الزّفرَات @n_shi8 Channel on Telegram

الزّفرَات

@n_shi8


‏«ولِي زَفراتٌ لو يَدُمنَ قتَلننِي»

https://t.me/+xmztUdXJiFFmODg8

قناة الزّفرَات (Arabic)

تعتبر قناة الزّفرَات واحدة من أهم الوجهات على تطبيق تليجرام لمحبي الشعر والأدب العربي. بفضل تنوع محتواها وجودته العالية، تستطيع القناة أن تلبي احتياجات كافة القرّاء وعشاق الكلمة الراقية. يمكن للمشتركين في القناة الاستمتاع بمختلف أنواع الشعر من الشعر الفصيح إلى الشعر الشعبي، وذلك من خلال نشر قصائد مختارة بعناية واقتباسات أدبية مميزة. وبالإضافة إلى ذلك، تتميز القناة بتفاعل أعضائها وروح المشاركة الفعّالة بين القرّاء، مما يخلق بيئة ثقافية مثالية لتبادل الآراء والافكار حول الأعمال الأدبية المنشورة. بفضل جودة المحتوى والتفاعل الايجابي، يمكن لأي شخص يهوى الأدب الانضمام لعالم الزّفرَات والاستمتاع بكل ما تقدمه من محتوى ثقافي مميز. إذا كنت من محبي الشعر والأدب العربي، فإن قناة الزّفرَات هي الوجهة المثالية لك على تطبيق تليجرام. انضم إلينا اليوم لتكون جزءًا من هذه الجماعة الثقافية الرائعة ولتستمتع بقراءة أجمل الكلمات والقصائد الشعرية التي ستلامس قلبك وتثري روحك.

الزّفرَات

26 Dec, 20:26


ليل الهزيمة
——-

منذ متى بدأتْ الحرب، ومنذ متى بدأت في حربي، في مدافعة نفسي واحتراق روحي، في عجز الكلمات في الزمن الحزين.
أدمنت أوجاع الجميع، وكلما شذَّبت معنى للحقيقة رحت أسأل: كيف نمشي في اليقين؟ وكيف تسرقنا السنين؟ وكم علينا أن ندور على الحقيقة كي نسميها خروجاً أو هروباً من زنازين الأماني، من عزوف القلب، من عجز اللسانِ.. من رغيف الخبز، من لحم الخسارة، واحتضار المعاني، فتشت في قبح الرجال العائدين من الرذيلة.. والفراغ المستكين، فلم أجد غير انكسار الضوء في غبش السيولة، في ائتلاف الذلِّ في ضعف الرجولة.
يلتفني حزن هذا الليل البهيم، حزن طويل طويل، يتغشاني كلما خلوت، كلما نظرتُ للسماء، كلما أذنبت، كلما رُمت بُعداً وسلواً، وكلما توسدت فراشي، كلما هريقت دماء، كلما جاعت بطون خاوية، كلما جفت دموع النساء البالية، كلما نفدت بنادق الرجال من الرصاص، كلما لجأ مجاهد لشحذ السكين لحق واقتصاص، وكلما توغل اليهودي في أرض عربية، كلما سمعت عن المشافي، أو رأيتها.. لم أعد أرى غير مشافي غزة، بقايا الجرحى، الأدوية التي لم تعد تنفع، الجراثيم تلوث الدماء، والعدوى تقتل ببطء شديد، والقصف مستمر على بقية الحياة، والبرد يغتال الطفولة، والحزن يرمق من بعيد، كل شيء بدأ يفقدني وعيي، كل صوتٍ هو صوت صراخٍ واستجداء، كل ضوء هو ضوء نيران المدافع تدك أرض الأبرياء، يضيق صدري كلما نُعينا في غزة، ينقبض عنها لساني، ويضيق صدري، ويضيق، ويضيق، لا يتوقف أن يضيق.
سقط الخمار وأشرعت الفضيحة في ليل الهزيمة وجهها، وارتمينا من جديد خلف أحجية الأماني، خلف أعذار من هوان، فتشتُ عن آثار أحياءٍ في الوجوه فلم أجد غير انعكاس الظل، لا معنى، ولا تاريخ يسند جوعنا الأبدي للنصر، للعز، للتمكين، للقلب (يحيى من جديد)، وأسدلت الستار عن القضية «بقايا الموت في غزة، مرايا خسة العربي..»

