حَصاةُ ياقوت.

أودَعتَ في عَيني سِرُّ الخُلُود لصورتِك
وتَركتَني أتيه بَين السُكُون الذي يَحتضنك
والضَوء الخافِت الذي يَرسم على وَجهك
لوحةٌ فيها كُلّ تَفاصِيل الجَمال.

بدت كأنَها نسمة تائهة تذوب في متاهات الريح تَبحث عن مأوى قَلبه، كأنَها شظايا حنين مُبَعْثرة وكُلّ ذرة منها تُناديه وتغزل من الشَوق مِعطفًا واهِنًا تَحتمي فيه من برد الإنتظار..
تمضي مُتثاقِلة بين طُرُقات العُمر تُهمل عينها النَوم، تُبقي جفونها معلّقة بين السَّماء والأرض كأن السَهَر هو سَبيل الوصول الى الحَبيب، وفي كل لحظة تمر دونَه كالنُدبة الجَديدة على قَلبها وكأن صَبرها سيفٌ مَسنون يُمزِقها بِبطء، الشَوق فيها كجمرةٍ لا تَحرق ظاهِرها لكِنها تُفنى من الداخِل فتُبقي فيها رمادًا فقط، تُفَتِّش عن قُربه الذي يَمحي المَسافات ويُعيدها من عالَم التيه الى حُضن الحَبيب لأنَها تَخاف أن تَموت دون أن يصل إليها صدى الحَبيب الذي تَخُطّ له رسائلٌ بحروف نَبضها المُرتجِف..
هي نسمة لكِن بين ضلوعها إعصارًا لا ينتهي إلا بنظرةٍ منه تَمحو بِها الغُربة من نَفسها، هي لا تحبّه بَل تعيشهُ في مكنوناتَها في تفاصيل يومها وفي الحروف التي تنطقَها حتّى لو لم تكُن تعنيه فيها تُحبّه حُبًّا يجعَلها تتماهى معه حتّى يختفي مفهومَها عَن ذاتها وتَصبح هي هو، وفي النِهاية ما هي إلا كائنٌ ضَعيف أمام جَبروت الحُبّ فتسقُط من شَوقَها كأوراقِ الخَريف لكِنها مع ذلك تَبحث عنه وتَنتظر قدومه وتعيش على أمل رؤيته فالحَياة بالنسبةِ لَها وجودهُ مَعها بكُلِّ اللَّحظات، وجودًا يُنهي هذا الضَياع..
باتَت عاجِزة على ايقاف النزيف المتواصِل من الشوق المكتوم الذي ينهشها وبقت أسيرة لساعة زمنٍ لا تَتحرك إلا على نَبضات الحَنين، كانَت تطوي جسدها على ذاتها مُتألِمة، كأنَها تُحاول صدّ صراعاتها الداخِلية وإبقاءها فيها وهي تتغذى على فُتات ذكرياتها يومًا لكِن هذا الفُتات لا يكفيها! فهي تَحتاج قربهُ ودِفء يديه وكأنَها لَم تُخلق إلا لأجل أن تُحبّه كسجينةٍ راضية تسكن جدران القيد بكامِل إرادتها وفي كُلّ لحظة انتظار تكتبُ لهُ رسالة جَديدة مِن حِبر الدّمع الذي يهطل على خديها يرسم طريقًا مُثقلاً كأنفاسَها، ورغم ذلك تعرف أن حكايتها معه ليست انتظارًا فقط بَل حياةً كامِلة تَتَنفسها بألمها وبَهجتها، بغيابهُ وفي الحضور بأشواقٍ لا تَنتهي.

_

لفَقدكِ يا زَهراء
تَتَلعثَم بمِحراب حُزنَكِ الكلِمات
فَالبُّكاء عليكِ وحدهُ حديثٌ للعِشق،
سَيِّدتي، عِندما أُغلقَ الباب على نوركِ
لَم تكُن تلك مُجرد حادثة هجومٍ وكَفى،
بل إن تلك الصفعة كانَت غصَّةً للنبوة،
ولا عَجب عندها لو سويت الأرض بِمن عَليها
كيفَ لا وأنتِ زَهرةُ أبيها الذي
قال في فَضلها “فاطمة بضعة مني”.

صَمَتَت الأرض بِفقدكِ صمتًا كئيب
وبفقدِ المُحسِن ضَجَّت السَّماء
بأنينِ الملائكة وأساها، وعُظم بُكاها،
في اللَّحظة التي خرق المِسمار صدركِ
وشَجَّ اللعين بدفعهِ ضلعكِ..

و في الوَداع الأخير
مَطرت السَّماء حُزنًا عندما دَنا وداعكِ
الذي تحنُّ كل ذرةٍ في الكون الى ظلكِ فيه
وكُلّ شيءٍ هُنا يدين لضلعكِ المكسور
وللدِماء التي سالت على أعتاب بابكِ،
إن لِرُزئكِ وعظيمِ مُصابكِ نَارٌ مُستعرة
في قلوب شِيعتكِ لا تَبردُ ولا تَخمد

اللهُمَّ بلِّغ أُمَّنا الزَهراء السَّلام
وامنح قلوبنا التي احترقَت
بِحُبَّها عزاءً بلُقياها عند الحَشر.

إليْكَ أيُّها الأرق..
مَرحبًا بِك في حصوني المَنيعة
التي تَسَللتَها خِلسةً تَعزفُ في أُذني
لَحنًا من الصَخَب، جئتُكَ اليوم
مُعاتبًا علىٰ ما زَرعتهُ في أرجاء رأسي
من سياط الوهن وضوضاء المَعارك
حتّى تُرهقني الهَواجِس بين يديك،
ألست تستطيب ظلام الليل تجثو
على قلوب المُنهكين وتنثر فوق
رؤوسهم ثِقل العَناء ومَرارة الكدر؟
تتغلغل في جنبات فكري وأُحاول
جاهِدًا أن أجدُ محطةً لأستَريح،
مَحطة لا تَهمس في أُذني فيها
أسئلةً لا جَواب لها.

يا رَفيق اللَّيالي الطويلة
كفاك من تذكيري بما يزخر به فكري
من حُطام الآمال، توقف عَن أن ترغمني
على احتِساءِ كأس الذكريات المرّة..
لقد أرّقتني بما يكفي وأضنَيتَني حتّى
ذبلت كأوراقِ الشَجر، حَرِّرني منك
وأعِد لي نومي الرَغيد بعيدًا عَن عتماتِك.

صَدرِي مَناجِمُ فَحمٍ فِي حَرائقها
فَكيفَ أكتبُ نَصًّا يُثلجُ الصَدرا؟.