أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين @mouna_latifi_nassreddine Channel on Telegram

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

@mouna_latifi_nassreddine


هنا كل ما يخص أعمال وجديد الكاتبة منى لطيفي نصر الدين🌷🌷

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين (Arabic)

أهلاً بكم في قناة 'أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين' على تطبيق تليجرام! هذه القناة مخصصة لكل محبي أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين وتضم كل ما يتعلق بأحدث أعمالها وأخبارها. ستجد هنا مقتطفات من كتبها، تحليلات عن أسلوبها الأدبي، ومقابلات حصرية تكشف عن خلف الكواليس. منى لطيفي نصر الدين هي كاتبة موهوبة ومشهورة بأسلوبها الفريد وقدرتها على جذب القراء بقصصها الروائية الممتعة. إذا كنت من عشاق أدبها، فهذه القناة هي المكان المثالي لك لتبقى على اطلاع دائم بكل جديدها وتفاعل مع محتواها. انضم إلينا اليوم وكن جزءًا من هذه الجماعة الاستثنائية من محبي أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين! 🌷🌷

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- الوادي لم ينقسم بعد كما أمرنا ووعدتنا.
- هو مقسوم بالفعل...
- ولا يعود الفضل لك!
هتفت بحدة جفلته فنطق بارتعاش:
- ساعدت وحققت بعضا من مطالبكم...
ضغطت على كتفيه بقوة، تصر على كل كلمة تتلفظ بها:
- لم يحدث الشقاق بعد، نريدها حربا، كرها، وحقدا، نريد الدماء يا بني آدم! نريد للدماء أن تسيل بدلا من المياه التي جفت عبر الوادي.
ازدرد ريقه والنيران تلهو بظلال الصخور فيراها بوهم رعبه أشباحا سوداء أو ربما هي كذلك بالفعل، فما الذي يكون على حقيقته التي يعرفها في عالمه ذاك؟ لا شيء! كلما منحه عقله يقينا بما يراه ويشعر به، استيقظ على حقيقة أنه مجرد وهم!
لكنه وهم يتشبث به حد الحقيقة فلا هو بقادر على تركه باعتباره وهم ولا هو بقادر على العيش بحقيقة أنه فعلا واقع!
يكاد يفقد عقله! أو ربما فقده بالفعل! فكل ما يعيشه الآن عبارة عن جنون!
- لنترك الحديث لوقت لاحق، فهناك ما هو أهم...
تحرك بتلقائية مع دفعها له، وهي تضيف بمكر ونبرة، يقسم أنه لم يسمع في مثل نعومتها:
- رأيتك وأنت تغازل الفتيات في محل صديقك، هل تنوي خيانتنا؟
تضاعفت خفقات قلبه بين الرعب، والحماس يتولد رغما عنه بتفاعل يفرضه عليه تكوينه الجسدي بينما هي تطوقه هامسة له بتهديد مباشر:
- تعلم بأنك لا تستطيع خيانتنا.. لا تستطيع! فلا تحاول مرة أخرى، لأنك لن تتحمل غضبنا.
رفع رأسه إلى السماء مناجيا بفطرته التي خانها مرارا وتكرارا، يصرخ بصمت قاتل يسحبه لأعمق نقطة في القعر، غير قادر على الاستسلام بكل خلية فيه، وعقله يصر على أن ما يعيشه حقا محض جنون!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


فهل يبقى لمواجهة حاسمة أم ينصت لهذر مؤنس ويرحل! من قال بأنه هذر!
منزل الحاج عبد البر كان أكثر سكونا من سابقيه، وأغلب ساكنيه كانوا قد غفوا بالفعل فيومهم كان حافلا بالمشاغل، وقد كان نصيب حقلهم ككل عام ومنذ أن أصبح جرير جرار حقول بارع أن يفتتح موسم الحصاد.
تململت تقوى من رقادها بينما تفتح عينيها الناعستين لتتنهد بضجر وشقيقتها صفاء تزاحمها على سريرها، فهمست لها بنبرة ناعسة:
- هل قرأت الأذكار؟
- أجل.
ردت عليها صفاء بينما تندس أكثر داخل حضن شقيقتها التي تأففت وهي تضمها بحنو:
- هل شاهدت شريط رعب؟ أم برنامجا مخيفا؟
- أجل عن الجن!
- نامي يا صفاء، عفا الله عنك وعنا.
بدأت تقوى بقراءة أوائل سورة البقرة وهي تضم شقيقتها المرتعشة حتى شعرت بها ساكنة، تتنفس برتابة فقبّلت أعلى رأسها وأراحت جفنيها مستسلمة لسلطان النوم.
أما في منزل جيرانهم، فشخير رب البيت يتردد بين جدران غرفة نومه خلاف زوجته نوال المشغولة في غرفة تغلقها على نفسها، ولا أحد يعرف ما فيها ولا ماذا تفعل فيها؟ وحفيظة من خوفها تنشغل بمشاهدة أي شيء وكل شيء على هاتفها تحت لحافها مهما كانت حالة الطقس باردا أو مشتعلا، وكل ما يهمها أن لا يمت المحتوى للرعب بصلة فلا تتذكر ما يحدث معها.
حتى النوم أصبحت تخشاه مما تراه فيه، تكاد تقسم أنه حقيقة أشبه بالسراب، وكلما أوشكت على الإمساك به تسرب بين أصابعها كالرمال.
هناك في منزل زينة، أغلقت الأخيرة باب غرفة نوم والديها بروية بعد أن تأكدت من نومهما ثم خطت بهدوء نحو الحمام حين شعرت بحركة ما فتوقفت قليلا تطرق السمع ثم غيرت وجهتها لتفتح شباك المطبخ المطل على بيت ابن عمها جرير، وكما توقعت كان يحمل ابن عمها الآخر مؤنس، ثملا كعادته مرات عدة خلال كل شهر فيأتي به جرير إلى بيته حماية له من غضب أبيه العاصف.
- ماذا ستتحمل أكثر يا جرير؟ كان الله بعونك يا ابن عمي؟
استدارت بعد أن أغلقت النافذة تهمس بأسى استولى عليها قبل ساعات ولم تتخلص منه، لا تعلم أن الذي كان سببا فيه قد تجاهل هاتفه وما يحمله من رسائل متنوعة على مختلف التطبيقات وألقى به على المنضدة جواره كما ألقى بجسده على سريره بعد أن نزع جلبابه شاكرا لربه استغراق والدته في النوم، فبعد زواج اخوته أضحت تضيق عليه الخناق وتدفع به دفعا إلى الزواج، ليس وكأنه لا يريد! لكنه لا يعلم حقا هل هو مستعد للالتزام...بواحدة؟
وفي منزل نبيه اطمأن الأخير على والده وشقيقته؛ آخر من تبقى له في ذلك البيت الجميل والذي يحبه لدرجة حمل هم يومٍ قد يطالب الإخوة بحقهم فيه. استغفر داعيا الله لوالده بالبركة في العمر والصحة ثم تسطح على سريره يتأمل السقف قليلا قبل أن يبسط يده ليطفئ نور المصباح جواره، وفجأة تذكر الكلب الأسود!
لم يرتعب ولم يتحرك من مكانه لكن قلبه انقبض بشدة، فرفع كفيه ونفث فيهما ليتلو سورة الإخلاص بكل كيانه أعقبها بالمعوذتين قبل أن يمسح على جسده واستدار على شقه الأيمن متجاهلا خياله الذي رغما عنه استرجع ابتعاد بهيج عنهم واختفاءه بين الظلال، لطالما شكل تغير حال بهيج هما يزعجه ويظن بل متأكد من أن جرير يشعر بنفس الشيء، لذلك لا يطيقه بل ويظهر ذلك على الملأ كما لم يكن يفعل في صغرهم.
***
أما المعني فقد كان مبتعدا جدا عن منازل وادي الحقول يسلك الطريق نحو الجبال السوداء، ليس ذاك الذي عبّده بنو آدم إنما ذاك الذي تحده الصخور الصلبة والحشائش ذات الأشواك الدامية، ثابتا مكانه بينما يحدق بالظلام المحيط به في تلك الليلة الدلماء.
- لقد تأخرت علينا.
تصلبت أطرافه مستسلما لملمس الظل خلفه قبل أن يتجسد في امرأة بارعة الجمال، تحوم حوله والنار تنبثق من الفراغ تنير المساحة حولهما:
- ألم تشتق إلينا؟
أسدل جفنيه حين شعر بوجهها يقترب من وجهه فنطق بهدوء، حاول أن يجعله ثابتا:
- كيف أفعل وأنت تأتين بهيئة مغايرة كل مرة؟
كان يعلم بأنه يغامر لكنه تعود وأضحى يعرف أمورا كثيرة، بعضها يرعبه وبعضها يمنحه الأمل:
علت ضحكتها وهي تحوم حوله وكلما لمسته انتشرت القشعريرة عبر أوردته:
- ما يزال صديقك يصلي الفجر بالرغم من جهودك!
خاطبته بشكل مباشر كما اختفت ضحكتها فبلل بهيج شفتيه ورد عليها بنفس الهدوء الذي لا يحيد عنه في مواقفه تلك:
- أنا أحاول جاهدا، ألا تعلمين بأن المعصية تحرم فاعلها من الطاعة؟ قريبا لن يستطيع الاستيقاظ، فقط أرسلي أحدا من خدامك.
- لا تأمرنا، نحن من يأمر هنا! وحين تفي بوعودك تستطيع حينها طلب ما تشاء، فنحن غاضبون منك جدا!
صاحت ثم همست جوار أذنه:
- وحين نغضب نتوعد!
سحب أنفاسا متتالية ليعبئ صدره الضائق، يشعر به مثقل وكأن حجرا كبيرا يجثم عليه، وهي تكمل قبالة نظراته الحذرة:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- ابتعد عنه!...لا علاقة لك به!
رفع بهيج ذراعيه بسرعة وتراجع عنه في حين تقدم منهما فواز ناظرا إلى جرير بحيرة قطب لها جبينه، وهو يناوله الهاتف:
- اهدأ يا جرير! كنا نحاول منعه من تدمير نفسه بما يكتبه على صفحته وهو ثمل...هاك! لقد مسحت بعض المنشورات التي ذكر فيها بعض الرجال المعروفين في البلدة.
أطلق جرير سراح ابن عمه الذي هوى متربعا على الأرض، وتسلم الهاتف من فواز ليتفحصه بينما يخاطب بهيج الجامد بنفس الغضب الذي لم يغادره بعد:
- لا تخش على زوج ابنة عمك الغالي، لن يصيبه مكروه، فهذا حفيده ولم يهتم بالأمر.
مط بهيج شفتيه بامتعاض دون رد فتدخل يوسف بلطف وهو ينحني نحو مؤنس:
- لا بأس يا شباب...مؤنس؛ هل أنت بخير؟
رفع أنظاره المشوشة إليه قبل أن يبسط شفتيه ببسمة واسعة، وتشبث به لينحني ويجلس القرفصاء أمامه، يخبره بصدق بالرغم من عدم اتزان نبرته:
- كنت أكتب منشورا عن مقدمك الخير إلى البلدة، لكنهم أخذوا مني الهاتف قبل أن ... أن... أكمل ... فنحن أشكال جدك أو هو أشكالنا لست متأكدا، لكن حتما أنت لست أشكالنا...
ثم ربت على خذه، يكمل بانزعاج حزين:
- شكلك هذا وحتى أخلاقك لا ينتميان إلى هنا، اذهب وارحل حالا...أنا أنصحك!
تسلط الصمت على ألسنتهم، يحيطون بيوسف المقرفص أمام مؤنس الذي ما يزال مسترسلا في بوحه الأليم وبسمته تتحول إلى تشنج بائس:
- وخذ معك محسن، والفقيه عبد العليم، خذ أهله جميعهم، تلك الفتاة التي تغطي وجهها بطرف وشاحها، خذوها معكم هي الأخرى، لا مكان لكم هنا، أنا أؤكد لك، والحاج عبد البر أيضا وأهله...لا لا!
ترك يده اليسرى تتشبث بقميص يوسف ولوح بكفه اليمنى محذرا:
- ابنته الكبرى لا!... إن طارت العصفورة سيرحل جرير.
نظر يوسف نحو جرير المتصلب مكانه بجمود، وعاد إلى الذي ذرفت مقلتاه الدموع بينما يضيف بألم فاضت به نبرة صوته المرتجف:
- أتركوا لي جرير، وأعدكم إن حدث ونزل علينا العذاب، سأفديه بروحي.
ربت يوسف على كتفه مهادنا لكنه لا يتراجع عن حديثه، وكأن حياته تتوقف على ذلك:
- أصغ إلي وارحل! وخذ معكم أيضا ابنة عمي زينة، لا تحملا هم والديها فهما عجوزان مريضان على كل حال، وأيضا الجدة جواهر،.... خذوا الجدة جواهر معكم!
تهدل كتفاه وأرخى ظهره حتى استلقى عليه، يتأمل النجوم في السماء فيبسط ذراعه عاليا وكأنه سيلمسها قائلاً بانبهار:
- يا لجمال تلك المصابيح هناك! يقولون بأن الله خلق كل شيء، ويمهل العباد لكنه لا يهملهم، ولذلك أنصحك بالرحيل...ارحلوا جميعكم! حتى جرير لا تتركوه هنا! خذوه معكم.
لم يتحمل جرير ضغط أعصابه، وانحنى ليوقفه ويسنده بذراعه التي مررها تحت إبطه ثم قال لهم باقتضاب:
- سأعيده إلى البيت...
- سنرافقك!
تدخل فواز الذي أكمل حين لاحظ تحفز جرير:
- نحن أيضا عائدون إلى منازلنا، فما أتينا هنا سوى من أجله.
ثم نظر إلى بهيج الذي وكأنه لمح شيئا ما بعيدا فاستأذن منهم:
- طريقي غير طريقكم، أراكم لاحقا.
اختفى بين الظلال بعيدا عن الشارع وأنواره فتحركت أقدامهم تخطوا بتمهل نحو وجهتهم، يتخلف عنهم نبيه الذي التفت مجددًا يتأكد مما لمحه بطرف عينيه.
- ما بك؟
أشار له يوسف بفضول فسأله بحيرة:
- هل رأيت كلبا أسودا قبل قليل؟
تلفت يوسف يتفقد المكان وهو يهز رأسه نافيا، فجعد نبيه ذقنه باستغراب يشير إليه:
- أنا متأكد من أنني لمحت كلبا أسودا لا يشبه كلاب الوادي، ضخما بعض الشيء وثابتا مكانه، وكنت على وشك تحذيركم منه لكنه اختفى بسرعة كما ظهر.
- لابأس! لابد من أنه هرب نحو الجبال...
هز نبيه كتفيه يتجاهل الأمر وتعبير مبهم يطغى على صفحة وجهه ثم حث خطواته ليلحق بأصدقائه.
***
هدأ الصخب ولاذت الأنفس بالسبات؛ عدد كبير منهم على الأقل، فبحكم أشغال الحقول وافق أهل الوادي الفطرة بالنوم الباكر على نغمات الطبيعة، صرير صراصير الليل ونقيق الضفادع وصوت أنابيب الريّ ثم الاستيقاظ باكرا على أصوات الديوك والبهائم المطالبة بالعلف.
هناك في بيت الفقيه عبد العليم لم يستولِ النوم العميق سوى على الحاجة أم محسن التي عادت من الحقول متعبة، تنشد لقمة ساخنة وأداء الصلاة التي وجد فيها ابنها محسن وابنتها حياء الملاذ والسلوى يقفان بين يدي ربهما جُل لياليهما، كل واحد منهما في غرفته، مبتهلان وشاكيان ما يؤرق قلبيهما العطوفين وكذلك كان يفعل والدهما ولا زال على العهد.
في بيت آخر غير بعيد وما البُعد سوى بين القلوب في الصدور، يتسطح يوسف أخيرا بعد أن تخلص من مشاغبة شقيقتيه وقد تمكن منهما التعب والرغبة في النوم، متجنبا المرور على والدته كي لا يلتقي بأشخاص آخرين. استدار على جانبه متنهدا يتساءل إلى متى سيتجاهل ما يجري في حياته؟ لم يعد صغيرا وسيكون خلف كل فعل، رد فعل سيترتب عليه مشاكل أكبر!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