——

نوَّاف

الزّفرَات

09 Dec, 01:31


وانتصرَ الثار
—-
اهداءُ النصر -لا الزفرة- لدم الشهداء المخضب بالمسك، لدموع الثكالى والأرامل، للأسرى في كل سجون العالم، لحمزة والساروت ومازن والكثير ممن لا يسع ذكرهم، وللحالمين من قبل الثورة وأكثر، لغزةَ اليوم عسى أن تكون نصرَ الغد
—-
ألا أيُّهذا البدوي الثائر في وجه الطغيان، الحامل عبء الكرامة، المتقلِّب على جمرة الغضب، أتذكر أول عتبات الثورة، هل حملتَ روحك للنصر المؤزر عبر الدم والرصاص، أم اخترت البكاء عندما اختار غيرك السماء، أما زال وقع أناشيد الثورة يقرع أذنيك، أتذكر الجوع والحصار، ماذا عن البراميل والوحشية الهمجية؟ أما زلتَ تنتشي الخطر كما الأمس القريب؟
فتقوا الجراح النازفة فضمدناها بخيوط النور، أثاروا العتمة فينا فأشعلناها بنور النار، وانتصر الثار، أغلقوا الفورة فتنفسنا الثورة، سكبوا الدمَ الغالي فكتبنا به النصر، حملتنا الأيام جهد السنين وارتقينا بها محلقين، لم تكن سورية كغيرها، بالدهشة وتقلب الأيام وارتقاء الشهداء، بالروح تحملها الكف المخضبة بدم الصديق، ودموع الثكالى، برسائل الحب ووداع الحبيب، بالقلوب متضرعة بالمعاناة والألم، بأصوات الكرامة تحملها الطيور، بنا جميعاً بعيداً عن ذلك كله، وبالسكين تُسن بأخبار الموت والحصار، بالنور الذي لم يغب عن أعيننا، بالإيمان الذي لم ينقطع، بذلك كله وأكثر.. انتصرت سورية وارتقت الثورة لتكون حقاً محققاً، لا يتحقق الحق عندما تثور.. لكن عندما تنتصر، ولن تنتصر حتى تثور.. حدِّثني عن السجون مغلقة دونها السبل، معلّقة دونها الأحلام، عن صيدنايا والمزة وتدمر، أما تزال عالقاً هناك، مختنقاً بعبرة العذارى؟ أكنتَ تريد نصراً بلا دماء؟ أم السلامة خوف وازدراء، لم تكن تلك السجون موحشةً إلا عندما سكنتنا الوحشة، ولم تكن ضيقةً بقدر سعة سورية كلها، لم تكن أسوارها جدراناً من أحجار.. بل خوفاً من أخطار، سكن السجن القلوب قبل أن تسكنها الأبدان، بالحق وكسر الخوف انهدمت جدران، بالنور القادم خلف القضبان، بالبنادق تحملها الأكتاف، بالإقدام لا بالتخلف تحت أنين الخوف.. والصمت المتردد، بالخطوة الأولى والحبر يُسكب على جدران المدرسة.. انتصرت سورية عندما اختارت ذلك.. لا عندما أرادت، عندما ثارت على خوفها.. لا على سجَّانها.
"وضَعوهُ في قفصِ الحصارِ
‏وكبّلوه.. فشقشقا
‏قصّوا جناحَيْه الجميلَينِ
‏استدارَ.. وحلّقا
‏نتَفوا خوافِيهِ
‏فطارَ.. وصفّقا
‏لا يملكون قرارَه حين ارتقى.."


نوَّاف

الزّفرَات

30 Nov, 20:35


سورية.. الكرامةُ والحرية

إهداء إلى حارس الثورة ومنشدها، الثائر في وجه الطغيان، بالصوت والرصاص، عبدالباسط الساروت الحاضر الغائب، اسمح لي هذه الليلة أن أطير بدلاً عنك.. ألم تقل يوماً أن دم الشهيد وقت القسى ما ينتسى؛ فاليوم لا ننساك



منذُ كنت لا أعلم، وإلى حيث بدأت أشعر، حننتُ حنين الغريب، لأزهار الياسمين وعناقيد الزيتون، للأزقة الضيقة خلف الجامع الكبير، لجمعةِ الغضب، وانتفاضة الحق المغصوب، لأطفال الحجارة الصلبة، للرسومات على الحائط، والعبارات تُكتب بدم القلب، للخطوة الأولى نحو الكرامة، لقبْل عقدين أو أكثر، للجبال الشامخة المليئة بالشجر، وللآمال المعقودة بالسلام، حننتُ حنين الغريب..
لدرعا الأبية حيث ابتدأت كرامة الشعب، لشغب الأطفال البريء، وللدور جاء الدكتور، حننت لطعم الحرية في خيالات السجناء، ولرواياتهم تكتب بدمع العيون، حننت لمستقبلٍ تنهدم فيه أسوار الأقبية المظلمة.. صيدنايا وتدمر والسجن العسكري الموحش، حفظت سوريا وعشقتها، كنتُ سورياً بعيداً عنها.. قريباً جداً منها، لطالما حلمتُ بدخول دمشق لصبا بردى الأرق، للصلاة في الجامع الأُموي الكبير، للبكاء على أطلالها متكئاً على جدرانها، لحلب وحماة ونواعير المياه، لإدلب درع الثورة ومنزلها، جبهتها الصامدة وقلبها النابض، لحُمص كما يسميها أهلها حيث عدسة هادي العبدالله تطارد الدماء الحارة، وتكشف ظلم النظام وبطشه، لحالاته الحرجة، لصوت هتافات الثورة تصدح عالياً، لحارسها ومنشدها، إليه -متطلِّعاً إليه-، متكئاً على جمر الغضب، والألم، والهم الذي لا يزول، مودِّعاً أهله وحلمه، حاملاً بندقيته على كتفه، مرتقياً بصوته نحو البعيد، كأنَّما به يطير.. مسنداً ظهره على جدار الذاكرة، حزيناً وحالماً، يحنُّ للحرية كما كنتُ أحن..مترنماً بقوله :
"حانِن للحرية حانن
يا شعب ببيتو مش آمن"
—————
أكتبُ هذه الزفرة بفؤاد واجف وعين لا تصدق، تزامناً مع سيطرة المجاهدين على حماة وحلب، مقتربين من أبواب حمص حيثُ الذكرى ما زالت تصدح في القلب. ليلة الأحد الثامن والعشرون من شهر جمادى الأولى 1446

نوَّاف

الزّفرَات

29 Oct, 23:56


معنَى أن تحيا

إهداء إلى الغرباءِ في كل بقاع الأرض، المثقلين بجمر الحنين، المتقلبين على لهيب الشوق، عسى الله أن يقر العيون ويجمع الشتات ويؤلف الأجساد ويخمدُ نار الوحشة..

