضم شفتيه مفكرا للحظات قبل أن ينطق بحنق:
- لقد وقعت في الفخ.
***
(في وقت متأخر من الليل)
(مصحة الشفاء)
تكتم نحيبها في صدر والدتها غير قادرة على الصياح، الصراخ بما ينهش صدرها من أوجاع وحزن وهم ثقيل.
ما إن وعت من غيبوبة المخدر حتى عصفت بها آلام قلبها قبل آلام أطرافها، ولم تعر الطبيب الذي كان يفحص مؤشراتها الحيوية ويشرح لها ما قاموا به من عملية جراحية لاستئصال الزائدة الدودية ولا والدتها التي كانت تربت على كفها والدموع مدرار على وجنتيها اهتماما يذكر، حتى والدها المنزوي جوار شقيقها لم تبحث عنهما تخفي عينيها، وتحمي أحشاءها من طعنة جديدة ستتلقاها بالتأكيد لو نظرت إلى عيني الطبيب فتلمح اشمئزازا أو شفقة، لتكتفي بإغلاق جفنيها مبعدة نفسها عن العالم حتى شعرت بوالدتها تضمها فضمت نفسها داخل صدرها حيث مركز أمانها تطلق فيه العنان لبحور أوجاعها.
- يكفيك بكاء بنيتي، ما كنا لنراقبك على حالك وألمك، وألم فقدانك أعظم.
نطقت والدتها بحزن وهي تضمها إلى صدرها بقوة حيث تطمئن عليها ولو قليلا، فأتاها ردها قاتلا لهم جميعا:
- ليتني مت قبل أن يراني أحد على هذه الحال، ليتكم تركتموني أموت من ألمي.
ذرفت والدتها دموع القهر بصمت، وهي تزيد من ضمها إلى صدرها بقلة حيلة، فقال لها والدها بحزن شديد لا يملك من أمرهم شيئا، ينتظر الفرج؟!
- يا ابنتي كفي عن هذا، قلبي يتعذب عليك ومعك، لا تدعي على نفسك بالموت.
لم يستطع جهاد الكتمان أكثر، هو الذي قرر أن يخفي الموضوع عنهم إلى أن يتأكد ويرسل له البروفيسور اسم الطبيب المختص، لكن القهر فاض في قلبه بأوجاعه، ولم يعد قادرا على تحمل الهم والغم في ملامح وجوههم التي لم تعرف الفرح إلا قليلا، ليس وراية الأمل والفرج تلوح له بالأفق:
- أبي، هناك ما أريد أن أخبرك به.
نظر إليه والده، مستعيدا أفكاره عن سر صمت ابنه الذي لاحظه منذ عودته من اختفائه المفاجئ:
- تحدث بني، ما بك؟
توتر جهاد رافعا كفه ليمسح عن جبينه وعنقه حبات العرق، فاستطرد والده بقلق:
- ما بك يا جهاد؟! ما الذي يقلقك ويوترك لهذه الدرجة؟!
تنحنح وتقدم من وقفته البعيدة نسبيا قرب باب الغرفة، ليجلس على السرير جوار قدمي أخته التي رفعت رأسها عن صدر والدتها بفضول ألمّ بها حين سمعت سؤال والدها لشقيقها:
- حممم، ماذا لو أخبرتك أن لمصابنا أقصد نهال وأنا علاج؟
تبلدت قسماتهم دون استثناء، وساد الصمت للحظات قبل أن يضيف جهاد بحذر، وترقب:
- حلا شرعيا يا أبي، نحن من خوفنا وخجلنا اكتفينا بما أخبرك به صديقك، ولقد كان مخطئا، كان علينا سؤال عالم مختص في الشرع، وليس فقط ملتزم، لقد أخطأنا يا أبي، واستسلمنا للخوف والخجل، وبقينا على جهلنا، ونحن نؤمن بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.
امتلأت الغرفة بأصوات أنفاسهم اللاهثة، والجميع يتطلع إلى جهاد بترقب متلهف غاص بقلبه في بئر الخوف، فسألهم بتقطع:
- لماذا تنظرون إلي هكذا؟!
بلع والده ريقه واستفسر منه بذهول وقلبه يأبى التصديق:
- ماذا تقصد بحل شرعي؟ ومن أخبرك؟
فارق حافة السرير، وتوجه نحو الكرسيين حيث يجلس والده على أحدهما ليقرب الآخر منه وجلس عليه، وكله يقين بأن شقيقته ووالدته تراقبانه بتركيز ولهفة:
- طبيب بروفيسور في علم النفس أخبرني، وطلب مني التأكد من عالم دين ثقة، من في مثل حالتنا أنا وشقيقتي له اسم في الشرع وتعريف، وأيضا علاجه مطلوب وله أهمية كبيرة، لكنني لن أخبرك به حتى تسمعه من فم مفتي شرعي ثقة، وسأعطيك الخلاصة، هناك أطباء مختصين يستطيعون إزالة الزائد في حالتي أنا، والزائد في حالة نهال، وهو حل حلال في حالتنا يا أبي وليس كما ظننا تغييرا لخلق الله.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


فغر والده شفتيه بذهول ساهم فأثار شفقة ابنه الذي أمسك بكفيه يرجوه بحزن:
- لا يهمني نفسي يا أبي لكنني سأفعل المستحيل من أجل نهال، لن أتحمل رؤية عذابها بعد اليوم، يجب أن تحرر من عذابها، فهي ليست مسؤولة عن ما أصابها والله يا أبي لا يحاسب نفسا على أمر خلقه به، ولك أن تتأكد من عالم شرع، فأنت من ربيتني وتعلم بأنني لن أعصي ربي حتى لو كان من أجل نفسي أو من أجل شقيقتي.