قالها جرير بتمهل وجبينه يتجعد بحيرة، يبدو بمظهره المرتب النظيف مختلفا عن هيئة جرار الحقول، بجلبابه الأبيض فوق سروال وقميص رماديين.
لم يحرك نبيه ساكنا فلوح له يوسف لينتبه إليهم فرفع هاتفه إليهم بعدما أشار له بأنه يقرأ شفتي جرير ويفهم جل ما يقوله. اقتربوا منه والتفوا حوله حتى محسن المسرور باجتماع نصف الحلقة ينظرون إلى ما يعنيه:
- يا إلهي! لقد ثمل باكرا اليوم.
هتف جرير بنقمة، يمسح على وجهه بغيظ فتساءل يوسف بعدم تصديق:
- هل يشرب مؤنس الخمر؟
عبست ملامحهم، ومحسن يخاطبهم ببؤس سلب منه سروره، وهو يتراجع بتمهل:
- الحقوا بمؤنس قبل أن يتسبب لنفسه بمصيبة، أنا أنام باكرا لذا سأرافق أبي إلى بيتنا.
التهم نبيه المسافة بينهما وقد شعر بحزنه العميق فطوق ساعده بحرص لكن محسن ربت على يده قبل أن ينزعها برفق، يضيف بحزن طغى على ملامح وجهه السمحة:
- لا تكونوا للشيطان عونا على أخيكم، حاولوا تفهم عقده وكونوا له سندا، لا تقلق يا نبيه لن يصيبني مكروه هنا بإذن الله، أنا أحفظ طريقي جيدا، فقط الحقوا به! ولا تنقطعوا عني جميعكم بعد اليوم...جرير!
ناداه وهو يرفع رأسه ومقلتاه تهتزان داخل محجريهما، تعبران عن مدى اضطراب خفقات قلبه فرد عليه المعني وهو يخطو نحوه بسرعة:
- أطلب يا فقيه!
تبسم بارتعاش وهو يبحث عن يديه اللتين وجدهما بسرعة وصاحبهما يسهل عليه المهمة منتظرا قوله:
- لا يهم سبب قدومك اليوم، ولا المرات القليلة السابقة لكن كن على يقين بأنك ستواظب بإذن الله، وسيحملك إلى هنا شوقا وحبا مختلفا عن كل ما شعرت به سابقا، هل تعلم من أين جاءني اليقين يا جرير؟
تصلبت ملامح جرير، وبلع ريقه مكتفيا بالصمت والغريب في الأمر أنه لم يستطع النظر في عيني صديقه رغم تأكده من عدم رؤيته له:
- يقيني نابع من ربي الرحيم، تتوسل إليه أمي من أجلك كل يوم فأنت سندها بعد الله في حقلها الذي ورثته عن والدها، والحاج عبد البر يدعو الله خلف كل صلاة لك، والفقيه عبد العليم لا ينسى اسمك أبدا، والعديد من أهل البلدة سمعتهم يدعون الله لك، والله رحيم مجيب الدعوات، هذا ظني الدائم به...أستودعكم الله.
لاحقته قلوبهم قبل أعينهم إلى أن لمحوه يخرج برفقة والده مع رجال يقطنون جوارهم، تاركا لهم الصمت يحيطهم برهبة خشعت لها أساريرهم قبل أن يجلي يوسف حلقه ليستفسر من جرير:
- أين يمكن أن نجد مؤنس؟
وعى جرير من سهو أفكاره ناظرا إلى يوسف ثم أشار إلى أحد مخارج الوادي المؤدي إلى الجبال السوداء:
- أليس ذاك المكان مهجورا؟
تحركت أقدامهم تسلك سبيل وجهتهم وجرير يرد عليه بنبرته الجادة بجفاء:
- كان مهجورا حين لم يكن طريقا مُعبدا نحو الجبال السوداء للسياح والمواطنين أيضا ممن يهوون رحلات الجبال، وقبل أن يزودوا الطريق بعواميد النور، هناك يجتمع الصعاليك ومن يريد أن ينأى بمعاصيه عن أهل البلدة، فلا حانة خمر هنا ولا مرقص.
التفتوا إلى نبيه الذي أخرج كفيه من جيبي سرواله، يلوح بهما لجرير بإشارات خاصة مختلفة عن لغة الإشارة المعروفة:
- هذا ما كان ينقص البلدة، مرقص وحانة، حينها سننتظر فيضانا يجرف معه الوادي بما فيه وليس فقط جفاف الأمطار التي كانت في الماضي لا تضن علينا بخيراتها لا صيفا ولا شتاء.
أمال جرير رأسه معقباً بخيبة:
- إي والله! لولا فضل الله علينا بماء الآبار لضعنا وضاعت هذه الزروع.
زفر نبيه بتفهم ثم أشار إليه باللغة المعروفة تلك المرة يمازحه بوجهه الجامد بعد أن قرأ شفتيه وفهم ما نطق به:
- بالمناسبة؛ أي ريح حملتك إلينا الليلة؟ أم أنه الهوى؟
عض جرير باطن خده مضييقا عينيه ثم حذره ويوسف يتبسم بمرح:
- لا أعلم لماذا أشعر بأن ما قلته للتو يعد سخرية مني؟ استعمالك للغة الإشارة بدل الحركات التي أفهمها، وحتما بسمة ابن آل عيسى المرحة دليل على ذلك.
ضحك يوسف وهم ينعطفون إلى مخرج البلدة ثم قال له:
- لم يكن يسخر منك، فقط يسألك عن سبب حضورك الليلة.
ثم التفت إلى نبيه ليضيف بالتزامن مع إشارات كفيه:
- أنا طلبت منه القدوم لنحيي الذكريات يا نبيه، ولم يحمله إلينا الهوى كما تظن..
- أها!...بات الجميع يتسلون على حسابي ...حسنا! هناك حوضٌ أمتلأ عن آخره بروث البهائم، سأسعد جدا باستعماله لأغراض أخرى غير تسميد التربة...
ثم تنفس بعمق فلا طاقة له بمشاكسة وهو يلمح حالة مؤنس الذي يطوقه بهيج يمنعه عن فواز الممسك بهاتفٍ يلمس شاشته بسبابة كفه الأخرى:
- أعطني هاتفي أيها ال*…. أنت وهذا ال*.. الآخر اذهبوا واتركوني لحالي...يا*
- أنت تتحول لنسخة من جدتي وكل سباب العالم لن يردعني عنك... فاصمت خير لك!
هتف بهيج وهو يطوق جسده النحيف بكل سهولة ويسر جراء عدم اتزانه فهرول إليه جرير ليجذبه من بين ذراعيه بينما يصيح بغضب لفت انتباه السكارى في المكان فنظروا نحوه بفضول:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