—-
عند منتصف الليل من الليلة الأخيرة، في محطة القطار، في المدينة البعيدة من كل شيء وعن كل شيء، ترتجف الأغصان على الأشجار، وتتقلب الأوراق الصفراء على الأرض، تئنُّ الرياح أنين المضطرب، تحتَ سماءٍ متوشحة بسواد حالك ملأ الأفق اتساعاً، ومتوحشةٍ بحنين طويل سكن القلب وغصَّ به الحلق.. يجلسُ لوحده على كرسيٍ خشبي قديم، متكئاً على ركبتيه، مرخياً كتفيه من ثِقل رأسه، مرتحلاً نحو المألوف، سارحاً في خيالات بعيدة المنال، بعيدة كل البعد من يديه، بقلب تملؤه اللهفة، وبريقِ عين لا ينطفئ.
قد تختلفُ الأشياء، وتموج، تأتلفُ وتختلف، غير أن المعنى واحد، الحياةُ واحدة، والموتُ نفسه لا يتغير، ما الذي يدفعُ إنساناً أن يختارَ الموتَ في وقتٍ تُنتزع فيه الحياة، ما حقيقةُ أن تحيا بالموت، تختارُ الموتَ كي تحيا، كي تبقى في الحد الفاصل بين خلود المعنى وفنائه.. بالمعنى الذي أبقى الشهيد حيّاً حين اختار الموت؛ وعلو المعنى وخلوده..
ما قلبٌ مملوءٌ بالإيمان؛ بين الأشلاء، ما زفافُ الشهداء، ما ارتقاءُ الروح صُعدا، ما اقتسام الخبز اليابس بابتسامة نصر، ما الدنيا؟
ما تراقص جثث الأحياء على رائحة الموت، ما ارتجاف اللذة العمياء فوق ركام الدم، ما قلبٌ مملوءٌ بالوحشة تحت أنين الصمت، ما الخوف بين اثنين تقاسما الدنيا، بل ما الدنيا؟ المعنى لم يتغير، تغيَّر الإنسان وتغيرت الطريقة، فأُلْف الدنيا موتٌ، وبرود القلب موتٌ، وسكوتُ الفم موتٌ، لكنَّ الموتَ لا يعد موتاً.. لا يكتمل الإنسان إلى حينما يموت.
اللهم خلِّد ذكري، أدم أثري، ارفع بالحق قدري.. كمِّلني بالموت

"أتعرفُ؟ إن الموتَ رَاوِيَةُ الفتى
‏يقول: لحقٍ ، أم لباطلٍ انتمى
‏يعيشُ الفتى مهما تكلَّم ساكتًا
‏فإن ماتَ، أفضى موتُه، فتكلما.."

نواف

الزّفرَات

17 Oct, 16:50


آن والله للبطل أن يترجل مخلفاً وراءه الشوك والقرنفل، من سجنٍ إلى سجنٍ آخر ومن خندقٍ إلى ثغر، تزدري الخوف وتنتشي الخطر، نِعم حياة المناضل المؤمن، إليك في أقبية الظلم المظلمة، تحت البردِ والجوعِ والهم.. مطرقاً تفكر، مثقلاً بهمومُ الأمة، متطلعاً نحو السماء.. حيث الخلود، حاملاً روحك الأبية على كفِّ الغضب، متأنياً تنتظر فرصتك..
إليكَ في ساحة الوغى حاملاً الراية، متكئاً على زناد البندقية، مراغماً أعداء ربك، مدافعاً عن تراب أرضك، وإليك -لا عليك- مخضباً بدمائك معطراً بالمسك، متوسداً الثرى التي دافعتَ عنها، مرتقياً إلى السماء.. حيث الخلود، أبكيك للثأر المؤجج في الصدور، للكتائب في الثغور، للصغار يتطلعون إليك، لصدور الثكالى المحترقة بنار الثأر، لغزَة ومخيم الشاطئ حيث نشأت، للراية ألا تسقط، علينا من بعدك أبكي.. لا عليك..
طبتَ حيّاً مقبلاً غير مدبرٍ ولا مهادنٍ أو مصالح، قضيتَ نحبك وما بدلتَ تبديلاً، طبتَ حيّاً وحيَّاً حيث الشهداءُ والأنبياء، إلى حيث عماد وعياش ورفاق الكفاح.. إلى الدرب الذي اخترتَ بالطريقة التي أردتَ.. كما يموت الأبطال لا كما يموت البعير.. فلا نامت أعين الجبناء.

"بكيتُك للبلادِ تذودُ عنها
إذا الحَدَثُ الجليلُ بها أهابا
وعندي عَبْرةٌ لك لن تراها
تَخونُ العِلمَ والأدبَ اللُّبابا"

الزّفرَات

06 Oct, 21:00


عامٌ مضى

إهداءٌ إلى غزة.. حيثُ كرامةُ الإنسان
———-
كانت نقطةً واحدة، ثانية، بل ربما جزءاً منها، يختار الإنسان أن يعيش حينما يختارُ الموت.
في ليلةٍ كانت باردةً وطويلة، لم تكن مظلمةً كما هي حال الليالي، امتلأت نوراً بالإيمان وتزينت بحلاوة اليقين، بديعة وعجيبة، أهدت ثِقلها لرجالها، وازدانت لملاقاة ربها..
حينما اختارت غزة أن تموتَ.. عاشت؛ منذُ عام ما انفكت ذاكرتي تحملني لساعات الفجر الأولى، لأبعد من ذلك، للطيور المحمَّلة بأخبار الطوفان، لأشرعة الطيران، لأصوات المدافع واشتعال النيران.. لكرامةِ الإنسان، لأصوات القصف اللانهائية، لرائحة الدماء الزكية، للخوفِ والبرد، واللجوء، للخيام الرثة والطعام البارد، للركام وللمنحنين عليه الباحثين عن صوت الحياة، للأم تبكي صغيرها، تبكيه حين تنام وحين تصحو، وحين تكبِّر على صيحات المدافع، للأرملة تزفُ حبيبها، للإخوة يشكون فراق بعضهم بعضاً.. إنما هو فراقٌ واحد؛ وبعده لقاء الأبد، للكرامة يا غزة، للكرامة حملتني ذاكرتي، لجباليا حيث مآثر الأبطال، للزيتون، ومخيم الشاطئ، للشجاعية.. حيث الشجاعة أن تموت حاملاً الياسين، لاحتراق "الميركافا" لليهودي متمرغاً بدمائه، للكرامة يا غزة، للكرامة حملتني ذاكرتي، القبرُ أوسع من دهاليز الجسد، الروح تأسرها الذلة وتعيشُ ما عاشت كريمةً أبية، لطالما يا غزة عرفتِ كيف تعيشين وكيف تموتين، للكرامة يا غزة، للكرامة والنصر، كتب عليك الجهاد، وإنه لحق ونصرٌ من الله وفتحٌ مبين.
"ولولا البأسُ ما وَفَتِ الأماني
ولا نَهضتْ جُدودُ العاثرينا
ولولا النّقعُ ينهضُ مُكفَهِرّاً
لما نَهضتْ عروشُ المالكينا.."
——