أومأ له بتفهم، وبشكل غريب شعر بخلايا صدره تتفتح وتستقبل الهواء برحابة وسرور خفي، فهو واثق من ابنه، ولم يكن ليكذب عليه في أمر عظيم كذاك.
نظر إلى ابنته ولمح الدموع متجمدة على خدودها، وهي تنظر إليهما بعينين اتسعتا ذهولا و.... ترقبا، كترقب زوجته التي يجزم بأنها مثله ترفض باستماته تقبل أي أمل زائف قد يدمر ما تبقى من صبرهما وقوة تحملهما، وفي نفس الوقت قلبيهما يهفوان إلى الفرج.
بلل شفتيه وهو يحرك عويناته بتفكير عميق، حتى أن كفه الأخرى رفعها ليمسد على رأسه للحظات حلت عليهم فيها غمامة الصمت برهبتها لينظر أخيرا إلى ابنه، يقول له بحزم:
- غدا بإذن الله سنقصد مركز المجلس العلمي الشرعي، ونعرض مسألتنا عليهم وإن كان الحل الطبي حلال، سأبيع كل ما أملكه من أجلكما.
ابتسم جهاد بحنو، ووالدته تتدخل قائلة بلهفة مثيرة للشفقة:
- وأنا سأبيع ما ادخرته من الذهب، والله لن يخيبنا.
التفتت إلى ابنتها تقبلها على خدها وداخلها كله يرجف فرحا، وخوفا تخبرها بينما تنظر في عينيها اللامعتين ببراءة وطيبة نادرة:
- الله كريم يا ابنتي، الله كريم، يا رب، يا رب.
***
(قبل الفجر بساعتين)
(غرفة صبر)

زفرت بحدة وهي تنتفض لتجلس أخيرا بعد عذاب طويل من التلفت على جانبيها، عقلها لا يرحمها، وكأن الأمر يتحول إلى وسواس بائس، تكاد تجن من أفكارها حتى بدأت تنسيها أذكارها. استغفرت بخفوت والتفتت تتفقد الساعة قبل أن تدفع برجليها على الأرض وهي تطلق شعرها من عقاله، ودست أصابعها بين خصلاتها مسدلة جفنيها تتنهد كل حين بين الدوائر الوهمية التي تشكلها فوق فروة شعرها، لتتوقف فجأة وهي تفتح عينيها في نفس اللحظة التي لملمته فيها ببعض من القسوة وسحبت طرحتها لتغطيه وتقوم من مكانها متوجهة نحو المطبخ.
صبت لنفسها كوب ماء وجلست إلى طاولة المطبخ ثم سمت الله قبل أن ترتشف منه بروية، وهي تشعر بحركة ما عرفت صاحبها الذي سألها بقلق:
- ما بك أمي؟
ربت على كتفها فربتت على ظهر كفه بينما ترد عليه بخفوت واهن:
- أنا بخير بني، يمكنك العودة للنوم أم أنك قمت للصلاة؟!
جلس قربها ليجيبها بهدوء متفحص، وهي تضع الكأس بنصف محتواه أمامها:
- أيقظتني حاجتي إلى الحمام، ولاحظت بأن الوقت يقترب من موعد الفجر لذا توضأت وجئت هنا لأشرب بعض الماء، ما بك يا أمي؟ سهوك البارحة لم يعجبني بل وضعك مؤخرا أصبح يؤرقني.
ضيقت مقلتيها ترمقه بنظرة عابسة فأشار لوجهها مضيفا:
- هذا قصدي، لم أتعود عليك عابسة والبسمة دوما تزين وجهك حتى لو بدت بلا معنى.
توهجت نظراتها بذكرى بعيدة، فقالت له ببعض من الحزم قليلا ما تواجهه به:
- إذن توقف عما تفعله.
لم يتفاجأ بل ضيق مقلتيه هو الآخر، وكم كان شبيها بها حين طالبها بتعبير مبهم:
- أتوقف عن ماذا بالضبط يا أمي؟
زمت شفتيها، وحاصرت عينيه السوداوين بخاصتها البنية للحظة قبل أن تزفر، وهي تطرق برأسها هامسة بتعب:
- تعبت يا أحمد، تعبت!
أدرك أحمد بأنه لا يساعدها ففارق مكانه، وقبل رأسها هامسا لها بحنو قبل أن يعود إلى غرفته:
- ارتاحي والدتي، الدنيا أبسط من كل التعقيدات التي ننسجها حولنا، كما تنسج العنكبوت خيطا وهميا لتصطاد به ضحاياها، صلي للحنان المنان، وارتاحي، ولا تفكري كثيرا.
شعرت بسكينة لحظية طارت أدراج الرياح حين صدح في المطبخ آخر صوت توقعت سماعه في تلك اللحظة:
- ما الذي يتعبك يا ترى؟ فأنا لم أسمعك يوما تشتكين من التعب أو من أي شيء آخر؟!
تقدم نحوها فرفعت رأسها مندهشة، لتجده قبالتها ببدلة رياضية مفتوحة السترة الكاشفة عن كنزة سوداء بطوق مستدير ثم وضع يده على مسند الكرسي قبالتها، يكمل ساخرا:
- حين كان آدم حيا على الأقل.
علا العبوس ملامحها التعبة مجددًا لتكمل البسمة المتهكمة انبساطها على ثغره وهو يتابع:
- ولم يكن لذاك العبوس وجود على وجهك أيضا! يبدو أنك بالفعل كنت سعيدة حينها، وما كنا نعتقده بشأنك خاطئا.