امتعض بهيج وقد تركها متخصرا بتعب حين ضمتها حفيظة تهادنها بلطف:
- ما بك يا جدتي زهرة؟... بهيج!
زفر بهيج بينما يطلب منها بحنق:
- هل تستطيعين إيصالها إلى البيت؟ خالك يشتاط غضبا لأنها خرجت رغم حرصهم على مراقبتها.
- من أنت يا فتاة؟
سألتها بتحفز تنتفض كل حين من لمس حفيظة التي ردت عليها بنبرة مهادنة:
- أنا حفيظة يا جدتي هل نسيتني؟ تعالي معي لأطعمك الأرز باللبن الذي تحبينه... ألست جائعة؟
استجابت لها بتردد وعدم ثقة، تستفسر منها بملامح تجعدت حتى طمست على جمالٍ كان في الماضي ولم يبق سوى أطلاله المتهالكة:
- الأرز باللبن؟ نعم أنا جائعة.
أومأت لها حفيظة، تهمس لها بعبارات اطمئنان وهي تسحبها بروية بعد أن ضمت كتفيها ثم أشارت لبهيج الذي أومأ لها بدوره شاكرا يتنهد بتعب، وصوت جدته يتسلل الى أعماق جسده المنهك فيهز جنباته بفعل كلماتها التي يعتبرها من حولها مجرد خزعبلات صادرة عن عجوز خرفت بفعل الزهايمر:
- كنت أطارد عفريتا بائسا مطالبه كثيرة وما يفعله قليل...قليل جدا، ذاك البائس يتجسد في قطة سوداء ويظن بأنني لن أجده، لقد جعت بالفعل... من أنت يا فتاة؟
تقدم بخطوات واسعة وانعطف نحو الشارع إلى محل فواز الذي وجده على غير عادته، متجاهلا زبوناته بينما يطالع صفحة هاتفه:
- خيرا! ما هذا الذي سلبك اهتمامك الأثير بالزبائن.
غمزه وهو يشير إلى فتاة تبتسم لهما فنظر إليه فواز بضيق، وهو يريه صفحته على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ويحدثه بقلق:
- يبدو أن مؤنس أبكر الليلة في سُكره، ما السبب يا ترى؟
قطب بهيج جبينه وهو يقرأ منشورات مؤنس المتتالية على صفحته قبل أن يرفع عينيه إلى فواز، يجيبه بينما يحرك رأسه بخفة:
- قد لا يكون ثملا كما تظن.
ركز عليه بأنظاره مخاطبا إياه بجدية:
- تعرف أن مؤنس لا يعبر بتلك الصراحة الوقحة على صفحته إلا إذا كان ثملا، قم واذهب إليه في مكانه المعتاد، وانزع منه الهاتف وابق معه حتى يأتي جرير فهو من يعيده إلى بيته، وأنا سألحق بك بعد صلاة العشاء.
استقام بهيج بظهره بعد أن كان مستندا على الحاجز الزجاجي، مستنكرا بضيق:
- ولماذا أذهب إليه أنا؟ هل كُتب على جبيني مراقبُ المجانين؟ ألا يكفي أنني تركت عملي لأقضي اليوم في البحث عن جدتي لكي أختمه بمجالسة مجنون آخر يفقد عقله برغبة منه ويفضح الناس بعدها بمنشوراته!؟
تأفف فواز بقلة حيلة وبهيج ينزع مطاطة شعره الصغيرة ليعيد جمع خصلاته الشقراء بها بينما يضيف بفضول:
- ولماذا ستذهب للمسجد؟ صل هنا ولنذهب سوية إلى المجنون الآخر!
مسد على جبينه وأذان العشاء يرتفع في الأجواء، فاستدرك بهيج ببعض التسلية:
- ها هو يؤذن، صل هنا، وأنا سأحل محلك إلى أن تفرغ من صلاتك.
كان ينظر بعبث إلى فتاتين تتفقدان الزجاجات على الرفوف، فزفر فواز بحنق أضحك بهيج الذي أشار له نحو السجادة المطوية على أحد المقاعد الجلدية السوداء فاستسلم الأخير وأطاع صاحبه:
قرر بهيج التسلية بالفتاتين ريثما ينهي صديقه الصلاة، وظل يخاطبهما ببسمة لعوبة ونظرات وقحة دفعت بهما إلى الفرار خجلاً فضحك بخفة قبل أن يلتفت إلى فواز الذي يطوي السجادة ويعاتبه بانزعاج:
- سيفِر الزبائن من محلي بسببك..
- حقا!؟ بسببي أنا؟!
تساءل بهيج بمزاح فمط فواز شفتيه بامتعاض واستل مفاتيحه من العلاقة بينما يجره من كم قميصه الشبابي الأحمر، قائلا له بنفس الامتعاض:
- أخرج من محلي بقميصك الأحمر هذا، أنت وألوانك الغريبة! متى سترتدي ثيابا لائقة مثل خلق الله؟
خلص نفسه من براثن فواز وتراجع يراقبه وهو يغلق محله، محدثا إياه بنفس أسلوبه الممازح:
- حين يشملكم التحضر مثل بقية الخلق، وتعترفون بالحريات الشخصية وأن ما أرتديه لا دخل لعقولكم الرجعية به!
تأفف فواز مرة أخرى، يلقي نظرة على هاتفه فيستعجل خطواته كما سارع بالقول:
- يا إلهي! لقد بدأ بالمنشورات السياسية، سيذكر الخواجا أنا متأكد من ذلك.
حث بهيج خطواته ملاحقا إياه، وكلامه يتقطع بفعل ضحكه:
- وهل تخشى على الخواجا؟ من المفترض أن أخشى أنا يا صاح!
ثم قهقه عاليا وفواز يشتمه ويشتم مؤنس الذي فعلها وذكر الخواجا في منشوره التالي.
*يقولون بأن الطيور على أشكالها تقع! فعلا! الخواجا وقع علينا من السماء دون سابق إنذار، ونحن أشكاله على ما يبدو فهو مرآتنا الحالية، وإذا أردتم معرفة أشكالنا فانظروا إلى شكل العمدة الخواجا! لكنني لا أظن بأننا محظوظون إلى تلك الدرجة لنظفر بجمال كجمال خِلقة العمدة الخواجا! ممم! معضلة حقا، هل هو أشكالنا أم نحن أشكاله؟*
***
في مكان آخر، تحديدا رحبة المسجد عند الركن المفضل لمحسن كانت شفتا نبيه تنشق عن بسمة متحفظة وهو يقرأ نفس المنشور.
- لابد من أنه أمر مختلف هذا الذي انبسطت له شفتاك.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- المغرب يؤذن وأنا علي العودة إلى البيت، حفيظة كالعادة تطلق العنان لحمقها وأنا لن أتحمل!
أخفت زينة ضحكتها كما تخفي الكثير بينما تجيبها وحفيظة منشغلة عنهما بإشغال الآخر تتدلل عليه طالبة منه ذوقه من العطور، فتشْتَم قنينة وترفضها وتنتقل لأخرى حتى تكتفي من نظرات وبسمات بائع العطور فتقتني ما يفضله.
- إنها صديقتنا يا تقوى ويجب أن نتحملها، أظن بأنها اكتفت وستختار واحدة أخيرا.
راقبت زينة كيف مسد بأصبعه العطر برسغ حفيظة لتشتمه بطريقة أنثوية زاغت لها نظراته فهتفت دون وعي:
- المغرب أذن منذ مدة يا سيد فواز، ألن تلحق بالصلاة في المسجد؟
التفت إليها من جانب الحاجز الزجاجي حيث يعرض قناني العطور على حفيظة التي أشارت لها خلفه أنها ستقتلها وهما على ادعائهما للبراءة، وكأنهما لم تفهما قصدها والآخر يرد عليها بتوتر وحرج:
- لم أستطع غلق المحل في وجه الزبائن لذا سأصليه هنا لكن سأذهب لصلاة العشاء إن شاء الله.
جعدت زينة ذقنها متفحصة المكان بنظرات ذات معنى والنساء يزيد عددهن فتتساءل بسخرية حازمة:
- هل أنت متأكد؟
بلع ريقه ممسدا على لحيته مجددًا فقالت لها حفيظة من بين فكيها المطبقين في حين كانت تقوى تتفقد ساعتها:
- ما بك يا زينة؟ دعي الرجل يسعى لكسب رزقه، والله غفور رحيم.. أليس كذلك يا فواز؟
أصدر ضحكة رائقة تألقت لها نظراته بلمعة لا يخطئها أحد، وهو يدس لها قنينة العطر داخل كيس أنيق قبل أن يناوله لها قائلا لها بتأثر لم يخفيه:
- كل الحق يا آنسة حفيظة... كل الحق، لا تنسي أن تبلغي سلامي للخالة نوال، وأخبريها بأن أمي مشتاقة لها.
تناولت منه الكيس وهي تجيبه ببسمة امتدت من الأذن إلى الأذن غير غافلة عن تعمده للمس أطراف أصابعها تفكر في أنه لأول مرة يفعلها، فخفق قلبها بقوة وازت قوة الألم الذي اكتسح أسفل بطنها فجأة:
- مُبَلّغ يا فواز، بلغ سلامي للخالة نُفيسة، تفضل ثمن...
- لا والله!
قاطعها وهو يرد ظاهر كفها بكفه فتشعر بالألم الحارق يغزو تحت بطنها بشدة لكنها تحاول بوهن والشحوب يزحف على صفحة وجهها الذهبية:
- خذ يا فواز ولا تتعب قلبي.
أحنى وجهه نحوها مستجيبا لدلالها، وغافلا عن شحوب وجهها وارتعاش جسدها:
- لقد حلفت بالله، اعتبريها هدية من المحل وصاحب المحل.
لم تتحمل قوة الوجع أسفل بطنها فهزت رأسها مستسلمة وشكرته باقتضاب وهي تستدير نحو صديقتيها اللتين تغيرتا من الحنق والرفض لتماديها إلى ريبة من شحوبها فالتقطت تقوى ذراعها تدعهما في خطواتها نحو الخارج بينما زينة تتخلف عنهما حين سألها فواز بنبرة لطيفة مترددة:
- ألم يعجبك شيئا يا آنسة زينة؟
شملت زينة محله بنظرة ذات معنى وهي تجيبه بخيبة أصابت قلبه بطعنة أبى أن يكشف عن مدى عمقها وسط صدره:
- شكرا لك، لا شيء هنا يناسب ذوقي.
ثم استدارت لتلحق بصديقتيها.
- هل أنت بخير يا حفيظة؟
سألتها زينة حين وجدتهما تقفان في الشارع قبالة المحل؛ حفيظة تربت على بطنها وكأنها تتأكد من شيء ما وتقوى ترمقها بجبين مقطب:
- ماذا بكما؟ لماذا كنت شاحبة في المحل يا حفيظة؟
هزت تقوى كتفيها جهلا في نفس اللحظة التي رفعت فيها حفيظة رأسها إليهما، ترد عليها باستغراب:
- لقد شعرت بألم حارق أسفل بطني فجأة إلى درجة أن رؤيتي تشوشت، واختفى فجأة ما إن غادرنا المحل.
- هل اقترب موعدك الشهري؟
سألتها تقوى بحيرة فأومأت لها حفيظة بسلب بينما ترد عليها:
- ما يزال الوقت مبكرا جدا.
- إذن هي عين بائع العطور الزائغة!
نطقت زينة من بين أسنانها المطبقة حنقا فضحكت حفيظة وهي تتجاهل الأمر وتقدمتهما متجهات نحو أحد مداخل الزقاق:
- عيناه جميلتان يا زينة لا تنكري.
- استغفر الله.
عقبت تقوى بعبوس فنظرت إليها زينة، تقول لها وهي تشير إلى حفيظة غير المكترثة:
- أخبرتك بحمقها كان الله بعوننا...بالمناسبة! متى أصبحت الحاجة نفيسة صديقة والدتك يا حفيظة وتشتاق إليها أيضا؟
استفسرت منها بسخرية فعاودت حفيظة الضحك ثم ردت عليها بتهكم هي الأخرى:
- منذ أن ناصرت أمي شقيقتها ضد زوجها الذي هو خالي أصبحت حبيبة أهل زوجة خالي سعيد.
تمتمت زينة وهي تنظر إلى تقوى.
- رحم الله خالتك يا تقوى لم نسمع يوما عن شجار بينها وبين والد بهيج، أما خالة فواز فكل حين يشب شجار بينهما لا يداريانه فتلوك الألسن سيرتهما، الله المستعان.
همت حفيظة بالتحدث إلا أنها انتفضت مهرولة نحو بهيج الذي لاح لهن أسفل أحد عواميد النور، يحاول جر عجوز متشحة بسواد مغبر:
- يا جدتي ارحميني وتقدمي معي... لقد مللت!
هتف بغِل تمكن منه وقد بلغ به الحنق مبلغه، العجوز لا تكل من مقاومتها العنيفة وهي تصيح بكل ما تذكره من سباب:
- لن آتي معك يا*، أتركني أيها ال أعلم بأنك تريد سرقة مجوهراتي يا *سأقتلك يا **سأسلط عليك شياطين الجن ليفقدوك عقلك يا*