نواف | ليلة السابع من أكتوبر

الزّفرَات

01 Aug, 22:00


شك اليقين.. ومتاهة الضدين

-إهداء واعتذار إلى البقية الباقية من رفاق الزفرات، الذين أخذتهم صفحة الزمان إلى غير زمانهم، الصابرين على وعثاء القلم، واكتئاب الحبر، ضرباً نحو زفرة أخيرة-
—-

عند آخر الغسق، وقبل أول الفجر، عند اشتعال الجمر، وانطفاء الرماد، حين يشتدُّ الألم ويخفت الصوت، بعيداً عن السفح، حيثُ تضطرب الرياح
هناك في الأفق البعيد.. حيث لا قيود..
اخترتُ الضيمَ على القعود، اخترتُ الحزن والأرق، ومصافحة القلق، بل لست أدري لعلّي لم أختر شيئاً، ولدتُ أحمقاً يهذي، يقرأ الشعرَ ولا يتمثَّله، ينتشي الإباء ويزدري الخوف، بلى كنت أخاف، وأرتعش، وكثيراً ما كنتُ أهرب، لكني طالما بقيتُ حراً، مكبلاً حيناً وطليقاً حيناً، وفي الحالين كُنت حُراً، وكنتُ أشعر، أو أدعي ذلك، أردت البقاء قريباً من الضحايا، بجوار الأسارى.. الأرامل والثكالى، الأطفال اليتامى، وساكنِي الخيام، والمشردين في الظلام، أريد لقلبي أن يحملهم، ولعيني أن تراهم، أريد ليدي أن تُضفي السكينة على رؤوسهم، وتمسح عنهم حزن الليالي السود، وتنير الطريق.. أريد أن أسير فحسب، أكره القعود وأكره الضعف، وأكره العالم، وأحقد.. أحقد كثيراً؛ حقدتُ حتى احترقت عينايَ، وامتلأ صدري غيظاً، واشتعلت فيَّ النيران، وانتابتني وساوس الشيطان، وساوس الشك واليقين، السير والقعود، الضعف والجلد، النوم والأرق، الراحة والقلق.. ومتاهة الضدين، لست أدري أي درب أسلك، وأين أذهب، عبرتُ الدرب المظلم البعيد، دربٌ إنسانيٌ مديد، عبرتهُ رفقة الكثيرين، سقطَ بعضهم واختُطف آخرون، في معركة غير متكافئة، ثم إمعاناً في بهيمية الانتصار؛ جُعلتُ القشة التي قسمت ظهر الحمار، فلا عير ولا بعير، ووسطَ هذا الهشيم المرير لم أصل بعدُ إلى حلٍ إزاء الدرب الذي أريد، لا شيءَ يجعلني أقدم أو أُحجم، لا معنى لأن أتكبد خسارة أخرى، أترك كل احتمالٍ آخر، بعيداً كان أم قريباً، وأقول أن حزناً ما يدفعني لأن أكتب، على سبيل الحيرة من بلوغ الأمل، والخوف من فقدان الحلم، والرغبة في الوصول لحرية الاختيار، إما حياة تسر الصديق وإما مماتٌ يغيض العدا..


نوّاف

الزّفرَات

23 Jan, 17:38


الأول من رجب..

-إهداء إلى همام.. صاحبُ الظل-


ها قد أتى، لم أكن أظنه سيأتي، على أنِّي قد رأيته مراراً، رأيته على طول الطرقات الموحشة، وعبر زوايا الممرات الضيقة، وخلف باب الغرفة، وعند عتبة المنزل، رأيتهُ في عيني أمي، وفي انكسار أبي، وفي توجع أخي، ومن خلال نافذة الغرفة، رأيته في انعكاس الشمس على المرايا، وفي ضِيق الزوايا، رأيته في ليالي الصمت الحزينة، وفي صباحات العجز الكئيبة، رأيته في صوت المفاتيح وارتداد صدى الأسياب الطويلة، رأيتهُ في ليالِي الأرق ومن خلال تصبب العرق، رأيتهُ في سجادة الصلاة، وفي كمامتي السوداء، رأيتهُ رائحة تعفُّن الخبز وفي فتات حباة الرز، رأيتهُ في تخلي الأصدقاء وفي لوم الأقرباء، رأيته غصةً في الحلق، وارتجافاً في العظام، رأيتهُ كابوساً مزعجاً، لطالما نغص علي أحلامي..
الأول من رجب.. سيثقل كاهلي كل عام، لأتذكر كل شيء، ولكيلا أنسى ما علي، ولأدعو، لأدعوَ كثيراً، لأحلم طويلاً بطلوع الشمس، ولأكره الظلم، ولأتنفسَ كل صباح، ولأمشي وأركض، سيعود ليخبرني أن الإنسان قضية، وأن الدرب طويل، وأن الحق عزيز.. وأني لابد أن أبقى ذلك الفتى الذي كنت عليه في الأول من رجب.


نوّاف

الزّفرَات

27 Dec, 19:22


نِصفٌ آخر..