استنشقت الهواء بصخب وهي تقبض على كفيها في حجرها، محافظة على صمتها وهو يسترسل يستفزها بتعمد:
- لكنك لا تُلامين، فقد حرصت على إقناعنا بمدى سعادتك في زواجك إلى درجة أنك عدت إليه بعد أن قررت الانفصال عنه وبعد كل ما فعله بباسمة.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


نهضت تهم بالذهاب لكنه حال بينها وبين الباب، ليكمل بغضب تمكن منه:
- هل تعرفين كم احترمتك حينها؟!
احتد تنفسها وهو يكمل بأنفاس تتعالى مع وتيرتها، يقفان قبالة بعضهما لا يفصل بينهما سوى مسافة لا تكفي! لا تكفي أحدا منهما ليتمالك غضبه أو يتراجع أو حتى يتقدم!
- رغم قرارك بعدم الانفصال قانونيا، إلا أنني احترمت اتخاذك لموقف حقيقي بعد كل ما تنازلت عنه من أجله، وأنت توهمين نفسك بأنك تتنازلين من أجل أحمد وباسمة.
تحدثت أخيرا تسأله بجفاء:
- ما الذي أحضرك هذه الليلة يا أيوب؟ ليس من عادتك.
اهتز بدنه وهو يسألها بدوره متأهبا فعادت خطوة إلى الخلف، وقلبها في سباق مميت تخشى ما تراه في عينيه، عيناه ملحمة أسطورية تحكي قصصها بسحر فاح عبيره، ولم يعد يستتر كما اعتاد أن يفعل:
- هل تريدين فعلا معرفة السبب الذي أحضرني إلى هنا؟ في هذه الساعة من الليل؟! ها؟! إلى متى ستدّعين الجهل؟! الى متى سنلعب هذه اللعبة السخيفة؟!
- أنا لا ألعب ولا ألهو، وأنت تعرف ذلك.
نطقت بجدية فرد عليها بتحفز:
- أجل، أنت لا تلعبين أنت فقط تصمتين، وتموهين، وتكتمين ثم تلقين بألغاز تحير العقول وتحرم العيون من النوم، هذا ما تفعلينه يا ابنة الخالة!
تنفست بعمق وهي تضم ذراعيها إلى صدرها بينما هو يسترسل بغضب بين طياته الكثير والكثير من الحيرة والترقب:
- لطالما تجاهلت وتناسيت، وأرغمت نفسي على النوم في شقتي الباردة وحيدا أحرم نفسي من دفء عائلتي لكن احزري ماذا؟ هذه الليلة لم أستطع، لم أستطع وكل تلك الأسئلة تحوم داخل عقلي، تدور وتدور ورأسي يدور معها لأصل لنتيجة واحدة وهي؛ أريد أجوبة، لذا حملت نفسي وعدت، ويبدو أن النار التي أشعلت جذوتها اليوم لسعتك أيضا.
ثم أشار إليها مضيفا بتهكم:
- إلا.. لماذا أنت تعبة وفي هذه الساعة من الليل؟
مسدت على جبينها تقول له بوجوم:
- هل سنعود للشجار مجددًا؟! نعود لنجرح بعضنا من جديد! هل هذا ما تبحث عنه؟!
اهتز مرة أخرى، وكأنه يهم بإمساكها من ذراعيها كي يهزها بشدة علها تخرج عن برودها:
- أنتِ من جرحت وليس أنا!
- أنتَ من بدأت لا أنا!
ردت عليه ومقلتاها تتوهجان بحسرة دفينة ليلحق قلبه بسباقها المميت، فيبلع ريقه ناطقا بانفعال:
- لماذا عدتِ إليه؟
- ولقد أخبرتك حينها، لا يجوز أن تسأل ذاك السؤال.
ردت عليه بغضب بدأ يختلج به صدرها من غبائه فاستطرد باستفزاز:
- إذن لنعد إلى الخلف، لماذا تزوجت به؟
- ولماذا لا أفعل؟!
ردت عليه بتحد فتقافزت نبضاته بجنون يستدرك:
- وهل كنت تحبينه يا صبر؟!
تكومت ملامحها تؤنبه بحنق:
- عدنا للأسئلة الغبية، لقد كان زوجي، افهم!
وكأنه كان سيقول شيئا ما، لكنه تراجع عن تحفزه يفكر ثم سألها:
- ماذا قصدت اليوم في المصحة؟!
جعدت جبينها بتفكير ثم سألته بحيرة:
- ماذا تقصد؟ فما قيل كان كثيرا.
هز رأسه باستنكار يجيبها:
- بل كان جدا قليل، فلطالما كنت بخيلة في ما يخصني، ومع ذلك سأقوم بإنعاش ذاكرتك *ليس كل شخص يملك رفاهية الرغبات ولا قوة المحاربة، ولا مجال أمامه للتجارب، بل هو خيار واحد لا غير!*
بللت شفتيها الجافتين، وتهربت منه بعينيها فاقترب منها دون وعي باحثا عنهما وفيهما عن جواب شافي لجروحه:
- لقد فكرت كثيرا، ولم أجد تفسيرا واحدا يقنعني، لكن حين تذكرت قولك بعدها بأنك كرهته رغم كل شيء احترت وارتبت، ماذا كرهت يا صبر؟! خلصيني من حيرتي من فضلك، أكاد أفقد عقلي ولا أستطيع النوم.

هتفت بغضب صدمه:
- وهل نمت أنا وارتحت؟! يا إلهي! ارحمني يا أيوب أنت تكلفني فوق طاقتي.