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- يستحي من الدخول وأختي حياء موجودة، لقد تعودنا لا تشغل بالك يا أبي، تمهل وأنت قادم إلى المسجد سأرسل لك أحد الصبية ليسندك، ولا تنسي تجهيز العشاء لأمي يا حياء ستكون مرهقة حين عودتها.
أكمل حديثه بخفوت فهزت شقيقته رأسها بينما تطمئنه:
- لقد بدأت بتجهيزه، وأشعلت نار الحمام، لا تقلق! توكل على الله.
قبّل رأسها ثم فتحت له الباب بينما تخفي نفسها خلفه تستودعه عند الله كما استودعها هو الآخر.
أسرع إليه ليمسك بذراعه وتوجها نحو المسجد كعادتهما؛ محسن يحكي ويبتسم ونبيه يربت على ساعده كل حين دون أن يتعب نفسه في استيضاح ما يحكي عنه مستأنسا بجواره الذي يكفيه.
طرف بنظرة خاطفة نحو فتيات يعرفهن حق المعرفة في الاتجاه المعاكس للزقاق وتساءل عن حال صديقه جرير مع أشغال الحصاد التي بدأت في يومه ذاك واعدا نفسه بالبحث عنه بعد صلاة العشاء.
***
- لا أصدق أنني طاوعتكن وتركت أبي وأمي لحالهما في البيت، لولا قدوم جرير لما فعلتها، ألم يكن اتفاقنا الاجتماع في بيتي؟
عاتبتهما زينة بعبوس وهي تربت على طرحتها، تسوي ثناياها الوهمية فأشارت تقوى إلى حفيظة بنظرة *أعيدي الشرح لها من فضلك* فتبسمت حفيظة وهي تعيد الشرح بمرح وتسلية:
- أول الأمر لقاؤنا كان سيتأجل بسبب الحصاد الذي بدأ اليوم في حقل أهل تقوى، لولا أن البطل المغوار ابن عمك جرير أثبت بما يخلو من شك أنه جرار حقول بارع.
ضحكت وسط حديثها مستدعية بذلك البسمة الماكرة على ثغر زينة وتقوى ترمقهما بجانب عينيها الرماديتين:
- فلم يبق الكثير من العمل لذا أفرجوا عن تقوى في آخر لحظة لكن لحظنا السيء أو الجيد لست متأكدة بعد! ابن عمك قرر المجيء إلى بيتكم بدلا من بيت عمك الآخر والد مؤنس.
احتل الحنق مكان المرح على وجه زينة الأبيض كبياض ابن عمها جرير بينما تجيبها بضيق:
- لا تذكريني بعمي من فضلك، الباب قبالة الباب ويعرف بأن شقيقه مريض، وهو الوحيد الباقي على قيد الحياة من أخوته، ورغم ذلك يرفض زيارته متشبثا بشجار قديم تافه، حقا أستغرب في أحيان كثيرة أن مؤنس ابنه من صلبه، كان الله في عونه هو واخوته، أما جرير فحين يترك الحقول لا يمكث في بيت والده رحمه الله كثيرا لا أعلم سبب ذلك؟! ويأتي لزيارة والدي يجالسهما ويبادلهما الحديث لساعات ثم يرحل.
حل الصمت عليهما للحظات قبل أن تستدرك زينة ببسمة ماكرة، تطرد بها كآبة الأجواء بينما تطرف بنظرها نحو تقوى:
- إذن، ومهما كانت الأسباب التي جعلتنا لا نلتقي في بيتنا كما تواعدنا، أين الوجهة؟
هزت تقوى كتفيها بخفة محافظة على صمتها حين أجابتها حفيظة بهيام تتمادى في إظهاره كتسلية:
- أريد شراء عطر.
ثم تنهدت بشكل مسرحي وزينة تصدر ضحكة متشنجة غير ملحوظة بينما تقوى تتنهد بيأس:
- يا إلهي! ليس محل فواز مرة أخرى؟
رفعت حفيظة كفيها تعد على أصابعها متابعة العرض المسرحي:
- أخرى، وأخرى، وأخرى حتى أجد العطر الذي يناسبني ويعجبه هو...
هزت تقوى رأسها بيأس فأضافت حفيظة وهن ينعطفن نحو شارع الشرفاء:
- استحوذتِ على قلب أحد أهم شباب الوادي فدعينا نسعى خلف أرزاقنا.
فتدخلت زينة تعقب بعبوس لم تدعيه:
- بائع العطور ذاك لن يكون مثل ابن عمي، لذا أريحي نفسك.
عقدت تقوى جبينها تمعن النظر في صديقتها بينما حفيظة في ملكوتها الخاص، مدافعة عن صاحب المحل:
- يا عزيزتي لا أحد مثل ابن عمك البطل، وأنا راضية ببائع العطور، فما شأنك أنت فليحقق الله ما في بالي وأسعدُ بقدري.
زفرت زينة بخفوت قبل أن تلتقط نظرة تقوى المتسائلة فهزت كتفيها متهربة منها وهن يعبرن عتبة المحل الذي عج بالنساء من مختلف الأعمار مما دفع بهن للانزواء ينتظرن دورهن، منشغلات بتفقد ما عرض على الرفوف المجاورة لهن من عطور، وباستثناء تقوى غير المهتمة بصاحب المحل كانتا صديقتاها ترميانه بنظرات حانقة وهو يضاحك هذه ويبتسم لتلك متعذرا بعرض بضاعته التي يرش منها على رسغ فتاة أو يضع منها بإصبعه ليتفاعل مع بشرة يد أخرى.
لمحهن فرفع كفه تلقائيا ليعدل ياقة القميص الأبيض الظاهر من تحت جلبابه الأزرق وتسلل من بين البقية من النساء ليرحب بهن على وجه الخصوص:
- مرحبا بكن، شرفتن محلي، لماذا تقفن هنا؟
مسد على لحيته الطويلة ونظراته تفضحه نحو زينة بالذات قبل أن تنتقل إلى حفيظة الجريئة بقولها دوما، تهز كتفيها بينما تبتسم له بدلال:
- فضلنا ترك المساحة لزبوناتك إلى أن تنتهي معهن حتى أنك لم تلاحظ وجودنا وانشغلت بهن.
رمقها بنظرات متفحصة وهو يجيبها باسما باعتذار:
- أعتذر إليكن آنساتي لن يحدث ذلك مجددًا، كيف هي الخالة نوال بالمناسبة؟ لم أرها منذ مدة حتى أنها لم تشرفنا بزيارة مؤخرا.
لكزت تقوى جانب زينة، تهمس لها بجدية:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- في غرفته، أظنه سيخرج الآن.
أخبرتها نهيلة وهي تنهض لينكشف مظهرها الذي لم تتأمل سلا تفاصيله قبلا، فأشارت إلى التنورة السوداء ذات الطبقات من الشيفون التي اقتنتها برفقتها أثناء جولتهما:
- إنها جميلة وتناسبك.
أمسكت نهيلة بجانبي التنورة ترف بهما مبتسمة بسعادة، فجعدت سلا ذقنها إعجابا بتناسق القميص الذي اختارته أبيضا ومزينا بعبارة *أنا قوية* سوداء اللون، وبلغة أجنبية مع شكل التنورة السوداء:
- يعجبني ذوقك في الملابس، تحسنين التنسيق، مبارك عليك.
صفقت بكلتا يديها وانطلقت نحو المطبخ، تهتف بمرح.
- وأنا يعجبني مدحك لي يا ابنة آل عيسى، سأحضر الضيافة وأعود.
هزت رأسها باسمة ثم أرخت ظهرها على مسند الأريكة تتمتع بجمال المشهد قبالتها وخرير المياه الناعم يدغدغ أذنيها. وبعد لحظة رفعت رأسها إلى تأمل الواجهة الداخلية للبيت الكبير بينما تفكر في أن لنهيلة أخوة كُثر لكن جميعهم متزوجين ولم يعد يقطنون هنا باستثناء صديق شقيقها، نبيه! وكأن عقلها استدعاه إذ لمحته يخرج من أحد الأبواب المطلة على قعر البيت، واستدار نحوها ينظر إليها بإجفال تبعه ذهول تلاه إطراق برأسه، جامد مكانه بتردد إلى أن قرر على ما يبدو رفع رأسه باحثا عن ما فهمت سلا أنها شقيقته.
حركت كفيها لينظر إليها، ففعل مع أول إشارة لها مندهشا من حركات كفيها المحترفة، تخبره بأن أخته في المطبخ تحضر الضيافة.
لا تعلم لماذا دهشته أضحكتها فارتفع حاجباه الأحمرين بما بدا لها حيرة أو شيء آخر لا تفهمه!
- أووه! يجب أن أشكر أخي الذي بفضله لمحنا ضحكة العابسة سلا.
هلت عليهما نهيلة باسمة بمكر تحمل صينية خشبية مستطيلة، وضعتها على المائدة الحديدية المنخفضة أمام من احمرت خجلا ثم استقامت بظهرها تشير لأخيها تسأله ما يريده، فأشار لها بعد أن انتزع مقليه عن المطرِقة بحرج بأنه سيقصد دار محسن ليصحبه إلى صلاة المغرب وقد يتأخر لبعد صلاة العشاء فلا تنتظره ولتطعم والده الذي أخبره آنفا.
هزت رأسها بتفهم وأشارت له بدعاء الحفظ ليسدل جفنيه مؤمنا على دعائها، وانطلق خارجا دون أن يرمي سلا بنظرة أخرى.
أغلق باب بيتهم بينما يفكر في أنه لم يتخيل أن يكون هناك من تعلم لغة الإشارة دون حاجة ماسة إليها، إذا كان الكثير من أهله لم يكترثوا بتعلمها من بينهم بعض إخوته يكتفون بالتمهل حين التحدث حتى يفهم حديثهم، أم ربما هناك من تعرفه حيث وُلِدت وكبرت لا يسمع ولا يتحدث مثله... أمر محتمل وأكثر منطقية!
وقد يكون مُهما لدرجة أن تتعلم من أجله، أم تراها تعلمت من شقيقها يوسف على وجه الفضول؟!...ربما!
نفض عنه فضوله التافه من وجهة نظر عقله، ودق باب المنزل القريب نسبيا من بيت عائلته وابتعد قليلا لينتظر.
أنهى محسن وضوءه وخرج من الحمام متلمسا طريقه الذي حفظه عن ظهر قلب بروية، يهمس بذكر الفراغ من الوضوء حين شعر بملمس حان على ذراعه يسبق نبرة أخته الخافتة:
- صديقك يدق الباب أخي.
تبسم وهو يبحث عن رأسها ليربت عليه بلطف قبل أن يخطو نحو غرفة الجلوس حيث يتلو والده القرآن الكريم:
- سمعته يا قرة العين، ساعديني لأرتدي جلبابي وهاتي لي طاقية نظيفة، وبيضاء كبياض قلبك الطيب.
أصدرت ضحكة حيية أنعشت قلبه المحب لها ولم ير الحمرة التي تعلو بشرتها السمراء كلما دللها أو فعل والدها بمحبة:
- تفضل أخي.
دس رأسه داخل فتحة عنق جلبابه الأبيض فتركته يكمل ارتداءها وأسرعت لتحضر له طاقية نظيفة.
- تقبل الله يا فقيه عبد العليم.
ارتفع رأس والده باسما لابنه بحنو وفخر يتَعمد إيصاله إليه وزرعه داخل حنايا صدره كلما سنحت له الفرصة، يجيبه بينما ينهض من مكانه بتمهل سببه مرض ركبتيه المزمن، ليلتقط من فوق المائدة قنينة عطر يرش منها على صدره ابنه:
- منا ومنك يا فقيه محسن.
ضحك المعني ببشاشة دغدغت صدره فيتفاعل والده تلقائيا مع سرور ولده وتتسع بسمته الرائقة:
- أرى وجهك يشع سرورا وبهجة يا ولدي، أدام الله عليك سرور القلب والمهجة، هل كل ذلك سببه مقدم ابن آل عيسى؟ لطالما ظننت بأن أقرب أقرانك إليك هو نبيه.
انضمت إليهما أخته لتلبسه الطاقية بعد أن مشطت خصلاته البنية القصيرة بينما هو يفسر لوالده:
- كلهم أصدقائي يا والدي، فرقتنا الحياة والأشغال لكن في الصغر كنا كحلقتنا في المسجد لا نفترق ولا نتباعد، أدعو الله أن نعود كما كنا، وقلبي يتوسم في عودة يوسف خيرا، لا أعلم لماذا!؟ لكنه شعور منبثق من صميم قلبي يا والدي الحبيب.
ربت والده على خده بحنو وهو يغير دفة الحديث باستفسار آخر:
- لماذا لا يدخل نبيه ويكتفي بانتظارك خارجا؟
بسط ذراعيه يتلمس طريقه نحو مخرج الغرفة فقبضت أخته على ساعده كالعادة مسرعة لتقوده نحو خفيه تساعده على ارتدائهما وهو يفسر لوالده بلطف تتسم به نبرة صوته الهادئة دوما:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- واعدت نُهيلة لأزورها في بيتها، ولا أستطيع التنصل من طلبها هذه المرة.
نهض هو الآخر، يرمقها بامتنان للفرصة التي منحتها له وضم كتفيها بينما يسألها بلطف:
- هل أخبرتِ أمي؟
- أخي ماذا عن الرحلة؟
هتفت سارة مجددًا فأدار رأسه نحوها، مستمرا بتجاهل الأخرى:
- سأجيبك غدا إن شاء الله.
ثم عاد إلى سلا يسمع منها ردها وهما يقتربان من باب المنزل:
- أخبرتها ولم ترفض، فليس كل ما أطلبه بجنون مطالب أختك المجنونة.
عاتبها وهو يقبض على أرنبة أنفها بإصبعيه:
- لا تقولي على أختك مجنونة ثم هي توأمك بالمناسبة والمطابق أيضا.
رفعت كفيها هاتفة برعب مزعوم:
- لا من فضلك اسحب كلامك حالا! هذه تهمة بشعة.
ضحك بيأس، يراقبها بينما تستدير لتفتح الباب فناداها بلطف معاتب:
- سَلا!
التفتت إليه مستفسرة قبل أن تُقلب عينيها بضجر من نظراته ذات المعنى نحو لباسها المكون من سروال جينز أخضر غير ضيق بجيوب مربعة على جانبيه وقميص بفتحة عنق مثلثة ثم خاطبته بعبوس طفولي وهي تكمل طريقها نحو الخارج:
- لم أتحجب بعد، لا تيأس! قد تتحقق دعواتك يوما ما، سلام!
تركته يتنفس بقلة حيلة ورحلت تفكر في مدى كرهها لرؤية شقيقها حزينا أو متعكر المزاج لأي سبب كان، أقرب شخص إليها بعد والدها الحبيب ويأتي بعدهما جدها إبراهيم آل عيسى رحمه الله الذي لم يمنحها القدر وقتا أطول للتعرف إليه، ولا تملك سوى ذكريات قليلة جدا ومكالمات كثيرة بينها وبينه حتى باتت تفكر في القدوم للوطن رغم اعتراض والدتها الدائم إلى أن استيقظوا يوما على قرارها الصادم بالعودة دون رجعة، لكن بعد ماذا؟ توفي جدها الذي اشتاقت رؤيته وجها لوجه لتتنعم بنعمة الجد الحنون الذي لطالما قرأت عنه في القصص والحكايات، وذلك الذي لم تشعر به نحو جدها الآخر والد والدتها.
نحّت أفكارها جانبا حين تراءى لها باب بيت نهيلة الخشبي بنقوش فضية، فبسطت يدها نحو الدقاقة الفضية التي أحبت شكلها منذ أن لمحتها وسحبت طرفها بخفة قبل أن تدق بها قاعدتها مرتين.
فتح الباب وأطلت خلفه فتاة بملامح أنثوية عادية لكن حلوة، بسمتها المشاكسة تكاد تذكرها بتوأمها إلا أن المدة القصيرة التي قضتها في التعرف إليها منذ أن قدمت إلى البلدة أظهرت لها الفرق الشاسع بين شخصية نهيلة وشخصية سارة.
- وأخيرا جئت إلينا، تعالي معي، مرحبا بك.
وجهتها نحو قعر الدار حيث وقفت سلا بخجل تتفحص المساحة الشاسعة غير المسقوفة، تتوسطها نافورة ماء من الزليج التقليدي القديم، تحوم حولها أُصُص زرع مختلف؛ ورود وحبق وأعشاب أخرى ثم أطرقت برأسها تتأمل الأرضية المبلطة بالسيراميك على شكل معينات سوداء وبيضاء تنحسر عند حدود الأحواض الجانبية لأشجار الزيتون والتين والرمان:
- هل انتهيت من تفحص المكان؟
هتفت نهيلة ضاحكة فرمشت سلا بحرج تخبرها بينما تستسلم لكفها التي قبضت عليها مجددًا، تسحبها إلى ركن يحوي أريكتين بقواعد خشبية وفراش قطن مريح:
- أعتذر إليك، بيتكم جميل جدا.
ألقت نهيلة بالطرحة التي نزعتها عن رأسها جانبا فنظرت سلا إلى شعر صديقتها الذي تراه لأول مرة، معجبة بضفيرتها الطويلة بلون بني مائل لحمرة قاتمة، مسترخية على كتفها الأيمن فتهتز مع اهتزاز صاحبتها ذات الخدين المكتنزين ككل شيء فيها:
- ولماذا تعتذرين؟ شكرا لك! أعلم بأن بيتنا جميل لكنه لا يصل إلى نصف جمال منزل جدك.
أمالت سلا رأسها تهم بالرد عليها لكنها توقفت حين سبقتها صديقتها بثرثرتها كما اعتادت منها:
- لا تظني بأنني أحسدكم، حفظ الله عليكم المال والجاه وبارك لكم.
ثم أصدرت ضحكة رائقة علقت بشفتيها طوال حديثها الذي لا ينقطع:
- دعك من البيوت، سمعت أن شقيقك عاد، هل هو حقا فائق الجمال مثلما يقولون؟
فتحت سلا فمها لتجيبها لكنها قاطعتها مجددًا تستدرك بحماس:
- يقولون بأن له حظا من جمال النبي يوسف عليه السلام.
ثم شهقت وهي تكمل بنفس الحماس المتردد بين الضحك والدهشة:
- طبعا سيكون جميلا إن كان يشبهك أو يشبه والدتك، أو حتى جدك، فناصر الخواجا في عمره الكبير هذا وما يزال يتمتع بجاذبية مختلفة عن أهل البلدة.
حافظت سلا على صمتها المتأمل، ترافقها بسمة هادئة قلما تزور شفتيها وجوار أناس مختارة من بينهم هذه الفتاة حلوة المعشر ككل شيء فيها حتى حركات كفيها المكتنزتين تشير بهما هنا وهناك عادة تظن بأنها اكتسبتها لسبب معلوم:
- هييييه! لماذا أنت صامتة؟ قولي شيئا!
بللت سلا شفتيها بخجل ترمقها بعتاب مرح، والأخرى تضيف بسخرية فكاهية:
- حتى أخي نبيه يتحدث أكثر منك.
وعلى ذكر شقيقها تلفتت سلا باحثة عن الذي لم تلمح له طرفا سوى مرة واحدة لا تظن بأنه لمحها أو عرفها فيها، وهو مطرق برأسه حين أتى إلى شارع الشرفاء ليرافق نهيلة بعد جولة استغرقت بهما وقتا طويلا نسيتا فيها نفسيهما تماما حتى مرت الساعات وانشغل بال ذويهما:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