قبل أن أدري ألفيتني وحيداً، متروكاً للوحشة، هكذا دون مقدمات، اختَارتني مخالب الفراق، ولم أختر شيئاً، كنت مرغماً على البقاء وحيداً، شعرتُ حينها بظُلمة الطريق، بدا لي ولأول مرة، موحِشاً جداً، في الواقع لست أدري أكان هكذا موحشاً دائماً، أم أن الوحشة سكنت قلبي عند لحظة الفِراق، أنكرت نفسي، ليست هي التي أعرف، لم أعتد ذلك، لم يخلقني الله وحيداً، أقصد لم أكن هكذا من قبل، وُلدتُ مصحوباً.. وصاحباً، طالما كُنت اثنين لم أكن واحداً أبداً، كان شاقاً علي أن أُترك هكذا، يعزُّ علي ألا أراه معي، كنت ممزَّقاً نصفين، نصفٌ هُنا، ونصفٌ سقط مني هناك، لست أدري كيف استطعت البقاء حيّاً، عندما يفارقُ المرء نفسَه يموت، مُتُّ حينها، كنت أنظر للمرآة كثيراً لأراه، لطالما كُنت ظِلاً، يصحبني حيثُ يسير، أُخذت في ظُلمةٍ حيثُ لا ظل، كنت معه لا أفارِق ولا أفارَق، لطالما كان لي جسدين واسمين وقلبٌ واحد.
في الليلة الأولى كان قلبي يخفق بقوة، كأنه أراد الخروج، ليتني كنت أعلم على وجه الدقة لماذا.. ألأني كُنت وحيداً؟ أم لأنه لم يكن معي، بجانبي؟ يا ترى هل تشعر القلوب بالبعد إذا تمزَّقت نياط الوصل بينها، كنت حائراً جداً، كم سيصمد قلبي قبل أن ينفجر؟ ليهدأ؛ كان علي النوم، لعل خيالاً في المنام يكون، قبل أن أغمض عيني أدركت أن الخيال لن يكون كافياً، أواه من حرارة الوجد وألم الفقد..
أحرقني التفكير في حاله، حتى وأنا أتقلب تحت سياط الخوف أردت أن أعبر الطريق إليه، أطمئن عليه، أنظر في عينيه، ما عساه يفعل الآن، كنت أعلم أنه لم ينم، كيف أطمئنه، كيف أخبره أنني ما زلت واقفاً، وأنني على الرغم من ضعفي، سأظل واقفاً.
لوهلة شعرتُ أنه يسمعني..
أخي أعلم أنك حزين، مستوحش، تشعر بالضيق، أريد حقاً أن أعتذر، أعتذر لنصائحك التي لم أستمع إليها، ولتلك الأيام التي اخترتُ أن أكون فيها أنت، أعتذر للأخطاء التي ارتكبتها باسمك، وللأشياء التي أخذتها منك، أعتذر للغربة التي تركتك فيها، أعتذر لأني خذلتك، لأني جعلتك تجابه الأيام وحدك، أعتذر لأني كُنت توءمك.



—-
نوَّاف

الزّفرَات

21 Oct, 22:08


صمتٌ مُطبق..


قبلَ أن أشعُر، أرهقنِي التَّفكير، أعيتني الرغبة في البكاء، أزعجتني تلك الفراغات، الأزمنةُ الجوفاء، التي تزعُم زُوراً، أنَّها أوقات، وهذهِ الزَّاويا المُظلمة التي تدَّعي الثّبات، والكلامَ الخافت الذي تُردِّده عليَّ ولا أسمعُ منه إلَّا الهمس الذي قادَ سِواي إلى الجنُون، أعيَتني الغُرف بوحشتها المميتة، ووحشيَّتها المقيتة، والجُدران إذ تكررُ صمت الجدران، والهواءَ الذي لا يحرِّك شيئاً سوى رُوحي المُتلفة، والنَّافذة الكاذبة التي أرتنِي أنَّ ما أراه هو الخارجُ ومشهدهُ وليس الغبَش الذي في عينَيَّ، أعياني ضجيج الصَّمت من حولي، صمتُ الجدران المُطبق، صمت السقف المُرتفع، صمتُ الليل الموحش، الذي كانَ يخبِرني أن الفجرَ بعيد، أتعبتني الذِّكريات التي علَّمتني أنَّ الحزن أطول من تلك الليالي.
كلَّما حضر هذا الصمت المُطبق حيثُ لا يطغى حضور؛ ينتابُني القلق، يتغشَّاني الخوف، تسري في بدني رعشةٌ خفيفة، يلحُّ علي شيءٌ ما أنَّ عليَّ مغادرة الغُرفة، من مقابلةِ شخصٍ ما، أي شخص، تُصيبني اللهفة لرؤية الوجوه، لسماع الأصوات، للسير في أرجاء البيت، صِرتُ أمشي تائهاً لا أعرف لي وجهة ولا طريقاً ولا غاية، صرتُ هكذا.. فقط أمشي، أمشي قليلاً ثم أقف لألتفتَ خلفي، لا أدري لماذا كُنت ألتفت، كنتُ أريد أن أملك الخيار، أن أملك قلبي وقدمي وعُنقي، أسير إذا أردت وألتفت إذا أردت، لكنِّي لم أملك قلبي.. في الواقع لم أكن مأسوراً كما كنت حينها، للمرة الأولى وفي منزلي كُنت مقيَّداً أكثر مما ينبغي، مقيَّداً ووحيداً، شعرتُ أنني محبوسٌ في قفص، كأنه حُكم علي بالسجن مدى الحياة، سجنُ الصمت الذي أطبق على شفتي كان خانقاً، كُنت أقول لنفسي أنَّه وعلى أقل تقدير ما زلتُ أملك الخيار، كُنت حراً بين خيارين أن أقعدَ حراً أو أن أمشي مقيَّداً، اخترت المشيَ.. اخترتُ حريَّة ساقيَّ.. ومع هذا فإني لا أنفكُّ أشعر بالحزن، كانت أحزاني خصبة، لا تُفارقني، دائماً ما تزُورني، تقضي بصحبتي هزيعاً من الليل، تُلازمني حتى الصباح.
كلَّما حضر هذا الصمت المُطبق حيثُ لا يطغى حضور؛ أتقلَّب في فراشي عاجزاً عن النوم يعترِيني فزعٌ داخلي من تلك الأحاسيس، يتبادر لرأسي ذلك الصداع، صُداع الألم والخوف والرهبة، تؤرقني تلك الأفكار والصور والمرارات، أشعر أحياناً كأن كتلة تقف في حلقي، تخنقني. نسقٌ متلاحق من الصورِ المتدافعة عند عتبة الذاكرة؛ تتبادر وتتصادم كما لو أن كلاً منها تبتغي قصب السبق، تندفع معاً أو تنكفئ معاً، وأنا أحاولها هدنة ما لعلها تسلو قليلاً عن حريقي، صورٌ فجَّة غليظة، تدفعني رغماً عني نحو النافذة، لرؤية السماء، للشعور بنسمة الهواء، لرؤية الساعة، للنظر في أن عقاربها تتدحرج، أراقبها مُنتظراً فجر الخلاص



- نوّاف

الزّفرَات

14 May, 00:22


غبشٌ..