- لماذا؟! أنا أريد أن أفهم فقط، أظن بأن ذلك من حقي.
تجاوز صدمته من انفجارها وأبى التراجع، فردت عليه بكمد:
- عن أي حق تتحدث؟ لماذا تمنح نفسك ما ليس لك؟
شد على شفتيه بغضب عاد ليكتنفه ثم أفضى لها بغيظ:
- بل من حقي الكثير يا صبر، من حقي معرفة سبب قبولك الزواج من آدم، ومن حقي معرفة سبب صبرك كل تلك السنوات من العذاب، وإياك...
تلكأ يحذرها بجدية:
- إياك والنكران، فقد عشت معه عذابا أليما، ومن حقي معرفة سبب عودتك إليه.
تهز رأسها برفض، وهو يسترسل حتى نطق بحرقة ما صعقها وجمدها مكانها صدمة وذهولا:
- بلى، كل ذلك من حقي، بل أنتِ كلك من حقي، حقي يا صبر!
فغرت شفتيها ببلاهة لم تُطل، ترد عليه بعدم تصديق:
- من منحك تلك الحقوق؟!
تشنج بألم مستنكرا سؤالها:
- حقا تسألين؟!
ما تزال تهز رأسها مستنكرة، والدموع تتلألأ داخل مقلتيها بينما تطلق سراح ذراعيها إلى جانبيها:
- تظن بأن لك الحق فقط في السؤال بينما في الحقيقة أنا من يجب عليها أن تسألك.
بسط كفيه نحوها يقول لها باستسلام غريب عليه، وقسمات وجهه ترخي أعصابها المشدودة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


- تفضلي يا صبر، ارحميني واسأليني.
زفرت بحرارة، وتلفتت حولها تفكر في مخرج لورطتها قبل أن تعود إليه باستفسار واحد لا غير:
- لماذا أنت أحمق يا أيوب؟
تبلدت ملامحه فابتسمت رغما عنها بينما تكمل بحزن:
- حين تربط نفسك بالماضي فأنت أحمق، وحين تنتظر سرابا تعلم بأنه لن يتحقق فأنت أحمق، وحين تسأل أسئلة لن تجد لها ردا فأنت بالتأكيد أحمق، فلماذا أنت أحمق يا أيوب؟!
لاذ بالصمت للحظات وهو يحدق بعينيها فقط، وارتعشت حنايا قلبه لمجرد مرور الخاطرة عبر عقله لترتعد الكلمات على لسانه، وهو يتفوه بها في غفلة من ذاك العقل المتعب:
- لأنني أحبك يا صبر.
شهقت بهلع لا يناسب الموقف، ولا الاعتراف بالحب الذي تلقته على حين غرة وفجأة من كليهما، وهو يسترسل بشجن:
- ولأنني أحمق معتوه، تأخرت بإخبارك كل عمري، أنا أحمق لأن قلبي يأبى النسيان يا صبر!
ازدردت ريقها وضمت نفسها تتنفس بسرعة أرهقتها مع نبضاتها الثائرة باستهجان لسلبيتها ولما نطقت به حينها:
- أنت بالفعل أحمق، تهدر حياتك ونبضاتك من أجل قلب مستنزف يعود لجسد تعب ووهن.
هز كتفيه بقلة حيلة يعترف، وهو يرمقها بحزن:
- حاولت، أقسم لك أنا حاولت لكن عبثا لم أستطع نسيانك والأمل منعدم فنحرت قلبي وفرضت على عقلي أسوارا قاسية من حديد، فكيف أفعل ذلك الآن؟! فقط علميني كيف أنساك؟!
توترت حين شعرت بطعنة استنكرتها من كلماته، فقالت له بجفاء حل عليها قسرا:
- يمكنك الزواج أيوب، صدقني ستنسى كل شيء، ودع الماضي يمضي إلى حال سبيله.
احتقنت ملامحه غضبا من جديد فضم قبضتيه كي لا يفتك بها، قائلا لها بغيظ:
- ألم يهمك اعترافي قبل قليل؟ ألم يحرك فيك شيئا؟ ألا يستحق قلبي الأحمق أن تحاربي من أجله كما فعلت من أجل من لم يستحقك؟!
زفرت تهتف بنفاد صبر:
- لا تذكره يا أيوب، لا تخض في سيرته، لقد مات! مات!
لوحت بيديها بقهر، فنطق من بين نواجذه:
- أنت واهمة، قد يكون حقا مات بجسده لكنه حي، حي بيننا، هل تعلمين لماذا؟!
بلعت ريقها مرة أخرى ترمقه بترقب وقلبها يبلغ عنان السماء بدقاته، وهو يرميها بنظرات حارقة:
- لأن الماضي كله مرتبط به، وأنا كما سبق وأكدتِ لا أستطيع نسيان الماضي، والحل بين يديك لكي تحرري كلينا، حررينا يا صبر!
لاهثة بجنون وقلبه في نفس الجنون غارق:
- ومن يدري قد تحررين نفسك أيضا، وأنساك بعد كل شيء، وأتزوج.
نطقها بتهكم مرير هز أحشاءها فتنهدت بسخط، وهي تختفي من أمامه كصاروخ انطلق بأقصى سرعته، ووقف هو بجمود تلاه زفرة طويلة كأنه خرج من سباق طويل مرهق لقلبه، وعقله مؤجلا محاسبة نفسه على أخطائه في حق الوحيدة التي ما تزال لها سطوة على أعصابه ولا يثير نيرانها سواها.