زفر جرير قبل أن يجيبه بنفس الهدوء الذي أرخى ملامح وجهه المتشنجة:
- سآتي لصلاة العشاء إن شاء الله، أشعر بإرهاق شديد، سأستحم وأرتاح قليلا.
أومأ له بفرح شعت به قسماته ونبرة صوته:
- إن شاء الله... سأنتظرك!
رحل جرير ولم ير فرح يوسف الذي اختفى فجأة ما إن استدار ليشمل واجهة بيت جده بنظرة جامدة قبل أن يُخرج نفسا عميقا، وناقما بينما يتقدم نحو بابه مستلا المفاتيح من داخل جيب سرواله. توقف عند الباب الداخلي ليدقه بهدوء منتظرا رغم المفتاح الذي بحوزته، وحين فُتح تنفس براحة بعد ترقب مزعج، وضم الشعلة التي ألقت بنفسها بين ذراعيه هاتفة بدلال:
- جو حبيبي أهلا وسهلا بك... أتيت في وقتك.
مط شفتيه بينما يبعدها عنه معاتبا بخفة وهو يغلق باب المنزل، وعيناه تنظران بتفحص خفي هنا وهناك:
- بما أنك ناديتني بجو فلا مرحبا بي، تعلمين بأنني أكره ذلك اللقب، وحتما لن أوافق على الاستغلال الذي لابد من أنه سيلحق بتملقك هذا.
ضحكت وهي ترمي خصلاتها المموجة والمصبوغة باللون الذهبي خلفاً، لتكشف عن ملامحها المنمنمة الصغيرة تحمل من الجمال الكثير كما هو حال أغلب أفراد عائلتها، والذي ورثوه عن جدهم ناصر الخواجا:
- حسنا ...حسنا يا يوسف! أخي حبيبي الذي لا يرفض لي طلبا.
ارتفع حاجبه بتوجس، وناداها باسمها محذرا:
- سارة!
فاقتربت منه بقامتها القصيرة تثرثر إليه بمشاكسة:
- هناك رحلة نظمتها جمعية تعاونية وادي الحقول لزيارة الجبال السوداء المحيطة بالوادي، وماما ترفض ذلك وبشكل قاطع مع أن أغلب شباب الوادي سيذهبون.
تشكلت الحيرة على محياه بعدما اتخذ لنفسه مجلسا على إحدى أرائك بهو الاستقبال المُبلط برخام فخم كباقي أثاثه وديكوراته الباهظة الثمن ثم سألها:
- ولماذا رفضت هذه المرة وكنا دوما نختلف على سماحها لكما بالرحلات المدرسية هناك؟
هزت كتفيها تجيبه بانزعاج وهي تدس كفيها في جيبي سروالها الأزرق الشاحب القصير إلى حدود الركبتين، عليه قميص بنفس اللون قصيرة الكمين:
- طرحتُ عليها نفس السؤال، وكان ردها عدم تأكدها من مدى جودة الأمن هنا، أرجوك أخي أنا متشوقة لزيارة تلك المناطق، لا تتخيل مدى فضولي لأرى بنفسي ما سمعته عنها.
- فضولك ما سيقتل روحك المجنونة هذه يوما ما.
تدخلت أختها التوأم مقتحمة المكان عليهما، وجلست على ركبتي يوسف لترخي رأسها على صدره بينما تطوق خصره لتفر من نظراته المعاتبة لها، فتخصرت سارة هاتفة باندفاع:
- ألا يكفي أن ماما قررت فجأة عودتنا دون حتى أخذ رأينا؟ وضيعت علينا سنة دراسية كاملة سنضطر لإعادتها هنا السنة المقبلة؟ نحن ناضجتان بالمناسبة ونستطيع العودة، فلقد أتممنا الثامنة عشرة قبل شهرين ومن حقنا الاستقلال بحياتنا، وبالتأكيد من حقنا اتخاذ قرارات خاصة بنا دون تدخل من أي شخص.
فتح يوسف فمه حين سبقته التي تلوذ بحضنه كقطة ضعيفة، تخفي خوفها من الماضي والحاضر والقادم على حد سواء بين ذراعي أخيها الآمنتين:
- تحدثي عن نفسك، أنا لا أريد لا الاستقلالية ولا اتخاذ قرارات مجنونة، ومن الأفضل أننا عدنا من هناك مع أنني لست واثقة من هنا تمام الثقة أيضا.
أطرق يوسف برأسه نحوها، يتأمل وجهها المطابق لوجه سارة خِلقة لا ملامحا، فشتان ما بين نظرات سارة المجنونة دوما والمليئة بالحياة وبين نظرات أختها الهادئة والحذرة طوال الوقت رغم امتلاكهما لنفس العينين الضيقتين السوداوين، وشتان ما بين شفتي سارة الضاحكتين باستمرار وبين شفتي أختها المطبقة جل الوقت:
- سَلا!
همس لها بحيرة من أمرها، فمرغت وجهها على صدره تشد من ضمه إليها بصمت والأخرى تهتف بحنق:
- ماذا عن الرحلة؟
مسّد يوسف جبينه بتفكير قبل أن يرفع رأسه إليها، تنظر إليه بعبوس من علو وعلى توأمها المُندسَّة داخل حضنه ثم قال لها:
- سأفكر وأسأل أولا ثم أرد عليك، متى موعد الرحلة؟
- بعد غد.
لم تكن تلك سارة التي ردت عليه، وبلا شك لم تكن السبب في تصلب أطراف يوسف الذي حاول إبعاد شقيقته سَلا بحنو استجابت له بسلاسة تشاركه الشعور بعدم الراحة:
- جيد أنك أتيتِ رواند! هي من أعضاء الجمعية وستشرح لك.
لم تفارق عينا رواند المرسومتين بدقة عالية وبلون ذهبي تماما كلون مقلتيها تَكَوُّرَ سلا داخل أحضانه ولا تشنجه الذي أرضاها بشكل ما وهو يبعد أخته بحنو لمعت له نظراتها الولهة، تخبره ببسمة ناعمة كنعومة كل شيء فيها حتى فستانها الحريري بلون الذهب المنساب على جسدها المتوسط في امتلائه كلون طرحتها الكاشفة عن مقدمة رأسها حيث تنساب خصلات حريرية بلون العسل الغامق حول وجهها:
- اسألني ما تريده وأنا سأجيبك، مع أنني أفضل وأتمنى أن تأتي معنا ونتشرف بحضورك بيننا.
زفرت سلا بضجر وهي تقف بينما تلملم خصلتها السوداء ثم استأذنت شقيقها:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


استجاب له وقد نال منه التعب بالفعل وتخصر الحاج ناظرا إلى حِزم القش التي ملأت الحقل ولم يتبق بالفعل من العمل الكثير ثم انحنى ليخرج بعض الطعام ووضعه أمام العابس المرهق بينما يخاطبه بحنو ورأفة:
- كل يا بني، كل واذهب لتغتسل وترتاح قليلا، لقد أنهكت جسدك.
رفع وجهه الأبيض الذي احمر من الشمس بملامحه البارزة ككل شيء فيه، يتمعن النظر في وجه الحاج كأنه يبحث فيه عن شيء ما قبل أن يومئ له باستسلام بينما يلتقط قطعة الخبز ويدسها في فمه، يشعر بأن صدره سينفجر والحقل على ما يبدو لم يعد كافيا... ليس كالسابق...لم يعد كافيا! ما الذي دهاه وما الذي يحدث معه؟!
انتفض واقفا فنظر إليه الحاج عبد البر مقطبا جبينه بحيرة يصغي لنبرته المفعمة بالحيرة والتوتر:
- انتهى عملي هنا يا حاج، العقبى للعام القادم بإذن الله.
ثم ألقى بمفتاح الجرار نحو رضوان الذي التقطه ببراعة مَن تَعود على ذلك:
- أعده إلى حقلي وتفقد علوان هناك إذا كان ما يزال موجودا.
لم يهتم برد رضوان وانطلق مغادراً بهيئته الضخمة في ذلك الرداء الأزرق الغامق:
- جرير!
ارتفع رأسه تلقائيا لمن يناديه فتلفت حوله واكتشف بأنه تجاوز سور المسجد القاطع لعرض وادي الحقول الواصل بين الضفتين.
- مرحبا بك، لماذا لم تدخل لتسأل عن محسن؟ تعلم بأنه يحب زيارات الأصدقاء.
صافح يوسف ثم مسح على صفحة وجهه المنهك بينما يجيبه بود:
- كيف أدخل الى المسجد بحالتي المزرية هذه؟ هل كنت عنده؟
جاوره في المشي وهو يجيبه مستشعرا بؤس حاله دون أن يفوته تفحص صديقه المبهم له:
- أجل، صليت العصر وبقيت معه قليلا.
- هل تصلي في المسجد دائما يا يوسف؟
عبس المعني حيرة من سؤاله المفاجئ وإن تلفظ به بهدوء:
- أقصد...
توتر جرير قبل أن يعبس بجدية وكلما عاينت مقلتاه صديقه تعودان بحسرتهما من مظهره الأنيق بل المبهر، فلا ينقصه كمال الأخلاق مع كمال الخِلقة:
- هناك! في البلد الأجنبي، هل كنت تحافظ على الصلاة في المسجد أم لأن هنا محسن؟
ضحك يوسف برده متفهما مخاوف صديقه، فحديثه المطول مع محسن ونبيه منحه فكرة عامة عن حال الوادي بكل ساكنيه وليس فقط أصدقاءه:
- الرب واحد في كل مكان يا صديقي، في البلد الأجنبي وهنا.. لا أنكر بأن هناك مع أشغال الدراسة ثم بعده العمل يحول بيني وبين الحضور الدائم للمسجد، فأجاهد نفسي وأحاول قدر المستطاع لكن حتما أصليها في وقتها أين ما دخل علي بفضل الله ونعمته.
رمقه بنظرة ذات معنى التقطها جرير فلوح بكفه، قائلا له بانزعاج.
- أعلم بأنك الكامل ابن الأصل الكريم، لا تزعج رأسي المتضخم بمشاكله!
طوق يوسف ذراع صديقه، يلتصق به كالأيام الخوالي بينما يصدر ضحكة رائقة وهو يجيبه بخفوت:
- لستُ كاملا وأنت تعلم ذلك جيدا، على العموم لا تخش على عصفورتك مني، عيب عليك! أنا صديقك يا جرير.
رمقه بطرف مقلتيه هامسا له بامتعاض:
- كنت لأقص لسان نبيه لكنه أبكم، ومع ذلك لا يستطيع الحفاظ على لسانه، لذا سأقتله وأريح نفسي.
قهقه يوسف بشدة حتى دمعت مقلتاه فارتسمت على شفتي جرير بسمة أشار إليها الأول ضاحكا:
- الحمد والشكر لله، جرار الحقول يبتسم.
رفع حاجبه وهو يدير إليه وجهه ساخرا:
- ها أنت ذا تناديني بلقب وتأثم، لقد كنت مخطئا وأنت فعلا لست بكامل.
وضع يوسف كفه على كتف صديقه ليوقفه وقد استقبلا بيتا كبيرا ذو واجهة مختلفة عن أغلب بيوت وادي الحقول، بشرفة لكل طبقة من طبقاته يحدها سور حديدي أسود، مقوس ومزخرف بورود فضية:
- أعتذر إليك يا جرير واسمك فوق رأسي، تفضل عندنا لنتحدث قليلا لقد اشتقت إلى الحديث معك.
هز رأسه رافضا وهو يربت على ذراعه فيتأمل شكل هندامه المرتب النظيف رغم بساطته؛ قميص أبيض وسروال أسود من النسيج الناعم الملمس، لطالما كان يوسف أكثرهم أناقة قد يكون محسن الشبيه به نظافة لكن الذي يقف أمامه حتما يفوقهم أناقة حرصت عليها والدته منذ الصغر، كيف لا تفعل؟ وهي ابنة رئيس المجلس البلدي الذي عين بالتصويت المكتسح، فاز به حزبه بعد أن انتقل من العاصمة إلى البلدة بمدة قبل التعيين المفاجئ. الجميع يعلمون بأن جد يوسف الحاج ناصر الخواجا ليس من أبناء وادي الحقول، رغم زواجه الأول من ابنة الحقول جدة يوسف وزواجه الثاني من ابنة الشرفاء إلا أن الجميع لا ينسى أبدا الغريب الذي أصبح فجأة رئيسا عليهم:
- حتما لن أدخل إلى قصركم هذا بهيأتي هذه؟ والدتك ستفصل رأسي عن جسدي!
فَكَّهَ يوسف صديقه وناظره بمرح:
- أنت تظلم والدتي بالمناسبة، وكل ما ستطلبه منك أن تأخذ حماما وتعتني بنفسك قليلا.
هز رأسه بيأس، ملوحا له وهو يبتعد:
- إلى اللقاء يا ابن الأصل الكريم.
- جرير!
ناداه يوسف بلطف فاستدار إليه بترقب:
- دعنا نلتقي في رحبة المسجد كالأيام الخوالي، من فضلك! لقد اشتقت إليكم.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