لم يكُن أمراً بسيطاً، أقصد في ذلك المكان، لم يكن أمراً بسيطاً أن أخادع الوقت، كُنت متأكداً أنَّه لم يكن يمر، يستحيل ذلك؟ نعم، عند الذين يرون الشمس، القمر، النجوم، يشعرون بتغير الجو، بدخول الشتاء والصيف، عند الذين يملكون ساعاتٍ في أيديهم، يمرُّ الوقت..
أمَّا هناك لا يوجد ساعات، بل لم يكن هُناك وقت، ولا زمن، توقف الزمن منذ اللحظة الأولى، وتوقفت أيضاً عن الشعور، آه.. ليتني توقفت، ليتني لم أكن أشعر بشيء، ليتني لم أكن أحنُّ كثيراً، وليتني لم أبكي بين الحِين والآخر، لم أكن أقوى على العيش مُحمَّلاً بعبء من أُحِب، ومحمِّلاً إياه عبء الغِياب، لشدَّ ما أوهنني الغيابُ والبُعد، أحرقَا قلبي وفتتا كبدِي، كُنت أُجابهُ الفراغ، بدّد روحي، لاشاها ومزقها، غيَّبها، جعلها رُكاماً، كيف يمكن لشخص واحد أن يعيش تحت وطأة الفراغ، كيف يقوى على العيش في غبش الوحدة، أعيانِي الغبشُ الذي أرى فيهِ طيفاً على الدَّوام، طيفٌ لا تمسُّه يدي ولا تحتوُي تفاصيلهُ روحي، أبصرهُ حينما أبصر، وأبصرهُ حينما لا أبصر، طيفٌ كمثلِ الغياب، لا أراهُ كاملاً فأشتفي، ولا يتركني لوحدتي فأكتفي، طيفٌ ليسَ كالحُلم، لأن الحلمَ هناك وهمٌ يزول، مثلمَا أنني كُنتُ أزول .


- نوّاف

الزّفرَات

08 May, 00:30


النافذة..

أعرِفُ جيِّداً كم هو مُؤلمٌ أن تقف خلف النَّافذة كما يفعلُ من ينتظرُ شيئاً، أمراً، أحداً ما، تُقعدك الوحدة والخوف والحنين مشدوهاً أمام النافذة، كأنَّك تُشاهد فلماً ما، كأنَّك تستعرض سجل ذكرياتك القديمة سعيدةً كانت أم حزينة، تدفعك الوحشة -رغماً عنك- إلى دوامة الفضول من أن الأشياء في الخارج ما زالت كما هي، الناس هم الناس، الحياة لم تتوقف، أنت فقط خرجت من دائرة الزمن، تتلقفُك الوساوس، وتنتابك الحسرات، تشتاق لمشرق الأنوار، لعليل الهواء، لتغريد الطيور، لصوت الأطفال، للتفاهات التي تُفسد عليك يومك، تشتاق لكل شيءٍ، تشتاق لئلا تشتاق، لكنّك - مع الأسف - لا تملك قلباً صلباً جلداً يحتمل هذه المشاعر ليُقاوم الدموع من الانهمار، لا تملك شيئاً غير هذه النافذة، تجلس مقابلها لا تعرف ماذا تفعلُ بيديك، ولا إلى أي اتجاه تنظر، ولا إلى أي بقعة تحدِّق، ولا إلى أي شيءٍ تنتظر.. آسف، كُنت أعرف جيداً ماذا أنتظر وماذا أرجو، كان الانتظارُ مُتعباً، شاقّاً، مؤلماً، ولكنَّ المؤلم أكثر أنِّني لم أكن أعرف إلى متى سيطول الانتظار، يوماً، شهراً، عاماً، أبداً.. يا إلهي كم كان الانتظار كئيباً.


- نوّاف

الزّفرَات

18 Feb, 18:35


لم أعد أعلم..

التذكّر هو الموت، لم أستغرق وقتاً طويلاً حتى أدركت أن التذكر هُو العدو، فمن يستسلم لذكرياته ينكسر، ما أدركت قبلاً كم هو مؤلمٌ الشعور بالحنين، أكان سُمّاً أتجرّعه رغم أنفي، أم خِنجراً مغروساً في قلبي، أم كانت ناراً تلتهب في كبدي.. أم ثلاثتها ..!
كُنت أنشد الأبيات التي كان الشعراء يتمنون فيها زيارة طيف محبوبهم؛ ولكني لم أكن أريد لذلك الطيفِ أن يزورني، إلّا أنّه كان ضيفاً ثقيلاً لا يُفارقني، كنت أسمع صوته جيّداً وأرى محياه مُتمثّلاً أمامي، حينها أدركت أن النسيان هو الحل أردتُ حقاً أن أنسى كل شيء؛ إلّا أنني فشلت..
"إذا رمتُ عنه سلوةً قال شافعٌ
من الحب ميعادُ السلوِّ المقابرُ.."
في الواقع كُنت أخاف أيضاً أن أنسَى، أردت لروحي أن تطير غير آبهة لطول المسافات، أردت لها أن تذهب حيث تشاء، حيث كان لها أن تكون، أغلقت عينيّ وأخذت أتذكر كل شيء، كل تلك التفاصيل الصغيرة، كانت تجربة مغرية أن أستسلم لحلمِ يقظةٍ ينثرُ فيه الماضي صوراً مجمَلةً في الغالب، مغبّشةً أحياناً، وواضحة في أحيانٍ أُخَر، لم أكن أريد أن أفتح عينيّ؛ ففتْحُها يبعثُ شبح الرجوع إلى الحياة..
يا إلهي كم كُنت متناقضاً، كنت ضحية لذلك الصراع، حتى أنني لم أعد أعلم ماذا أريد.. أنا حقاً لم أعد أعلم

—-
نوّاف

الزّفرَات

18 Feb, 10:16


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. مسّاكم الله بالخير يا أحبة، شاكر لكل من سأل أو دعا، وأعتذر لمن لم أُجبه، فضلكم عليّ كبير والله..أحسن الله إليكم ورضي عنكم
أبشركم أني بخير والحمد لله

الزّفرَات

13 Dec, 18:24


فِتيةُ العراء..