تحرك خطوات نحو الطاولة ليمد يده ويتناول الكأس فيتلكأ عند حافته يشمه مديرا إياه بتمهل حتى وجد ضالته ثم حط بشفتيه هناك حيث يعلم أو يشعر بآثارها، فارتشف منه مغمضا عينيه بوله إلى آخر قطرة، وحين انتهى رفع الكأس يتأمله بغموض، هامسا لنفسه بتصميم:
- ستأتين إلي يا صبر، بإذن الله سيحدث، وحينها سأستغل الفرصة إلى آخر قطرة.
***
(قبل ذلك بساعات)
(البلد الغربي)
سكنت على صدره، تصغي لرتابة دقاته التي هدأت عن عاصفتها السابقة بينما كفها تتشبث بذراعه كأنها تخشى فراقا حتميا، والصمت يلفهما بسلاسة مغيظة:
- مهذب؟!
نادته بخفوت فرد عليها بفتور:
- هممم؟!
لم تتحرك عن وضعها تستدرك بنفس الخفوت:
- هل أنت غاضب مني؟!
- ماذا ترين؟!
سألها بوجوم غمره فردت عليه بصدق:
- أنت غاضب مني.
سكت ولم يرد عليها، فرفعت رأسها لتنظر إليه لتكتشف بأنه كان في انتظارها، رغما عنها عادت إلى الوراء في رحلة سريعة عبر مقلتيه الساهمتين في ملامحها بعشق متفرد تعلم أنه لها، عشق كان السبب في انتظاره لها لثلاث سنوات، وهو يحاول استمالة قلبها وكم كان صعبا عليه بكل تحفظه والتزامه، لكن عشقه الصادق أبى إلا أن يحقن دقاتها بنغمة كانت من تأليفه المهذب فرضخت واستسلمت، وفي النهاية أدركت أنها لم تكن مستعدة بعد.
- أنت تعلم كل شيء، لم أخفي عنك أي شيء.
نطقت بحزن فلمس خدها بظهر أصابعه بينما يجيبها بقنوط:
- ولأنني أعلم عنك كل شيء، أخبرك بأنك تضعين سدا بيننا، ولا تحاولين بما يكفي وكما أحاول أنا.
زمت شفتيها، وأرخت جفنيها فأضاف معاتبا:
- وها أنت تهربين من جديد.
حدقت به فابتسم بحزن، وهو يطوقها ليقربها منه:
- أنت تحبسين نفسك خلف أسوار سجن وهمي، والأدهى أنك تمقتين ذاك السجن، ولا أعلم لماذا تفعلين ذلك بنفسك وبي؟ أراك تسيرين عكس مآربك، ولا أدري كيف أصحح مسارك دون أن يثير ذلك حنقك، فنتشاجر، وأنا أكره حين نتشاجر.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


- يا إلهي لا أصدق ما أسمعه! لماذا لم ينصح والدك بوأدكما حيين؟! لكي يتخلص منكما ومن بلائكما بشكل أسرع!
عبس جهاد بريبة والبروفيسور يحاول جاهدا ليتمالك ضحكه ثم استطرد بتهكم:
- بالله عليك يا خريج الجامعة، هل تؤمن بأن الله يخلق إنسانا على هيئة ما ليس له يدا فيها ثم يحرمه من حقوقه في الحياة الكريمة؟! أستغفر الله العظيم.
استغفر جهاد ثم رد عليه باندفاع:
- طبعا لا.
جعد البروفيسور ذقنه يستفسر منه بملل:
- إذن ماذا؟!
هز جهاد كتفيه بصمت فحاول استدراجه:
- أنت بحثت بالفعل، فماذا وجدت ولماذا سكت؟
بلل شفتيه ثم بلع ريقه ليجيبه بعد صمت دام للحظات:
- الحل لا يقبله الشرع، إنه تغيير لخلق الله.
اندهش البروفيسور وهو يهتف بذهول:
- من قال ذلك؟
فرد عليه بوجوم وكتفاه يتهدلان حزنا:
- جميع تلك العمليات حرام، وتغيير لخلق الله.
التوت شفتا البروفيسور معقبا بسخرية:
- إذن أنت لم تفهم شيئا، وهذا أيضا نوع من الجهل، لو كنت قصدت طبيبا مختصا لشرح لك الوضع كما هو حتى تفهمه جيدا، ولو كنت قصدت عالما فقيها لكان شرح لك الحكم الخاص بمصابك يا جهاد.
احتبست أنفاسه في صدره، والبروفيسور يكمل بإشفاق:
- كانا ليخبراك بأن مصابك ليس نفسيا إنما عضويا، والفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض، الانحراف النفسي الذي تخشاه هو حين يكون الإنسان مخلوق بآلة أنوثة كاملة أو بآلة ذكورة كاملة ثم ولأي سبب من الأسباب الدخيلة أثناء تكوين شخصيته يتأثر نفسيا فتنحرف ميوله الجنسية عكس ما تقتضيه فطرته التي خلقه الله عليها ليصبح شاذا أو مثليا، وبدلا من أن يبحث عن علاج نفسي يستسلم لمرضه ويطالب بتحويله إلى عكس ما خُلق عليه، وهذا حرام باتفاق العلماء، والشرع يعتبره جرما فظيعا وتغييرا لخلق الله، والآيات الكريمة في القرآن واضحة كوضوح الشمس مهما حاول البعض تحريف معناها لكنهم لم ولن يفلحوا في ذلك لأنه ضد الفطرة، والشذوذ ليس جينا يولد به الإنسان كما ادعى مساندي المثلية الجنسية بل هي نظرية ثبت خطأها بشكل كامل وقاطع، واعترف أبرز العلماء في المجال الذين وضعوا النظرية للدراسة أن ليس هناك جينا للشذوذ، والنظرية خاطئة.