فتحت فمها لترد عليه باستهجان فأمسكتها حفيظة مهادنة تتوسل إليها:
- من فضلك يا أمي! أتوسل إليك.
ثم استدارت إلى والدها تمسك به هو الآخر تقبل ظهر كفه، تترجاه باستعطاف:
- أرجوك يا أبي، اذهب إلى غرفة الجلوس سأحضر لك الطعام.
نفض يدها عن كفه والتفت مغادرا إلى غرفة الجلوس بينما حفيظة تعود إلى والدتها، تخبرها بملامح عتابٍ لم يغادرها بعد:
- بهيج كان هنا يا أمي!
أنقضت على ذراعها، تسألها بقلق دب في أوصالها فجأة:
- هل أدخلتِه إلى البيت؟
هزت رأسها بسرعة، تجيبها بخوف:
- لا، لا! سمعت ما جاء من أجله خارجا، على أي حال كان يبحث عن جدتي زهرة، خرجت مجددًا ويبحثون عنها.
تركت ذراعها فرفعت حفيظة كفها تمسد به موضع قبضتها المؤلمة بينما تنصت إلى حديثها الساخط:
- لابد من أنها في مكان ما بين الأزقة، سأستحم وأنت ضعي الطعام لوالدك لعلّه يريحنا من طلته البائسة حين يملأ بطنه ويعود الى أصدقائه العجائز في المقهى.
تنفست حفيظة بيأس وقنوط لكنها كانت قد تعودت على حياة أهلها التي أجبرت شقيقها على الهجرة من الوطن بأكمله كما أجبرتها هي على التعود والاستسلام مع أمنية يومية، ملحة بأن يرسل لها الله طوق نجاة من بؤس حياتها.
مسدت على موضع قبضة أمها ثم بدأت بإشعال الموقد تحت القدر الذي أخرجته من السلة بينما تفر بأفكارها إلى ما ينسيها بؤس عيشهم فتفتر شفتاها عن بسمة خفيفة إزاء تذكرها موعدها مع صديقتيها ثم شردت بأفكارها في ذكريات تجمعهما ومحور أحاديثهما حين جفلتها فجأة قشعريرة مخيفة تصلبت لها أطرافها تحت ردائها المنزلي الأصفر القصير بدون أكمام، فانتفضت تتلفت حولها كعادتها حين ينتابها ذلك الإحساس بعده نغزة قوية أسفل بطنها فتكاد تقسم أن هناك من ضمها وتركها بسرعة، تشعره بها دون أن تمهلها لتتيقن من حقيقتها.
ربتت على مقدمة صدرها اللاهث بقوة، فكل شيء تعودت عليه باستثناء تلك الأمور التي تحدث معها ولا تجد لها تفسيرا أو حتى قدرة على أن تفضفض لأحد عنها مهما كان قريبا فينعتها بالجنون أو الأنكى يعيرها بأهل والدتها.
تنهدت مجددًا وهي توصل الطعام لأبيها ثم استلت هاتفها من جيب ردائها ترسل رسالة إلى تقوى، تؤكد عليها موعد اجتماعهن.
***
اطلعت تقوى على محتوى الرسالة بينما يطل عليهم والدها من باب غرفة الجلوس يحدثهم بنبرته الهادئة:
- أرسلت الطعام إلى العمال وتأخرت عليهم، فلقد وعدت جرير بأن أعود إليهم بعد الظهر وها أنا ذا صليت العصر ولم أذهب بعد...سأفعل الآن لأرى كم تبقى من العمل؟ لا تتأخروا لنساعد في جمع الحصاد، قد ننتهي اليوم بإذن الله فنرتبه ونعده للحصّادة.
- أبي!
نادته تقوى بخفوت ووالدتها تضع طبق الفواكه فوق الطاولة أمام نظرات كل من صفاء ونبيل المترقبة بمرح:
- هل أستطيع التغيب هذه المرة؟ اتفقت مع زينة وحفيظة لنجتمع في بيت الأولى!
هتفت والدتها زاجرة بسخط:
- إنه يوم الحصاد يا فتاة! أي زيارة وأي اجتماع؟
أشار لها زوجها لتهدئ من انفعالها لكنها جلست بعنف، تضيف بنفس السخط:
- ليس ذنبنا إن كنت ترفضين الشاب وتقللين من اهتمامه بك، لكن هذا يوم مهم نعمل من أجله طوال السنة وجميعنا سنساعد بعضنا حتى نبيل!
تغضنت السُّحَن وزوجها يوجه عتابه لها:
- يا عِناية اهدئي! لا داعي لانفعالك هذا، فلا بأس إن لم تحضر.
قاطعته بتسلط اعتادت التعامل به مع أولادها وإن كان لا يُرضي أحدا منهم حتى هي! لكنها لا تتحكم بطبعها فتستشيط غضبا لا تعلم له سببا وكل همها أن يُطَبق ما تريده وفقط:
- سنلحق بك جميعنا، اذهب أنت في أمان الله.
كان سيتحدث مجددًا عابسا هو الآخر لكن تقوى أعلمته برضوخها مسدلة جفنيها، فتنهد واستدار مغادرا وتاركا إياهم يتناولون الفاكهة بصمت وإطراق باستثناء صفاء التي ترمق شقيقتها بتمعن لطالما راقبتها به.
***
ما إن وصل الحاج عبد البر إلى حقله حتى فغر فمه ناطقا بذهول:
- ما شاء الله.
ثم التفت إلى الذي يجلس على جراره بكتفين تهدلا تعبا أو إحباطا لا يدري، فاستدرك بنفس الذهول وهو يخطو نحوه:
- المجنون!....هل جننت يا جرير؟
رفع رأسه وبحث حوله قبل أن تعود مقلتاه بخيبة آلمت قلب الذي أضاف بعتاب وهو يشير إلى الحقل:
- هل كنت تعمل دون انقطاع منذ أن تركتك؟ هل تناولت طعاما حتى؟
- أبدا يا حاج، لم يفعل! ولم يسمع كلامي بعد أن أنهى عمله.
تدخل رضوان بإشفاق فاستدار الحاج نحو الذي قفز من جراره يسأله بلهفة قلقة:
- أصدقني القول يا حاج، هل تقدم لها أحد؟ هل وافقتم عليه؟ ومن هو؟
زفر الحاج بضجر وسحبه من ذراعه رغم فارق الطول والحجم بينهما إلى ركن قصي في الحقل حيث لمح قُفَفَ الطعام، فأنبه بحزم:
- لا أحد تقدم إليها، ومن يجرؤ والجميع يعلم بحمقك؟ اجلس وتناول طعامك، ما تفعله لا يجدي!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- مرحبا بك خالة نوال... كيف حالك؟
أنهت كأس الشاي خاصتها ووضعته أمامها وهي ترد عليها باسمة:
- أنا بخير، حفيظة اخبرتني بأنكن اتفقتن على أن تجتمعن في بيت أهل زينة.
هزت تقوى رأسها بينما ترمق كؤوس الشاي برغبة واضحة في احتسائه فبادرت بصب واحد لها، وهي تسترسل بحديثها:
- اجلسي! لابد من أنك تعبة وجائعة، اشربي كأس للشاي وكلي من الكعك إنه لذيذ، سلمت يداك ...أخبرتني والدتك بأنه من صنع يديك.
كانت تقوى قد جلست تصغي إليها وقلبها لا يفتر عن انقباضه كما هو شأنه دائما في حضرتها:
- أنت وحفيظة وزينة وأختك صفاء في عمر الورد، فتيات جميلات بأخلاق عالية، لا أعلم سبب النحس المسلط عليكن ليتأخر بكن الزواج هكذا؟ أنت وزينة وحفيظة تخرجتن من الجامعة قبل سنتين وها هي صفاء على وشك التخرج هي الأخرى، لا أدري ماذا حدث للشباب؟ هل فقدوا أبصارهم أم ماذا يحدث معهم؟
ثم ما لبثت أن تلكأت قليلا في صمتها قبل أن تلمع مقلتاها السوداوين واللامعتين بكحل عربي ثقيل تكمل بينما تضم طرفي وشاحها الأسود المطرز بنقوش حمراء بارزة بأشكال متداخلة غير واضحة المعالم حول عنقها:
- مع أن الحق يقال، شاب من خيرة شباب الوادي يطلب رضاك ليل نهار وأنت ترفضين وتدللين عليه، أعترف بأن لك قدا رشيقا وطولا فارعا، وشعرا طويلا لامعا...
ارتفع حاجبا تقوى ترمقها بملامح تصلبت على هيئة الذهول والأخرى تنحني نحوها وكأنها ستهمس لها بسر بخلفية خلخلة أساورها الذهبية:
- لكن عزيزتي لا تعتمدي على ذلك كثيرا فالحقول مليئة بفتيات مثلك، بقد رشيق وملامح أكثر جمالا وفتنة، وجرار الحقول ذاك في النهاية رجل! سيمل من دلالك ويلتفت إلى أخرى...هكذا!
قرعت اصبعيها أمام عيني تقوى مجفلة إياها فرفت الأخيرة بجفنيها متعجبة، فقامت نوال لتفقد القدور حين ختمت حديثها مشيرة الى الشاي:
- اشربي الشاي هيا! وفكري جيدا، قد تكونين أول من يكسر اللعنة وينصلح حال البقية.
خفق قلب تقوى وملامحها ما تزال متصلبة ومذهولة لكنها وبسرعة استغلت انشغالها بالقدور، وهمست باسم الله لتفرغ محتوى كأسها في جوفها ثم وضعته مكان كأس نوال وأخذت كأس الأخيرة تضمه داخل راحة يدها، وهي تتلو آية الكرسي بهمس خافت.
- ما بك يا فتاة؟
انتفضت مجفلة من سهوها مرة أخرى، تتنفس بقوة وهي تركز بعينيها علي كحل مخاطبتها قبل أن تنقل نظراتها نحو براد الشاي رهين قبضتها.
- أراك عطشانة، هل أصب لك المزيد؟
أومأت لها تقوى رافضة وانسحبت مستأذنة منها بارتباك، ثم أسرعت نحو مغسلة خارجية عبأت فيه الكأس الذي خرجت به فجأة كي لا تسألها الأخرى بالماء، ودون تردد أفرغت محتواه على رأسها وهي تتلو المعوذتين.
تمالكت أنفاسها ولاذت بغرفتها تشغل شقيقتها عن الذهاب إلى المطبخ بأي شيء وكل شيء حتى نادتهما والدتهما لتساعداها، وكم ارتاحت حين لمحت جارتهم نوال تغادر لتطمئن على أهل بيتها وتحمل لهم من الغداء الذي ساعدت في تجهيزه لعمال الحصاد.
- أراك لاحقا يا عناية!
هتفت وهي تغادر نحو بيتها الملاصق لبيت الحاج عبد البر، والذي يشاركه واجهته شكلا ولونا، طلاء بني مائل للحمرة ونفس الباب الخارجي الحديدي الذي دفعته بخفة لتعبر نفس المساحة الصغيرة التي يتركها الجميع بين الباب الخارجي والداخلي، منهم من زرعها لتتحول إلى حديقة خلابة تهفو إليها النفوس ومنهم من جهزها مجلسا مزينا بأصيص الورود، ومنهم من أهملها لا ينتفع منها بشيء تماما كأهل هذا البيت الذي ما إن ولجته حتى ظهر لها زوجها يصيح ساخطا:
- أين تأخرت يا امرأة؟ هل تنسين بأن لك بيتا؟ ألا تملين من التسكع في منازل الخلق؟
زفرت تقلب مقلتيها دون رد تتجاوزه نحو المطبخ حيث وضعت سلة الطعام فوق الحاجز الرخامي قبل أن ترفع كفيها لتنزع عنها الطرحة كاشفة عن أخرى سفلية أصغر وحمراء (بندانة).
- هل أحدث نفسي يا امرأة؟
كانت حفيظة قد أسرعت إليهما في المطبخ الذي رتبته آنفا، لتقف بينهما استعدادا لوصلة صراخ جديدة، ترمق والدها بجلبابه الخارجي وقد دخل لتوه بعد أن قضى نهاره كالعادة برفقة أصدقائه من نفس سنه على مقهى شارع الشرفاء.
- ارحمني من نعيق الغراب هذا، كنت أساعد عناية في إعداد الطعام لعمال الحصاد، وها قد أحضرت معي خيرا كثيرا يكفينا ليومين.
رفع وجهه المجعد تأثرا بدوام السخط أكثر من مرور الزمن، يرمق السلة بتمعن قبل أن يلوح بكفيه مغادرا المطبخ:
- إن كنت أنا غراب فأنت البومة التي حلت بالخراب على بيتي وحياتي!
تخصرت نوال بصلف تصيح بكل ما يحمله قلبها من كره له:
- إن كنت بومة يا بدران طلقني! طلقني واخرج من هنا إن كنت رجلا بحق!
عاد مستنفرا بغضب، يصيح بدوره فيهز جدران البيت:
- إنه بيتي يا بومة! بيتي الذي لا أعلم حتى الآن كيف جعلتيني أنقل ملكيته إليك!

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


ثم ضحكت تكمل ببشاشة ابتسمت لها صديقتها وهي تمد كفها لتلتقط قطعة منها:
- تلك الهواتف أصبحت لعنة كفوف البشر حتى أنا بعدما كنت أستهجن الأمر، ما إن تعلمت القليل من أولادي حتى أصبحت آنس به؛ مكالمات وطبخ وكل شيء قد يخطر على بالك.
بلعت نوال ما في فمها، مشيرة لها بكفها المليئة بأساور تلمع بصفرة فاقعة بينما ترد عليها بتشدق تشكل على ملامح وجهها:
- أي لعنة يا عِناية؟ إنه مفيد جدا ولا أستطيع مفارقته، يقضي الحاجات يا صديقتي.
ضحكت عناية وقامت من مكانها وهي تقول لها ببشاشة:
- أوشك وقت الضحى على الخروج، ألا تأتين معي نتوضأ ونصلي الركعتين.
أشارت نوال إلى القدور على الموقد وهي تجيبها بينما تلوك قطعة كعك ألقتها في فمها:
- ومن سيراقب هذا كله؟ قد يحترق إن غفلنا عنه.
ثم أمسكت بذراعها تحاول إعادتها إلى كرسيها متابعة تفسير وجهة نظرها الفذة:
- صلينا الصبح ونافلة الإشراق أيضا، لابأس إن فوتنا الضحى من أجل إطعام العمال أليسا نفس الشيء، كله في سبيل الله، اجلسي واستريحي قليلا سوف تقعين من كثرة ما تقفين على رجليك.
بارتباك جلست عناية تحاول مهاودتها، فلا أحد أدرى منها بطبع صديقتها مثلها:
- حسنا سأرى الحاج وآخذ إليه الشاي، لابد من أنه أنهى حمامه.
أومأت لها بصمت مكتفية بطحن ما بين فكيها والنظر نحو من أوقفت شقيقتها في ما يظهر لها من ردهة البيت.
***
(قبل قليل)
جمعت سجادة الصلاة بعد أن فرغت منها وقد استحمت قبلها بسرعة ودهنت جسدها بالمسك الأسود ضمن طقوس تربت عليها بين يدي جدتها، أن لا تطيل من وقت عري جسدها كما لا تطيل المكوث في الحمام، والأهم فيما لقنته لها جيدا وكأن حياتها كلها يتوقف عليه هو ذكر الله في كل تقلب أو حركة، دخول أو خروج، قيام أو قعود، لكل أمر في يومها ذكر خاص أو عام صحيح عن لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تحفظه عن ظهر قلب حتى التحم بلسانها وأضحى يلفظه تلقائيا.
نزعت طرحتها وعباءة الصلاة لتعلقهما فوق المشجب ومسدت على شعرها وهي تقف أمام طاولة الزينة الخاصة بغرفتها التي تتشاركها مع شقيقتها، ترتدي منامة منزلية مكونة من قميص طويل وسروال بلون زهري مطرز بورود صغيرة.
فرَدت خصلاتها السوداء المبللة وبدأت تدهنها بزيت جوز الهند ولسانها لا يهدأ كعقلها المشغول طوال الوقت.
جمعت شعرها بقراص الشعر ثم توجهت إلى المطبخ إلا أنها لمحت شقيقتها تدخل عبر الباب وهي تلوي ذراعيها في الهواء مبتسمة بمرح، وتدور برأسها المكسو بنفس نوع الطُّرَح الطويلة.
نادتها فلم يبد عليها بأنها سمعتها فقلصت المسافة بينهما لتسحب الخيط الأبيض الطويل الواصل بين جيب ردائها المنزلي المشابه لخاصة شقيقتها بلون أحمر وبين أذنيها، فانتفضت مجفلة قبل أن تشق شفتيها عن بسمة كبيرة بينما تضم ذراعي تقوى تسحبها معها في دوائر وهمية تراقصها على نغمات تنساب من السماعات المعلقة بكف الأخيرة التي ترمقها ببلاهة ممتعضة:
- كلمات ليست كالكلمات.....
أوقفتها تقوى زاجرة بيأس من تصرفاتها البلهاء:
- يا إلهي! أصبتني بالدوار يا صفاء.
ضحكت أختها وهي تسحب هاتفها من جيب قميصها لتغلقه بينما تقوى تكمل حديثها الحازم:
- هل تأكدت من إنهاء العاملتين للأشغال عند البهائم؟
أومأت لها والبسمة الرائقة ما تزال على شفتيها، تجيبها بمرحها المعتاد:
- نظفتا رحبة البهائم من الفضلات، وتم إطعام الخِراف والدجاج وجمع البيض، كما تم حلب البقرة ومعزتيك الجميلتين وبالطبع تم إطعامهم.
هزت تقوى رأسها دون أن تتخلى عن واجهتها الجادة ملوحة بخيط السماعات:
- ألم نتفق على التقليل من سماع الأغاني؟
ضمت صفاء شفتيها إلى الأمام متلاعبة بمقلتيها كحولاء فضحكت تقوى رغما عنها، واستدركت بنفس اليأس من تصرفات شقيقتها المشاغبة:
- اذهبي لتستحمي!
زفرت تهم بالرفض فدفعت بها نحو غرفتهما بنبرة آمرة لطيفة:
- الآن وحالا! رائحتك نتنة ولا تنسي المسك وماء السدر، لقد تركت لك قنينة على المنضدة.
عبست بطفولية وهي تسير مرغمة:
- سأفعل أيتها المستبدة!
توقفت تقوى تُشيعها بنظرات حانية قبل أن تتسع بسمتها وشقيقتها تعود كما توقعت منها لتضمها بقوة كما تركتها تنتش منها خيط السماعات وتهرول نحو الغرفة ضاحكة بمشاكسة.
التفتت نحو المطبخ وتوقفت فجأة تشعر بقلبها ينقبض من نظرات الخالة نوال، جارتهم التي تقربهم شقيقة زوج خالتها والدة بهيج رحمها الله، وهي أيضا والدة حفيظة واحدة من صديقاتها المقربات. لطالما شعرت بنفور نحو تلك المرأة بعكس المحبة التي تكنها لابنتها التي تعزها كرفيقة كبرت معها وعاشت برفقتها سنوات حياتها الأربع والعشرين.
- أهلا بعروسنا الجميلة تقوى.
ابتسمت لها بهدوء وهي تعبر عتبة المطبخ، مجيبة بلطف:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