بطيئاً وقاتماً يُكمل الشتاءُ عملَه الثقِيل في الوجُوه والأصابع، في أجساد الكبار والصّغار، كانَ يعرفُ طريقه لقلوبهم الفارغة، يسير على حوافِ الطّرقات الضيقة، بين الأشجار والأتربة، هناك في إدلب الليالي طويلةٌ داكنة، الأعين كانت تتقلّب في السماء بانتظارِ الأمل.. شُعاعُ الشمس كانَ كُلُّ رجائِهِم!
لك أن تتصوّر حالَ البشر ومنظرهم في هذه الظروف، بعد أن هدّهم البردُ وأعجزهم، ثمّ أقعدهم الخوفُ وقلّة الحيلة، فجلسوا مُحبطين على جانبي الطريق، متكوّمين ومتلفعين بقماشات رثّة غطّت الرأس والجسم، لم تظهر منه سوى وجوه يائسة مغبرة، وأعين زائغة تتابع المارّة وتتطلع إلى المجهول..
فِي أحد الخرائب القريبة التي باتت مساكنَ الآن؛ كان يجلسُ محتضناً ساقيه، واضعاً ذِقنهُ على رُكبتيه، يتأمل اللهب الذِي انعكسَ على عينَيه، كانت النار أرحمَ بهِ من قومه، من الذين خذلوه وضنّوا عليه بكل شيء.. حتى الدّعاء!
"صباح البردِ .. إنَّ النار أرحم بي
‏وأرأفُ رغمَ قسوتها منَ العَرَبِ.."
يبسطُ يديهِ للنّار ثم يعود يفركهُما، ثم يبسطها من جديد حتّى تلين، كان يعاود الكرّة وهو يتأمّل، هل في هذا الكوكب قلبٌ يلين لنا كما تلينُ يديَّ
كانَ البردُ شديداً يُمزّق جسدهُ الصغير، آتياً من قِمم الجبال محمّلاً بنسماتٍ باردة، صوتها كان أشبَه بصوت آنّات الأطفال الخائفين..
ماذا كان يدُور بين هؤلاء الصغار، عن ماذا كانوا يتحدّثون؟ أما أنا فأستطيع أن أخمّن .. كان أحدهم يتذكر يوم قُصف بيتهم، والآخر يتذكّر ليلةَ زُجّ بأخيه السجن، وكان الثالث يحاول ألّا يتذكر يومَ اغتُصبت أخته، لم يكونوا صِغاراً، حمّلتهم الحرب أعماراً فوق أعمارِهم، وأكل البرد والخوف والجوع من صحّة أجسادهم.. فيا للفتية الغرباء .. فتية العراء والبعد والألم حين يعتصرهم الحُزن.. فتية الله الذين أخرجهم الضَيم، وشردهم الظلم..

—-
نوّاف

الزّفرَات

19 Sep, 16:00


بينَ النّور والدّيجُور

——

كانت خُيول الظّلام تكتسح بحوافرها كل السّاحات، تملأ المُدن والقرى.. تقتحم الصحاري والقِفار والفيافي والبحار، كان الظّلام يتهادى من رؤوس الجبال، لا بصيصَ لنورٍ ينتشل النّاس من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، صوتُ الريح كان يُلقي رداء الشر المتردد في كل مكان، اليأس ينهش من أرواح المستضعفين، حفيف الأشجار يترجم أصوات الخائفين، لم يكن أحد يجرؤ على إيقاد الشّموع، كل أصوات الحق خرست وكل منارات الهُدى انطفَأت.. ولا أحد ممّن كان يملأ الأرض نوراً قبل غروب الشمس موجود فوق الأرض.

تِلك العُتمة كانت إيذاناً أن يبتعث الله ذلك الفارس.. يوزّع الشموع وينير الطّرقات ويبدّدُ بسيفه أمواج الظّلمات، ويبثُ الروح في الأجساد كي تتلقى قبس الحياةِ من جديد؛ عسى أن تُبصر النُور بعدما أهلكها الديجُور، ولكن أنّى لعين اعتادت الظلَام أن تستأنس بالنور.
بدَأ الفارس رحلة النّور من مكّة ثمّ المدينة فالشّامُ والعراقُ واليمن.. حتى طافَ خراسان والمغرب الأقصى، كانَ تنقّله في أطرافِ الأرض عجيباً، كأنّما كان يمتطي صهوةَ برقٍ أو براق، ولا يسلُك وادياً ولا شِعباً حتى يضع فيه قبساً من نور الله.