تنفس البروفيسور ليكمل بجدية:
- بحث صغير في المجال ويتعرف المرء على كل ما قام به المساندون للشذوذ من حملات وهمية كي يثبتوا أحقيتهم في العيش بعللهم النفسية، ولكي يتنصلوا من العقاب المنصوص عليه من الديانات السماوية، ليس فقط الإسلام، وقد أفلحوا بالفعل في الدول الرأسمالية التي يُسيرها المال والتمويلات تحت قناع الديمقراطية، والحريات مما اضطر الكثير من المنظمات الصحية الأمريكية خاصة إلى إزالة الشذوذ الجنسي من لائحة الأمراض النفسية رغم أنوف أغلب الأطباء النفسيين والعلماء الباحثين المستنكرين للأمر إلى يومنا هذا، وبعض هؤلاء الأطباء نجحوا بالفعل في معالجة المرضى بالشذوذ وتعافوا منه، لكنهم توقفوا بعدما تم الضغط عليهم وتهديدهم.
ربت على ركبته يكمل بلطف وجهاد يسمعه بتمعن:
- حين يولد الإنسان رجلا بالكامل أو أنثى بالكامل فلا حجة يملكها لتبرير انحرافه عن الفطرة، ويجب عليه البحث عن علاج له حتى يجده كي يعود إلى فطرته التي فطره الله عليها، أما ما يخصك أنت وشقيقتك فهو حالة من إثبات قدرة الله في خلقه لما يشاء، وليس عيبا خلقيا كما يلقبه البعض، فالله سبحانه لا يخلق عيبا بل هو إثبات للناس على قدرة الله في خلق ما يشاء ثم لولا خلقه لنواقض الأمور لما عُرفت فائدتها، مثلا لو لم يخلق إنسانا مُقعدا لما عُرفت فائدة المشي، ولولم يخلق إنسانا أعمى لما عُرفت فائدة البصر، ولا فضل لواحد على الآخر، الجميع ممتحنون.
ابتسم له بحزن يضيف:
- نحن نصدق بأن الغنى والصحة نِعم، وأن الفقر والمرض نقم في حين أن الحقيقة هي كل من خلق الله من بشر ممتحن في أي وضع خلقه عليه، ممتحن في جماله وفي قبحه وفي غناه وفي فقره، وفي صحته وفي مرضه وفي أولاده وفي عقمه، وقد يفلح الفقير في اجتياز امتحان فقره ويخسر الغني، وقد يفلح المريض في امتحان مرضه ويخسر الصحيح، والعكس أيضا صحيح، عطايا الله للعبد لا تعني حبه أو بغضه له بل هو امتحان في كل تقلباته، فإما رضا عن قدر الله وحمده ففلاح بفضل الله أو سخط عن قدر الله فخسران، والسخط على قدر الله لا يتعلق فقط بما نعتبره نحن نقم، فالبخل عند الغنى والامتناع عن دفع الزكاة والصدقات سخط على قدر الله، والكسل عند الصحة عن الطاعات واستغلال الصحة في ما يرضي الله سخط على أقداره.
صمت قليلا كي يرى تجاوب جهاد الذي ظهر عليه التأمل، ومتابعة الحديث حتى صمت فأخبره بصدق:
- ونحن لم نعترض على قدر الله، واستسلمنا له، والحمد لله.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


- أعطني رقمك، لأرسل لك اسم طبيب جيد في العاصمة، وطبعا سأنتظر منك زيارة هناك بإذن الله.
غامت نظرات جهاد، وهو يملي عليه الرقم ليقول له بعدها:
- سأفعل المستحيل لأجمع المال لشقيقتي، هي الأهم عندي لكي تتحرر من سجنها.
هز رأسه وهو يجيبه، وباب المصعد يفتح في وجهيهما يقابلهما رواق الطابق حيث الغرفتين التابعتين لهما:
- بل كلاكما مهمان، وأنت أيضا يجب عليك المبادرة إلى تحسين حياتك.
- مختار! أين كنت؟!
جفل البروفيسور على هتاف صباح، والصغيرة تعدو نحوه لتمسك بذراعه الحرة:
- صغيرتي، ماذا قال الطبيب؟!
سبقتها والدتها تخبره بتأنيب، وجهاد محرج يراقب بصمت:
- لقد جاء الطبيب الذي ذهبت لاستعجاله بالمناسبة.
- من فضلك ماما!
تدخلت الصغيرة بنبرة رقيقة مستدركة، وهي تلتفت إلى والدها بنظرات مشاكسة تلمع بحب وتعلق:
- إنها مجرد غازات، ليسوا فاشلين في النهاية.
فغرت صباح شفتيها بعدم تصديق، فنظر البروفيسور إلى جهاد المبتسم بمرح ثم عاد إلى ابنته التي غمزته بنفس طريقته تهمس له بخفوت:
- إنها خدمة مقابل أن تخبرني عن الحالة التي شغلتك عني.
ضحك والدها قائلا لها بنفس الخفوت:
- سأفعل بالطبع.
- مختار!
هتفت صباح فنظر إليها ببلادة يبلع ريقه مُهمهما بتوتر أضحك جهاد:
- مممم!
عبست بينما تخطو نحوه لتسحب ابنتها، مضيفة بعبوس حانق:
- حين تنتهي من فضولك ستجدني في السيارة.
