——-
منذ متى بدأتْ الحرب، ومنذ متى بدأت في حربي، في مدافعة نفسي واحتراق روحي، في عجز الكلمات في الزمن الحزين.
أدمنت أوجاع الجميع، وكلما شذَّبت معنى للحقيقة رحت أسأل: كيف نمشي في اليقين؟ وكيف تسرقنا السنين؟ وكم علينا أن ندور على الحقيقة كي نسميها خروجاً أو هروباً من زنازين الأماني، من عزوف القلب، من عجز اللسانِ.. من رغيف الخبز، من لحم الخسارة، واحتضار المعاني، فتشت في قبح الرجال العائدين من الرذيلة.. والفراغ المستكين، فلم أجد غير انكسار الضوء في غبش السيولة، في ائتلاف الذلِّ في ضعف الرجولة.
يلتفني حزن هذا الليل البهيم، حزن طويل طويل، يتغشاني كلما خلوت، كلما نظرتُ للسماء، كلما أذنبت، كلما رُمت بُعداً وسلواً، وكلما توسدت فراشي، كلما هريقت دماء، كلما جاعت بطون خاوية، كلما جفت دموع النساء البالية، كلما نفدت بنادق الرجال من الرصاص، كلما لجأ مجاهد لشحذ السكين لحق واقتصاص، وكلما توغل اليهودي في أرض عربية، كلما سمعت عن المشافي، أو رأيتها.. لم أعد أرى غير مشافي غزة، بقايا الجرحى، الأدوية التي لم تعد تنفع، الجراثيم تلوث الدماء، والعدوى تقتل ببطء شديد، والقصف مستمر على بقية الحياة، والبرد يغتال الطفولة، والحزن يرمق من بعيد، كل شيء بدأ يفقدني وعيي، كل صوتٍ هو صوت صراخٍ واستجداء، كل ضوء هو ضوء نيران المدافع تدك أرض الأبرياء، يضيق صدري كلما نُعينا في غزة، ينقبض عنها لساني، ويضيق صدري، ويضيق، ويضيق، لا يتوقف أن يضيق.
سقط الخمار وأشرعت الفضيحة في ليل الهزيمة وجهها، وارتمينا من جديد خلف أحجية الأماني، خلف أعذار من هوان، فتشتُ عن آثار أحياءٍ في الوجوه فلم أجد غير انعكاس الظل، لا معنى، ولا تاريخ يسند جوعنا الأبدي للنصر، للعز، للتمكين، للقلب (يحيى من جديد)، وأسدلت الستار عن القضية «بقايا الموت في غزة، مرايا خسة العربي..»
——
نوَّاف