لم يكونا ينظران إلى بعضهما كل واحد منهما يحدق بأرضية الزقاق المعبدة بالحجارة والذي يتوسط بيوت البلدة، فقط تلك الصلة القوية والخفية تكمن في قبضة كفه الخشنة ظاهريا والمتفجرة حنوا باطنيا حول كفها.
- حين يتقدم إليك من يوافق شرطك لن نرده بإذن الله.
التفتت إليه ترمقه بإجفال أخفته بسرعة لكنه التقطه وتأكد له شعوره الداخلي بأن ابنته في صراع بين رغبتها وعقلها:
- أخبرتك من قبل بأن جرير شاب له حسناته التي أشهد عليها وله عيوبه التي أيضا أشهد عليها، أسأل الله المغفرة أنا أحبه رغم عيوبه ولا أملُّ في محاولة نصحه وتقويم اعوجاجه، لكنني!
توقف عند ناصية الزقاق المؤدي لبيته ليكمل بحزم:
- لكنني أحبك أكثر ولن أقف بصمت وأنت ترفضين متقدمين آخرين في انتظار أمر ترجين حدوثه قبل الزواج حتى تقنعي نفسك بأنك فعلت ما عليك ووافقت عليه وهو على ما يجب أن يكون عليه.
تهربت منه بعينيها بينما يضيف بنفس الحزم مواجها إياها بالحوار والحقائق كما عودها دوما:
- لن نكذب على أنفسنا يا تقوى، فأنت تعلمين بأنه قد يدعي ما تريدينه الآن لتوافقي عليه وبعد الزواج يعود إلى عادته! وكونه لم يفعل ذلك إلى الآن يضاعف من رصيد حسناته لدي ويثبت صدقه مع نفسه وربه، على الأقل هو مدرك لقدر وأهمية الأمر ولا يستهين به.
حينها نطقت بخفوت ساهم:
- ألا يحق لي المطالبة بما ألتزم به وأعتبره من أعظم الأمور في حياتي؟
ثم رمقته برجاء أن يتجاوز عن معرفته بها ككتاب مفتوح أمامه يقرأه ببساطة:
- إنها الصلاة يا أبي.
- وهو يصلي يا تقوى!
رد عليها مدافعا عنه لكنها فسرت له من جديد، وقد تحدثتا في الأمر مرارا وتكرار ومع أفراد أسرتها وصديقاتها حتى نبيل لا يفوت فرصة ليذكرها بروعة الضخم، جرار الحقول:
- لكنه مهمل بها يا أبي، لا يصليها في وقتها ولا حتى يعرف طريقه إلى المسجد إلا فيما ندر حتى الجمعة يا أبي لا يواظب عليها كل أسبوع.
خرجت منها حجة الجمعة جديدة في دفاعها مما جعله يبتسم لها بمشاكسة:
- آها! أنت مراقبة للوضع عن كثب!
عبست بخجل وأطرقت برأسها فشد على كفها ليسحبها نحو بيتهم، بينما يستدرك متنهدا بتعب:
- أعرف أن ذلك مهم جدا خصوصا في هذا الزمن الذي أضحى فيه الدين أخر هم البشر، لذلك أنا أوافقك ... لكن وفي نفس الوقت إذا قررتِ أن جرير ليس مناسبا سنغلق بابه نهائيا ونفتح أبوابا أخرى.
شعر بها ترتعش مجددًا لكنه تجاهل الأمر وفتح باب المنزل الخارجي الحديدي لتفر من أمامه ما إن أصبحا داخلا تبرر له بوجوب أخذها لحمام سريع. تنهد مرة أخرى قبل أن يتوجه إلى المطبخ حيث سيجد زوجته لاشك تجهز الغذاء للعمال:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ألقاها ببعض الجدية حين لمح معها امرأة أخرى وتراجع عن عبور عتبة المطبخ فلحقت به زوجته لترافقه إلى غرفتهما بينما تثرثر إليه بحديثها:
- سيجهز الغداء بعد صلاة الظهر إن شاء الله لترسله الى العمال، نوال ساعدتني أكرمها الله، ثيابك على السرير.
أمسك بكفها ورفعها إليه يربت عليها قائلاً لها بحنو يخفي بين طياته التحذير:
- أكرمك الله وسلم يديك انتبهي لبيتك وصحتك وإن احتجت لمساعدة أرسلي في طلب نساء الجمعية التعاونية، وادفعي لهن أجورهن.
بللت شفتيها تفر منه بمقلتيها محرجة فهي أدرى بزوجها الذي لا يرتاح لنوال شقيقة زوج أختها رحمها الله، والتي هي جارتهم في نفس الوقت. التقطت الملابس ووضعتها على كفيه تتودد إليه بالقول الناعم:
- الحمام جاهز ولا تقلق بشأني، أنا بخير الحمد لله.
هز رأسه باسما واستدار يقصد الحمام بينما هي تعود إلى المطبخ حيث وجدت نوال تبحث في الصندوق المجمد، فعبست بحيرة نسيت أمرها حين رفعت الأخرى رأسها عن الصندوق قائلة لها باستهجان بينما تغلق بوابته:
- هل قمتم بذبح خروف مجددًا؟
تبسمت عناية بودها المعتاد وهي تجيبها بينما تتفقد ما في القدور:
- ألن تعتادي على الأمر أبدا يا نوال؟ عبد البر يذبح خروفا من مواشينا وحين ينقضي لحمها يذبح مرة أخرى كي لا نضطر لشراء اللحم، أنتِ أدرى بالكميات التي نطبخها من أجل العمال والضيوف وحتى من يأتي من العائلة.
كانت نوال قد عادت إلى مكانها على كرسي من الكراسي الملتفة حولة طاولة عالية في المطبخ، تتأمل هندام صديقتها وجارتها بنظرات غامضة بينما تحدثها بنفس ودها:
- أنا مستغربة بما أن هناك قدر من اللحم متبق من الخروف السابق.
خطت نحوها بهيئتها المعتادة في المطبخ، ترتدي وزرة أمها جواهر على شكل تنورة واسعة فوق عباءتها المنزلية النظيفة دائما، توضح لها بتلقائية:
- إنه موسم الحصاد يا نوال، وهذا يعني عمال أكثر وزوار والخير موجود بفضل الله، دعك من الأمر وتناولي الكعكة من صنع يدي تقوى، تلك التي تعلمتها الفتيات من الهاتف.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


- حين توافق عليك بني، لا مانع لدي فأنت أدرى برأي، لن أجبرها على شيء، حين توافق عليك أزوجها لك في اليوم التالي ....بإذن الله وتوفيقه.
التوت ملامحه البارزة بانزعاج يكبته ومقلتاه لا تكفان عن اللحاق بها كلما أجبرهما على الابتعاد ترضخان لأمر خافقه، وخاطبه بنبرته المفعمة بعصبية تستولي على نفسه في أوقات غير مناسبة بالمرة:
- أنت تدللها يا حاج! وهي لن توافق على هذه الحال.
بتر كلماته حين لمح حاجب الحاج عبد البر يرتفع بتحذير فضغط على شفتيه بشدة وقد نفرت عروق وجهه ثم قفز من جراره برشاقة ومسح على وجهه ملاحقا أنفاسه الثائرة.
شعر بكف الحاج على كتفه فتشنج لبرهة قبل أن يستدير إليه، يتأمل بشرود سرواله القطني الأسود وقميصه الرمادي بخطوط سوداء متسخ الأطراف بالتراب:
- لقد أعلمتك بشرطها الوحيد بني، وفي الحقيقة هي أفضل مني في ذلك إذ لطالما كان حبي لك كابن لي يعميني عن أمور يجب أن أكون من يحرص عليها في من أرغبه كزوج لابنتي، وأنا أريدك زوجا لابنتي وبشدة، ولا أريدها أن تكون من نصيب غيرك.
احتدت أنفاسه بعدما شرعت تهدأ وعبس مجددًا فهز الحاج كتفيه باستسلام يائس من عصبيته التي لا تظهر إلا في ما يخص ابنته، وقد بدأ الضجر يتسلل إليه من الوضع بأكمله:
- لا تتعصب مجددًا، لن تبقى ابنتي دون زواج إن شاء الله إما أنت أو غيرك، وأنا لن أجبرها على أي شيء لا تطيقه نفسها، ففكر جيدا وحكِّم عقلك، ففي النهاية ما تطلبه منك في مصلحتك أنت قبل غيرك.
أولاه ظهره متجاهلا ملامحه المصدومة من الحقيقة التي ألقى بها في وجهه فجأة. قلبه يشفق عليه والله أعلم كم يحبه ويريده زوجا لابنته لكن الأخيرة أيضا محقة في رغبتها وكان لزاما عليه أن يحاول جهده وكل الأمر على الله:
- سأغادر مع تقوى إلى البيت، وسأرسل الغداء لك وللعمال...قد أعود بعد صلاة الظهر إن شاء الله، أعانك الله بني.
عاد خطوة إلى الخلف ليستند بجراره، يقسم أن الأرض مادت به كما لم تفعل وهو يتعرض للشمس كل يوم وفي كل الفصول، حتما قلبه سيتوقف يوما ما بسببها، هو الذي لا شيء ولا شخص أثر عليه في كل حياته البائسة، يتأرجح بين عصبية تهز كيانه من أجل ذكريات تختفي بين خفقاته النابضة بقوة والصبر من جهة أخرى ومن أجل نفس الذكريات البائسة!
لماذا إذن لا يفعل ما تطلبه منه ويريحها ويريح قلبه الباحث عن نهايته على يديها، كم يبدو مثيرا للشفقة!
لابد وأن كل من حوله يشفقون عليه وهو يفضح نفسه بتصرفات صبيانية من أجل من؟ فتاة؟ ولماذا؟! لأن شيئا ما قويا يحدث في صدره البائس كلما تذكرها أو حضرت في مكان يشملهما معا.
لأن اسمها وكيانها حين وجوده جوارها يزيد من خضار الجِنان حوله، ولمعان أشعة الشمس فوق رأسه!
لماذا هي بالذات؟!...لماذا حين تحضر حوله يكون لكل شيء معنى وحين تغيب يستعمر الركود محيطه بجبروت وطغيان؟
زفر بقوة ورفع رأسه يبحث عنها لتلوح له عباءتها البنية من بعيد، تسعى بحياء لا يخلو من كبرياء وثقة برفقة والدها فيشعر بالشمس يخبو لمعانها مع كل خطوة تبتعد بها عن المكان.
زمجر مجددًا بغضب من روحه التي تهفو إليها رغم كل ما يعذبه به عقله من لوم وسب لضعف نفسه نحوها، ومن شدة غضبه انحنى نحو مشط الحصاد الثقيل وحاول سحبه لحاله وقد أوشكت عروق وجهه وعضلاته على الانفجار فلم يشعر بمن انضموا إليه ليجروها معه ليتم توصيلها بمقدمة الجرار من بينهم رضوان الذي شعر بحال معلمه، مُبعدا عنه الرجال برفق ودهاء ليترك له المساحة ليمارس شغفه المتأصل في أحشائه المحبة للزرع وكل ما يمت له بصلة إلى درجة أن رضوان متأكد من أمر واحد.... لولا الحقول ما استطاع معلمه البقاء حيا!
***
- لماذا هذا الصمت بنيتي؟
أحنت رأسها نحو والدها تُقلص فارق الطول الملاحظ بينهما فتبتسم له بحب كبير مزروع في صميم قلبها نحوه:
- ربما هو التعب فكما تعلم لم نسمح لنبيل بالقدوم كي يركز على امتحانه، وكان علي القيام بمهامه أيضا.
تلكأت تدنو منه أقرب لتكمل بتأثر لمعت به مقلتاها الرماديتين:
- لست أشكو يا أبي، أنا فقط أشرح لك.
ما يزال على بسمته الحانية وهو يلتقط كفها بحنو بينما يخاطبها وهما يتمشيان جنبا إلى جنب عبر الطرقات بين الحقول التي أغلبها عبارة عن اخضرار الأشجار والحشائش واصفرار السنابل الذهبية:
- أعرف أن ابنتي القوية لا تشكو لبشر حتى والدها.
لمعت مقلتاها بزهو صاحبته بسمة خجلة وهي تطرق برأسها فأضاف بعد صمت وجيز، متأملا محيطه باستمتاع:
- تعرفين أنني أوافق على كل ما تفكرين فيه لأنه والحق يقال أغلبه يوافق الحكمة أو المنطق، وكل لحظة أحمد الله وأشكره على أنه أنعم علي بابنة مثلك لكن هناك ما أريد أن ألفت إليه انتباهك.
بلعت ريقها، تشدّ على كف والدها كما تفعل دوما حين تشعر بالخوف أو ما يعكر عليها صفو أفكارها فتلوذ بمن تثق به كطفلة صغيرة تقبض على كفه، ويكون ذلك أقصى ما تعبر به عن خوفها ليشعر بها، فيشد عليها هو الآخر بمؤازرة خفية خاصة بهما يبثها بها مساندته ودعمه.

