لازالتُ احمل بداخلي تلك النظرة الرحيمة لهذا العالم، ولازال الأمل والجمال والحب والنور أعمدة ثابتة في زوايا قلبي.. ما زادتني هذه الأيام الصعبة إلا سكينة وقوة وإدراكاً وسعة، وإيماناً فوق إيماني.. قد يبدو للبعض كل شيء في الخارج موحش ومؤلم وغير عادل ولكني أرى يد الله ورحمته في كل شيء "باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبلِه العذاب"، ولو اطلعنا على الغيب لاخترنا الواقع، فكل شيء يحدث ضِمن خطة إلهية، دقيقة، محكمة.. وقد يرى البعض بأنها أيام نحسٍ مريرة، ولكني أراها "اياماً مباركة" لأنها حررتنا ولازالت تحررنا كل يوم من الأوهام والأباطيل والتعلقات وخبائث النفوس والأفكار، لذلك هنيئاً لكل نفس تحررت من أوهامها وتعلقاتها، هنيئاً لكل شخص ترقى في درجات الوعي والإيمان، هنئياً لكل الأرواح التي تحررت من ثقل أجسادها إلى عالم النور والجنان، هنيئاً لكل إنسان نظر بعين بصيرته، مُسلماً، واثقاً، مطمئناً لعدل الإله وخيرية الأقدار، هنيئاً لكل من واجه ألآمه وجراحه بالصبر والثبات "وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم"
كل ما مررنا ونمرُ به في هذه الفترة ليس إلا (اختبار وتمحيص) لحقيقة الإيمان الموجود بداخلنا.. هل هو إيمان شكلي، ظاهري، زائف، مهزوز، توارثناه؟ أم ثابت، متجذر، حقيقي، ينبع من أعماق القلب، يهزُ جبال الدنيا ولا يهتز أمام هول المشاهد وصعوبة الايام واشتداد المعارك وظواهر الأحداث؟ "إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرحٌ مثلُه وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ، وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكافرين" وما سُمي الإيمان إيماناً، إلا لأنك تؤمن ولا ترى ولا تشهد نتيجة ما وعدت به، أي: إيمان غيبي، بتسليم كامل وثقة تامة وتوكل وتفويض، تؤمن بالنتائج قبل حدوثها، بل تؤمن حتى وإن كان كل شيء في الظاهر والخارج يوحي لك بحدوث العكس.. وما نفعُ إيمان يظهر فقط ساعة النصر، أو عند رؤية وعيش النتائج أو بعد تحققها؟! "لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا" لذلك مع كل هذه المصائب التي نشاهدها يوم بعد يوم، تظهر حقيقة كل نفس بقوة أو هشاشة إيمانها، بصلابة أو زيف صبرها، بطهر أو خبث بواطنها، بوعي أو جهل صاحبها، بالصلة الحقيقية بالله رب العالمين.
"في الأوقات العصيبة قد يختار البعض تثبيت الأقدام ويختار البعض مخاطبة الأفهام ويختار البعض غزل الأحلام ويختار البعض معانقة أهل الآلام ورعاية الأيتام.. البعض قد يدفع من ماله والبعض تنفع الناس حنجرته والبعض يرتب التفاصيل للغوث والبعض يربت على القلوب.. ثغرك اختيارك فلا تلومن من اختار ثغراً غيره، وأعلم أن الله كما ينصر هذا الدين بالقوي الجاسر قد ينصره بالضعيف بل والفاجر إن شاء.. ليس لك من الأمر شيء.. فالزم ثغرك .. وأمسك عليك لسانك.. ولا تنازعوا" - هبة رؤوف عزت
أعجبُ في مثل هذه الأوقات التي تتطلب منا توحيد الكلمة ورصّ الصفوف والتآخي والتراحم بيننا أن نفعل العكس تماماً وننشغل بمحاكمة بعضنا البعض، وإطلاق التهم وبث العداوات وتوجيه الأحكام، في سبيل إيجاد من هو المسؤول ومن هو المقصر، تدخل في النيات وتكفير لفئة وتحامل على فئة آخرى، والحقيقة كلنا مسؤول عما يجري من أحداث، الناس تأكل بعضها البعض بدلاً من تقديم المساندة ومد يد العون وتطهير القلوب والتوجه إلى الله.
صلوا.. ادعوا.. طمّنوا.. احتضنوا.. تصدّقوا.. هدّأوا.. واسوا.. خففوا.. تفائلوا واصبروا.. كسر المعنويات ونشر الخوف وامتصاص الطاقات وهدم العزائم وتعزيز الحزن في الأعماق والتشكيك بعدالة الإله ليس إلا جزء كبير مما هو مخطط له، فلا تنجرفوا ولا تخضعوا ولا تهنوا ولا تحزنوا واستبشروا خيراً من رب عادل رحيم.
طريق السلام الداخلي والإتزان النفسي والطمأنينة الروحية قائم بشكل كبير على "الانضباط الذاتي"، الجميع يتوق لعيش السلام والسكينة ولكن القليل منهم صادق في نيته، مراقب لنفسه، صامد أمام نزواته ورغباته، صابر أمام اختباراته، ثابت في إيمانه، قابل لأقداره، متحكم بإنفعالاته، مطهر لشوائب ذاته، متذكر لحقيقته.. الكل يرغب ويحلم ويتمنى والقلة تسعى بثبات وانضباط واجتهاد، لتعيش بصدق على أرض الواقع جمال هذه الأمنيات.
اسوء نصيحة ممكن أن تسمعها في حياتك على الإطلاق هي كلمة: قاوم!. الكثير يرددها ويتخذها منهجاً وشعاراً في الحياة وينصح بها غيره، دون دراية وفهم لحقيقة هذا الأمر وآثاره النفسية وتجلياته الخطيرة على حياتهم. أن تقاوم يعني أن تُصارع في الداخل والخارج، يعني أن تخوض حروباً خاسرة من الأساس، يعني أن تسير عكس مجريات الأحداث وتعاند سريان الأقدار، يعني أن تغفل عن إدراك الحكمة واستلام الرسالة مما يحدث، فلا شيء عبثي الحدوث، ولا وجود للصدفة في حياة يحكمها الله، أن تقاوم يعني أن تستنزف طاقاتك في أمور خارج سيطرتك. وأي شيء تقاومه يكبر ويتفاقم ويزداد، سواء كان شعور، وضع، حالة، مرض، ظرف، افكار، أشخاص، أي شيء كان. وحتى وإن حدث وقاومت شيء واختفى من حياتك، فهذا ليس إلا تأجيل عيشك له ليعود لاحقاً بشكل اضخم وأكبر من قدرتك على التعامل معه، لتتعلم الدرس وتفهم وتدرك الرسالة وتعيش التجربة كما كُتبت لك، لا أن تقفز من فوقها وتترفع عن عيش التجارب الأرضية كما هي. لذا لا تقاوم شي، بل اقبل وتقبل واسمح لنفسك أن تعيش وتشعر ما تمر به، سلم نفسك للإرادة الإلهية، وثق به سبحانه وتوكل عليه.. حقيقةً مجرد ما انهيت صراع الرفض والمقاومة الذي بداخلك ستشهد تلاشي معظم مشاكلك ومعاناتك تلقائياً، وستفهم الرسائل المرسلة لك، ومن هذه النقطة تبداً بالإصلاح والتحسين والتغيير.