شيعها بنظرات متمعنة قبل أن يستدير نحو جهاد الذي بادر باعتذار وامتنان:
- أعتذر إليك بروفيسور، أنا....
رفع كفه ليسكته ثم بسطها أمامه قائلا بلطف:
- لا تنس ما أخبرتك به، اعتني بنفسك وبشقيقتك إنها تحتاج إليك وإلى عائلتها كثيرا، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
***
(مساء)
(منزل نوح آل عيسى)
منحت رحمة نظرة ممتعضة لإسحاق الذي كان يمازحها بالقول:
- لا أصدق بأنك تركتِ مدللتك في المستشفى الليلة دون أن تقضيها معها، من سيشاركها السهر؟ لقد تورط عبد الحفيظ المسكين وانتهى الأمر.
شاركه أحمد وباسمة الضحك بهدوء، ووالده يبتسم بخفة بينما صبر ساهمة:
- لا تتحدث عن أختك هكذا، وعبد الحفيظ محظوظ بها.
- من يسمعك الآن يا ماما لا يصدقك وأنت تؤنبينها كل لحظة كطفلة صغيرة.
أجابها إسحاق وهو يتلاعب بحاجبيه، فعبست لتتدخل باسمة وهي تشير بكفيها الصغيرتين:
- أنت لا تفهم عمي، إنه حزم تربوي.
ابتسمت جدتها، وإسحاق يعقب بينما يقبل خدها بحب:
- من هو أكثر منك ذكاء وجمالا؟!
تحدث نوح قاصدا أحمد ووالدته ما تزال في سهوها هائمة:
- كيف يسمحون لكم باللعب في ساحة المؤسسة وأنتم في عطلة؟
ترك أحمد الملعقة ونظر إلى جده ليجيبه:
- اقترب دوري الثانويات لمباريات كرة السلة يا جدي، وأستاذ الرياضة اتصل بنا وجمعنا لكي نتدرب.
هز جده رأسه بتفهم فقال له إسحاق بتحذير:
- لم يتبق الكثير على العودة إلى المدارس، وأنت في السنة ما قبل الأخيرة، ونصف النقطة النهائية، ويجب عليك التركيز.
أسدل جفنيه بتفهم ليلتفتا كلاهما نحو رحمة التي هتفت للمرة الثانية:
- صبر يا ابنتي.
جفلت المعنية من سهوها فاستدركت خالتها بقلق:
- ما بك يا ابنتي ساهمة هكذا، ولم تأكلي شيئا؟!
شملت وجوههم المهتمة بنظرة متوترة ثم قالت لهم بخجل، وهي تنهض من مكانها:
- لست جائعة، يبدو أنني تعبت وسأخلد للنوم.
كانت على وشك لملمة الأواني حين أمسكت باسمة بيدها تشير لها باهتمام:
- سأوضب الطاولة والمطبخ، اذهبي لترتاحي.
رمقتها بحنو، وامتنان فأضافت خالتها بنفس القلق:
- اذهبي وارتاحي يا ابنتي، سأساعد باسمة.
أومأت بتعب ثم التفتت إلى أحمد توصيه قبل أن تنصرف:
- ساعدهما يا أحمد حتى إن لم يكن اليوم دورك في الترتيب.
رمقها بتفهم وهو يتفحصها حين خاطبته جدته بحنو:
- اذهب أنت أيضا يا ولدي، سنقوم بالواجب أنا وباسمة.
كان نوح قد غادر المائدة هو الآخر، وإسحاق يعقب بمزاح:
- يمكنك التنصل من أوامر والدتك، فقد أتاك الفرج.
أومأ له أحمد بيأس، وهو يحمل الأطباق قائلا بلطف لجدته قبل أن يبتعد نحو المطبخ:
- شكرا لك جدتي، أنا لا أفعل ذلك من أجل أمي بل لأنه من واجبي.
توجه نحو المطبخ فقال إسحاق لوالدته مازحا:
- هذا الولد حجرة ألماس يجب أن تقرئي عليه القرآن كل يوم يا ماما كما تفعلين معي.
تخصرت والدته ترد عليه بتهكم جعله يقف ويقترب منها ليقبل كفها:
- اعتبر منه على الأقل!
- ما بك يا ماما؟ هل ستبدئين بمعاملتي مثل سولي؟! ماذا قالت باسمة؟
تلكأ مدعيا التفكير ثم تابع بمرح:
- حزم تربوي!
أمسكت بأذنه تجيبه بنفس التهكم:
- طبعا سأفعل، بما أنك أصبحت وقحا كما لم تكن من قبل.
- ماذا! وقح؟! أنا!؟

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

20 Oct, 19:06


رقت مقلتا البروفيسور، وهو يقول له بحنو:
- الحمد لله لكن مصابك لديه بالفعل دواء، والله أمرنا بالتداوي وبتحسين حياتنا، وأشاد بالعلم ووجوب السعي لتحصيله، فنهانا عن الكسل بل إن من أوجه الرضا بقدره أن نسعى لتحسين أوضاعنا بما فيه طاعة لله وحسن خلافته على الأرض، كتعليم الأصم والأبكم والأعمى بعد السعي أولا إلى العلاج إذا وُجِد، وإن لم يوجد نعلمه كيف يعيش كريما ويعيل نفسه، وهكذا دواليك حسب حالة كل وضع، والحل في حالتك واجب شرعي، وقد كانت هناك فتوى قبل أن يصل العلم بفضل الله إلى حله جراحيا، وهناك فتوى بعد وجود الحل النهائي بالطب الحديث.
