عن التفاخر بالجهل، وتقبل النقد، والألعاب السيكولوجية!
في مقدمة رسالة رنيه ديكارت "التأملات"، كتب لسادة الكلية اللاهوتية في باريس: «اذا تعطفتم فشملتم هذا الكتاب بعنايتكم... واذا تفضلتم اولًا بتصحيحه، لانني ادرك العجز بل الجهل الذي انا فيه»(1).
ثم في نهاية المقدمة، كتب إلى الموجه إليهم رسالته: «اما الذين لا يبالون كثيراً بترتيب ادلتي، وارتباط بعضها ببعض، بل يلهون بنقد كل جزء منها، كما يفعل الكثيرون، اقول ان هولاء لن يغنموا فائدة كبيرة من قراءة هذه الرسالة. وعلى
الرغم من انهم قد يجدون مجالًا للمحاكمة، في مواضيع عديدة، فانهم عاجزون
مهما اجهدوا ذواتهم عن ان يظفروا باعترض محرج، او جدير بالرد عليه.»(2).
وهذا ليس تناقضًا، بل هذا مِثال على مُمارسة الكثير للألعاب السيكولوجية، فديكارت الحقيقي، ورأيه الحقيقي هو الثاني، وليس الأول، فكتابة مِثل هذه
الجُمل البائسة، هو لغرض براجماتي بحت!
فلا أحد حقيقي، يعتقد في نفسه الجهل في شيء ثُم يُألف فيه، بل إن أعتقد في نفسه الجهل، فقد يكون هذا خلاف الحكم الأخلاقي!، واِعلم أنّه لا أحد يهوى ونفسه ترضى بالنقد، فهذا يتعارض مع ماهية الإنسان، فمَن قال أنا أحب النقد وأتقبله، كاذب، بلا شك، فنحنُ إذا تقبلنا النقد، ونحنُ نفعل، لا نتقبله سيكولوجيًا، بل نتقبله عقليًا، فقط، وهذا يكفي.
ومِن الجمل البائسة المشهورة، ما نُسب إلى سُقراط
أنّه قال: «أعلم أنني لا أعرف شيئًا!».
وأمثال هؤلاء الفلاسفة لا يتفوهون بمِثل هذه الركاكة، فنحنُ ننزه سُقراط مِن
أنْ يَقع في جملة متناقضة مِثل هذه، هذا لو قُصد بها ألفاظها، وإن قُصد بها فقط المبالغة، فهذا أيضًا كذب، فإذا كان الأنبياء والفلاسفة والصوفية، لا يعلمون شيء، فلن يوجد، كائن يُحمل عليه مقولة العِلم بالأساس، وإن قصدوا قصور عِلمهم
مقارنة بالباري تعالى، فمقبول، لكن هذه الجمل البائسة تُرمى هكذا، ثُم يعتقد
الناس أنّها من الفضيلة، وهي أبعد ما يكون عن الفضيلة في شيء!
' (تنبيه)..
عدم العِلم حالة نقص، وأمّا العِلم بالشيء كمال، فنحنُ نذكر عدم عِلمنا، إذا
سُألنا عن شيء لا نعلمه حقًا، ولا نذكر عدم عِلمنا بالشيء من باب الفخر، فأي
فخر يكون في الجهل!!
- انتهى.
______
(1) رنيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ص 10.
(2) المصدر نفسه، ص 16.