ظلّ الفارسُ على هذا الحال يخطو ويتعثّر ثم يُواصل مسيرة النّور، فكانَ كالطّود الأشم يواجه بعزّة طعناتِ العِدا، يحملُ بين جنباتهِ مشاعل الهُدى، يُوزّع القناديل الصغيرة على النّاجين من تحتِ الرّكام على الذين ابتلعتهُم شياطين الظلام، وحدهُ كان يمتطي صهوةَ المَوت، ويأخذ بعنانِ الحقّ يأطرُ النّاس عليه أطراً!
أربعةَ عشر قرناً تواصَلت فيها مسيرةُ النّور.. ولكنّ الصفعات كَانت أكبر من أن تُطاق، اتّسعَ الخرق على الرّاقع وانكسَر البابُ إلّا قليلاً، اشتدّ عليهِ الوثاق وضاقَ عليه الخناق، حُصون الشام صارت كالمقابر، بلادُ النيل أرهقها التآمُر، مجدهُ الموؤود مبحُوح الحناجر..
عندما تجتمعُ نسائمُ الماضي مع سموم الحاضر تتحوّل الأشجان إلى عاصفة تضرب مواجيد القلب ببوارِق من نورٍ ونار، وتُورث النّفس شوقاً لأطياف عابرة وحنِين الهجرة نحو الماضي، فلا ترتبط بشيءٍ من معالمِ الحاضر، لكنّها تظل تحتفظُ بقناديلَ صغيرة.. كلّما وصل بها السير نحو الغُروب أوقدَت فتيلهُ من جمرِ الحنِين فعبَرت به الظُلمات ضرباً نحو شروقٍ جديد

إنّما هي صولةٌ وجولة وإقبالٌ وإدبار وكرّ وفر.. فها هوَ صامدٌ والسيفُ فوق رأسهِ مصلت يأبى الخضُوع أو التنحّي وما كانَ للفارِس إذا امتطى صهوةَ جوادهِ أن يترجّل.. قبلَ أن يُدرك الغَاية..
فيا خيلَ الله اركبِي ويا سُيوفَ الحق التهِبي..


نوّاف

الزّفرَات

24 May, 20:12


في الغياهبِ..

تتحرّك الكلمات في الصدر، فتُصدر أزيزاً مؤلماً..حارقاً، يصل صداه إلى أعماق النّفس، لم يعد الصّدر يحتمل الكتمان أكثر.. السرّ دُخانٌ يتأجج في الصدور، لا مجال لأن يهدأ الصدر إلّا إذا نُفث ذلك الدّخان ليودَعُ في أسماع الآخرين، إن الدخانَ ليضيقُ في صدرٍ واحد، وإذا انتشر في صدورٍ عدّة خفف من وطأته
في الغياهِب؛ أشدّ ما يلاقيه السجِين أن يواجه كرامته، لأنّها تقف مثل الرمح في وجهه، إما أن يحملها ويقاتل بها ومن أجلها، أو ينحني أمامها لتدوسه أقدام الآثمين، مذبوح هو في الحالين؛ فأيّهما يختار، وهل الخِيارُ في السجنِ إرادة؟ أم أنّ الإرادة انذبحَت على عتبات السّجن!
فِي الغياهِب؛ ينسى السجين كيفَ يمرّ الوقت، فالثواني هناك ليست كالثواني فهي تبدو أطول بكثير، ثمّة علاقة عكسيّة بين المساحة والزّمن، تضيقُ الجُدران فيطُول الزّمن، كأن الظّلام والوحدة والذكريات تعيق الوقت من المرور!
في الغياهِب؛ تنقطعُ أصوات الطّبيعة، فلا حفيف الأشجار، ولا عجيجُ الأنهار، ولا تغارِيد الطيور، ولا هِتاف الأطفال.. كل تلك الأصوات تبدو من وحي الخيال، فلا يُسمع هُناك إلّا نشِيد الموت.. الفَقد.. الظلام.. النسيان، هنَاك حيث تتحدث فتسمعُ همساً، تصغي له مع أنك تعلم ألّا أحد هُناك سوى بقايا الذكريات، تقترب من الصوت فلا تجده سوى صدى صوتك الّذي يطوف باحثاً عن أذنٍ تُصغي؛ فيعود خائبَ الأمل وقد ارتطم في الجدران السوداء والقُضبان الجوفاء.. خشخشات ثقيلة تسيرُ بين الجدران قادمةٍ من فجّ عميق، تمتمات عاشت هنا منذ زمن بدأت كأنها تسير عبر أزقّة الطريق، والصمت يقطعه رنينُ سلاسلٍ عبثت بهنّ أصابعُ السجانِ!
في الغَياهِب؛ لن تكون حيّاً! فالأحياء يملكون الإرادة، وبالطّبع لست ميتاً، فالأموت لا يملكون الحنين، أنت حالٌ بين الحالين، تتحرّك في العدم وتعيشُ في الفراغ، ينهشُ الزمن من عمرِك، وتمُوت الأحلام على شرفةِ النّافذة، هُناك لابُد أن تتحلّى بالموت لتخرُج مرفوعاً على الأكتاف..!

———-
نوّاف

الزّفرَات

12 May, 07:50


لطالَما يا غزّة..
——-
وكان نهارُ غزّة مُثقلاً بالأرامل الثّكالى، والأطفال اليَتامى، وزفَرات الجرحى وأنّات المحتضِرين، والدخان والعجِيج، والأصوات والضجيج، وأرواح المُتعبين؛ التِي أثقلها الوَجع، وطال عليها الأنين، يا غزّة لطَالما كنتِ الحرّة رغم الحِصار، والفائزة رغم الانكسار، لطالَما ألقيتي مرساةَ العزّة على شاطئ الذّل، لطالَما كنتِ الأذن التِي تسمَع واليدَ التي تنصُر، والعينَ التِي تُبصر، لطالَما كنتِ عنواناً للصبر، لطالَما نبضتِ بالعزّة، وأي أنباض الإنسانيّة أعزّ وأشرف وأنبل وأسمى من تِلك التي تنبض محمّلة بالعقيدة التِي من أجلها تموت الآساد وتحيا الأشهاد، تلك النّبضات المتفرّقة كانت تبعث الحياة في شرايين الأمّة من شرقها إلى غربها ومن سهولها حتى جِبالها، ومن صحرائها حتّى بحارها، إنّي أناشدك الله يا غزّة؛ لا تنقطع تلك النبضات، ولا تخفت تِلك الأصوات.. لِتصل رسالتك للعالم كافّة، رسالة القوّة المؤمنة بالحق، المسلّمة بأمر الله.
يا أمّة الإسلام ليت شعري هل يصل كلامي، أم أن حول أذنيك اليوم ضجيج الدّنيا، وفحيح الشّهوات السّود، وصوت الوهن المزعج..
ولسوف تسمعين ولو بعدَ حين
———
نوّاف