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


ضم مؤنس شفتيه ممعنا النظر إلى ظهره قليلا ثم رفع جانب ثغره بسخرية تشبعت بها نبرته، وهو يرفع حزام حقيبته الطويل ليمرر رأسه تحته قبل أن يستقر على كتفه الأيسر:
- وبالرغم من ذلك، أنا أحذر يا ابن العم.
كان جرير قد وضع إبريق الشاي على الموقد واستقام بظهره مستديرا إلى الذي رفع كفيه يشبكهما ببعضهما ويحركهما في الهواء على شكل عصفور يطير:
- قد تطير منك عصفورتك لتُحلق في سماء أرض أخرى غير وادي الحقول.
تلفت جرير حوله باحثا عن شيء يرميه به فعلت ضحكة مؤنس، وأشار له وهو يغادر إلى عمله قبل أن يتسمر مكانه حين صاح صاحب الحقل المجاور لحقولهم، واقفا على الجدول الجاف الفاصل بينهم:
- موسم حصاد القمح أوشك يا جرير، هل وضعت جدولا للدَّور؟ من سيأتي بعد الحاج عبد البر وحقولكم؟
التفت مؤنس نحوه يبتسم له ساخرا بنظرة *أنت مفضوح* فزفر جرير وقد تخصر مجددًا ليجيب الرجل بعد ذلك بنبرة جادة لكن مؤدبة:
- أنت الرابع يا حاج حسين لا تقلق! إن شاء الله خيرا.
ابتسم له الرجل بمودة وهو يحرك قبعة القش الضخمة فوق رأسه، قائلا له بإعجاب صريح بما يراه أمامه من جنات خضراء مرتبة وزاخرة بخيرات كثيرة:
- حقولكم جِنان سخية يا جرير، وسأظل أتساءل عن أسرارك، فها نحن جوارك نفعل مثلك ونتبع نصائحك ولا نحقق نصف ما تحققه من نتائج.
ارتفع حاجبا مؤنس، يهتف بذهول متهكم:
- هل تحسدنا يا حاج حسين؟
ضحك الرجل ليخفي حرجه وارتباكه، وما لبث أن انتفض مهرولا ليطرد الشاب الذي دخل إلى حقله بغير هدى:
- أخرج من هنا يا مجنون! أخرج من هنا! لعنة الله عليك!...أخرج!
تنهد جرير بأسى مستغفرا ومستنكرا موقف الرجل، وتقدم ليشير إلى الشاب بينما يهادنه بكلمات لطيفة:
- تعال يا علوان ...تعال! أدخل حقل الأشجار واقطف ما شئت... هيا!
أمسك الشاب الصغير النتن الرائحة والملابس المهترئة برأسه الأقرع يمسح عليه بينما يقف على حدود الحقل بتردد وخوف:
- من حلق رأسك يا علوان؟
استفسر منه جرير بذهول بعدما لاحظ رأسه، فرد عليه مؤنس الذي كان قد بلغ جواره:
- اجتمع عليه بعض الفتيان من طلبة الثانوية وحلقوا له شعره، لم يعترف أي منهم بسبب فعلتهم! حتى بعد أن هددهم المدير بفصلهم من الثانوية عقابا لشهر ويحرمهم من امتحاناتهم ...كل ما قالوه أنهم حاولوا تنظيفه وحلقوا له شعره لأنه لا يستحم.
قطب جرير جبينه، مجيبا عليه بريبة والشاب ما يزال مكانه يمرر يديه على صلعته ويرمق من حوله بحذر وخوف:
- هذا غير صحيح، والدته تحممه كل ليلة حين تدخله إلى بيتهم مساء.
هز مؤنس كتفيه بخفة دلالة على جهله للأمر فأومأ له جرير والتفت نحو الرجل الذي هتف زاجرا بسخط:
- أخرجه من عندك يا جرير! سيفسد الزرع!
جعّد جرير ذقنه مديرا رأسه نحو الشاب الذي يقفز بين الأشجار بغير هدى، يلمس شجرة ثم يفر منها ليستدير من حوله وكأن هناك من يلكزه في جنباته فيبحث عنه، ثم هرول بخطوات واسعة ليغلق الموقد ويخفي القنينة قبل أن يستدير نحو جراره ليتسلقه بخفة وهو يجيب جاره:
- لا بأس يا حاج حسين دعه وشأنه! سيلهو قليلا ثم يغادر.
أشعل محرك جراره وانطلق نحو حقل الحاج عبر البر، فقال الحاج حسين بانزعاج لمؤنس الذي هم هو الآخر بالمغادرة:
- أخرجه أنت يا مؤنس... سيتلف الزرع!
رفع يده إشارة للتحية هاتفا قبل أن يستدير مغادرا:
- لم يتلفه قبلا ليتلفه الآن يا حاج حسين، لا تقلق! إلى اللقاء.
زفر الرجل واستدار إلى شؤونه ولم يلمح جانب ثغر مؤنس الذي ارتفع بسخرية يهمس لنفسه بينما يرنو جرار ابن عمه الذي يلتهم الأرض بحفرها بكل سلاسة:
- ويتساءل لماذا حقوله ليست مثل حقول جرير!؟
***
لمحها قلبه قبل عينيه، تلك التي تبعد عنه بعد النجوم زخرف السماء والقريبة منه قرب القلب خافق صدره، فيتخذ طريقه نحوها دون أن يتحكم في أطرافه التي تقود قطعة الحديد إلى حقل والدها، يمارس طقوسه معها كل يوم لا يكل ولا يسأم، ترميه بنظرة أولى فينبض قلبه بقوة يهز حنايا أحشائه ثم تحني رأسها وهي تسحب طرف طرحتها الطويلة من أسفل قبعة القش لتمسح به عرق جبينها فتلوذ بأناملها أمانيه لو كان هو من يُخلصها من كل تعب وليس فقط العرق ثم تستدير مبتعدة عن مجاله تتوارى خلف من يساعدنها في جمع العشب الأخضر (حشيش العلف) فتوقظه وبعنف من أحلامه التي لا تموت ولا تخبو جذوتها.
- مرحبا بني، يمكنك البدء متى شئت، أعانك الله.
جفله صوت الحاج عبد البر الباسم بحنو فنزع عينيه عن التي تظن بأنها أخفت نفسها عنه، لا تدري أنه يراها بقلبه قبل ناظريه، يجيب والدها بنفس رده الحازم كلما التقى به:
- زوجني ابنتك يا حاج عبد البر، لا تقلق على حقلك ولا قمحك.
علت ضحكة الرجل وهو يزيل عمامته ليمسد سطح رأسه قصير الخصلات المختلطة بالشيب قبل أن يبدأ بمسح العرق بأحد طرفي العمامة الصفراء، قائلا له بمرح يضيف إلى سماحة ملامحه مزيدا من الحنو واللطف:

أعمال الكاتبة منى لطيفي نصر الدين

21 Nov, 14:44


الفصل الثاني

إن الله سبحانه وتعالى يعطينا دون أن نسأل، ولو أن الله أعطانا بحسب الدعاء فقط لانقطعت عنا النعم التي تغمرنا...عمر عبد الكافي.

*لكل منا قوقعة يحيط بها نفسه، يظن بها أمانه والحد الفاصل بينه وبين محيطه أو بكل بساطة بسبب أنانيته أو ربما فقط بحكم شخصيته التي نشأت على الانعزال والتواري. كل منا يسمح بمواربة باب قوقعته بحسب نسبة ثقته بنفسه التي نشأت هي الأخرى على أساس مختلف يستحيل إحصاؤه، فهناك من يترك مسافة قليلة جدا فيستنكر كثيرا ويتعصب أكثر وهناك من يفتحه على مصراعيه فيتحول الى اسفنجة تمتص أي شيء في طريقها عطرا كان أو قذارة وهناك من يكون حظه من الحكمة ما يجعله متمسكا بدفة الباب، مغيرا المسافة بينه وبين محيطه على حسب ضرره أو نفعه لكن المعلوم أن قوقعة كل واحد منا مصنوعة من وهم قناعاتنا وخيالنا نحن وما يجهله أغلبنا أن ما نحاصر به أنفسنا من قوقعة إن تحولت إلى سجن وأشعرتنا بعذاب تقوقعنا فيها بكل بساطة لو تسلحنا بالإرادة وداومنا على التدرب، كل ما هو مطلوب منا رفع الكف وفقعها، لنكتشف حينها أن حقيقتها مجرد فُقاعة هواء فارغة.
- يكفيك ما قرأته من الهراء يا مؤنس، وقم لتساعدني على عزل العربة عن الجرار، لا أعلم أين تأخر رضوان؟!
رفع مؤنس رأسه عن الكتاب الذي كان يقرأ منه بنبرة مسموعة كعادته حين يكون بجوار ابن عمه وقد بدأ الأمر بإغاظته حين كان يستنكر عليه هراء الفلسفة وثرثرة أصحابها الفارغة، لتتحول إلى عادة أحبها وأدمنها وكأن في تلك اللحظات فقط يستشعر الأنس، هو أستاذ الفلسفة في ثانوية وادي الحقول التي من حظهم أنها أُسست سنة قبل التحاقه وجيله بها في المنطقة لترحم أولادها من العذاب المُجسد في حافلات النقل إلى المدينة السياحية التي لم تكن أيضا مريحة كالحاضر.
كان قد دس كتابه في حقيبته التي لا يفارقها أينما حل وتركها مكانه حيث كان يجلس في ركن خصصه جرير للراحة والطبخ، كونه يقضي جل أيامه بين الحقول إلى أن أضحت كمسكن له يأبى مغادرته إلا لأمر ملح، ولذلك عُرف بين الناس بجرار الحقول حتى أنه لا يعلم من بدأ بإطلاقه عليه لينتشر بينهم بتلك السرعة ولم يعد يخفونه عنه بل وهناك من يناديه به من بعيد حين يلمحه فوق جراره:
- انزع سترتك الجلدية يا مؤنس ستتمزق!
أشار له جرير بينما ينحني نحو العقدة الحديدية فزفر مؤنس متذكرا سترته وعاد إلى الركن المسقوف بالقصب، والمفروش بسجادات جلد الخرفان عليها مخدات ممتلئة بالقش للجلوس عليها.
نزع سترته ملقيا بها هناك وبدأ بثني أكمام قميصه بينما يقترب من ابن عمه الذي بدأ فعلا بمحاولات لفك العقدة حيث يتعلق طرف الجرار بطرف العربة:
- بأي حقل ستبدأ؟
سأله مؤنس وهو ينحني نحوه ليستدرك بعدها ساخرا بينما يضم يديه ليدي صديقه حول العقدة:
- يا له من سؤال غبي! طبعا حقول الحاج عبد البر حتى قبل حقولنا.
زمجر جرير محمر الوجه وهو يسحب القطعة الحديدة مرة واحدة، ليستقيم بظهره ناظرا إليه بتحذير:
- تحسب نفسك حاذقا، استمر في ذلك وستجد نفسك مغمورا بالقذارة تماما كالمتحذلق الآخر!
ضحك مؤنس وهو يتذكر منظر بهيج بعد أن ساقه جرير بملاحقته نحو حوض روث البهائم المجفف ليلقي به هناك قبل أن يكمل على انتقامه بصب سطل ماء عكِر عليه، فابتسم جرير مستغرقا بفحص قِطع الحديد المختلفة، وبعدما نفض مؤنس كفيه وتمالك نفسه حدثه بتعبير مبهم المعنى:
- أتساءل يا ابن العم لماذا لم تغضب من يوسف الذي مر بحقل الحاج عبد البر أيضا! بل وهو الذي يستحق غيرتك بكل ما يمتلكه من صفات جيدة.
اشتدت عروق وجهه مرة أخرى فيغزو وجهه المتأثر بأشعة الشمس مزيداً من احمرار لا يترك للسمار المكتسب مكانا على جلده الأبيض بينما يجيبه:
- أنا لا أغار من ذلك المهرج!
ألقى بما بين يديه ليخطو نحو الركن حيث كان مؤنس يقف متجهزا للمغادرة:
- لا تنكر! أنت تغار من الأشقر الوسيم على ابنة خالته لكن ابن آل عيسى في رأي من يستحق أن تخشى على عصفورتك منه.
- مؤنس اذهب إلى عملك! هيا غادر!
هتف جرير متخصرا بينما يرمقه بتهديد صريح، فاتسعت بسمة مؤنس الماكرة وهو يمرر أصابعه على خصلاته السوداء المجعدة التي تركها تستطيل قليلا لتصبح بطول خمس أو ست سنتمترات تقريبا واستفسر منه باستغراب:
- لطالما استغربت وغِرتُ من علاقتك الخاصة بنبيه ويوسف بالذات، هناك خيط خفي يصل بينكم ويسري بالتفاهم بين عقولكم ببساطة وسرعة.
تجاهله جرير بعد أن تهكم عليه بجفاء، مديرا له ظهره لينحني نحو قنينة الغاز الصغيرة ليشعل موقدها المستقر أعلاها:
- أنت تكثر من هراء الفلسفة الذي سيدمر ما تبقى من خلايا عقلك السليمة، هذا إن كان هناك بقايا من الأساس.

3,396

subscribers

367

photos

3

videos