شملت البسمة الحانية كامل ملامحه حين لمح انبثاق الأمل وسط كآبة قسماته فاسترسل مبشرا إياه:
- الحل في حالتك واجب شرعي لأن تحديد نوعك أنثى أو ذكرا، سيترتب عليه مجموعة من الأحكام الشرعية فترتاح أنت ويرتاح الفقيه المفتي ويرتاح من حولك في التعامل معك، لذلك وجب عليك البحث عن حل قاطع ومريح لكل الأطراف.
ربت البروفيسور على كتفه، وترك كفه هناك كتواصل لطيف معه، ليشعره بأنه غير مشمئز منه كما اعتاد تخيله عن كل من يعرف بحاله:
- كما خلق الله أنثى بآلة أنثوية كاملة، وخلق ذكرا بآلة ذكورية كاملة خلق ذكرا في الأصل لكن بآلتي الذكورة والأنوثة، وخلق أنثى في الأصل بآلتي الأنوثة والذكورة، وهي حالة قليلة لكن موجودة، وهذه الحالة تنقسم إلى نوعين، نوع غير حقيقي وأظن بأنها حالتك لأن سمات الذكورة ظاهرة عليك، وأتوقع بأنك كنت تستعمل آلة الذكورة منذ صغرك في الحمام أليس كذلك؟
مسد جهاد خلف رأسه بحرج يتنحنح ثم أومأ له إيجابا، ليستطرد البروفيسور:
- وشقيقتك تظهر عليها سمات الأنوثة، وتستعمل...
رفع جهاد كفه مقاطعا بفزع:
- لا أعلم! أقصد، يعني هي ... لا أعلم!
عض البروفيسور شفته السفلى ليكتم بسمته الماكرة ثم سأله متمعنا بإحراجه ليخرجه من وجوم الموقف ككل:
- ماذا تقصد بلا تعرف؟! إنها أختك ألم تلاحظ عليها معالم الأنوثة كال....
بتر عبارته حين أمسك جهاد برسغه يهتف بجزع وتوسل:
- أنت محق، تملك هيئة الفتيات ولديها تلك العادة التي تخصهن، ارحمني يا بروفيسور!
ضحك مجددًا ثم ربت على كفه الممسكة برسغه:
- حسنا، لا بأس! هذا له أسماء عدة، خنثى كاذبة أو غير حقيقي، أو غير مشكل في الشرع، أما الحقيقي أو الخنثى المشكل فهو الذي يصعب تحديد نوعه كأن يستخدم آلتي الأنوثة والذكورة معا، لكن الطب الحديث أيضا وجد له حلا بفضل الله، بتحديد نسب الهرمونات الغالبة وغيرها من الأمور الطبية المعقدة، والحل في كلا الحالتين هو جراحة لإزالة ما هو زائد، في حالتك كل ما عليك فعله هو قصد طبيب مختص وهو سيشرح لك ماذا ستفعل والفريق الطبي الذي سيتعاون في الجراحة كي تزال آلة الأنوثة الضامرة من جسمك، وكذلك إزالة آلة الذكورة الضامرة من جسد شقيقتك ولله الحمد.
فغر جهاد فمه للحظات غير مستوعب ليشير له البروفيسور بريبة:
- جهاد ما بك؟ ألم تفهمني بعد؟! هل يجب أن أعيد الشرح، يمكنك قصد عالم شرعي قبل أن تقصد طبيبا، وسيشرح لك الأمر بشكل واف، وبدقة، ما أخبرتك به مجرد خلاصة ...آآآه ....يا رجل تمهل!
هتف البروفيسور ما إن انقض عليه جهاد يضمه بحرارة ليستسلم الأول وهو يمط شفتيه مفكرا بحنق، ساخطا على قلبه الذي أصبح هشا كما يظن أنه لم يكن قبل حظوته بصغيرته. شعر باهتزاز جسده فقطب البروفيسور جبينه بريبة قبل أن يدفع جهاد بخفة ليتفقده، ويهتف بحيرة:
- ما بك يا رجل؟! لماذا تبكي؟!
أطرق برأسه ليمسح دموعه غير مصدق لما سمعه للتو،
أن تكتشف النفس بأن باب الفرج فتح في وجهها!
أن تشعر بأن الحياة تفتح لها ذراعيها برحابة بعد طول جفاء وإعراض! أن يتنفس الصدر براحة! أن يحق للقلب التمني!
أن يشرع باب الأمل في وجه أحلام النفس!
يا إلهي! إنه طعم الحياة، طعم الحرية، طعم السعادة!
- يا جهاد ما بك؟ هل ستدخل الآن في مرحلة الصدمة؟!
خاطبه البروفيسور بامتعاض فأفترت شفتا جهاد عن بسمة بدأت مستحية، واتسعت حتى شملت سائر قسمات وجهه، يقوله له بامتنان:
- شكرا لك، لقد أحييت الأمل في قلبي، كنت لأقول بعد أن فقدته لكنني لم أكن أملكه من الأساس كي أفقده.
- الشكر لله يا جهاد.
سارع جهاد مقاطعا إياه:
- طبعا الشكر والحمد والفضل كله لله من قبل ومن بعد، لكنني أشكرك لأنك السبب، ولأنك اهتممت كفاية لتستدرجني رغم أنك لا تعرفني.
أومأ له ساخرا، وهو يقول له قبل أن يقوم من مكانه بتمهل دفع بجهاد ليسنده:
- صدقني الفضول ليس جيدا دوما، سيقتلني يوما ما.
توجها نحو المدخل ليستقلا المصعد عائدين بينما البروفيسور يتحدث إليه، وهو يسحب هاتفه: