القسم (3)
من المؤسف القول بأن كثيرا من العقول الإسلامية المعاصرة والقيادات المقررة والنافذة قد تجاوزت دلالات السيرة النبوية وظلمت الفهم القرآني وتجاوزت معانيه لتطرح فهمها القاصر ومعانيها التي تناسب أهدافها المرحلية!
انظر كيف يستشهد أحدهم بقوله سبحانه وتعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) ليسوغ بهذه الآية معنى يبيح هدر الدماء وإتلاف حياة الشعوب بلا حدود ولا ضوابط قياس ولا نظر نحو الوجوب الشرعي ومسؤولية الترجيح، ويكتفي بالنظر للهدف -وهو حق- دون اعتبار موازين الواقع، الأمر الذي خالف ما وعاه تلميذ مدرسة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين انسحب من غزوة مؤته بعدما قتل فيها ثلاثة قادة من كبار الصحابة، وأسماه المعلم الأول والنبي الأمين سيف الله المسلول، رادا على الناس بوصفهم الفرارون وقائلا بل الكرارون.
فانظر يا رعاك الله إلى ما فعله خالد بن الوليد من الزحف في غزوة مؤتة فإنه جهاد مشروع لا غبار عليه، كما أن انسحابه من المعركة بناء على إدراكه ومعاينته لموازين الواقع الموضوعي دين جمع بين الحق والهدى وما ينفع الناس، حيث حفظ بذلك بيضة المجاهدين ودماء المسلمين.
وانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد والمعلم الأول، كيف يصدع بالحق، ولا يقبل الابتزاز العاطفي، ولا يستجيب لترهات القطيع، بل يصدر حكما ووصفا يحدد الخطأ من الصواب ولا يقز عنه في خطاب يلبي رغبات الجماهير والثقافة الشعبية السائدة، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
إن حاله التشهي السائدة عند بعض الدعاة في صياغه الطرح الإسلامي مستعينا بآيات من القرآن الحكيم دون وعي لجوهر رسالة هذا الدين العظيم ودون نظر عميق لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي شكلت مسطره امتلكها الصحابة الأوائل رضوان الله عليهم أجمعين، فكان جهادهم مدا وجزرا لا يرتبط فقط بالأهداف -وإن انطلق منها- وإنما يأخذ بعين النظر والاعتبار موازين الواقع وتحقيق مصالح الناس.
إن ترافق الهدى مع الحق يوجب النظر في تحقيق مصالح الناس وحفظ أمنهم باعتباره جزء من أهداف الدين ومقاصده، وليس بخارج عنها، بل هو معنى رئيسي في عمارة الأرض الواجبة، وليس في ذلك أي معنى ينقص من فريضة الجهاد، ولكن توسع القيادات والحركات في الاستهانة بالدماء يوجب التنبيه والتدقيق، فالأمر إذا اتسع ضاق وإذا ضاق اتسع.
إن أحد أشكال القصور والتشهي في الطرح الإسلامي هو الحديث المحصور عن الجهاد في صورته القتالية المعتادة باعتباره سنام الدين، وعدم النظر لجوانب أخرى هي من صنوف الجهاد المؤثرة والفاعلة، بل وعدم اعتبار أن المتحرف الى قتال والمتحيز إلى فئه يقوم أيضا بواجب الدين.
وما بين الجهاد بصورته الإبتدائية القتالية المباشرة وما بين التحيز إلى فئة أو التحرف إلى قتال، فإنه تبرز في تمييز الصورتين معقولية الأشكال الجهادية بالنظر لموازين الواقع المعتبرة، ورجاحة تحقيق الأهداف، الأمر الذي لا تراه في خطاب التجييش التنظيمي، الذي وإن انطلق من الحق فإنه يكون غير مصحوب بالهدى بسبب عزوفه عن اعتبار حقائق الواقع، ولذلك فإن حجم الخسارات والفشل التي منيت بها الأعمال الإسلامية الجهادية خلال قرن كامل كبيرة ومريعة، وليس في هذا دليل أو نقص يمس الحق والدين، وإنما فيه دلالة واضحة على غياب الهدى في بعض الأعمال الاسلاميه السياسية منها والجهاديه، حتى وان انطلقت من الحق واستحضرت آيات من الذكر الحكيم، دون وعي المنهج القرآني بشكل متكامل، ودون إتخاذ السنة النبوية كمرشد ودليل.
إن من نكد الدنيا على المسيرة الإسلامية أن كثيرا من خطابات الإسلاميين -لاسيما في الجانب العاطفي وردات الفعل والتعويم للمواقف السياسية والجهادية- ليس انعكاسا للعقل الإسلامي المسؤول والراشد الذي ينطلق من هدي القرآن والسنة والسيرة، بقدر ما هو انعكاس مباشر للتجربة القومية والعقل السائد في البيئة الجاهلية.
يتبع في القسم الرابع ،،
مضر أبوالهيجاء فلسطين-جنين 25/1/2025