"هلوسة ظلام " BLACK 🖤

حين أنام، يتّسع فراشي لأكثر من حلم، ولما أصحو، أصحو وحيدًا، تبًا لأحلامي منذُ ولدت وهي طريحة الفراش .

أن أمتلئَ مثلَ نبعٍ في مكانِه، أن أُفرِغَ جيبي وقلبي من المناديل، أن أُفكِّكَ الحكايةَ التي كادت أن تُحطّمَني كقطار، أن ألتقطَ لوجهي ووحدتي صورًا كثيرة، أن أعثرَ في كلِّ عثرةٍ على ملاك، أن أقف بشغفِ عشبةٍ تحتَ البرجِ الهائل، وشرفةِ المنزلِ العتيق، أن أُزْهِرَ كما تفعلُ معاطفُ العابرين، أن أسألَ الضفّةَ الواسعة: كم نسينا؟ أن تدورَ الأرضُ والأحصنةُ الخشبيّةُ بربيعِ سوانا، أن أضحكَ عاليًا عن الجسر بعينيْنِ خاسرتين، أن أتخفّفَ ببداهةِ خريفٍ من التذاكر والدفاتر، أن أُهْدَى في زرقةِ ساعة، عمريَ القديم، أن تُدمِيني أُغنيةٌ بهشاشةِ ريشة، أن أكتبَ البكاءَ كمن يصفُ زورقًا غريقًا، أن أرسمَ طفولتي بأجنحةِ مُفارق، أن أُفرِّقَ بينَ الحقائب التي تصدأ وصناديق ذكرياتي، أن أفصلَ الوردَ عن عطرِ أعدائي، أن أحملَ الأزهارَ إلى مدرستي التي تتّسعُ كساحةِ حرب، أن أُؤمنَ بتكرارِ السحرِ في كأسي، أن أرفعَ دمعتي بقامةِ عصفور، أن أستعيدَ مدينةَ نفسي، أن أبدأَ من النهاية، كما يبدأُ نهر

"عندما تنتهي الحرب سنتزوج، وتُنبت الأرض زهورًا تُشبهك، ورحمك سيحمل أجمل فتاة في الكون، ستُشبهك وتحبني "
‏- رسالة وُجدت في جيب أحد القتلى .

ظلّ مدة طويلة يطوف على غير هدى، تعذّبه فكرة أليمة كاوية لكنّهُ لا يتوصل إلى صياغتها بكلام .

أُحبُّ هذا التعثّر المُسترسل والضياع الوفير، تروقني حالة الإنغماس في حقيقةِ شعوري دون إكتراث لما سيحدث ويُقال، آثرتُ مرافقةَ وجعَ ما أعانيه على مُداراةِ رغباتٍ ليست لي، أُحبُّ حزني لطالما كان دافعًا لمقاومة بلادةِ الحياة .

تُخيفني اللحظة التي يتحوّل فيها ضجيج أحدهم إلى صمت، كأنّ شيئًا ما عجن صوته اللّين حتى أصبح صخرة .

ها نحنُ عدمان يتحدثان، فراغان يُحاولان أن يمتلئا بأصوات، ضُمّ صوتك إلى صوتي، ضُمّ صمتك إلى صمتي، علّهما يصيران صوتاً .

أعرف معنى أن يتوقف المرء عن المشي وفي أقدامهِ خطواتٍ كثيفة .

ولكن حين يضمحلّ الأمل، وحين تكتشف أنك كففت حتى عن إحتمال الأمل، فإنك تسعى لملء الفراغات الشاغرة بالأحلام وترميم ما تلفَ منها .

هذا الصوت الذي يأتي من اللامكان، ماذا أفعل؟ قل لي كي لا أسمعه، كلّ الأشياء صمتت، في الأول الأشياء الكبرى، تلك التي تجرحنا، ثم الأشياء الصغرى، وفي صمتِ ليلِ الروح، فجأةً يصبحُ الصوت مثل الهلع، ثمّ مثل الحبور ثم يصبح مثل صوت الموت، ببساطة .

ليس إستسلامًا، ولكنني لم أعد أُبالي .

أيام بارده تمر بلا مكسبٍ ما، ولا حتى خسائر واضحة، تتكسّر ببطء على حافةِ العجز .

الناس عندهم عجز في فهم الجوانب المُختلفة للإنسان، لابد لهم من تصنيفك في طرف أبيض أو أسود وتكوين تصوّر معين عنك لا يحتمل مرونة التغيير، ويتجاهلون الخيط الفاصل للمنطقة المُحايدة التي تجعلك كفرد تتنقل بين جوانب اليأس والأمل، والبؤس والسعادة، والتفاؤل والتشاؤم، وأنك أنت أنت نفس الشخص ما إختلفت، لكن إختلف جانبك الذي تظهرهُ لهم وإعتادوا عليه، وذلكَ لمسببٍ ما مجهول ولظرفٍ ما غير معلوم، فالحياة مُتقلّبة وليس لها أمان ونحتاج التأقلم معها والتكيّف مما يقتضي سلاسة التنقّل بين تلك الجوانب ومواكبة موجة الحياة .

تبددت حياته تائهًا، كرغبةٍ عالقةٍ ما بين إصلاح هذا الخراب والإفلات بكلّ شيء .

سُتدرك الشمعة ذات يوم أنها كانت تحتضن خيطًا أهلكها .

كمن عاشَ مُتيقظًا طوال حياته بإنتظار إلتفاته واحدة، ‏وفي لحظة شروده إلتفت إليه الجميع فجأة .

لستُ إستثناءً، أعرفُ سوئي جيدًا، لقد خيّبتُ ظنَّ الكثيرين كذلك، كانت الطريقة المُثلى لكسبِ الوحدة، والإحتفاظ بنفسي .

بي من برودةِ الأعصاب ما يكفي لإطفاء إستفزازك، أرجو ألّا تُنافسني في هذهِ المسألة، فلستُ ممّن تُغيظهم التفاهات، لقد تعلّمتُ شيئًا في غاية الأهميّة، وهو أنّ على الإنسان أن ينتقي مُثيرات غضبه جيّدًا، لأنه لو كان يغضب من أدنى سبب، لشابَ قبل مشيبه .

مُحتجز في منعطفٍ لا يُناسبني، تحت سقف أضيق من سِعة روحي، مثقوب بأيامٍ من جمرٍ وألسنة شائكة، أنا الذي آمنت بالمُحاولة كثيرًا، وراهنت على نواياي وجهدي، كنت هُنا أرعى البوار بالأمل، وأضع اللطف في فم الكلمة الحارقة، وأعوّل على التغيير، هذا أنا أقول لك من البعيد : "عد أدراجك لاشيء يستحقك هنا ".

إستيقظت يومًا برغبةٍ عارمة في التخلّي، بدّلت جلدي، نزعت أهدافي المُلتصقة بجسدي ووضعت أحلامي على رف النسيان، خلعت عن وجهي ملامح المُتعَب من السعي، وغادرت المنزل عاريًا من إنسانيتي لا أنوي على شيء، حُرًا من الوجود، وعند أول مُنعطف، وجدت ذاتي، مُلقاةً في زُقاق، تتسوّل جسدًا، وإرتديتها .